قوله تعالى : { قال } يعني قارون ، { إنما أوتيته على علم عندي } أي : على فضل وخير وعلمه الله عندي فرآني أهلاً لذلك ، ففضلني بهذا المال عليكم كما فضلني بغيره . قيل : هو علم الكيمياء ، قال سعيد بن المسيب : كان موسى يعلم الكيمياء فعلم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم وعلم كالب بن يوقنا ثلثه وعلم قارون ثلثه ، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه وكان ذلك سبب أمواله . وقيل : على علم عندي بالتصرف في التجارات والزراعات وأنواع المكاسب . قوله تعالى : { أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون } الكافرة ، { من هو أشد منه قوةً وأكثر جمعاً } للأموال ، { ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون } قال قتادة : يدخلون النار بغير حساب ولا سؤال ، وقال مجاهد : يعني لا يسأل الملائكة عنهم ، لأنهم يعرفونهم بسيماهم . وقال الحسن : لا يسألون سؤال استعلام وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ .
ولكن قارون قابل هذه النصائح ، بالغرور وبالإصرار على الفساد والجحود فقال كما حكى القرآن عنه { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي } .
أى : قال قارون فى الرد على ناصحيه : إن هذا المال الكثير الذى تحت يدى ، إنما أوتيته بسبب علمى وجدى واجتهادى . . . فكيف تطلبون منى أن أتصرف بمقتضى نصائحكم ؟ لا . لن أتبع تلك النصائح التى وجهتموها إلى ، فإن هذا المال مالى ولا شأن لكم بتصرفى فيه ، كما أنه لا شأن لكم بتصرفاتى الخاصة ، ولا بسلوكى فى حياتى التى أملكها .
وهذا القول يدل على أن قارون ، كان قد بلغ الذروة فى الغرور والطغيان وجحود النعمة .
ولذا جاءه التهديد المصحوب بالسخرية منه ومن كنوزه ، فى قوله - تعالى - : { أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً } .
والمقصود بهذا الاستفهام التعجيب من حاله ، والتأنيب له على جهله وغروره .
أى : أبلغ الغرور والجهل بقارون أنه يزعم أن هذا المال الذى بين يديه جمعه بمعرفته واجتهاده ، مع أنه يعلم - حق العلم عن طريق التوراة وغيرها ، أن الله - تعالى - قد أهلك من قبله . من أهل القرون السابقة عليه من هو أشد منه فى القوة ، وأكثر منه فى جمع المال واكتنازه .
فالمقصود بالجملة الكريمة تهديده وتوبيخه على غروره وبطره .
وقوله - سبحانه - : { وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون } جملة حالية .
أى : والحال أنه لا يسأل عن ذنوبهم المجرمون سؤال استعتاب واستعلام ، لأن الله - تعالى - لا يخفى عليه شىء . وإنما يسألون - كما جاء فى قوله - تعالى - { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } - سؤال توبيخ وإفضاح .
فالمراد بالنفى فى قوله - سبحانه - { وَلاَ يُسْأَلُ . . . } سؤال الاستعلام والاستعتاب ، والمراد بالإثبات فى قوله : { فَلَنَسْأَلَنَّ } أو فى قوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُم } سؤال التقريع والتوبيخ .
أو نقول : إن فى يوم القيامة مواقف ، فالمجرمون قد يسألون فى موقف ، ولا يسألون فى موقف آخر ، وبذلك يمكن الجمع بين الآيات التى تنفى السؤال والآيات التى تثبته .
كذلك قال له قومه : فكان رده جملة واحدة ، تحمل شتى معاني الفساد والإفساد :
( قال : إنما أوتيته على علم عندي ) !
إنما أوتيت هذا المال استحقاقا على علمي الذي طوع لي جمعه وتحصيله . فما لكم تملون علي طريقة خاصة في التصرف فيه ، وتتحكمون في ملكيتي الخاصة ، وأنا إنما حصلت هذا المال بجهدي الخاص ، واستحققته بعلمي الخاص ?
إنها قولة المغرور المطموس الذي ينسى مصدر النعمة وحكمتها ، ويفتنه المال ويعميه الثراء .
وهو نموذج مكرر في البشرية . فكم من الناس يظن أن علمه وكده هما وحدهما سبب غناه . ومن ثم فهو غير مسؤول عما ينفق وما يمسك ، غير محاسب على ما يفسد بالمال وما يصلح ، غير حاسب لله حسابا ، ولا ناظر إلى غضبه ورضاه !
والإسلام يعترف بالملكية الفردية ، ويقدر الجهد الفردي الذي بذل في تحصيلها من وجوه الحلال التي يشرعها ؛ ولا يهون من شأن الجهد الفردي أو يلغيه . ولكنه في الوقت ذاته يفرض منهجا معينا للتصرف في الملكية الفردية - كما يفرض منهجا لتحصيلها وتنميتها - وهو منهج متوازن متعادل ، لا يحرم الفرد ثمرة جهده ، ولا يطلق يده في الاستمتاع به حتى الترف ولا في إمساكه حتى التقتير ؛ ويفرض للجماعة حقوقها في هذا المال ، ورقابتها على طرق تحصيله ، وطرق تنميته . وطرق إنفاقه والاستمتاع به . وهو منهج خاص واضح الملامح متميز السمات .
ولكن قارون لم يستمع لنداء قومه ، ولم يشعر بنعمة ربه ، ولم يخضع لمنهجه القويم . وأعرض عن هذا كله في استكبار لئيم وفي بطر ذميم .
ومن ثم جاءه التهديد قبل تمام الآية ، ردا على قولته الفاجرة المغرورة :
( أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ? ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ) .
فإن كان ذا قوة وذا مال ، فقد أهلك الله من قبله أجيالا كانت أشد منه قوة وأكثر مالا . وكان عليه أن يعلم هذا . فهذا هو العلم المنجي . فليعلم . وليعلم أنه هو وأمثاله من المجرمين أهون على الله حتى من أن يسألهم عن ذنوبهم . فليسوا هم الحكم ولا الأشهاد !
{ قال إنما أوتيته على علم عندي } فضلت به على الناس واستوجبت به التفوق عليهم بالجاه والمال ، و { على علم } في موضع الحال وهو علم التوراة وكان أعلمهم بها ، وقيل هو الكيمياء وقيل علم التجارة والدهقنة وسائر المكاسب ، وقيل العلم بكنوز يوسف ، و{ عندي } صفة له أو متعلق ب { أوتيته } كقولك : جاز هذا عندي أي في ظني واعتقادي . { أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا } تعجب وتوبيخ على اغتراره بقوته وكثرة ماله مع علمه بذلك لأنه قرأه في التوراة وسمعه من حفاظ التواريخ ، أو رد لادعائه للعلم وتعظمه به بنفي هذا العلم عنه أي أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعى . ولم يعلم هذا حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين . { ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون } سؤال استعلام فإنه تعالى مطلع عليها أو معاتبة فإنهم يعذبون بها بغتة ، كأنه لما هدد قارون بذكر إهلاك من قبله ممن كانوا أقوى منه وأغنى أكد ذلك بأن بين أنه لم يكن مطلعا على ما يخصهم بل الله مطلع على ذنوب المجرمين كلهم معاقبهم عليها لا محالة .
القائل قارون لما وعظه قومه وندبوه إلى اتقاء الله تعالى في المال الذي أعطاه تفضلاً منه عليه أخذته العزة بالإثم فأعجب بنفسه ، وقال لهم على جهة الرد عليهم والروغان عما ألزموه فيه { إنما أوتيته على علم عندي } ، ولكلامه هذا وجهان يحتملهما وبكل واحد منهما قالت فرقة المفسرين فقال الجمهور منهم إنه ادعى أن عنده علماً استوجب به أن يكون صاحب ذلك المال وتلك النعمة ، ثم اختلفوا في العلم الذي أشار إليه ما هو ، فقال بعضهم علم التوراة وحفظها ، قالوا وكانت هذه مغالطة ورياء ، وقال أبو سليمان الداراني{[9179]} : أراد العلم بالتجارب ووجوه تثمير المال فكأنه قال { أوتيته } بإدراكي وبسعيي ، وقال ابن المسيب : أراد علم الكيمياء ، وقال ابن زيد{[9180]} وغيره : إنما أراد { أوتيته على علم } من الله وتخصيص من لدنه قصدني به أي فلا يلزمني فيه شيء مما قلتم ، ثم جعل قوله { عندي } كما تقول في معتقدي على ما أراه .
قال الفقيه الإمام القاضي : وعلى الاحتمالين معاً فقد نبه القرآن على خطئه في اغتراره وعارض منزعه بأن من معلومات الناس المتحققة عندهم { أن الله } تعالى { قد أهلك } من الأمم والقرون والملوك من هو أشد من قارون قوة وأكثر جمعاً إما للمال وإما للحاشية والغاشية ، وقوله تعالى : { أو لم يعلم } يرجح أن قارون تشبع بعلم نفسه على زعمه ، وقوله تعالى : { ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون } ، قال محمد بن كعب : هو كلام متصل بمعنى ما قبله ، والضمير في { ذنوبهم } عائد على من أهلك من القرون ، أي أهلكوا ولم يُسأل غيره بعدهم عن ذنوبهم أي كل واحد إنما يكلم ويعاقب بحسب ما يخصه ، وقالت فرقة : هو إخبار مستأنف عن حال يوم القيامة أن المجرمين لا يسألون عن ذنوبهم ، قال قتادة ذلك لأنه يدخلون النار بغير حساب ، وقال قتادة أيضاً ومجاهد : معناه أن الملائكة لا تسأل عن ذنوبهم لأنهم يعرفونهم بسيماهم من السواد والتشويه ونحو ذلك قوله تعالى : { يعرف المجرمون بسيماهم }{[9181]} [ الرحمن : 41 ] .
قال الفقيه الإمام القاضي : وفي كتاب الله تعالى آيات تقتضي أن الناس يوم القيامة يُسألون كقوله تعالى : { وقفوهم إنهم مسؤولون }{[9182]} [ الصافات : 24 ] وغير ذلك ، وفيه آيات تقتضي أنه لا يسأل أحد كقوله تعالى : { فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان }{[9183]} [ الرحمن : 39 ] ، وغير ذلك فقال الناس في هذا إنها مواطن وطوائف ، وذلك من قوله محتمل ويشبه عندي أن تكون الآيات التي توجب السؤال إنما يراد بها أسئلة التوبيخ والتقرير والتي تنفي السؤال يراد بها أسئلة الاستفهام والاستخبار على جهة الحاجة إلى علم ذلك من المسؤولين ، أي أن ذلك لا يقع لأن العلم بهم محيط وسؤال التوبيخ غير معتد به .
جواب عن موعظة واعظيه من قومه . وقد جاء على أسلوب حكاية المحاورات فلم يعطف وهو جواب متصلف حاول به إفحامهم وأن يقطعوا موعظتهم لأنها أمرَّت بطره وازدهاءه .
و { إنما } هذه هي أداة الحصر المركبة من ( إنّ ) و ( ما ) الكافة مصيّرتين كلمة واحدة وهي التي حقها أن تكتب موصولة النون بميم ( ما ) . والمعنى : ما أوتيت هذا المال إلا على علم علمته .
وضمير { أوتيته } عائد إلى ( ما ) الموصولة في قولهم { وابتغ فيما ءاتاك الله الدار الآخرة } [ القصص : 77 ] . وبني الفعل للنائب للعلم بالفاعل من كلام واعظيه .
و { على علم } في موضع الحال من الضمير المرفوع .
و { على } للاستعلاء المجازي بمعنى التمكن والتحقق ، أي ما أوتيت المال الذي ذكرتموه في حال من الأحوال إلا في حال تمكني من علم راسخ ، فيجوز أن يكون المراد من العلم علم أحكام إنتاج المال من التوراة ، أي أنا أعلم منكم بما تعظونني به ، يعني بذلك قولهم له { لا تفرح وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض } [ القصص : 76 ، 77 ] . وقد كان قارون مشهوراً بالعلم بالتوراة ولكنه أضلّه الله على علم فأراد بهذا الجواب قطع موعظتهم نظير جواب عمرو بن سعيد بن العاص الملقب بالأشدق لأبي شريح الكعبي حين قدم إلى المدينة أميراً من قبل يزيد بن معاوية سنة ستين فجعل يجهز الجيوش ويبعث البعوث إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير الذي خرج على يزيد ، فقال أبو شريح له : ائذن لي أيها الأمير أحدِّثك قولاً قام به رسول الله الغد من يوم الفتح فسمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال : « إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ولا يعضد شجرة فإن أحد ترخص لقتال رسول الله فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذِن لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس وليبلِّغ الشاهد الغائب » فقال عمرو بن سعيد : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فاراً بدم ولا فارّاً بخربة .
ويجوز أن يكون المراد بالعلم علم اكتساب المال من التجارة ونحوها ، فأراد بجوابه إنكار قولهم : آتاك الله صلفاً منه وطغياناً .
وقوله { عندي } صفة ل { علم } تأكيداً لتمكنه من العلم وشهرته به . هذا هو الوجه في تفسير هذه الجملة من الآية وهو الذي يستقيم مع قوله تعالى عقبه { أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون } الآية ، كما ستعرفه . وذكر المفسرون وجوهاً تسفر عن أشكال أخرى من تركيب نظم الآية في محمل معنى { على } ومحمل المراد من ( العلم ) ومحمل { عندي } فلا نطيل بذكرها فهي منك على طرف الثمام .
وقوله { أولم يعلم } الآية إقبال على خطاب المسلمين .
والهمزة في { أولم يعلم } للاستفهام الإنكاري التعجيبي تعجيبا من عدم جريه على موجب علمه بأن الله أهلك أمما على بطرهم النعمة وإعجابهم لقوتهم ونسيانه حتى صار كأنه لم يعلمه تعجيبا من فوات مراعاة ذلك منه مع سعة علمه بغيره من باب « حفظت شيئا وغابت عنك أشياء » .
وعطف هذا الاستفهام على جملة { قال إنما أوتيته } وهذه جملة معترضة بين أجزاء القصة .
والقوة : ما به يستعان على الأعمال تشبيها لها بقوة الجسم التي تخول صاحبها حمل الأثقال ونحوها قال تعالى : { وأعدوا لهم ما استطعم من قوة } .
والجمع : الجماعة من الناس . قيل : كان أشياع قارون مائتين وخمسين من بني إسرائيل رؤساء جماعات .
وجملة { ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون } تذييل للكلام فهو استئناف وليس عطفا على أن الله قد أهلك من قبله . والسؤال المنفي السؤال في الدنيا وليس سؤال الآخرة . والمعنى : يحتمل أن يكون السؤال كناية عن عدم الحاجة إلى السؤال عن ذنوبهم فهو كناية عن علم الله تعالى بذنوبهم ، وهو كناية عن عقابهم على إجرامهم فهي كناية بوسائط . والكلام تهديد للمجرمين ليكونوا بالحذر من أن يؤخذوا بغتة ، ويحتمل أن يكون السؤال بمعناه الحقيقي ، أي لا يسأل المجرم عن جرمه قبل عقابه لأن الله قد بين للناس على ألسنة الرسل بحدي الخير والشر ، وأمهل المجرم فإذا أخذه أخذه بغتة وهذا كقوله تعالى : { حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون } وقول النبيء صلى الله عليه وسلم " إن الله يمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته » .