بعد كل ذلك حكى - سبحانه - أحوال الظالمين يوم القيامة ، وأقوالهم فى ذلك اليوم الشديد ، ورده - تعالى - عليهم ، والأسباب التى أدت إلى خسرانهم . . فقال - تعالى - :
{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً . . . } .
قال الإِمام القرطبى : " قوله - تعالى - { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون . . . } هذا تسلية للنبى - صلى الله عليه وسلم - بعد أن عجبه من أفعال المشركين ، ومخالفتهم دين إبراهيم ، أى : اصبر كما صبر إبراهيم ، وأعلم المشركين أن تأخير العذاب ليس للرضا بأفعالهم ، بل سنة الله إمهال العصاة مدة . قال ميمون بن مهران : هذا وعيد للظالم . وتعزية للمظلوم " .
والخطاب { وَلاَ تَحْسَبَنَّ } ، يجوز أن يكون للنبى - صلى الله عليه وسلم - لقصد زيادة تثبيته على الحق ، ودوامه على ذلك ، ويجوز أن يكون لكل من يصلح للخطاب .
والغفلة : سهر يعترى الإِنسان بسبب قلة تيقظه وانتباهه ، ولا شك أن ذلك محال فى حق الله - تعالى - ، لذا وجب حمل المعنى على أن المراد بالغفلة هنا : ترك عقاب المجرمين .
والمراد بالضالمين : كل من انحرفوا عن طريق الحق ، واتبعوا طريق الباطل ، ويدخل فيهم دخولا أوليا مشركو مكة ، الذين أبوا الدخول فى الإِسلام الذى جاءهم به النبى - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار } استئناف وقع تعليلا للنهى السابق .
وقوله { تشخيص } من الشخوص بمعنى رفع البصر بدون تحرك يقال شخص بصر فلان - من باب خضع - فهو شاخص ، إذا فتح عينيه وجعل لا يطرف من شدة الخوف والفزع .
والمعنى : الذين كذبوك فى دعوتك ، كلا لن يترك الله - تعالى - عقابهم ، وإنما يؤخره ليوم هائل شديد ، هو يوم القيامة الذى ترتفع فيه أبصارا أهل الموقف ، فلا تطرف أجفانهم من هول ما يرونه .
ثم يكمل السياق الشوط مع ( الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار ) . . وهم ما يزالون بعد في ظلمهم لم يأخذهم العذاب . والذين أمر الرسول [ ص ] أن يقول لهم : ( تمتعوا فإن مصيركم إلى النار ) . . وأن ينصرف إلى عباد الله المؤمنين يأمرهم بالصلاة والإنفاق سرا وعلانية ( من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال ) . .
يكمل السياق الشوط ليكشف عما أعد للكافرين بنعمة الله ؛ ومتى يلقون مصيرهم المحتوم ؛ وذلك في مشاهد متعاقبة من مشاهد القيامة ، تزلزل الأقدام والقلوب :
( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون ، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ، مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم ، وأفئدتهم هواء ) . .
والرسول [ ص ] لا يحسب الله غافلا عما يعمل الظالمون . ولكن ظاهر الأمر يبدو هكذا لبعض من يرون الظالمين يتمتعون ، ويسمع بوعيد الله ، ثم لا يراه واقعا بهم في هذه الحياة الدنيا . فهذه الصيغة تكشف عن الأجل المضروب لأخذهم الأخذة الأخيرة ، التي لا إمهال بعدها . ولا فكاك منها .
عطف على الجمل السابقة ، وله اتصال بجملة { قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار } [ سورة إبراهيم : 30 ] الذي هو وعيد للمشركين وإنذار لهم بأن لا يغتروا بسلامتهم وأمنهم تنبيهاً لهم على أن ذلك متاع قليل زائل ، فأكد ذلك الوعيد بهذه الآية ، مع إدماج تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام على ما يتطاولون به من النعمة والدعة ، كما دل عليه التفريع في قوله { فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله } [ سورة إبراهيم : 47 ] . وفي معنى الآية قوله : { وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا } [ سورة المزمل : 11 ] .
وباعتبار ما فيه من زيادة معنى التسلية وما انضم إليه من وصف فظاعة حال المشركين يوم الحشر حسن اقتران هذه الجملة بالعاطف ولم تفصل .
وصيغة { لا تحسبن } ظاهرها نهي عن حسبان ذلك . وهذا النهي كناية عن إثبات و تحقيق ضد المنهي عنه في المقام الذي من شأنه أن يثير للناس ظَنّ وقوع المنهي عنه لقوة الأسباب المثيرة لذلك . وذلك أن إمهالهم وتأخير عقوبتهم يشبه حالة الغافل عن أعمالهم ، أي تحقق أن الله ليس بغافل ، وهو كناية ثانية عن لازم عدم الغفلة وهو المؤاخذة ، فهو كناية بمرتبتين ، ذلك لأن النهي عن الشيء يأذن بأن المنهي عنه بحيث يتلبس به المخاطب ، فنهيه عنه تحذير من التلبس به بقطع النظر عن تقدير تلبس المخاطب بذلك الحسبان . وعلى هذا الاستعمال جاءت الآية سواء جعلنا الخطاب لكل من يصح أن يخاطب فيدخل فيه النبي عليه الصلاة والسلام أم جعلناه للنبي ابتداء ويدخل فيه أمته .
ونفي الغفلة عن الله ليس جارياً على صريح معناه لأن ذلك لا يظنه مؤمن بل هو كناية عن النهي عن استعجال العذاب للظالمين . ومنه جاء معنى التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم .
والغفلة : الذهول ، وتقدم في قوله تعالى : { وإن كنا عن دراستهم لغافلين } في سورة الأنعام ( 156 ) .
والمراد بالظلم هنا الشرك ، لأنه ظلم للنفس بإيقاعها في سبب العذاب المؤلم ، وظلم لله بالاعتداء على ما يجب له من الاعتراف بالوحدانية . ويشمل ذلك ما كان من الظلم دون الشرك مثل ظلم الناس بالاعتداء عليهم أو حرمانهم حقوقهم فإن الله غير غافل عن ذلك . ولذلك قال سفيان بن عُيَيْنة هي تسلية للمظلوم وتهديد للظالم .
وقوله : { فيه الأبصار } مبنية لجملة { ولا تحسبن الله غافلاً } الخ .
وشخوص البصر : ارتفاعه كنظر المبهوت الخائف .
وأل في { الأبصار } للعموم ، أي تشخص فيه أبصار الناس من هول ما يرون . ومن جملة ذلك مشاهدة هول أحوال الظالمين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولا تحسبن الله} يا محمد، {غافلا عما يعمل الظالمون}، يعني مشركي مكة، {إنما يؤخرهم} عن العذاب في الدنيا، {ليوم تشخص فيه الأبصار} يعني فاتحة شاخصة أعينهم، وذلك أنهم إذا عاينوا النار... في الآخرة، شخصت أبصارهم فلا يطرفون... وذلك قوله سبحانه: {لا يرتد إليهم طرفهم}، يعنى لا يطرفون...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"وَلاَ تَحْسَبنّ اللّهَ" يا محمد "غَافِلاً": ساهيا "عَمّا يَعْمَلُ "هؤلاء المشركون من قومك، بل هو عالم بهم وبأعمالهم محصيها عليهم، ليجزيهم جزاءهم في الحين الذي قد سبق في علمه أنه يجزيهم فيه...
"إنّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخصُ فِيهِ الأبصار "إنما يؤخر ربك يا محمد هؤلاء الظالمين الذين يكذّبونك ويجحَدون نبوّتك، "ليوم تشخص فيه الأبصار"، يقول: إنما يؤخّر عقابَهم وإنزال العذاب بهم، إلى يوم تشخَص فيه أبصار الخلق وذلك يوم القيامة...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
خاطب بقوله: {ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون} كل ظان بالله الغفلة عن ظلم الظالم. ثم إن الذي حملهم على الظن بالله الغفلة عن ظلم الظالم وتأخيره العذاب عنهم عن وقت ظلمهم وترك أخذهم بذلك. فمنهم من ادعى الغفلة عن ذلك لما رأوا من عادة ملوك الأرض: أن من ظلم أحدا منهم انتقم منه في أعجل وقت، يقدر على الانتقام منه، فحمل تأخير الله العذاب عنهم والانتقام منهم على القول بالغفلة. ومنهم من ادعى الرضا بما اختاروا هم من الشرك والكفر بالله، وادعوا الأمر بذلك لما لم يأخذهم، ولم يستأصلهم بصنيعهم، فاستدلوا بذلك [على] رضاه بفعلهم وأمره إياهم بذلك. فأخبر رسوله أن تأخيره العذاب عنهم وإمهاله إياهم، ليس عن غفلة عنهم، ولا عن سهو ورضا وأمر. ولكن {يؤخرهم ليوم} ثم وصف ذلك اليوم بشدة هوله وفزعه فقال: {تشخص فيه الأبصار}...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
... {لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} أي لا تغمض من هول ما ترى في ذلك اليوم قاله الفراء...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم نهاه الله تعالى، والمراد به الأمة أن يظن أن الله غافل عن أعمال الظالمين، ومهمل لأمورهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
هذا وعيدٌ للظالمين وتسلية للمظلومين؛ فالمظلوم إذا تحقَّق بأنه -سبحانه- عالِمٌ بما يلاقيه من البلاء هانت على قلبه مقاساته، وحق عليه تحمله...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
تشخص} تذهب فيه أبصار الخلائق الى الهواء حيرة ودهشة...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
الغفلة معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقيقة الأمور...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: يتعالى الله عن السهو والغفلة، فكيف يحسبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الناس به غافلاً حتى قيل {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا}؟ قلت: إن كان خطابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ففيه وجهان:
أحدهما التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلاً...
والثاني: أنّ المراد بالنهي عن حسبانه غافلاً، الإيذان بأنه عالم بما يفعل الظالمون، لا يخفى عليه منه شيء، وأنه معاقبهم على قليله وكثيره على سبيل الوعيد والتهديد... ويجوز أن يراد: ولا تحسبنه يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون، ولكن معاملة الرقيب عليهم، المحاسب على النقير والقطمير، وإن كان خطابا لغيره ممن يجوز أن يحسبه غافلاً، لجهله بصفاته، فلا سؤال فيه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... {تشخص} معناه: تحد النظر لفزع ولفرط ذلك بشخص المحتضر...
اعلم أنه لما بين دلائل التوحيد ثم حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه طلب من الله أن يصونه عن الشرك، وطلب منه أن يوفقه للأعمال الصالحة وأن يخصه بالرحمة والمغفرة في يوم القيامة ذكر بعد ذلك ما يدل على وجود يوم القيامة، وما يدل على صفة يوم القيامة، أما الذي يدل على وجود القيامة فهو قوله: {ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون} فالمقصود منه التنبيه على أنه تعالى لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم، لزم أن يكون إما غافلا عن ذلك الظالم أو عاجزا عن الانتقام، أو كان راضيا بذلك الظلم، ولما كانت الغفلة والعجز والرضا بالظلم محالا على الله امتنع أن لا ينتقم للمظلوم من الظالم...
ثم بين تعالى أنه إنما يؤخر عقاب هؤلاء الظالمين ليوم موصوف بصفات. الصفة الأولى: أنه تشخص فيه الأبصار...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ} يمهلهم متمتعين بالحظوظ الدنيوية ولا يعجل عقوبتهم حسبما يشاهد، وهو استئنافٌ وقع تعليلاً للنهي السابق أي دُم على ما كنت عليه من عدم حُسبانه تعالى غافلاً عن أعمالهم ولا تحزَنْ بتأخير ما تستوجبه من العذاب الأليم، إذ تأخيرُه للتشديد والتغليظ...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
فيه إيذان بكون ذلك الحسبان واجب الاحتراز عنه في الغاية حتى نهى عنه من لا يمكن تعاطيه...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} حيث أمهلهم وأدرَّ عليهم الأرزاق، وتركهم يتقلبون في البلاد آمنين مطمئنين، فليس في هذا ما يدل على حسن حالهم فإن الله يملي للظالم ويمهله ليزداد إثما، حتى إذا أخذه لم يفلته {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} والظلم -هاهنا- يشمل الظلم فيما بين العبد وربه وظلمه لعباد الله...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وصيغة {لا تحسبن} ظاهرها نهي عن حسبان ذلك. وهذا النهي كناية عن إثبات و تحقيق ضد المنهي عنه في المقام الذي من شأنه أن يثير للناس ظَنّ وقوع المنهي عنه لقوة الأسباب المثيرة لذلك. وذلك أن إمهالهم وتأخير عقوبتهم يشبه حالة الغافل عن أعمالهم، أي تحقق أن الله ليس بغافل، وهو كناية ثانية عن لازم عدم الغفلة وهو المؤاخذة، فهو كناية بمرتبتين... ونفي الغفلة عن الله ليس جارياً على صريح معناه لأن ذلك لا يظنه مؤمن بل هو كناية عن النهي عن استعجال العذاب للظالمين. ومنه جاء معنى التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم...
وأل في {الأبصار} للعموم، أي تشخص فيه أبصار الناس من هول ما يرون. ومن جملة ذلك مشاهدة هول أحوال الظالمين...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هذا في الواقع جواب لأولئك الذين يقولون: إذا كان لهذا العالم إله عادل فلماذا يترك الظالمين وحالهم؟ هل هو غافل عنهم أم لا يستطيع أن يمنعهم وهو يعلم بظلمهم؟ فيجيب القرآن الكريم على ذلك بأنّ الله ليس غافلا عنهم أبداً، لأنّ عدم عقابهم مباشرةً هو أنّ هذا العالم محلّ الامتحان والاختبار وتربية الناس، وهذا لا يتمّ إلاّ في ظلّ الحرية، وسوف يأتي يوم حسابهم...