19- قل - أيها النبي - لمن يكذبوك ويطلبون شهادة على رسالتك ، أي شيء أعظم شهادة وأحق بالتصديق ؟ ثم قل : إن الله أعظم شاهد بيني وبينكم على صدق ما جئتكم به ، وقد أنزل علىّ هذا القرآن ليكون حُجّة لصدقي ، لأحذركم به أنتم وكل من بلغه خبره ، وهو حُجة قاطعة شاهدة بصدقي ، لأنكم لا تستطيعون أن تأتوا بمثله ! ! سلهم : أأنتم الذين تقولون معتقدين أن مع الله آلهة غيره ؟ ثم قل لهم : لا أشهد بذلك ، ولا أقوله ، ولا أقركم عليه ، وإنما المعبود بحق إله واحد ، وإنني برئ مما تشركون به من أوثان .
قوله تعالى : { قل أي شيء أكبر شهادة } ؟ الآية ، قال الكلبي : أتى أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أرنا من يشهد أنك رسول الله ، فإنا لا نرى أحداً يصدقك ، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس عندهم ذكر ، فأنزل الله تعالى : { قل أي شيء أكبر } ، أعظم ، { شهادة } فإن أجابوك ، وإلا .
قوله تعالى : { قل الله شهيد بيني وبينكم } ، على ما أقول ، ويشهد لي بالحق ، وعليكم بالباطل .
قوله تعالى : { وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به } ، لأخوفكم به يا أهل مكة .
قوله تعالى : { ومن بلغ } ، ومن بلغه القرآن من العجم وغيرهم من الأمم إلى يوم القيامة .
حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد بن الحنفي ، أنا محمد بن بشر بن محمد المزني ، أنا أبو بكر محمد بن الحسن بن بشر النقاش ، أنا أبو شعيب الحراني ، أنا يحيى بن عبد الله بن الضحاك البابلي ، أنا الأوزاعي ، حدثني حسان بن عطية ، عن أبي كبشة السلولي ، عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بلغوا عني ولو آية ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ) .
أخبرنا أبو الحسن عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا سفيان بن عيينة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن عبد الرحمن بن عبد الله ابن مسعود ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( نضر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ، ووعاها ، وأداها ، فرب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم أبدا : إخلاص العمل لله ، والنصيحة للمسلمين ، ولزوم جماعتهم ، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم .
قال مقاتل : من بلغه القرآن من الجن والإنس فهو نذير له ، وقال محمد بن كعب القرظي : من بلغه القرآن فكأنما رأى محمداً صلى الله عليه وسلم وسمع منه .
قوله تعالى : { أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى } . ولم يقل آخر ، لأن الجمع يلحقه التأنيث كقوله تعالى : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } [ الأعراف :180 ] ، وقال : { فما بال القرون الأولى } . [ طه :51 ]
قوله تعالى : { قل } ، يا محمد إن شهدتم أنتم .
قوله تعالى : { لا أشهد } . أنا أن معه إلهاً .
قوله تعالى : { قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون } .
ثم أمر الله : نبيه صلى الله عليه وسلم : فى بيان رائع حكيم ، أن يسأل المشركين عن أى شىء فى هذا الكون أعظم وأزكى شهادة بحيث تقبل شهادته ولا ترد فقال - تعالى - : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } .
روى بعض المفسرين أن أهل مكة قالوا : يا محمد ، أرنا من يشهد أنك رسول الله ، فإنا لا نرى أحدا نصدقه ، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر ، فأنزل الله - تعالى - : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } .
أى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يخاصمونك فيما تدعو إليه : أى شىء فى هذا الوجود شهادته أكبر شهادة وأعظمها بحيث تقبلونها عن تسليم وإذعان ؟ ثم أمره أن يجيبهم على هذا السؤال بالحقيقة التى لا يمارى فيها عاقل وهى أن شهادة الله هى أكبر شهادة وأقواها وأزكاها ، لأنها شهادة من يستحيل عليه الكذب أو الخطأ ، وقد شهد - سبحانه - : بصدقى فيما أبلغه عنه فلماذا تعرضون عن دعوتى ، وتتنكبون الطريق المستقيم ؟
وصدرت الآية الكريمة بقل وبصيغة الاستفهام تنبيهاً إلى جلال الشاهد ، وإلى سلامة دعوى النبى صلى الله عليه وسلم لكى يدركوا ما فيها من حق وما هم فيه من ضلال .
وأوثرت كلمة " شىء " فى قوله - تعالى - : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً } لأنها تفيد الشمول والإحاطة والاستقصاء .
قال صاحب الكشاف : ما ملخصه قوله - تعالى - : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } أراد : أى شهيد أكبر شهادة ، فوضع شيئاً مقام شهيد ليبالغ فى التعميم ، ويحتمل أن يكون تمام الجواب عنه قوله : { قُلِ الله } بمعنى : الله أكبر شهادة ، ثم ابتدأ . { شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } أى : هو شهيد بينى وبينكم . وأن يكون { الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } هو الجواب ، لدلالته على أن الله - تعالى - : { إذا كان هو الشهيد بينه وبينهم فأكبر شىء شهادة من هو شهيد له ) .
والمراد بشهادة الله ما جاء فى آياته القرآنية من أنه - سبحانه - : قد أرسل رسوله محمدا { بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } ثم بين - سبحانه - : أن القرآن هو المعجزة الخالدة للنبى صلى الله عليه وسلم فقال : { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } .
أى : أن الله - تعالى - : قد أنزل هذا القرآن عن طريق وحيه الصادق ، لأنذركم به يا أهل مكة ، ولأنذر به - أيضاً - جميع من بلغه هذا الكتاب الكريم ووصلت إليه دعوته من العرب والعجم فى كل زمان ومكان إلى يوم القيامة .
فهذه الجملة تدل على عموم بعثة النبى صلى الله عليه وسلم كما تدل على أن أحكام القرآن تعم الموجودين وقت نزوله ، وتعم - أيضاً - الذين وجدوا بعد نزوله وبلغتهم دعوته . ولم يروا النبى صلى الله عليه وسلم ففى الحديث الشريف :
" بلغوا عن الله - تعالى - فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله " .
وعن محمد بن كعب قال : " من بلغه القرآن فكأنما رأى النبى صلى اله عليه وسلم وذلك لأن القرآن الكريم لما كان متواترا بلفظه ومعناه ، كان من بلغه فعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم : كأنما سمعه منه وإن كثرت الوسائط ، لأنه هو الذى بلغه بلا زيادة ولا نقصان ، أما من لم تبلغه دعوة القرآن فلا يصدق عليه أنه بلغته الدعوة ، وحينئذ لا يكون مخاطبا بتعاليم هذا الدين ، وإثمه يكون فى أعناق الذين قصروا فى تبليغ دعوة الإسلام إليه .
ثم أمره - سبحانه - أن يستنكر ما عليه المشركون من كفر وإلحاد ، وأن يعلن براءته منهم ومن معبوداتهم فقال - تعالى - : { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ الله آلِهَةً أخرى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } .
أى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين : إذا كنتم قد ألغيتم عقولكم . وترديتم فى مهاوى الشرك والضلال ، وشهدتم بأن مع الله آلهة أخرى ، فإنى برىء منكم ومن أعمالكم القبيحة ، ومحال أن أشهد بما شهدتم به ، وإنما الذى أشهد به وأعتقده ، أن الله - تعالى - واحد لا شريك له ، وإننى بعيد كل البعد عن ضلالكم وجحودكم .
والاستفهام فى قوله { أَئِنَّكُمْ } إنكارى ، جىء به لاستقباح ما وقع منهم من شرك ، وأكد قوله { لَتَشْهَدُونَ } للإشارة إلى تغلغل الضلال فى نفوسهم ، واستيلاء الجحود على قلوبهم .
وعبر عن أوثانهم بأنها { آلِهَةً أخرى } مجاراة لهم فى زعمهم الباطل ومبالغة فى توبيخهم والتهكم بهم .
وفى أمره - سبحانه - لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يصارحهم بأنه لا يشهد بشهادتهم " قل : لا أشهد " توبيخ لهم على جهالتهم ، وتوجيه لأتباعه إلى الافتداء به فى شجاعته أمام الباطل ، وفى ثباته على مبدئه .
وقد تضمن قوله - تعالى - : { قُلْ إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } اعتراف كامل بوحدانية الله ، وقصرها عليه - سبحانه - ، وتصريح بالبراءة التامة من الأوثان وعابديها ، وتنديد شديد بهذا العمل الباطل .
وبذلك تكون الآية الكريمة قد تضمنت شهادة من الله - تعالى - بأن رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم صادق فى رسالته ، وشهادة من هذا الرسول الكريم بأن الله واحد لا شريك له ، وأنه برىء من إلحاد الملحدين وكفر الكافرين .
ثم قال : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً } أي : من أعظم الأشياء [ شهادة ]{[10602]} { قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } أي : هو العالم بما جئتكم به ، وما أنتم قائلون لي : { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } أي : وهو نذير لكل من بلغه ، كما قال تعالى : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [ هود : 17 ] .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا وكيع وأبو أسامة وأبو خالد ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب في قوله : { وَمَنْ بَلَغَ } [ قال ]{[10603]} من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم - زاد أبو خالد : وكَلّمه .
ورواه ابن جرير من طريق أبي معشر ، عن محمد بن كعب قال : من بلغه القرآن فقد أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة في قوله : { لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " بلغوا عن الله ، فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بَلَغه أمر الله " .
وقال الربيع بن أنس : حق على من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو كالذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن ينذر كالذي أنذر .
وقوله : { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ } [ أي ]{[10604]} أيها المشركون { أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ } كما قال تعالى : { فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ } [ الأنعام : 150 ] ، { قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ }