أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال : « لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل ، وعبد الله بن أبي أمية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أي عم ، قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله . فقال أبو جهل وعبدالله بن أبي أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه وأبو جهل وعبدالله يعاونانه بتلك المقالة . فقال أبو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك . فنزلت { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } الآية . وأنزل الله في أبي طالب فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } [ القصص : 56 ] » .
وأخرج الطيالسي وابن أبي شيبة وأحمد والترمذي والنسائي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإِيمان والضياء في المختارة عن علي قال : سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت : تستغفر لأبويك وهما مشركان ؟ فقال : أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه ؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } الآية .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : كانوا يستغفرون لهم حتى نزلت هذه الآية ، فلما نزلت امسكوا عن الاستغفار لأمواتهم ولم ينهوا أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا ، ثم أنزل الله تعالى { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه } الآية . يعني استغفر له ما كان حياً ، فلما مات أمسك عن الاستغفار .
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن كعب قال : لما مرض أبو طالب أتاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال المسلمون : هذا محمد صلى الله عليه وسلم يستغفر لعمه وقد استغفر إبراهيم لأبيه فاستغفروا لقراباتهم من المشركين . فأنزل الله { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } ثم أنزل الله تعالى { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه } قال : كان يرجوه في حياته { فلما تبين له أنه عدوّ لله تبرأ منه } .
وأخرج ابن جرير من طريق شبل عن عمرو بن دينار «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك ، فلا أزال استغفر لأبي طالب حتى ينهاني عنه ربي . وقال أصحابه : لنستغفرن لآبائنا كما استغفر النبي صلى الله عليه وسلم لعمه ، فأنزل الله { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } إلى قوله { نبرأ منه } » .
وأخرج ابن جرير عن سعيد بن المسيب قال : « لما حضرت أبا طالب الوفاة ، أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : أي عم ، إنك أعظم عليَّ حقاً من والدي فقل كلمة يجب لك بها الشفاعة يوم القيامة ، قل لا إله إلا الله . فذكر نحو ما تقدم » .
وأخرج ابن جرير عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : يا نبي الله إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ، ويصل الرحم ، ويفك العاني ، ويوفي بالذمم ، أفلا نستغفر لهم ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «والله لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه . فأنزل الله { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين . . . } الآية ثم عذر الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال : { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه } إلى قوله { تبرأ منه } وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : أوحى إليّ كلمات قد دخلن في أذني ووقرن في قلبي ، أمرت أن لا أستغفر لمن مات مشركاً ، ومن أعطى فضل ماله فهو خير له ، ومن أمسك فهو شر له ، ولا يلوم الله على كفاف » .
وأخرج ابن سعد وابن عساكر عن علي قال « أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بموت أبي طالب ، فبكى فقال : اذهب فغسله وكفنه وواره غفر الله له ورحمه . ففعلت وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر له أياماً ولا يخرج من بيته ، حتى نزل جبريل عليه السلام عليه بهذه الآية { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } » .
وأخرج ابن سعد وأبو الشيخ وابن عساكر من طريق سفيان بن عيينة عن عمر قال : « لما مات أبو طالب قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «رحمك الله وغفر لك ، لا أزال أستغفر لك حتى ينهاني الله ، فأخذ المسلمون يستغفرون لموتاهم الذين ماتوا وهم مشركون ، فأنزل الله { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين . . . } الآية . فقالوا : قد استغفر إبراهيم لأبيه فنزلت { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه . . . } الآية . قال : فلما مات على كفره تبين له أنه عدوّ لله » .
وأخرج إسحق بن بشر وابن عساكر عن الحسن قال : لما مات أبو طالب قال النبي صلى الله عليه وسلم « إن إبراهيم استغفر لأبيه وهو مشرك وأنا أستغفر لعمي حتى أبلغ ، فأنزل الله { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى } يعني به أبا طالب فاشتد على النبي صلى الله عليه وسلم فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه } يعني حين قال { سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً } [ مريم : 47 ] { فلما تبين له أنه عدوّ لله } يعني مات على الشرك { تبرأ منه } » .
وأخرج ابن جرير من طريق عطية العوفي عن ابن عباس في قوله { ما كان للنبي والذين آمنوا . . . } الآية . قال إن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأبيه ، فنهاه الله عن ذلك قال « فإن إبراهيم قد استغفر لأبيه . فنزلت { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه } الآية . قلت إن هذا الأثر ضعيف معلول ، فإن عطية ضعيف وهو مخالف لرواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس السابقة ، وتلك أصح وعلى ثقة جليل » .
وأخرج الطبراني وابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس « أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أقبل من غزوة تبوك اعتمر ، فلما هبط من ثنية عسفان أمر أصحابه أن يستندوا إلى العقبة حتى أرجع إليكم ، فذهب فنزل على قبر أمه آمنة ، فناجى ربه طويلاً ، ثم انه بكى فاشتد بكاؤه ، فبكى هؤلاء لبكائه فقالوا : يا نبي الله بكينا لبكائك . قلنا لعله أحدث في أمتك شيء لم يطقه فقال : لا ، وقد كان بعضه ولكني نزلت على قبر أمي فدعوت الله تعالى ليأذن لي في شفاعتها يوم القيامة ، فأبى أن يأذن لي فرحمتها وهي أمي فبكيت ، ثم جاءني جبريل عليه السلام فقال { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه } الآية . فتبرأ أنت من أمك كما تبرأ إبراهيم من أبيه فرحمتها وهي أمي ، فدعوت ربي أن يرفع عن أمتي أربع فرفع عنهم اثنتين وأبى أن يرفع عنهم اثنتين . دعوت ربي أن يرفع عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض ، وأن لا يلبسهم شيعاً ، وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض ، فرفع الله عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض ، وأبى أن يرفع عنهم القتل والهرج . قال : وإنما عدل إلى قبر أمه لأنها كانت مدفونة تحت كدي » وكانت عسفان لهم وبها ولد النبي صلى الله عليه وسلم .
وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال « خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً إلى المقابر ، فاتبعناه فجاء حتى جلس إلى قبر منها ، فناجاه طويلاً ثم بكى فبكينا لبكائه ، ثم قام فقام إليه عمر ، فدعاه ثم دعانا فقال : ما أبكاكم ؟ قلنا : بكينا لبكائك . قال : إن القبر الذي جلست عنده قبر آمنة ، وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي ، وإني استأذنت ربي في الاستغفار لها فلم يأذن لي ، وأنزل علي { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى } فأخذني ما يأخذ الولد للوالدة من الرقة ، فذلك الذي أبكاني » .
وأخرج ابن مردويه عن بريدة قال « كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ وقف على عسفان ، فنظر يميناً وشمالاً فأبصر قبر أمه آمنة ، ورد الماء فتوضأ ثم صلى ركعتين ودعا فلم يفجأنا إلا وقد علا بكاؤه فعلا بكاؤنا لبكائه ، ثم انصرف إلينا فقال : ما الذي أبكاكم ؟ قالوا : بكيت فبكينا يا رسول الله . قال : وما ظننتم ؟ قالوا : ظننا أن العذاب نازل علينا بما نعمل . قال : لم يكن من ذلك شيء . قالوا : فظننا أن أمتك كلفت من الأعمال ما لا يطيقون فرحمتها . قال : لم يكن من ذلك شيء ، ولكن مررت بقبر أمي آمنة فصليت ركعتين ، فاستأذنت ربي أن استغفر لها فنهيت ، فبكيت ثم عدت فصليت ركعتين فاستأذنت ربي أن أستغفر لها ، فزجرت زجراً فعلا بكائي ثم دعا براحلته فركبها ، فما سار إلا هنية حتى قامت الناقة لثقل الوحي ، فأنزل الله { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين . . . } الآيتين » .
وأخرج ابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وتعقبه الذهبي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال « جاء ابنا مليكة - وهما من الأنصار - فقالا : يا رسول الله إن أمنا كانت تحفظ على البعل وتكرم الضيف ، وقد وُئدت في الجاهلية فأين أمنا ؟ فقال : أمكما في النار . فقاما وقد شق ذلك عليهما ، فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعا ، فقال : ألا أن أمي مع أمكما فقال منافق من الناس : أما ما يغني هذا عن أمه إلا ما يغني ابنا مليكة عن أمهما ونحن نطأ عقبيه . فقال شاب من الأنصار لم أر رجلاً أكثر سؤالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم منه : يا رسول الله وأين أبواك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما سألتهما ربي فيطيعني فيهما . وفي لفظ : فيطعمني فيهما ، وإني لقائم يومئذ المقام المحمود ، فقال المنافق للشاب الأنصاري : سله وما المقام المحمود ؟ قال : يا رسول الله وما المقام المحمود ؟ قال : ذاك يوم ينزل الله فيه على كرسيه يئط فيه كما يئط الرحل الجديد من تضايقه ، وهو كسعة ما بين السماء والأرض ، ويجاء بكم حفاة عراة غرلاً ، فيكون أول من يكسى إبراهيم . يقول الله : اكسوا خليلي . فيؤتى بريطتين بيضاوين من رياط الجنة ثم اكسى على أثره ، فأقوم عن يمين الله مقاماً يغبطني فيه الأوّلون والآخرون ، ويشق لي نهر من الكوثر إلى حوضي قال : يقول المنافق : لم أسمع كاليوم قط لقلما جرى نهر قط إلا في إحالة أو رضراض ، فسله فيم يجري النهر إليهم ؟ قال : في إحالة من المسك ورضراض . قال : يقول المنافق : لم أسمع كاليوم قط . والله لقلما جرى نهر قط إلا كان له نبات ، فسله هل لذلك النهر نبات ؟ فقال الأنصاري : يا رسول الله هل لذلك النهر نبات ؟ قال : نعم . قال : ما هو ؟ قال : قضبان الذهب . قال : يقول المنافق : لم أسمع كاليوم قط والله ما نبت قضيب إلا كان له ثمر ، فسله هل لتلك القضبان ثمار ؟ فسأل الأنصاري قال : يا رسول الله هل لتلك القضبان ثمار ؟ قال : نعم ، اللؤلؤ والجوهر . فقال المنافق : لم أسمع كاليوم قط ، فسله عن شراب الحوض ؟ فقال الأنصاري : يا رسول الله ما شراب الحوض ؟ قال : أشد بياضاً من اللبن ، وأحلى من العسل ، من سقاه الله منه شربة لم يظمأ بعدها ، ومن حرمه لم يرو بعدها » .
وأخرج ابن سعد عن الكلبي وأبي بكر بن قيس الجعفي قالا : كانت جعفى يحرمون القلب في الجاهلية ، فوفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان منهم قيس بن سلمة ، وسلمة بن يزيد ، وهما أخوان لأُم ، فاسلما فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم «بلغني أنكما لا تأكلان القلب . قالا : نعم . قال : فإنه لا يكمل إسلامكما إلا بأكله . ودعا لهما بقلب فشوي وأطعمه لهما . فقالا : يا رسول الله إن أمنا مليكة بنت الحلو ، كانت تفك العاني ، وتطعم البائس ، وترحم الفقير ، وإنها ماتت وقد وأدت بنية لها صغيرة فما حالها ؟ فقال : الوائدة والموءودة في النار . فقاما مغضبين . فقال : إلي . فارجعا ، فقال : وأمي مع أمكما . فأبيا ومضيا وهما يقولان : والله إن رجلاً أطعمنا القلب وزعم أن أمنا في النار لأهل أن لا يتبع ، وذهبا فلقيا رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معه إبل من إبل الصدقة ، فأوثقاه وطردا الإِبل ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلعنهما فيمن كان يلعن في قوله : لعن الله رعلاً وذكوان وعصية ولحيان ، وابني مليكة من حريم وحران » .
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله { وقضى ربك ألاَّ تعبدوا إلا إياه } [ الإِسراء : 23 ] إلى قوله { كما ربياني صغيراً } [ الإِسراء : 24 ] قال : ثم استثنى فقال { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } إلى قوله { عن موعدة وعدها إياه } .