111- إن أولئك الذين أقسموا إذا جاءتهم آية ليؤمنن بها كاذبون ، والله أعلم بإيمانهم ، ولو أننا نزّلنا الملائكة يرونهم رأي العين ، وكلَّمهم الموتى بعد إحيائهم وإخراجهم من قبورهم ، وجمعنا لهم كل شيء مقابلا لهم مواجهاً يبين لهم الحق ، ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله تعالى أن يؤمنوا ، والأكثرون لا يدركون الحق ولا يذعنون له ، لما أصاب قلوبهم من عمياء الجاهلية .
قوله تعالى : { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة } ، فرأوهم عياناً .
قوله تعالى : { وكلمهم الموتى } ، بإحيائنا إياهم فشهدوا لك بالنبوة كما سألوا .
قوله تعالى : { وحشرنا } ، وجمعنا .
قوله تعالى : { عليهم كل شيء قبلاً } ، قرأ أهل المدينة وابن عامر { قبلاً } بكسر القاف أو فتح الباء ، أي معاينة ، وقرأ الآخرون بضم القاف والباء ، قيل : هو جمع قبيل ، وهو الكفيل ، مثل : رغيف ورغف ، وقضيب وقضب . أي : ضمناء وكفلاء ، وقيل : هو جمع قبيل وهو القبيلة ، أي : فوجاً فوجاً ، وقيل : هو بمعنى المقابلة والمواجهة من قولهم : أتيتك قبلاً لا دبراً إذا أتاه من قبل وجهه .
ثم بين - سبحانه - أن هؤلاء المشركين الذين يزعمون أنهم لو جاءتهم آية ليؤمنن بها كاذبون فى أيمانهم الفاجرة ، فقال - تعالى - : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ . . . . } .
المعنى : ولو أننا يا محمد لم نقتصر على إيتاء ما اقترحه هؤلاء المشركون من آيات كونية ، بل أضفنا إلى ذلك أننا نزلنا عليهم الملائكة يشهدون بصدقك وأحيينا لهم الموتى فشهدوا بحقيقة الإيمان ، وزدنا على ذلك فجمعنا لهم جميع الخلائق مقابلة ومعاينة حتى يواجهوهم بأنك على الحق ، لو أننا فعلنا كل ذلك ما استقام لهم الإيمان لسوء استعدادهم وفساد فطرهم ، وانطماس بصيرتهم ، فإن قوما يمرون على تلك الآيات الكونية التى زخر بها هذا الكون والتى استعرضتها هذه السورة فلا تتفتح لها بصائرهم ، ولا تتحرك لها مشاعرهم ، ليسوا على استعداد لأن يخالط الإيمان شغاف قلوبهم ، والذى ينقصهم إنما هو القلب الحى الذى يتلقى ويتأثر ويستجيب وليس الآيات التى يقترحونها فإن أمامهم الكثير منها ، واقترحاتهم إنما هى نوع من العبث السخيف ، والتعنت المرذول الذى لا يستحق أن يهتم به .
و { قُبُلاً } - بضم القاف والباء - حال من " كل شىء " وفيه أوج :
الأول : أنه جمع قبيل بمعنى كفيل مثل قليب وقلب ، أى : وحشرنا عليهم كل شىء من المخلوقات ليكونوا كفلاء بصدقك .
والثانى : أنه مفرد كقبل الإنسان ودبره فيكون معناه المواجهة والمعاينة ومنه آتيك قبلا لا دبرا أى آتيك من قبل وجهك والمعنى . وحشرنا عليهم كل شىء مواجهة وعيانا ليشهدوا بأنك على الحق .
والثالث : أن يكون قبلا جمع قبيل لكن بمعنى جماعة جماعة أو صنفاً صنفا والمعنى : وحشرنا عليهم كل شىء فوجا فوجا ونوعا نوعا من سائر المخلوقات ليشهدوا بصدقك .
وجملة { مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } جواب لو .
أى : لو فعلنا لهم كل ذلك ما كانوا ليؤمنوا فى حال من الأحوال بسبب غلوهم فى التمرد والعصيان ، إلى فى حال مشيئة الله إيمانهم فيؤمنوا ، لأنه - سبحانه - هو القادر على كل شىء .
وقوله { ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } .
أى : ولكن أكثر هؤلاء المشركين يجهلون أنهم لو أوتوا كل آية لم يؤمنوا فهم لذلك يحلفون الأيمان المغلظة بأنهم لو جاءتهم آية ليؤمنن بها . أو يجهلون أن الإيمان بمشيئة الله لا بخوارق العادات .
وقيل الضمير يعود على المؤمنين فيكون المعنى . ولكن أكثر المؤمنين يجهلون عدم إيمان أولئك المشركين عند مجىء الآيات لجهلهم عدم مشيئة الله - تعالى - لإيمانهم ، فيتمنون مجىء الآيات طمعاً فى إيمانهم .
قال الشيخ القاسمى : فى قوهل { إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } حجة واضحة على المعتزلة لدلالته على أن جميع الأشياء بمشيئة الله - تعالى - حتى الإيمان والكفر . وقد اتفق سلف هذه الأمة وحملة شريعتها على أنه " ما شاء الله كان وما لم يشا لهم يكن " . والمعتزلة يقولون " إلا أن يشاء الله مشيئة قسر وإكراه " .
هذا الجزء الثامن مؤلف من شطرين : الشطر الأول هو بقية سورة الأنعام - التي سبق شطرها الأول في الجزء السابع - والشطر الثاني هو من سورة الأعراف . .
ولقد سبق التعريف بسورة الأنعام في الجزء السابع ؛ وسنحاول هنا أن نصل قارئ هذا الجزء بالتعريف الذي تضمنه ذلك الجزء . أما الكلام عن سورة الأعراف فسيجيء في موضعه - إن شاء الله - عندما نواجه السورة .
تمضي بقية سورة الأنعام على منهج السورة الذي أوضحناه في التعريف بها في الجزء السابع . والذي يحسن أن نشير إليه ملخصاً في فقرات مجملة :
جاء في التعريف بالسورة هذه الفقرات :
" إنها - في جملتها - تعرض " حقيقة الألوهية " . تعرضها في مجالي الكون والحياة . كما تعرضها في مجالي النفس والضمير . . وتعرضها في مجاهيل هذا الكون المشهود ، كما تعرضها في مجاهيل ذلك الغيب المكنون . .
وتعرضها في النشأة الكونية ، والنشأة الحيوية ، والنشأة الإنسانية ؛ كما تعرضها في مصارع الغابرين ، واستخلاف المستخلفين . . وتعرضها في مشاهد الفطرة وهي تواجه الكون ، وتواجه الأحداث ، وتواجه النعماء والضراء ؛ كما تعرضها في مظاهر القدرة الإلهية والهيمنة في حياة البشر الظاهرة والمستكنة ، وفي أحوالهم الواقعة والمتوقعة . . وأخيراً تعرضها في مشاهد القيامة ، ومواقف الخلائق ، وهي موقوفة على ربها الخالق . . .
" هكذا تطوّف السورة بالقلب البشري في هذه الآماد والآفاق ، وفي هذه الأغوار والأعماق . . ولكنها تمضي في هذا كله على منهج القرآن المكي - الذي أسلفنا الحديث عنه في الصفحات السابقة - وعلى منهج القرآن كله . . إنها لا تهدف إلى تصوير " نظرية " في العقيدة ، ولا إلى جدل لاهوتي يشغل الأذهان والأفكار . . إنما تهدف إلى تعريف الناس بربهم الحق ، لتصل من هذا التعريف إلى تعبيد الناس لربهم الحق . . تعبيد ضمائرهم وأرواحهم ، وتعبيد سعيهم وحركتهم ، وتعبيد تقاليدهم وشعائرهم ، وتعبيد واقعهم كله لهذا السلطان المتفرد . .
سلطان الله الذي لا سلطان غيره في الأرض ولا في السماء .
" ويكاد اتجاه السورة كله يمضي إلى هذا الهدف المحدد . . من أولها إلى آخرها . . فالله هو الخالق . والله هو الرازق ، والله هو المالك . والله هو صاحب القدرة والقهر والسلطان . والله هو العليم بالغيوب والأسرار . والله هو الذي يقلب القلوب والأبصار كما يقلب الليل والنهار . . وكذلك يجب أن يكون الله هو الحاكم في حياةالعباد ؛ وألا يكون لغيره أمر ولا نهي ، ولا شرع ولا حكم ، ولا تحليل ولا تحريم . . فهذا كله من خصائص الألوهية ، ولا يجوز أن يزاوله في حياة الناس أحد من دون الله ، لا يخلق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت ، ولا يضر ولا ينفع ، ولا يمنح ولا يمنع ، ولا يملك لنفسه ولا لغيره شيئاَ في الدنيا ولا في الآخرة . . وسياق السورة يسوق على هذه القضية أدلته في تلك المشاهد والمواقف والإيقاعات البالغة حد الروعة الباهرة ، والتي تواجه القلب بالحشود الحاشدة من المؤثرات الموحية ، من كل درب ومن كل باب !
" والقضية الكبرى التي تعالجها السورة هي قضية " الألوهية والعبودية " في السماوات والأرض في محيطها الواسع ، وفي مجالها الشامل . . ولكن المناسبة الحاضرة في حياة الجماعة المسلمة حينذاك . . المناسبة التطبيقية لهذه القاعدة الكبيرة الشاملة . . هي ما تزاوله الجاهلية من حق التحريم والتحليل في الذبائح والمطاعم ؛ ومن حق تقرير الشعائر في النذور من الذبائح والثمار . . والاولاد . . وهي المناسبة التي تتحدث عنها هذه الآيات في أواخر السورة :
( فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين . وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ، وقد فصل لكم ما حرم عليكم - إلا ما اضطررتم إليه 0 وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم . إن ربك هو أعلم بالمعتدين . وذروا ظاهر الإثم وباطنه . إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون . ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ، وانه لفسق ، وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ، وإن أطعتموهم إنكم لمشركون . . . [ 118 - 121 ] )
( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً ، فقالوا : هذا لله - بزعمهم - وهذا لشركائنا . فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله ، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم . ساء ما يحكمون ! وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ، ليردوهم ، وليلبسوا عليهم دينهم . ولو شاء الله ما فعلوه ، فذرهم وما يفترون . وقالوا : هذه أنعام وحرث حجر ، لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - وأنعام حرمت ظهورها ، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها - افتراء عليه - سيجزيهم بما كانوا يفترون . وقالوا : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ، ومحرم على أزواجنا ، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء . سيجزيهم وصفهم . إنه حكيم عليم . قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم ، وحرموا ما رزقهم الله - افتراء على الله - قد ضلوا وما كانوا مهتدين . . . [ 136 - 140 ] .
" هذه هي المناسبة الحاضرة في حياة الأمة المسلمة - والجاهلية من حولها - التي تتمثل فيها تلك القضية الكبيرة . . قضية التشريع والحاكمية . . ومن ورائها القضية الكبرى . . قضية الالوهية والعبودية التي تواجهها السورة كلها ، ويعالجها القرآن المكي كله ، كما يعالجها القرآن المدني أيضاَ ، كلما جاء ذكر النظام فيه وذكر التشريع .
" والحشد الذي يتدفق به سياق السورة من التقريرات والمؤثرات ، وهو يواجه الجاهلية وأهلها في أمر هذه الأنعام والذبائح والنذور وهي المناسبة التي تتمثل فيها قضية حق الحاكمية والتشريع - وربطها بقضية العقيدة كلها . . قضية الألوهية والعبودية . . وجعلها مسألة إيمان أو كفر ، ومسألة إسلام أو جاهلية . . هذا الحشد - على هذا النحو الذي سنحاول أن نستعرض نماذج منه في هذا التعريف المختصر بالسورة ، والذي سيتجلى على حقيقته في المواجهة التفصيلية للنصوص في السياق بعد ذلك - يوقع في النفس تلك الحقيقة الأصيلة في طبيعة هذا الدين . وهي أن كل جزئية صغيرة في الحياة الإنسانية يجب أن تخضع خضوعاً مطلقاً لحاكمية الله المباشرة الممثلة في شريعته . وإلا فهو الخروج من هذا الدين جملة ، من أجل الخروج على حاكمية الله المطلقة في تلك الجزئية الصغيرة . كذلك يدل ذلك الحشد على مدى الأهمية التي ينوطها هذا الدين بتخليص مظهر الحياة كله من ظلال حاكمية البشر في أي شأن من شؤون البشر - جل أم حقر ، كبر أم صغر - وربط أي شأن من هذه الشؤون بالأصل الكبير الذي يتمثل فيه هذا الدين . . وهو حاكمية الله المطلقة التي تتمثل فيها ألوهيته في الأرض ، كما تتمثل ألوهيته في الكون كله بتصريف أمر هذا الكون كله بلا شريك . .
هذه المناسبة التي كانت حاضرة في حياة الأمة المسلمة - والجاهلية من حولها - والتي عالجها سياق السورة على هذا النحو الذي سبقت الإشارة إليه في هذه المقتطفات . . هي هي موضوع بقية السورة التي سنعالجها في هذا الجزء . بعدما مضى الشطر الأول من السورة في عرض قضية الألوهية والعبودية في محيطها الشامل ؛ وانتهى السياق إلى مواجهة هذه المناسبة الواقعية ، فربط بينها وبين القضية الكبرى ، ذلك الربط القوي المباشر .
إن السياق القرآني يحشد - لمواجهة تلك التقاليد الجاهلية في تحريم بعض المطاعم وتحليل بعضها ؛ وفي النذور من الثمار والأنعام والأولاد - حشداً ضخماً من المؤثرات والتقريرات ؛ ويربطها بجملة من الحقائق والقواعد ، هي حقائق هذا الدين وقواعده الأساسية ؛ ويقدم لها ويعقب عليها تقدمات ضخمة وتعقيبات هائلة ؛ مما يدل على الأهمية البالغة التي ينوطها هذا الدين ، بتخليص الحياة كلها من قبضة الجاهلية ؛ وردها بجملتها إلى الإسلام . . أي إلى سلطان الله وحده . .
وهكذا يبدأ السياق بتقدمه لهذه القضية عن إحاطة مشيئة الله بالعباد جميعاً : جنهم وإنسهم . وجريان الأحداث في هذه العوالم بمشيئته وقدره ؛ واستدراجه لأعداء الرسل من شياطين الإنس والجن ؛ وإمهاله لهم ، ليقترفوا ما هم مقترفون ؛ ولو شاء الله لقهرهم على الهدى ولكفهم عن الضلال قهراً أو لهداهم إلى الحق وشرح صدورهم له . أو لكفهم عن أذى الرسل والمؤمنين فلم يصلوا إليهم . فهم لا يعادون الرسل ، ولا يقترفون ما يقترفون ، خروجاً على سلطان الله ومشيئته ؛ فهم أعجز من أن يخرجوا على سلطان الله ومشيئته . إنما هي مشيئة الله اقتضت أن يترك لهم الخيار والقدرة على الهدى وعلى الضلال ؛ وهم في قبضته على كل حال : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن ، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ، ولو شاء ربك ما فعلوه ، فذرهم وما يفترون . ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وليرضوه ، وليقترفوا ما هم مقترفون . .
فإذا تقرر أن عداء شياطين الإنس والجن للرسل سنة يجري بها قدر الله . وأن هؤلاء الشياطين ، على كل ما يرتكبونه ، هم في قبضة الله . استنكر رسول الله [ ص ] أن يبتغي( حكما )غير الله . . هكذا على الإطلاق ، في أي شأن وفي أي أمر . . ذلك أن تحكيم غير الله في شأن هذه المطاعم هو كالتحكيم لغير الله في كل شأن . وهو إقامة ربوبية غير ربوبية الله ينكرها رسول الله . . وأعقب ذلك تقرير أن كلمة ربه قد تمت بهذا الكتاب وبهذه الشريعة فلم يعد هناك قول لقائل ، ولا حكم لبشر . وحذر رسول الله [ ص ] أن يطيع البشر في دين الله ؛ فإن أكثرهم لا يتبعون إلا الظن ؛ ولا علم عندهم يستيقن ؛ ومن يطعهم يضلوه . والله وحده هو الذي يعلم الضالين والمهتدين من عباده . . وكان ذلك كله تمهيداً للأمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه ان كان المسلمون مؤمنين ، والنهي عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه . وتحذيرهم أن يطيعوا أولياء الشياطين في شيء من التحليل والتحريم . وإلا فهم مثلهم مشركون : وأنهيت الفقرة ببيان عن طبيعة الكفر وطبيعة الإيمان ، والدوافع التي تدفع بالكافرين الى هذا الذي يقترفون : ( أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكمالكتاب مفصلاً ، والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ، فلا تكونن من الممترين . وتمت كلمة ربك صدقا وعدلاً لا مبدل لكلماته ، وهو السميع العليم . وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ، إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون . إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين . . فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين . وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ، وقد فصل لكم ما حرم عليكم - إلا ما اضطررتم إليه - وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم ، إن ربك هو أعلم بالمعتدين . وذروا ظاهر الإثم وباطنه ، إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون . . ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه - وإنه لفسق - وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ، وإن أطعتموهم إنكم لمشركون . . أو من كان ميتاً فأحييناه ، وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ؟ كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون . وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها ، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون . وإذا جاءتهم آية قالوا : لن نؤمن حتى نؤتى مثلما أوتي رسل الله . الله أعلم حيث يجعل رسالته . سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ) . .
ثم يعود السياق فيقرر أن هدى المهتدين وضلال الضالين . . كلاهما إنما يتم بقدر من الله . وأن هؤلاء كهؤلاء في قبضة الله وسلطانه ، وفي إطار مشيئته وقدره : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام . ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء . كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) .
وينهي هذه الفقرة بتقرير أن ما مر من الأمر والنهي ، ومن الاعتقاد والتصور ، هو صراط الله المستقيم . فيربط بين ذلك الأمر والنهي وبين أصول الاعتقاد في مشيئة الله وقدره ، ويجعلهما حزمة واحدة . كما يجعلهما صراط الله المستقيم الذي يأمر الله العباد أن يسلكوه إليه ، لينتهوا إلى دار السلام والأمن عند ربهم ، وهو وليهم وناصرهم : ( وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون . لهم دار السلام عند ربهم ، وهو وليهم بما كانوا يعملون ) .
ولا تنتهي التعقيبات على مسالة الأمر والنهي في تناول الذبائح ، حتى يعرض السياق مصير شياطين الإنس والجن الذين يجادلون المؤمنين في هذه القضية ؛ وهم في قبضة الله - صاحب السلطان وصاحب الحكم في المصائر - وحتى يعرض سلطان الله كذلك في استخلاف من يستخلف في هذه الأرض ، والذهاب بمن يريد له أن يذهب . وتهديد من يركب رأسه منهم في الدنيا - بسبب ما منحه الله من حرية في اختيار طريقه ، ابتلاء من الله واختبارا - بانتهاء المهلة ؛ والأخذ بما كسب في فترة الابتلاء والاختبار : ويوم يحشرهم جميعاً : يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ! وقال أولياؤهم من الإنس : ربنا استمتع بعضنا ببعض ، وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا . قال : النار مثواكم خالدين فيها - إلا ما شاء الله - إن ربك حكيم عليم . وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون . يا معشر الجن والإنس ، ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي ، وينذرونكم لقاء يومكم هذا ؟ قالوا : شهدنا على أنفسنا ، وغرتهم الحياة الدنيا ، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين . ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون . ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون . وربك الغني ذو الرحمة ، إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين . إن ما توعدون لآت ، وما أنتم بمعجزين . قل : يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل ، فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار ، إنه لا يفلح الظالمون . .
بهذا الحشد العجيب من حقائق العقيدة الأساسية ، ومن المشاهد والمواقف والمؤثرات الموحية ؛ ومن تسليطالأضواء على حقائق المشيئة وحقائق الوجود الكوني وحقائق النفس البشرية ؛ والدوافع الظاهرة والخفية في حياة البشر . ومن التقريرات الشاملة عن سلطان الله في السماوات والأرض ؛ وفي الدنيا والآخرة ؛ وفي حياة البشر المستترة والظاهرة . . . بهذا الحشد كله يواجه المنهج القرآني ظاهرة واحدة من ظواهر الجاهلية في الأكل أو عدم الأكل من ذبيحة . . فماذا ؟ . . إنها القضية الأساسية في هذا الدين . . قضية الحاكمية ولمن تكون . . . . وبالتعبير المرادف . . قضية الألوهية والربوبية ولمن تكون . . ومن ثم تنال هذه الملابسة الجزئية كل هذا الاحتشاد والتجمع والاحتفال . .
وبمثل هذا الاحتشاد وهذا الاحتفال وهذا التجمع يواجه كذلك مسألة النذور في الجاهلية من الثمار والأنعام . . والأولاد . .
إن جاهلية العرب لم تكن تجحد الله البتة . ولم تكن تجعل معه إلها آخر يساويه ! ولكنها إنما كانت تجعل معه آلهة - من دونه - أقل منه منزلة ورتبة ! وكانوا يقولون : إنهم إنما يتخذون من هذه الآلهة شفعاء يقربونهم إلى الله . . وفي هذا كان شركهم . و بهذا كانوا مشركين !
وكان من شركهم كذلك أن يبتدعوا هم من عند أنفسهم - يقوم بذلك كهانهم ومشايخهم - شرائع وتقاليد في حياتهم ؛ ثم يزعمون أن الله شرعها لهم ، وأمرهم بها ! . . إنهم لم يكونوا من التبجح في الشرك بحيث ينسبون هذه الشرائع إلى أنفسهم ؛ ويدعون أن لهم هم سلطة الحاكمية العليا التي يصدرون بها الشرائع مستقلين عن سلطان الله ! لم يكونوا قد عرفوا بعد هذا التبجح الذي عرفه مشركو هذا الزمان ؛ ممن يدعون - من دون الله - السلطان . . وفي هذا كذلك كان شركهم ؛ وبهذا كانوا مشركين !
من هذه الشرائع والتقاليد التي ابتدعوها وزعموا أنها شريعة الله ما كانوا ينذرونه من الثمار والأنعام لله سبحانه ولآلهتهم المدعاة ! ثم يتصرفون بعد ذلك على هواهم او على هوى السدنة والكهنة ( فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله ، وما كان لله ، فهو يصل إلى شركائهم ) !
ومنها ما كانوا ينذرونه من أولادهم للآلهة المزعومة ؛ وما كانوا يقتلونه من البنات اتباعاً لعرف القبيلة ! ومنها ما كانوا يحجرونه من الأنعام ومن الزروع ؛ لا يطعمه إلا من شاء الله - وهم الذين يزعمون تحريمها ، وهم كذلك الذين يعينون من هم الذين شاء الله أن يطعموها !
ومنها ما كانوا يحرمون ركوبه من الأنعام . كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي !
ومنها ما كانوا يمنعون أن يذكر اسم الله عليه من الذبائح . زاعمين أن هذا من أمر الله !
ومنها ما كانوا يخصصونه - من الحمل الذي في بطون الأنعام - للذكور منهم دون الإناث . إلا إذا نزل ميتاً فيشارك فيه الإناث . . وكانوا يجعلون هذا حراماً وذلك حلالاً !
ومنه الميتة التي كانوا يحلونها ويقولون : ذبحها الله . فهي حلال بذبح الله !
والقرآن يواجه هذا كله بحملة كاشفة ؛ يحشد فيها من المقررات الأساسية في العقيدة ؛ والمشاهد والحقائق المؤثرة ؛ ما يحشده في مواجهة قضية الشرك والإيمان في سياق السورة كله . . لأنها هي هي بعينها قضية الشرك والإيمان ، في صورة تطبيقية واقعة . .
ومن خلال هذه الحملة يتبين أن القضية هي قضية هذا الدين كما هي قضية هذه العقيدة . فهذه التشريعاتوالتقاليد ، إنما زينها للمشركين شركاؤهم الذين يشرعونها لهم ليدمروا حياتهم ويلبسوا عليهم دينهم . وتلبيس الدين وتدمير الحياة كلاهما مرتبطان . فإما شرع الله فهو الدين الواضح والحياة السليمة ؛ وإما شرع غير الله فهو الدين الغامض والحياة المهددة بالردى : ( وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ) . .
ويتبين أن الشياطين وراء هذا العدول عن شرع الله ودينه ، إلى شرع الشركاء ودينهم . وأن الشيطان وهو العدو المبين يقود خطى المشركين إلى الخسران والتدمير : ( كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ) . .
ويتبين أن التحريم والتحليل - بغير شرع الله - هو والشرك سواء . فهو شرك مثله ، وأن إحالة شيء من هذا كله إلى مشيئة الله القاهرة هو دعوى يدعيها المشركون في جميع العصور . فقد شاءت إرادة الله أن تعطي الناس قدراً من الاختيار تبتليهم به ؛ ومن ثم فلا قهر على الشرك في كل صوره ؛ إنما هو الابتلاء ، وهم غير مفلتين من قبضة الله على كل حال . ( سيقول الذين أشركوا : لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء . كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا . قل : هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ؟ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون . قل : فلله الحجة البالغة ، فلو شاء لهداكم أجمعين ) .
ثم نجد موقفاً للإشهاد على أن الله حرم هذا الذي يحرمونه ؛ يذكرنا بموقف الإشهاد على قضية الألوهية في أول السورة . . ذلك أنها قضية واحدة في الحقيقة . فمزاولة التشريع مزاولة لخصائص الألوهية . . وهي هي بذاتها القضية : ( قل : هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا . فإن شهدوا فلا تشهد معهم . ولا تتبع أهواء الذين كذّبوا بآياتنا ، والذين لا يؤمنون بالآخرة ، وهم بربهم يعدلون ) . . ويذكرنا التعبير( يعدلون ) هنا بأنه هو بذاته اللفظ الذي استخدم في قضية الألوهية في أول السورة . كما ذكرنا في التعريف بالسورة .
ثم تختم هذه الحملة ببيان أن هذا الذي قرره الله في قضية التشريع والتقاليد في الثمار والأنعام والأولاد هو صراط الله المستقيم . . ذات التعبير الذي استخدم من قبل في قضية تحريم الذبائح وتحليلها . . كما استخدم بذاته في قضية الألوهية في أول السورة كما ذكرنا في التعريف بالسورة : ( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله . ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) .
ولا ينتهي السياق بهذا الحشد الذي اقتطفنا منه هذه الإشارات . . بل يمضي في طريقه يتحدث عن كتاب موسى الذي جاء لقوم موسى : ( تفصيلاً لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون ) وعن هذا الكتاب المبارك الذي نزله الله ليتبعه المسلمون ويتقوا لعلهم يرحمون . ولتنقطع حجتهم بأن الكتاب قد نزل على اليهود والنصارى من قبل . وأنهم هم لم يجئهم كتاب يفصل لهم كل شيء فيعرفوا ما شرعه الله حقاً ؛ وما يقال لهم إنه من شرع الله افتراء !
يتبع هذا تهديد الذين لا يتبعون ما جاء به رسول الله [ ص ] ويبقون على ما هم عليه من شرائع جاهلية ينسبونها إلى الله افتراء عليه ، ويتعللون بطلب الخوارق التي تحملهم على التصديق والاتباع . . تهديدهم بأن هذه الخوارق التي يطلبونها ستكون يوم تجيء هي فصل الخطاب ؛ حيث يتبعها الدمار والهلاك : ( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك ؟ يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً . قل : انتظروا إنا منتظرون ) . .
ثم مفاصلة بين رسول الله [ ص ] والدين الذي جاء به والأمة المسلمة ؛ وبين أولئك الذين يحلون ويحرمون بغير شرع الله ؛ ويشترعون لأنفسهم ثم يزعمون أنها شريعة الله : ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء . إنما أمرهم إلى الله ، ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ) . . هكذا واضحة صريحة : ( لست منهم في شيء ) . .
وفي ختام السياق كله - السياق الذي واجه قضية الشرع والحكم هذه المواجهة بمناسبة تبدو في ظاهرها جزئية - يجيء الإيقاع الشامل لقضية العقيدة بجملتها ؛ ولقضية الدين برمتها . . العقيدة المستكنة في القلب والضمير . والدين الذي يترجم هذه العقيدة إلى نظام ومنهج للحياة : قل : إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين . قل : إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين - لا شريك له - وبذلك أمرت ، وأنا أول المسلمين . قل : أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء ؟ ولا تكسب كل نفس إلا عليها ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ، ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون . وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ، ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم . إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم .
إنها جملة قضايا العقيدة والدين : في الدنيا والآخرة . في المحيا والممات . في العمل والجزاء . في العبادة والسلوك . . كلها يجمعها المنهج الرباني ليعقب بها في ذلك الإيقاع الجليل الرهيب الحبيب ، على قضية الحاكمية والتشريع ، ممثلة في أبسط مظاهرها في الحياة اليومية ومطاعمها ومشاربها ! ذلك أنها هي قضية الألوهية والربوبية في أضخم مجالاتها وأخطر مواقفها . .
. . وهذا هو الإسلام . كما يعرضه مصدره الرباني الكريم .
الآية الأولى تكملة لفقرة سابقة في السياق - في نهاية الجزء السابع - ومتعلقة بما كان يقترحه مشركوا العرب على رسول الله [ ص ] من الخوارق التي يريدون أن يأتي لهم بها فيصدقوه وما كان من حلفهم بالله حلفا مكررا مؤكدا أن لو جاءتهم هذه الآيات التي يطلبون إنهم ليؤمنون ! مما جعل بعض المسلمين انفسهم يشتهون أن لو يجيبهم الله إلى ما يطلبون ! ويقترحون على رسول الله [ ص ] أن يسأل ربه هذه الآيات التي يقترحها المقترحون !
( وأقسموا بالله جهد أيمانهم : لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها . قل : إنما الآيات عند الله . وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ؟ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم - كما لم يؤمنوا به أول مرة - ونذرهم في طغيانهم يعمهون . . ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة ، وكلمهم الموتى ، وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ، ما كانوا ليؤمنوا - إلا أن يشاء الله - ولكن أكثرهم يجهلون . . )
ولقد سبق الحديث عن هذه الآيات في نهاية الجزء السابع . فالآن نتحدث عن الحقائق العامة التي تتناولها هذه النصوص ؛ والتي لم نتعرض لها هناك في تفسيرها :
والحقيقة الأولى : هي أن الإيمان أو الكفر . والهدى أو الضلال . . . لا تتعلق بالبراهين والأدلة على الحق . فالحق هو برهان ذاته . وله من السلطان على القلب البشري ما يجعله يقبله ويطمئن إليه ويرضخ له . . ولكنها المعوقات الأخرى هي التي تحول بين القلب والحق ، وهذه المعوقات يقول الله - سبحانه - للمؤمنين بشأنها : وما يشعركم أنها إذا جاءت [ أي الآيات والخوارق ] لا يؤمنون ؟ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ، ونذرهم في طغيانهم يعمهون . .
فما وقع لهم في أول مرة ومنعهم من الهدى ، يمكن أن يتكرر وقوعه كذلك - بعد نزول الآية - فيمنعهم من الهدى كرة أخرى . .
إن موحيات الإيمان كامنة في القلب ذاته ؛ وفي الحق كذلك بذاته ؛ وليست متعلقة بعوامل خارجية . . فيجب أن تتجه المحاولة إذن إلى ذلك القلب لعلاجه من آفاته ومن معوقاته . .
والحقيقة الثانية : هي أن مشيئة الله هي المرجع الأخير في أمر الهدى والضلال . فقد اقتضت هذه المشيئة أن تبتلي البشر بقدر من حرية الاختيار والتوجه في الابتداء ؛ وجعل هذا القدر موضع ابتلاء للبشر وامتحان . فمن استخدمه في الاتجاه القلبي إلى الهدى والتطلع إليه والرغبة فيه - وإن كان لا يعلم حينئذ أين هو - فقد اقتضت مشيئة الله أن يأخذ بيده ويعينه ويهديه إلى سبيله . ومن استخدمه في الرغبة عن الهدى والصدود عن دلائله وموحياته ، فقد اقتضت مشيئة الله أن يضله وأن يبعده عن الطريق وأن يدعه يتخبط في الظلمات . . وإرادة الله وقدره محيطان بالبشر في كل حالة ، ومرد الأمر كله إليه في النهاية .
وهذه الحقيقة يشير إليها السياق في قوله تعالى : ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم - كما لم يؤمنوا به أول مرة - ونذرهم في طغيانهم يعمهون ) .
وفي قوله : ( ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى ، وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ، ما كانوا ليؤمنوا - إلا أن يشاء الله - ولكن أكثرهم يجهلون ) . .
كما يشير إليها في آية سابقة على هذه الفقرة في سياق السورة قوله تعالى : ( اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين . ولو شاء الله ما أشركوا . وما جعلناك عليهم حفيظاً ، وما أنت عليهم بوكيل ) . .
كما تتكرر الإشارة إليها في الآية التالية لهذه الفقرة .
( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً - ولو شاء ربك ما فعلوه - فذرهم وما يفترون . . . ) . .
فالأمر كله مرهون بمشيئة الله ، هو الذي شاء ألا يهديهم لأنهم لم يأخذوا بأسلوب الهدى ؛ وهو الذي شاء أن يدع لهم هذا القدر من الاختيار على سبيل الابتلاء ؛ وهو الذي يهديهم إذا جاهدوا للهدى ؛ وهو الذي يضلهم إذا اختاروا الضلال . . بلا تعارض - في التصور الإسلامي - بين طلاقة المشيئة الإلهية وهذا المجال الذي ترك للبشر لابتلائهم فيه بهذا القدر من الاختيار .
والحقيقة الثالثة : هي أن الطائعين والعصاة في قبضة الله سواء ، وتحت قهره وسلطانه سواء . فهم لا يملكون جميعاً أن يحدثوا شيئاً إلا بقدر الله وفق مشيئته التي جرت بتلك السنن في تصريف أمر العباد . . ولكن المؤمنين يطابقون - في القدر المتروك لهم للاختيار - بين الخضوع القهري المفروض عليهم لسلطان الله في ذوات أنفسهم وفي حركة خلاياهم وفي طبائع تكوينهم العضوي النفسي ؛ وبين الخضوع الاختياري الذي يلتزمونه بأنفسهم بناء على المعرفة والهدى والاختيار . وبذلك يعيشون في سلام مع أنفسهم ذاتها ، لأن الجانب القهري فيها والجانب الاختياري يتبعان ناموسا واحدا وسلطانا واحدا وحكومة واحدة ! فأما الآخرون فهم مقهورون على اتباع ناموس الله الفطري الذي يقهرهم ولا يملكون أن يخرجوا منه في تكوينهم الجسمي وحاجاتهم الفطرية ، بينما في الجانب الذي ترك لهم الاختيار فيه هم ناشزون على سلطان الله الممثل في منهجه وشرعه . أشقياء بهذا الفصام في شخصيتهم ! وهم بعد هذا كله في قبضة الله لا يعجزونه في شيء ، ولا يحدثون شيئاً إلا بقدره !
وهذه الحقيقة الثالثة ذات أهمية خاصة في القضايا التي يعرضها الشطر الباقي من السورة . فهي تتكرر في مواضع متعددة في صور متنوعة ، ذلك أن هذا الشطر كله - كما بينا من قبل - يواجه قضية الألوهية وسلطانها في حياة البشر وشريعتهم التي يعيشون بها . . ومن ثم يتكئ السياق على تقرير أن السلطان كله لله . حتى في كيان العصاة الناشزين عن منهج الله وشرعه ، وأنهم لا يؤذون أولياء الله إلا بما شاء الله . فهم أعجز من أن يكون لهم في ذواتهم سلطان ، فكيف يكون لهم على المؤمنين سلطان ! إنما هي مشيئة الله يكون بها ما يشاء في الطائعين والعصاة سواء .
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى :
( ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة ، وكلمهم الموتى ، وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ، ما كانوا ليؤمنوا - إلا أن يشاء الله - ولكن أكثرهم يجهلون ) . .
[ يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد [ ص ] يا محمد آيس من فلاح هؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام ، القائلين لك : لئن جئتنا بآية لنؤمنن لك فإننا لو نزلنا إليهم الملائكة حتى يروها عيانا وكلمهم الموتى بإحيائنا إياهم حجة لك ، ودلالة على نبوتك ، وأخبروهم أنك محق فيما تقول ، وأن ما جئتهم به حق من عند الله ؛ وحشرنا عليهم كل شيء فجعلناهم لك قبلا . ما آمنوا ولا صدقوك ولا اتبعوك - إلا أن يشاء الله ذلك لمن شاء منهم - ( ولكن أكثرهم يجهلون ) . . يقول : ولكن أكثر هؤلاء المشركين يجهلونأن ذلك كذلك . يحسبون أن الإيمان إليهم ، والكفر بأيديهم ، متى شاءوا آمنوا ، ومتى شاءوا كفروا . وليس ذلك كذلك ، ذلك بيدي . لا يؤمن منهم إلا من هديته له فوفقته ، ولا يكفر إلا من خذلته عن الرشد فأضللته ] .
وهذا الأصل الذي يقرره ابن جرير هنا هو الصحيح . ولكنه يحتاج إلى زيادة الإيضاح - التي أسلفناها - باستلهام مجموعة النصوص القرآنية عن الهدى والضلالة ومشيئة الله وجهد الإنسان . . إن الإيمان حدث والضلال حدث . وما يقع في هذا الوجود حدث إلا بقدر من الله ينشئه :
( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) . فأما السنة التي يجري على اساسها ذلك القدر بوقوع إيمان فلان وضلال فلان ، فهي التي تبينها مجموعة النصوص . وهي أن الإنسان مبتلي بقدر من الاختيار في الاتجاه . فإذا اتجه إلى الهدى وجاهد فيه هداه الله ووقع هداه وتحقيق بقدر من الله . وإذا اتجه إلى الضلال وكره الهدى أضله الله . ووقع ضلاله وتحقق بقدر من الله . . وهو على الحالين في قبضة الله وسلطانه . وحياته تجري بقدر الله وفق مشيئته الطليقة ، وسنته التي وضعتها مشيئته الطليقة .
{ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا } كما اقترحوا فقالوا : لولا أنزل علينا الملائكة فأتوا بآياتنا { أو تأتي بالله والملائكة قبيلا } وقبلا جمع قبيل بمعنى كفيل أي : كفلاء بما بشروا به ، وأنذروا به ، أو جمع قبيل الذي هو جمع قبيلة بمعنى جماعات ، أو مصدر بمعنى مقابلة كقبلا وهو قراءة نافع وابن عامر ، وهو على الوجوه حال من كل وإنما جاز ذلك لعمومه . { ما كانوا ليؤمنوا } لما سبق عليهم القضاء بالكفر . { إلا أن يشاء الله } استثناء من أعم الأحوال أي : لا يؤمنون في حال من الأحوال إلا حال مشيئة الله تعالى إيمانهم ، وقيل منقطع وهو حجة واضحة على المعتزلة . { ولكن أكثرهم يجهلون } أنهم لو أوتوا بكل آية لم يؤمنوا فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون ، ولذلك أسند الجهل إلى أكثرهم مع أن مطلق الجهل يعمهم ، أو ولكن أكثر المسلمين يجهلون أنهم لا يؤمنون فيتمنون نزول الآية طمعا في إيمانهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر عما علمه فيهم، فقال: {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة}، وأخبروهم أن محمدا رسول كما سألوا، لقولهم في الفرقان: {لولا أنزل علينا الملائكة} (الفرقان: 21)، يعني المستهزئين من قريش، أبا جهل وأصحابه. ثم قال: {وكلمهم الموتى}، لقولهم: ابعث لنا رجلين أو ثلاثة من آبائنا، فنسألهم عما أمامهم مما تحدثنا أنه يكون بعد الموت أحق هو؟ ثم قال: {وحشرنا عليهم كل شيء قبلا}، يعني:عيانا...ومن قرأه:"قِبلا"، أراد قبيلا قبيلا... فعاينوه كله، فلو فعلت هذا كله، فأخبروهم بأن الذي يقول محمد حق، {ما كانوا ليؤمنوا}، يعني ليصدقوا، {إلا أن يشاء الله} لهم الإيمان، {ولكن أكثرهم} أكثر أهل مكة {يجهلون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، آيسْ من فلاح هؤلاء العادلين بربهم الأوثانَ والأصنام، القائلين لك: لئن جئتنا بآية لنؤمننّ لك، فإننا "لو نَزّلْنا إلَيْهِمُ المَلائِكَةَ "حتى يروها عيانا "وكَلّمَهُمُ المَوْتَى" بإحيائنا إياهم، حجة لك ودلالة على نبوّتك، وأخبروهم أنك محقّ فيما تقول، وأن ما جئتهم به حقّ من عند الله، "وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ" فجعلناهم لك "قُبُلاً" ما آمنوا ولا صدّقوك، ولا اتبعوك "إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ" ذلك لمن شاء منهم.
{وَلَكِنّ أكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} يقول: ولكن أكثر هؤلاء المشركين يجهلون أن ذلك كذلك، يحسبون أن الإيمان إليهم والكفر بأيديهم، متى شاءوا آمنوا ومتى شاءوا كفروا، وليس ذلك كذلك، ذلك بيدي، لا يؤمن منهم إلا من هديته له فوفقته، ولا يكفر إلا من خذلته عن الرشد فأضللته...
وقال آخرون: إنما قيل:"ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا" يراد به أهل الشقاء.
وقيل:"إلاّ أنْ يَشَاءَ الله" فاستثنى ذلك من قوله: {لِيُؤْمِنُوا} يراد به أهل الإيمان والسعادة... عن ابن عباس، قوله: {وَلَوْ أنّنا نَزّلْنا إلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وكَلّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا} وهم أهل الشقاء. ثم قال: {إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ} وهم أهل السعادة الذين سبق لهم في علمه أن يدخلوا في الإيمان.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول ابن عباس، لأن الله جلّ ثناؤه عمّ بقوله: {ما كانُوا لِيُؤْمِنوا} القوم الذين تقدّم ذكرهم في قوله: {وأقْسَمُوا باللّهِ جَهْدَ أيمَانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنّ بِها}.
وقد يجوز أن يكون الذين سألوا الآية كانوا هم المستهزئين... ولكن لا دلالة في ظاهر التنزيل على ذلك ولا خبر تقوم به حجة بأن ذلك كذلك. والخبر من الله خارج مخرج العموم، فالقول بأن ذلك عُني به أهل الشقاء منهم أولى لما وصفنا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: {وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً}:
فقرأته قرّاء أهل المدينة: «قِبَلاً» بكسر القاف وفتح الباء، بمعنى معاينة، من قول القائل: لقيته قبَلاً: أي معاينة ومجاهرة.
وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين والبصريين: {وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً} بضم القاف والباء.
وإذا قرئ كذلك كان له من التأويل ثلاثة أوجه:
أحدها أن يكون القُبُل: جمع قَبِيل كالرّغُف التي هي جمع رغيف، والقُضُب التي هي جمع قضيب، ويكون القُبُل: الضمناء والكفلاء. وإذا كان ذلك معناه، كان تأويل الكلام: وحشرنا عليهم كلّ شيء كفلاء يكفلون لهم بأن الذي نعدُهم على إيمانهم بالله إن آمنوا أو نوعدهم على كفرهم بالله إن هلكوا على كفرهم، ما آمنوا إلا أن يشاء الله.
والوجه الاَخر: أن يكون «القُبُل» بمعنى المقابلة والمواجهة، من قول القائل: أتيتك قُبُلاً لا دُبُرا، إذا أتاه من قَبِل وجهه.
والوجه الثالث: أن يكون معناه: وحشرنا عليهم كلّ شيء قبيلة قبيلة، صنفا صنفا، وجماعة جماعة. فيكون القُبُل حينئذ جمع قَبيل الذي هو جمع قبيلة، فيكون القُبل جمع الجمع.
وبكلّ ذلك قد قالت جماعة من أهل التأويل...
عن ابن عباس، قوله: {وَلَوْ أنّنا نَزّلْنا إلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وكَلّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً} يقول: لو استقبلهم ذلك كله، لَمْ يُؤْمِنُوا إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ...
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندنا، قراءة من قرأ: {وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً} بضمّ القاف والباء لما ذكرنا من احتمال ذلك الأوجه التي بينا من المعاني، وأن معنى القِبَلِ داخل فيه، وغير داخل في القِبَلِ معاني القُبُل.
وأما قوله: {وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ} فإن معناه: وجمعنا عليهم، وسقنا إليهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... وفيه دليل على أن الآيات لا تضطر أهلها إلى الإيمان لأنه قال {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا} لأنه لو كانت آية تضطرهم إلى الإيمان لكانت هذه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله "ولكن أكثرهم يجهلون "إنما وصف أكثرهم بالجهل مع أن الجهل يعمهم لأن المعنى: يجهلون أنه لو أوتوا بكل آية ما آمنوا طوعا. وفي الآية دلالة على أنه لو علم الله أنه لو فعل بهم من الآيات ما اقترحوها لآمنوا أنه كان يفعل ذلك بهم، وأنه يجب في حكمته ذلك، لأنه لو لم يجب ذلك لما كان لهذا الاحتجاج معنى. وتعليله بأنه إنما لم يظهر هذه الآيات لعلمه بأنه لو فعلها لم يؤمنوا.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
أخبر الله عز وجل في هذه الآية أنه لو أتى بجميع ما اقترحوه من إنزال الملائكة وإحياء سلفهم حسبما كان من اقتراح بعضهم أن يحشر قصي وغيره، فيخبر بصدق محمد أو يجمع عليهم كل شيء يعقل أن يحشر عليهم، ما آمنوا إلا بالمشيئة واللطف الذي يخلقه ويخترعه في نفس من شاء لا رب غيره.
اعلم أنه تعالى بين في هذه الآية تفصيل ما ذكره على سبيل الإجمال بقوله: {وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون} فبين أنه تعالى لو أعطاهم ما طلبوه من إنزال الملائكة وإحياء الموتى حتى كلموهم بل لو زاد في ذلك ما لا يبلغه اقتراحهم بأن يحشر عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يقول تعالى: ولو أننا أجبنا سؤال هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} فنزلنا عليهم الملائكة، أي: تخبرهم بالرسالة من الله بتصديق الرسل، كما سألوا فقالوا: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا} [الإسراء: 92] {قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله} [الأنعام: 124]، {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان: 21].
{وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} أي: فأخبروهم بصدق ما جاءتهم به الرسل، {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا} -قرأ بعضهم:"قِبَلا" بكسر القاف وفتح الباء، من المقابلة، والمعاينة. وقرأ آخرون [وقبلا] بضمهما قيل: معناه من المقابلة والمعاينة أيضا، كما رواه علي بن أبي طلحة، والعوفي، عن ابن عباس. وبه قال قتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال مجاهد: {قُبُلا} أفواجًا، قبيلا قبيلا أي: تعرض عليهم كل أمة بعد أمة فتخبرهم بصدق الرسل فيما جاؤوهم به {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} أي: إن الهداية إليه، لا إليهم. بل يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وهو الفعال لما يريد، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، لعلمه وحكمته، وسلطانه وقهره وغلبته. وهذه الآية كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} [يونس: 96، 97].
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
قال القاشاني: وفي الحقيقة لا اعتبار بالإيمان المرتب على مشاهدة خوارق العادات، فإنه ربما كان مجرد إذعان لأمر محسوس، وإقرار باللسان، وليس في القلب من معناه شيء، كإيمان أصحاب السامري. والإيمان لا يكون إلا بالجنان، كما قال تعالى: {قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم}.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بين الله سبحانه في الآيتين اللتين قبل هذه الآيات أن مقترحي الآيات الكونية على الرسول صلى الله عليه وسلم أقسموا بالله مجتهدين في أيمانهم مؤكديها قائلين: لئن جاءتنا آية لنؤمن بها وبما تدل عليه من صدق الرسول في دعوى الرسالة وما جاء به عن الله تعالى. وأن المؤمنين كانوا يودون إجابة اقتراحهم ويظنون أنها تفضي إلى إيمانهم، فبين الله تعالى لهم خطأ ظنهم بقوله {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (108- 109 الأنعام) نفى عنهم الشعور بسنته تعالى فيهم وفي أمثالهم من المعاندين وما يكون من شأنهم إذا رأوا آية تدل على خلاف ما يعتقدون وما يهوون وهي أنهم ينظرون إليها ويتفكرون فيها بقصد الجحود والإنكار فيحملونها على خداع السحر وأباطيله ويزعمون أنها لا تدل على المطلوب. وبعد بيان سنته تعالى فيهم عند مجيء الآية المقترحة صرح بما هو أبلغ من ذلك فقال:
{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ} فرأوها المرة بعد المرة بأعينهم وسمعوا شهادتها لك بالرسالة بآذانهم {وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} منهم بإحيائنا إياهم آية لك وحجة على صدق ما جئت به عن الله تعالى من أن الموت ليس عدما محضا للإنسان {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} أي وجمعنا كل شيء من الآيات والدلائل غير الملائكة والموتى فسقناه وأرسلناه عليهم مقابلا لهم أو كافلا لصحة دعواك أو قبيلا {مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} أي ما كان من شأنهم ولا مقتضى استعدادهم أن يؤمنوا، ونفي الشأن أبلغ من نفي الفعل، ذلك بأنهم لا ينظرون في شيء من الآيات نظر استدلال وإنما ينظرون إليها نظر من جاءه ولي يريد نصره وإغاثته وإخراجه من ضيق نزل به فظن أنه عدو يهاجمه ليوقع به ويسلبه ما بيده فينبري لقاتله فإذا قال له إنما أنا ولي نصير لا عدو مغير، ظن أنه يخدعه بقوله، وأنه إذا لم يسبق إلى قتله قتله، لا يعقل غير هذا.
وقوله تعالى {قبلا} قرأه عاصم وحمزة والكسائي بضم القاف والباء هنا وفي سورة الكهف وقرأه نافع وابن عامر بكسر القاف وفتح الباء فيهما، وابن كثير وأبو عمرو كالأولين هنا وكالآخرين في الكهف قيل إن معنى القراءتين واحد وهو المقابلة والمواجهة بالشيء ونقله الواحدي عن أبي زيد، والتقدير: وحشرنا عليهم كل شيء من أنواع الدلائل مواجهة ومعاينة وقيل إن الأولى جمع قبيل فهو كقضب ورغف {بضمتين فيهما} جمع قضيب ورغيف والتقدير: وحشرنا عليهم كل شيء من ذلك قبيلا قبيلا وصنفا صنفا، أي كل صنف منه على حدة. ومن استعمال مفرده في مثل هذا المقام قوله تعالى في حكاية اقتراحهم الآيات من سورة الإسراء، {أو تأتي بالله والملائكة قبيلا} (الإسراء 92) وقيل معناه الكفيل أي وحشرنا عليهم كل ما ذكر كفلاء يضمنون لهم صحة ما جئت به. وهو مروي عن أبي عبيدة والفراء والزجاج. وكل ما ذكر من المعاني للقراءتين متفق يؤيد بعضه بعضا.
وأما الاستثناء بقوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ} فقيل هو منقطع معناه لكن الله تعالى إن شاء إيمان أحد منهم آمن وقيل هو استثناء متصل من أعم الأحوال أو الأوقات، والمراد عليه أنهم ما داموا على صفاتهم التي هم عليها في زمن اقتراح الآيات لا يؤمنون وإذا شاء الله أن يزيلها فعل. والظاهر أنه مؤيد لذلك الجزم بعدم إيمان هؤلاء الناس الموصوفين بما ذكر من العناد والكبرياء والمكابرة ومعناه: إن سنة الله تعالى في فقدهم الاستعداد للإيمان جارية بحسب مشيئته تعالى ككل ما يجري في هذا العالم ولو شاء غير ذلك لكان ولكنه لا يشاء لأنه تغيير لسننه، وتبديل لطباع هذا النوع من خلقه، {الإنسان} فهو إذا مزيد تأكيد لنفي الإيمان عنهم، والأستاذ الإمام يعد من هذا التأكيد قوله تعالى {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله} (الأعلى 6- 7} فالمراد أنه لا ينسى البتة، وقد يفسر به ما استشكلوه وذهبوا المذاهب في تأويله من آيتي سورة هود {خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك} (هود107) ولا حجة في الاستثناء بالمشيئة في هذه الآية وأمثالها للجبرية على جبرهم ولا للقائلين بخلق الله تعالى للشر ولا لمنكريه فكل ما يجري في الكون من أعمال البشر الاختيارية خيرها وشرها جار بنظام وسنن حكيمة وكلها بمشيئة الله تعالى وما هو شر من أفعال الناس الاختيارية لقبحه ولما يترتب عليه من ضررهم به وعقابهم عليه لا يستلزم ما قالته تلك الفرق كما بيناه في هذا التفسير وفي مباحث أخرى من المنار.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} سنن الله تعالى في عباده وانطباقها على الأفراد والجماعات لذلك يتمنى بعض المؤمنين لو يؤتى مقترحو الآيات ما اقترحوه لظنهم أنه يكون سببا لإيمانهم، وليست الآيات بملزمة ولا مغيرة البشر في اختيار ما ترجح عند كل منهم بحسب نظره فيها وفي غيرها، ولو شاء تعالى لجعلها كذلك ولو شاء أيضا لخلق الإيمان في قلوب البشر خلقا لا عمل لهم فيه ولا اختيار. وحينئذ لا يكونون محتاجين إلى رسل بل لا يكونون هم هذا النوع من الخلق الذي سمي الإنسان.
ذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الجملة الأخيرة نزلت في المؤمنين فإن أكثرهم يجهلون قطعا هؤلاء المقترحين المعاندين من الذين فقدوا الاستعداد للإيمان والاستعداد للنظر الصحيح في الآيات والدلائل الموصلة إليه. وذهب بعضهم إلى أنها في الكافرين الذين لا يؤمنون كالجمل قبلها ولا شك أن جهلهم عظيم في هذا الأمر وفي غيره، ويرجح الأول إسناد الجهل إلى أكثرهم وهو عام شامل لهم ولاسيما إذا أريد بهم المستهزئون الخمسة خاصة كما تقدم في أول السياق في آخر الجزء السابع، وهم الوليد بن المغيرة المخزومي والعاصي بن وائل السهمي والأسود بن عبد يغوث الزهري والأسود بن المطلب والحارث بن حنظلة فقد كانوا أجهل القوم بهذه الهداية وأشدهم جهلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والحقيقة الأولى: هي أن الإيمان أو الكفر. والهدى أو الضلال... لا تتعلق بالبراهين والأدلة على الحق. فالحق هو برهان ذاته. وله من السلطان على القلب البشري ما يجعله يقبله ويطمئن إليه ويرضخ له.. ولكنها المعوقات الأخرى هي التي تحول بين القلب والحق، وهذه المعوقات يقول الله -سبحانه- للمؤمنين بشأنها:"وما يشعركم أنها إذا جاءت [أي الآيات والخوارق] لا يؤمنون؟ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة، ونذرهم في طغيانهم يعمهون".. فما وقع لهم في أول مرة ومنعهم من الهدى، يمكن أن يتكرر وقوعه كذلك -بعد نزول الآية- فيمنعهم من الهدى كرة أخرى.. إن موحيات الإيمان كامنة في القلب ذاته؛ وفي الحق كذلك بذاته؛ وليست متعلقة بعوامل خارجية.. فيجب أن تتجه المحاولة إذن إلى ذلك القلب لعلاجه من آفاته ومن معوقاته..
والحقيقة الثانية: هي أن مشيئة الله هي المرجع الأخير في أمر الهدى والضلال. فقد اقتضت هذه المشيئة أن تبتلي البشر بقدر من حرية الاختيار والتوجه في الابتداء؛ وجعل هذا القدر موضع ابتلاء للبشر وامتحان. فمن استخدمه في الاتجاه القلبي إلى الهدى والتطلع إليه والرغبة فيه -وإن كان لا يعلم حينئذ أين هو- فقد اقتضت مشيئة الله أن يأخذ بيده ويعينه ويهديه إلى سبيله. ومن استخدمه في الرغبة عن الهدى والصدود عن دلائله وموحياته، فقد اقتضت مشيئة الله أن يضله وأن يبعده عن الطريق وأن يدعه يتخبط في الظلمات.. وإرادة الله وقدره محيطان بالبشر في كل حالة، ومرد الأمر كله إليه في النهاية. وهذه الحقيقة يشير إليها السياق في قوله تعالى: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم -كما لم يؤمنوا به أول مرة- ونذرهم في طغيانهم يعمهون). وفي قوله: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى، وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً، ما كانوا ليؤمنوا -إلا أن يشاء الله- ولكن أكثرهم يجهلون)...
والحقيقة الثالثة: هي أن الطائعين والعصاة في قبضة الله سواء، وتحت قهره وسلطانه سواء. فهم لا يملكون جميعاً أن يحدثوا شيئاً إلا بقدر الله وفق مشيئته التي جرت بتلك السنن في تصريف أمر العباد.. ولكن المؤمنين يطابقون -في القدر المتروك لهم للاختيار- بين الخضوع القهري المفروض عليهم لسلطان الله في ذوات أنفسهم وفي حركة خلاياهم وفي طبائع تكوينهم العضوي النفسي؛ وبين الخضوع الاختياري الذي يلتزمونه بأنفسهم بناء على المعرفة والهدى والاختيار. وبذلك يعيشون في سلام مع أنفسهم ذاتها، لأن الجانب القهري فيها والجانب الاختياري يتبعان ناموسا واحدا وسلطانا واحدا وحكومة واحدة! فأما الآخرون فهم مقهورون على اتباع ناموس الله الفطري الذي يقهرهم ولا يملكون أن يخرجوا منه في تكوينهم الجسمي وحاجاتهم الفطرية، بينما في الجانب الذي ترك لهم الاختيار فيه هم ناشزون على سلطان الله الممثل في منهجه وشرعه. أشقياء بهذا الفصام في شخصيتهم! وهم بعد هذا كله في قبضة الله لا يعجزونه في شيء، ولا يحدثون شيئاً إلا بقدره! وهذه الحقيقة الثالثة ذات أهمية خاصة في القضايا التي يعرضها الشطر الباقي من السورة. فهي تتكرر في مواضع متعددة في صور متنوعة، ذلك أن هذا الشطر كله -كما بينا من قبل- يواجه قضية الألوهية وسلطانها في حياة البشر وشريعتهم التي يعيشون بها.. ومن ثم يتكئ السياق على تقرير أن السلطان كله لله. حتى في كيان العصاة الناشزين عن منهج الله وشرعه، وأنهم لا يؤذون أولياء الله إلا بما شاء الله. فهم أعجز من أن يكون لهم في ذواتهم سلطان، فكيف يكون لهم على المؤمنين سلطان! إنما هي مشيئة الله يكون بها ما يشاء في الطائعين والعصاة سواء.