المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِنَّكُمۡ ظَلَمۡتُمۡ أَنفُسَكُم بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلۡعِجۡلَ فَتُوبُوٓاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمۡ فَٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ عِندَ بَارِئِكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (54)

54- واذكروا يوم قال لكم رسولكم موسى : يا قوم ، لقد ظلمتم أنفسكم باتخاذكم عجل السامري معبوداً ، فتوبوا إلى ربكم خالقكم من العدم ، بأن تغضبوا على أنفسكم الشريرة الآمرة بالسوء وتذلوها ، لتتجدد بنفوس مطهرة ، فأعانكم الله على ذلك ووفقكم له وكان ذلك خيراً لكم عند خالقكم ، ولهذا قَبِل توبتكم وعفا عنكم ، فهو كثير التوبة على عباده ، واسع الرحمة بهم .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِنَّكُمۡ ظَلَمۡتُمۡ أَنفُسَكُم بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلۡعِجۡلَ فَتُوبُوٓاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمۡ فَٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ عِندَ بَارِئِكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (54)

قوله تعالى : { وإذ قال موسى لقومه } . الذين عبدوا العجل .

قوله تعالى : { يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم } . ضررتم بأنفسكم .

قوله تعالى : { باتخاذكم العجل } . إلهاً قالوا : فأي شيء نصنع ؟

قوله تعالى : { فتوبوا } . فارجعوا .

قوله تعالى : { إلى بارئكم } . خالقكم قالوا : كيف نتوب ؟ قال :

قوله تعالى : { فاقتلوا أنفسكم } . يعني ليقتل البريء منكم المجرم .

قوله تعالى : { ذلكم } . أي القتل .

قوله تعالى : { خير لكم عند بارئكم } . فلما أمرهم موسى بالقتل . قالوا : نصبر لأمر الله ، فجلسوا بالأفنية محتبين وقيل لهم : من حل حبوته ، أو مد طرفه إلى قاتله ، أو اتقاه بيد أو رجل فهو ملعون ، مردودة توبته ، وأصلت القوم عليهم الخناجر ، وكان الرجل يرى ابنه وأباه وأخاه وقريبه وصديقه وجاره فلم يمكنهم المضي لأمر الله تعالى ، قالوا : يا موسى كيف نفعل ؟ فأرسل الله تعالى عليهم ضبابة وسحابة سوداء لا يبصر بعضهم بعضاً فكانوا يقتلونهم إلى المساء ، فلما كثر القتل دعا موسى وهارون عليهما السلام وبكيا وتضرعا وقالا : يا رب هلكت بنو إسرائيل ، البقية البقية ، فكشف الله تعالى السحابة وأمرهم أن يكفوا عن القتل ، فتكشفت عن ألوف من القتلى .

روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : كان عدد القتلى سبعين ألفاً ، فاشتد ذلك على موسى فأوحى الله تعالى إليه : أما يرضيك أن أدخل القاتل والمقتول في الجنة ؟ فكان من قتل شهيداً ، ومن بقي مكفراً عنه ذنوبه ، فذلك قوله تعالى : { فتاب عليكم } . أي ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم ، فتجاوز عنكم .

قوله تعالى : { إنه هو التواب } . القابل للتوبة .

قوله تعالى : { الرحيم } . بهم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِنَّكُمۡ ظَلَمۡتُمۡ أَنفُسَكُم بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلۡعِجۡلَ فَتُوبُوٓاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمۡ فَٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ عِندَ بَارِئِكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (54)

سادساً : ( نعمة إرشادهم إلى ما به يتخلصون من ذنوبهم ) :

ثم ذكرهم - سبحانه - بنعمة جليلة ، وهي إرشادهم إلى ما به يتخلصون من ذنوبهم وإخبارهم بقبول توبتهم ، فقال تعالى :

{ وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ . . . }

المعنى : واذكروا يا بني إسرائيل - لتنتفعوا وتعتبروا - وقت أن قال موسى لقومه الذين عبدوا العجل حين كان يناجي ربه بعيداً عنهم : يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم وهبطتم بها إلى الحضيض بعبادتكم غير الله - تعالى - فإذا أردتم التكفير عن خطاياكم . فتوبوا إلى ربكم توبة صادقة نصوحاً ، واقتلوا أنفسكم لتنالوا عفو ربكم ، فذلكم خير لكم عند خالقكم من الإِقامة على المعصية ، ففعلتم ذلك فقبل الله توبتكم ؛ لأنه هو الذي يقبل التوبة عن عباده على كثرة ما يصدر عنهم من ذنوب ؛ لأنه هو الواسع الرحمة لمن ينيب إليه ويستقيم على صراطه الواضح .

وفي نداء موسى - عليه السلام - لهم بقوله : " يا قوم " تلطف في الخطاب ليجذب قلوبهم إلى سماعه ، وليحملهم على تلقي أوامره بحسن الطاعة ، وليشعرهم بأنهم قومه فهو منهم وهم منه ، والشأن فيمن كان كذلك ألا يكذب عليهم أو يخدعهم ، وإنما يريد لهم الخير .

والبارئ هو الخالق للمخلوقات بدون تفاوت أو اضطراب ، فهو أخص من الخالق ، ولذا قال تعالى : { هُوَ الله الخالق البارىء المصور } وفي هذا التعبير الحكيم ، تحريض لهم على التوبة والاستجابة للبارئ الذي أحسن كل شيء خلقه ، وفيه أيضاً تقريع لهم على غباوتهم ، حيث تركوا عبادة بديع السموات والأرض ، وعبدوا عجلا ضرب به المثل في الغباوة فقالوا " أبلد من ثور " فكأنه - سبحانه - يقول لهم : لقد اتخذتم هذا العجل إلهاً لتشابهكم معه في البلادة وضيق الأفق .

قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : من أين اختص هذا الموضع بذكر البارئ ؟ قلت : البارئ هو الذي خلق الخلق بريئاً من التفاوت { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ } ومتميزاً بعضه عن بعض بالأشكال المختلفة والصور المتباينة ، فكان فيه تقريع بما ان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم بلطف وحكمته على الأشكال المختلفة ، أبرياء من التفاوت والتنافر إلى عبادة البقر التي هي مثل في البعاوة والبلادة ، حتى عرضوا أنفسهم لسخط الله ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم ، ونثر ما نظم من صورهم وأشكالهم ، حين لم يشكروا النعمة في ذلك ، وغمطوها بعبادة ما لا يقدر على شيء منها " اه .

وقوله تعالى : { فاقتلوا أَنفُسَكُمْ } أمر من موسى - عليه السلام - لهم بقتلهم أنفسهم حتى تكون توبتهم مقبولة ، وهذا الأمر بلغه موسى إياهم عن ربه ، إذ مثل هذا الأمر لا يصدر إلا عن وحي لأنه تشريع من الله - تعالى - .

والمراد بقتلهم أنفسهم أن يقتل من لم يعبد العجل منهم عابديه ، فيكون المعنى : ليقتل بعضكم بعضاً ، كما في قوله تعالى : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } أي فليسلم بعضكم على بعض .

وقيل : المراد أن يقتل كل من عبد العجل نفسه قتلا حقيقياً حتى يكفر عن ردته بعبادته لغير الله ، وقد ورد أنهم فعلوا ذلك ، وأن الله - تعالى - رفع عنهم القتل وعفا عمن بقي منهم على قيد الحياة كرما منه وفضلا ، وهذا هو معنى التوبة في قوله تعالى { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } ، ومعنى العفو في قوله تعالى : في الآية السابقة { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } وقد ساق ابن كثير وغيره من المفسرين كثيراً من الآثار التي تحدثت عن كيفية حصول هذا القتل ، من ذلك ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عياس ، أنه قال : " قال تعالى لموسى : إن توبة عبدة العجل أن يقتل كل واحد منهم من لقي من والد وولد فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن فتاب أولئك الذين كانوا خفى على موسى وهارون ، ما اطلع الله على ذنوبهم فاعترفوا بها . وفعلوا ما أمروا به ، فغفر الله للقاتل والمقتول " .

وأخرج ابن جرير عن ابن شهاب الزهري أنه قال : " لما أمر بنو إسرائيل بقتل أنفسهم برزوا ومعهم موسى ، فتضاربوا بالسيوف ، وتطاعنوا بالخناجر وموسى رافع يديه ، حتى إذا فتروا أتاه بعضهم ، فقال له : يا نبي الله ادع الله لنا ، وأخذوا بعضديه يشدون يديه . فلم يزل أمرهم على ذلك حتى إذا قبل الله توبتهم قبض أيدي بعضهم عن بعض ، فألقوا السلاح ، وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم ، فأوحى الله - جل ثناؤه - إلى موسى { لاَ تَحْزَنْ } أما من قتل فحى عندي يرزق ، وأما من بقي ، فقد قبلت توبته ، فسر بذلك موسى وبنو إسرائيل " .

وجملة { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ } تعليله ، جيء بها لتحريضهم على الامتثال والطاعة لما أمرهم به نبيهم - عليه السلام - واسم الإِشارة { ذَلِكُمْ } يعود إلى التوبة والقتل المفهومين مما تقدم .

وجملة { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } جواب لشرط محذوف للإِيجار ، أي فامتثلتم ما أمرتم به ، فقيل الباري توبتكم ، وهي خطاب من الله - تعالى - لبني إسرائيل على لسان موسى ، فيه تذكير بنعمته ، وإرشاد لهم إلى موطن المنة والفضل وهو قبول توبتهم .

وعطفت هذه الجملة { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } جواب لشرط محذوف للإِيجار ، أي فامتثلتم ما أمرتم به ، فقيل الباري توبتكم ، وهي خطاب من الله - تعالى - لبني إسرائيل على لسان موسى ، فيه تذكير بنعمته ، وإرشاد لهم إلى موطن المنة والفضل وهو قبول توبتهم .

وعطفت هذه الجملة { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } بالفاء ، لإِشعارهم بأنه - سبحانه - لم يتركهم ليستأصلوا أنفسهم جميعاً بالقتل ، بل تداركهم بلطفه ورحمته ، فقبل توبتهم ، ورفع عقوبة القتل عمن بقي منهم .

وقوله تعالى : { إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم } إخبار وثناء على الله - تعالى - بما هو أهثله من عفو ورحمة .

وأكدها - سبحانه - بتنزيلهم منزلة من يشك في قبول توبته ، لعظم جريمتهم وضخامة خطيئتهم وسيرهم إلى أمد بعيد في طريق الشيطان .

وهذه الآية الكريمة قد تضمنت نعمة كبرى على بني إسرائيل فإن الله - تعالى - لطف بهم ، ورحمهم ، وقبل توبتهم ، وعفا عن قتلهم أنفسهم ، بعد أن صدر منهم ما يدل على صدقهم في توبتهم ، كما تضمنت - أيضاً - تذكير بني إسرائيل المعاصرين للعهد النبوي بنعم الله عليهم ، لأنه لولا عفوه - سبحانه - عن آبائهم لما وجدوا هم ، وفيها - كذلك - إشارة إلى سماحة الشريعة التي أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم وإغراء لليهود المعاصرين له بالدخول في الإِسلام لأنه إذا كان آباؤهم لم تقبل توبتهم إلا بقتلهم أنفسهم فإن شريعة الإِسلام تقول لهم : لقد جاءكم النبي الذي رفع عنكم إصركم والأغلال التي كانت على أسلافكم ، فآمنوا به واتبعوه لعلكم ترحمون .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِنَّكُمۡ ظَلَمۡتُمۡ أَنفُسَكُم بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلۡعِجۡلَ فَتُوبُوٓاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمۡ فَٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ عِندَ بَارِئِكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (54)

40

ولم يكن بد من التطهير القاسي ؛ فهذه الطبيعة المنهارة الخاوية لا تقومها إلا كفارة صارمة ، وتأديب عنيف . عنيف في طريقته وفي حقيقته :

( وإذ قال موسى لقومه : يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل ، فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم . ذلكم خير لكم عند بارئكم ) . .

أقتلوا أنفسكم . ليقتل الطائع منكم العاصي . ليطهره ويطهر نفسه . . هكذا وردت الروايات عن تلك الكفارة العنيفة . . وإنه لتكليف مرهق شاق ، أن يقتل الأخ أخاه ، فكأنما يقتل نفسه برضاه . ولكنه كذلك كان تربية لتلك الطبيعة المنهارة الخوارة ، التي لا تتماسك عن شر ، ولا تتناهى عن نكر . ولو تناهوا عن المنكر في غيبة نبيهم ما عبدوا العجل . وإذ لم يتناهوا بالكلام فليتناهوا بالحسام ؛ وليؤدوا الضريبة الفادحة الثقيلة التي تنفعهم وتربيهم !

وهنا تدركهم رحمة الله بعد التطهير :

( فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ) . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِنَّكُمۡ ظَلَمۡتُمۡ أَنفُسَكُم بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلۡعِجۡلَ فَتُوبُوٓاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمۡ فَٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ عِندَ بَارِئِكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (54)

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 54 )

هذا القول من موسى صلى الله عليه وسلم كان بأمر من الله تعالى ، وحذفت الياء في «يا قومي » لأن النداء موضع حذف وتخفيف ، والضمير في «اتخاذكم » في موضع خفض على اللفظ ، وفي موضع رفع بالمعنى ، «العجل » لفظة عربية ، اسم لولد البقرة .

وقال قوم : سمي عجلاً لأنه استعجل قبل مجيء موسى عليه السلام .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وليس هذا القول بشيء( {[608]} ) .

واختلف هل بقي العجل من ذهب ؟ قال ذلك الجمهور وقال الحسن بن أبي الحسن : صار لحماً ودماً ، والأول أصح .

و «توبوا » : معناه ارجعوا عن المعصية إلى الطاعة .

وقرأ الجمهور : «بارئِكم » بإظهار الهمزة وكسرها .

وقرأ أبو عمرو : «بارئْكم » بإسكان الهمزة .

وروي عن سيبويه اختلاس الحركة وهو أحسن ، وهذا التسكين يحسن في توالي الحركات .

وقال المبرد : لا يجوز التسكين مع توالي الحركات في حرف الإعراب ، وقرءاة أبي عمرو «بارئكم » لحن( {[609]} ) .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله : وقد روي عن العرب التسكين في حرف الأعراب ، قال الشاعر : [ الرجز ]

إذا اعوججن قلت صاحب قوم( {[610]} ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقال امرؤ القيس : [ السريع ]

فاليوم أشرب غير مستحقب . . . إثماً من الله ولا واغل( {[611]} )

وقال آخر : [ الرجز ]

قالت سليمى اشتر لنا سويقا( {[612]} ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقال الآخر : [ السريع ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وقد بدا هَنْكِ مِن المِئْزَرِ( {[613]} )

وقال جرير :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ونهر تيري فما تعرفْكُمُ العربُ( {[614]} )

وقال وضاح اليمن( {[615]} ) : [ الرجز ]

إنما شعري شهد *** قد خلط بجلجلان

ومن أنكر التسكين في حرف الإعراب فحجته أن ذلك لا يجوز من حيث كان علماً للإعراب .

قال أبو علي : وأما حركة البناء فلم يختلف النحاة في جواز تسكينها مع توالي الحركات .

وقرأ الزهري : «باريكم » بكسر الياء من غير همز( {[616]} ) ، ورويت عن نافع .

وقرأ قتادة : «فاقتالوا أنفسكم » : وقال : «هي من الاستقالة » .

قال أبو الفتح : «اقتال » هذه افتعل ، ويحتمل أن يكون عينها واواً كاقتادوا ، ويحتمل أن يكون ياء «كاقتاس »( {[617]} ) والتصريف يضعف أن تكون من الاستقالة ، ولكن قتادة رحمه الله ينبغي أن يحسن الظن به في أنه لم يورد ذلك إلا بحجة عنده .

وقوله تعالى : { فتاب عليكم } قبله محذوف تقديره ففعلتم .

وقوله { عليكم } معناه : على الباقين ، وجعل الله تعالى القتل لمن قتل شهادة وتاب على الباقين وعفا عنهم .

قال بعض الناس : { فاقتلوا } في هذه الآية معناه بالتوبة وإماتة عوارض النفوس من شهوة وتعنت وغضب( {[618]} ) ، واحتج بقوله عليه السلام في الثوم والبصل فلتمتهما طبخاً ، وبقول حسان :

. . . . . . . . . . . . . . . . قتلت قتلت فهاتها لم تقتل( {[619]} )


[608]:- لأن العرب تطلق هذا الاسم على ولد البقر.
[609]:- تلحين أبي العباس لأبي عمرو البصري لا يلتفت إليه، لأن أبا عمرو لم يقرأ إلا بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن لغة العرب توافقه، وقد جلب ابن عطية رحمه الله ما يكفي من الشواهد، فإنكار المبرد لها هو المنكر، لا أن الذين اعترضوا على المبرد خلطوا ما حركته إعراب بما حركته بناء.
[610]:- تمامه: بالدو أمثال السفين العوم. والدو: الصحراء، والبيت منسوب إلى أبي نخيلة الراجز.
[611]:- كان قد حرم على نفسه شرب الخمر حتى يأخذ الثأر، وبعد أن أخذه أصبح الخمر مباحا في زعمه فقال: فاليوم أشر ألخ. وأشرب فعل معرب، وقد سكن آخره. وقد جاء في اللسان: واحتقب فلان الإثم كأنه جمعه واحتقبه من خلفه، واحتقبه واستحقبه بمعنى، أي احتمله، والواغل هنا هو الذي يدخل على القوم في طعامهم وشرابهم من غير أن يدعوه.
[612]:- تمامه: وها خبر البر أو دقيقا- ينسب هذا البيت للعذامر الكندي، وهومن مشطور الرجز. انظر شرح الشافية لابن الحاجب. وفي رواية (وهات بر البخس أو دقيقا) والبخس الذي يزرع بماء السماء.
[613]:- أوله: (رحت وفي رجليك ما فيهما)، وهو للأقيشر الأسدي كما في خزانة الأدب.
[614]:- أوله: سيروا بني العم فالأهواز منزلكم ............................... قال في القاموس: ونهر تيرى كضيزى بالأهواز.
[615]:- من مشاهير شعراء الغزل، تشبب بأم البنين زوجة الوليد بن عبد الملك فأمر الوليد بدفنه حيا. واسمه عبد الرحمن بن إسماعيل، سمى بالوضاح لجماله.
[616]:- هذه القراءة لها تخريجان وكلاهما شاذ، انظر أبا (ح). "البحر المحيط"1/207.
[617]:- عبارة أبي (ح): "وقرأ قتادة فيما نقل المهدوي وابن عطية والتبريزي وغيرهم: "فأقيلوا أنفسكم"، وقال الثعلبي" قرأ قتادة: "فاقتالوا أنفسكم"، فأما فأقيلوا فهو أمر من الإقالة، وكأن المعنى إن أنفسكم قد تورطت في عذاب الله بهذا الفعل العظيم الذي تعاطيتموه من عبادة العجل، وقد هلكت، فأقيلوها بالتوبة، والتزام الطاعة، وأزيلوا آثار تلك المعاصي بإظهار الطاعات، وأما فاقتالوا أنفسكم فقالوا: هو افتعل بمعنى استفعل، أي فاستقيلوها، والمشهور استقال لا اقتال، قال ابن جني: يحتمل أن يكون عينها واوا كاقتاد، ويحتمل أن يكون ياء كاقتاس" اهـ.
[618]:- في القول الأول: القتل الحقيقي بمعنى إزهاق الروح، وفي القول الثاني: القتل المعنوي بمعنى إماتة الأهواء والشهوات، والأول هو الظاهر، وقال به أكثر الناس، وهناك من يقول: فاقتلوا أنفسكم أي استسلموا لمن يقتلوا، وقد حكي أن الذين لم يعبدوا العجل قتلوا الذين عبدوه صبرا واستسلاما. فتكون الآراء في القتل ثلاثة، والأول هو الظاهر.
[619]:- نص البيت كله: إن التي ناولتني فرددتها قتِلت قُتِلْت فهاتها لم تُقْتل
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِنَّكُمۡ ظَلَمۡتُمۡ أَنفُسَكُم بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلۡعِجۡلَ فَتُوبُوٓاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمۡ فَٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ عِندَ بَارِئِكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (54)

هذه نعمة أخرى وهي نعمة نسخ تكليف شديد عليهم كان قد جعل جابراً لما اقترفوه من إثم عبادة الوثن فحصل العفو عنهم بدون ذلك التكليف فتمت المنة وبهذا صح جعل هذه منة مستقلة بعد المنة المتضمنة لها قوله تعالى : { ثم عفونا عنكم من بعد ذلك } [ البقرة : 51 ] لأن العفو عن المؤاخذة بالذنب في الآخرة قد يحصل مع العقوبة الدنيوية من حد ونحوه وهو حينئذ منة إذ لو شاء الله لجعل للذنب عقابين دنيوي وأخروي كما كان المذنب النفس والبدن ولكن الله برحمته جعل الحدود جوابر في الإسلام كما في الحديث الصحيح ، فلما عفا الله عن بني إسرائيل على أن يقتلوا أنفسهم فقد تفضل بإسقاط العقوبة الأخروية التي هي أثر الذنب ، ولما نسخ تكليفهم بقتل أنفسهم فقد تفضل بذلك فصارت منتان .

فقول موسى لقومه : { إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم } تشريع حكم لا يكون مثله إلا عن وحي لا عن اجتهاد وإن جاز الاجتهاد للأنبياء فإن هذا حكم مخالف لقاعدة حفظ النفوس التي قيل قد اتفق عليها شرائع الله فهو يدل على أنه كلفهم بقتل أنفسهم قتلاً حقيقة إما بأن يقتل كل من عبد العجل نفسه فيكون المراد بالأنفس الأرواح التي في الأجسام فالفاعل والمفعول واحد على هذا وإنما اختلفا بالاعتبار كقوله { ظلمتم أنفسكم } وقول ابن أذينة :

وإذا وجدت لها وساوس سلوة *** شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها

وإما بأن يقتل من لم يعبدوا العجل عابديه ، وكلام التوراة في هذا الغرض في غاية الإبهام وظاهره أن موسى أمره الله أن يأمر اللاويين الذين هم من سبط لاوي الذي منه موسى وهارون أن يقتلوا من عبد العجل بالسيف وأنهم فعلوا وقتلوا ثلاثة آلاف نفس ثم استشفع لهم موسى فغفر الله لهم أي فيكون حكم قتل أنفسهم منسوخاً بعد العمل به ويكون المعنى فليقتل بعضكم بعضاً ، فالأنفس مراد بها الأشخاص كما في قوله تعالى : { فإذا دخلتهم بيوتاً فسلموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] أي فليسلم بعضكم على بعض وقوله : { وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم } [ البقرة : 83 ] أي لا يسفك بعضكم دماء بعض وقوله عقبه : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } [ البقرة : 84 ] فالفاعل والمفعول متغايران .

ومن الناس من حمل الأمر بقتل النفس هنا على معنى القتل المجازي وهو التذليل والقهر على نحو قول امرىء القيس :

في أعشار قلب مقتَّل ***

وقوله : خمر مقتلة أو مقتولة ، أي مذللة سورتها بالماء . قال بجير بن زهير :

إن التي ناولْتَني فرددتُها *** قُتِلتْ قُتِلت فهاتها لم تُقتلِ{[125]}

وفيه بعد عن اللفظ بل مخالفة لغرض الامتنان ، لأن تذليل النفس وقهرها شريعة غير منسوخة .

والظلم هنا الجناية والمعصية على حد قوله : { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] .

والفاء في قوله : { فتوبُوا } فاء التسبب لأن الظلم سبب في الأمر بالتوبة فالفاء لتفريع الأمر على الخبر وليست هنا عاطفة عند الزمخشري وابن الحاجب إِذ ليس بين الخبر والإنشاء ترتب في الوجود ، ومن النحاة من لا يرى الفاء تخرج عن العطف وهو الجاري على عبارات الجمهور مثل صاحب « مغني اللبيب » فيجعل ذلك عطف إنشاء على خبر ولا ضير في ذلك .

وذكر التوبة تقدم في قوله تعالى : { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه } [ البقرة : 36 ] .

والفاء في قوله : { فاقتلوا أنفسكم } ظاهرة في أن قتلهم أنفسهم بيان للتوبة المشروعة له فتكون الفاء للترتيب الذكري وهو عطف مفصل على مجمل كقوله تعالى : { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة } [ النساء : 153 ] كما في « مغني اللبيب » وهو يقتضي أنها تفيد الترتيب لا التعقيب . وأما صاحب « الكشاف » فقد جوز فيه وجهين أحدهما تأويل الفعل المعطوف عليه بالعزم على الفعل فيكون ما بعده مرتباً عليه ومعقباً وهذا الوجه لم يذكره صاحب « المغني » وهذا لا يتأتى في قوله تعالى : { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا } ، وثانيهما جعل التوبة المطلوبة شاملة لأقوال وأعمال آخرها قتلهم أنفسهم فتكون الفاء للترتيب والتعقيب أيضاً .

وعندي أنه إذا كانت الجملة الثانية منزلة منزلة البيان من الجملة الأولى وكانت الأولى معطوفة بالفاء كان الأصل في الثانية أن تقطع عن العطف فإذا قرنت بالفاء كما في هذه الآية كانت الفاء الثانية مؤكدة للأولى ، ولعل ذلك إنما يحسن في كل جملتين تكون أولاهما فعلاً غير محسوس وتكون الثانية فعلاً محسوساً مبينًا للفعل الأول فينزل منزلة حاصل عقبه فيقرن بالفاء لأنه لا يحصل تمامه إلا بعد تقرير الفعل الأول في النفس ولذلك قربه صاحب « الكشاف » بتأويل الفعل الأول بالعزم في بعض المواضع .

والبارىء هو الخالق الخلق على تناسب وتعديل فهو أخص من الخالق ولذلك أتبع به الخالق في قوله تعالى : { هو الله الخالق البارىء } [ الحشر : 24 ] .

وتعبير موسى عليه السلام في كلامه بما يدل على معنى لفظ البارىء في العربية تحريض على التوبة لأنها رجوع عن المعصية ففيها معنى الشكر وكون الخلق على مثال متناسب يزيد تحريضاً على شكر الخالق .

وقوله : { فتاب عليكم } ظاهر في أنه من كلام الله تعالى عند تذكيرهم بالنعمة وهو محل التذكير من قوله : { وإذ قال موسى لقومه } إلخ فالماضي مستعمل في بابه من الإخبار وقد جاء على طريقة الالتفات لأن المقام للتكلم فعدل عنه إلى الغيبة ورجحه هنا سبق معاد ضمير الغيبة في حكاية كلام موسى . وعطفت الفاء على محذوف إيجازاً ، أي ففعلتم فتاب عليكم أو فعزمتم فتاب عليكم ، على حد { أن اضرب بعصاك البحر فانفلق } [ الشعراء : 63 ] أي فضرب ، وعطف بالفاء إشارة إلى تعقيب جرمهم بتوبته تعالى عليهم وعدم تأخيرها إلى ما بعد استئصال جميع الذين عبدوا العجل بل نسخ ذلك بقرب نزوله بعد العمل به قليلاً أو دون العمل به وفي ذلك رحمة عظيمة بهم إذ حصل العفو عن ذنب عظيم بدون تكليفهم توبة شاقة بل اكتفاء بمجرد ندمهم وعزمهم على عدم العود لذلك .

ومن البعيد أن يكون { فتاب عليكم } من كلام موسى لما فيه من لزوم حذف في الكلام غير واضح القرينة ؛ لأنه يلزم تقدير شرط تقديره فإن فعلتم يتب عليكم فيكون مراداً منه الاستقبال والفاء فصيحة ، ولأنه يعرى هذه الآية عن محل النعمة المذكر به إلا تضمناً .

وجملة : { إنه هو التواب الرحيم } خبر وثناء على الله ، وتأكيده بحرف التوكيد لتنزيلهم منزلة من يشك في حصول التوبة عليهم لأن حالهم في عظم جرمهم حال من يشك في قبول التوبة عليه وإنما جمع التواب مع الرحيم لأن توبته تعالى عليهم كانت بالعفو عن زلّة اتخاذهم العجل وهي زلة عظيمة لا يغفرها إلا الغفار ، وبالنسخ لحكم قتلهم وذلك رحمة فكان للرحيم موقع عظيم هنا وليس هو لمجرد الثناء .


[125]:- ومن معنى القتل في التذليل جاء معنى مجازي آخر وهو إطلاق القتل على إتقان العمنل لأن في الإتقان تذليلا للمصنوع من ذلك قولهم قتل اللسان علما، وفرى الدهر خبرة وقوله تعالى{ وما قتلوه يقينا} على وجه.