اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱللَّهَ غَٰفِلًا عَمَّا يَعۡمَلُ ٱلظَّـٰلِمُونَۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمۡ لِيَوۡمٖ تَشۡخَصُ فِيهِ ٱلۡأَبۡصَٰرُ} (42)

قوله : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون } لما بين دلائل التَّوحيد ثمَّ حكى عن إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- أنه طلب من الله العظيم أن يصونه عن الشرك ، وأن يوفقه للأعمال الصَّالحة ، وأن يخصه بالرحمة والمغفرة في يوم القيامة ، ذكر بعده ما يدل على وجود القيامة ، فهو قوله -عزَّ وجلَّ- { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون } وذلك تنبيه على أنَّه -تبارك وتعالى- لو لم ينتقم للمظلوم من الظَّالم للزم إمَّا أن يكون غافلاً عن ذلك الظَّالم ، أو عاجزاً عن الانتقام ، أو كان راضياً بذلك الظُّلم ولما كانت الغفلة ، والعجز ، والرِّضا بالظُّلم محالاً على الله امتنع أن لا ينتقم من الظَّالم للمظلوم .

فإن قيل : كيف يليقُ بالرَّسُول -صلوات الله وسلامه عليه- أن يحسب الله -عزَّ وجلَّ- موصوفاً بالغفلةِ ؟ .

فالجواب من وجوه :

الأول : المراد به التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب إن كان غافلاً ، كقوله تعالى : { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } { وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ } .

والثاني : المقصود منه بيان أنه لو لم ينتقم لكان عدم الانتقام لأجل غفلته عن ذلك الظالم ، ولما كان امتناع هذه الغفلة معلوماً لكل أحد لا جرم كان عدمُ الانتقام محالاً .

الثالث : أنَّ المراد : ولا تحسبنه يعاملهم الله معاملة الغافل عمَّا يعملون ، ولكن معاملة الرَّقيب عليهم المحاسب على النقير ، والقطمير .

الرابع : أنَّ هذا الخطاب ، وإن كان خطاباً للنبيّ صلى الله عليه وسلم في الظاهر إلا أنه خطاب مع الأمَّة .

قال سفيان بن عيينة -رضي الله عنه- : هذا تسلية للمظلوم ، وتهديد للظَّالم{[19356]} .

قوله : { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ ليوم } أي : لأجل يوم ، فاللام للعلَّة .

وقيل : بمعنى " إلى " أي : للغاية .

وقرأ العامة " يُؤخِّرهُمْ " بالياء ، لتقدم اسم الله -تعالى- . وقرأ{[19357]} الحسن والسلمي ، والأعرج ، [ وخلائق ]{[19358]} -رضي الله عنهم- : " نُؤخِّرهُم " بنون العظمة .

ويروى عن أبي عمرو " نُؤخِّرُهمْ " بنون العظمة .

و " تَشْخَصُ " صفة ل " يَوْمِ " . ومعنى شُخُوصِ البصرِ حدَّةُ النَّظر ، وعدم استقراره في مكانه ، ويقال : شَخَصَ سَمْعُه ، وبَصَرُه ، وأشْخَصَهُمَا صَاحِبهُما ، وشَخَصَ بَصَره ، أي : لم يطرف جفنهُ ، وشخوص البصر يدلُّ على الحيرة والدهشة ، ويقال : شخص من بلده أي : بعد والشخصُ : سواد الإنسان المرئيّ من بعيد .


[19356]:ذكره الرازي في "تفسيره" (19/111).
[19357]:44 والبحر المحيط والدر المصون 4/276. ينظر: المحرر الوجيز 3/
[19358]:في ب: وخلف.