المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيۡنٍ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى فَٱكۡتُبُوهُۚ وَلۡيَكۡتُب بَّيۡنَكُمۡ كَاتِبُۢ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَلَا يَأۡبَ كَاتِبٌ أَن يَكۡتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُۚ فَلۡيَكۡتُبۡ وَلۡيُمۡلِلِ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ وَلَا يَبۡخَسۡ مِنۡهُ شَيۡـٔٗاۚ فَإِن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ سَفِيهًا أَوۡ ضَعِيفًا أَوۡ لَا يَسۡتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلۡيُمۡلِلۡ وَلِيُّهُۥ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَٱسۡتَشۡهِدُواْ شَهِيدَيۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ فَإِن لَّمۡ يَكُونَا رَجُلَيۡنِ فَرَجُلٞ وَٱمۡرَأَتَانِ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحۡدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحۡدَىٰهُمَا ٱلۡأُخۡرَىٰۚ وَلَا يَأۡبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْۚ وَلَا تَسۡـَٔمُوٓاْ أَن تَكۡتُبُوهُ صَغِيرًا أَوۡ كَبِيرًا إِلَىٰٓ أَجَلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقۡوَمُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَرۡتَابُوٓاْ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةٗ تُدِيرُونَهَا بَيۡنَكُمۡ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَلَّا تَكۡتُبُوهَاۗ وَأَشۡهِدُوٓاْ إِذَا تَبَايَعۡتُمۡۚ وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٞ وَلَا شَهِيدٞۚ وَإِن تَفۡعَلُواْ فَإِنَّهُۥ فُسُوقُۢ بِكُمۡۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (282)

282- يا أيها الذين آمنوا إذا داين بعضكم بعضا بَدْينٍ مؤجل إلى أجل ، ينبغي أن يكون الأجل معلوماً ، فاكتبوه حفظاً للحقوق تفادياً للنزاع ، وعلى الكاتب أن يكون عادلا في كتابته ، ولا يمتنع عن الكتابة ، شكراً لله الذي علمه ما لم يكن يعلم ، فليكتب ذلك الدين حسب اعتراف المدين وعلى المدين أن يخشى ربه فلا ينقص من الدين شيئاً ، فإن كان المدين لا يحسن التصرف ولا يقدر الأمور تقديراً حسناً ، أو كان ضعيفاً لصغر أو مرض أو شيخوخة ، أو كان لا يستطيع الإملاء لخرس أو عقدة لسان أو جهل بلغة الوثيقة ، فَلْيُنِبْ عنه وليه الذي عينه الشرع أو الحاكم ، أو اختاره هو في إملاء الدين على الكاتب بالعدل التام . وأشهدوا على ذلك الدين شاهدين من رجالكم ، فإن لم يوجدا فليشهد رجل وامرأتان تشهدان معاً لتؤديا الشهادة معاً عند الإنكار ، حتى إذا نسيت إحداهما ذكرتها الأخرى ، ولا يجوز الامتناع عن أداء الشهادة إذا ما طُلب الشهود ، ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً كان أو كبيراً ما دام مؤجلا لأن ذلك أعدل في شريعة الله وأقوى في الدلالة على صحة الشهادة ، وأقرب إلى درء الشكوك بينكم ، إلا إذا كان التعامل على سبيل التجارة الحاضرة ، تتعاملون بها بينكم ، فلا مانع من ترك الكتابة إذ لا ضرورة إليها . ويطلب منكم أن تشهدوا على المبايعة حسماً للنزاع ، وتفادوا أن يلحق أي ضرر بكاتب أو شاهد ، فذلك خروج على طاعة الله ، وخافوا الله واستحضروا هيبته في أوامره ونواهيه ، فإن ذلك يلزم قلوبكم الإنصاف والعدالة ، والله يبين ما لكم وما عليكم ، وهو بكل شيء - من أعمالكم وغيرها - عليم{[29]} .


[29]:من أدق المسائل القانونية في جميع القوانين الحديثة قواعد الإثبات وهي الطرق التي يثبت بها صاحب الحق حقه إذا ما لجأ إلى القضاء يطلبه من خصيمه. يوجب القرآن على الناس الإنصاف والعدل ولو أنصف الناس لاستراح القاضي، ولكن النفوس البشرية بما جبلت عليه من مختلف الطبائع من طمع إلى حب للمال وإلى شره إلى أثره إلى نسيان إلى رغبة في الانتقام، كل ذلك جعل الحقوق بينهم متنازعا عليها مختلفا فيها. فوجب أن تكون هناك قواعد للإثبات تكون وسيلة في تبين وجه الحق، ولا نزاع في أن الكتابة عند الخلف هي أقوى الأدلة لأنه عند عدم الخلف قد يعترف الغريم بحق خصمه. فإذا قال: بعتك أو أجرتك أو داينتك وجب أن يثبت كل ذلك بالكتابة، ولو فعل كل الناس ذلك لضاقت شقة الخلف بينهم. ولكن وقد تقدم العمران واشتبكت مصالح الناس عمدوا إلى وسائل السرعة فأصبحت التقاليد التجارية تسمح للتاجر في لندن أن يعقد عقدا كبير القيمة برسالة تليفونية أو لاسلكية في نيويورك مرغما على أن لا يحتم الكتابة في صفقته التي قد تصل إلى الملايين فإذا ما اختلف العاقدان على الصفقة ولجأ إلى القضاء أباح لهما.
 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيۡنٍ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى فَٱكۡتُبُوهُۚ وَلۡيَكۡتُب بَّيۡنَكُمۡ كَاتِبُۢ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَلَا يَأۡبَ كَاتِبٌ أَن يَكۡتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُۚ فَلۡيَكۡتُبۡ وَلۡيُمۡلِلِ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ وَلَا يَبۡخَسۡ مِنۡهُ شَيۡـٔٗاۚ فَإِن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ سَفِيهًا أَوۡ ضَعِيفًا أَوۡ لَا يَسۡتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلۡيُمۡلِلۡ وَلِيُّهُۥ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَٱسۡتَشۡهِدُواْ شَهِيدَيۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ فَإِن لَّمۡ يَكُونَا رَجُلَيۡنِ فَرَجُلٞ وَٱمۡرَأَتَانِ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحۡدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحۡدَىٰهُمَا ٱلۡأُخۡرَىٰۚ وَلَا يَأۡبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْۚ وَلَا تَسۡـَٔمُوٓاْ أَن تَكۡتُبُوهُ صَغِيرًا أَوۡ كَبِيرًا إِلَىٰٓ أَجَلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقۡوَمُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَرۡتَابُوٓاْ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةٗ تُدِيرُونَهَا بَيۡنَكُمۡ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَلَّا تَكۡتُبُوهَاۗ وَأَشۡهِدُوٓاْ إِذَا تَبَايَعۡتُمۡۚ وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٞ وَلَا شَهِيدٞۚ وَإِن تَفۡعَلُواْ فَإِنَّهُۥ فُسُوقُۢ بِكُمۡۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (282)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى } . قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما حرم الله الربا أباح السلم ، وقال : أشهد أن السلم المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله تعالى في كتابه ، وأذن فيه ، ثم قرأ : ( يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ) . قوله : ( إذا تداينتم ) . أي تعاملتم بالدين ، يقال : داينته إذا عاملته بالدين ، وإنما قال بدين بعد قوله تداينتم ، لأن المداينة قد تكون مجازاة ، وتكون معاطاة فقيّده بالدين ليعرف المراد من اللفظ ، وقيل : ذكره تأكيداً كقوله تعالى : ( ولا طائر يطير بجناحيه إلى أجل مسمى ) الأجل : مدة معلومة الأول والآخر ، والأجل : يلزم في الثمن ، والمبيع في السلم ، حتى لا يكون لصاحب الحق الطلب قيل محله ، وفي القرض لا يلزم الأجل عن أكثر أهل العلم ( فاكتبوه ) أي اكتبوا الذي تداينتم به ، بيعاً كان أو سلماً أو قرضاً . واختلفوا في هذه الكتابة : فقال بعضهم : هي واجبة ، والأكثرون على أنه أمر استحباب ، فإن ترك فلا بأس ، كقوله تعالى ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ) .

وقال بعضهم : كانت كتابة الدين والإشهاد والرهن فرضاً ثم نسخ الكل بقوله : ( فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ) وهو قول الشعبي ثم بين كيفية الكتابة فقال جل ذكره :

قوله تعالى : { وليكتب بينكم كاتب بالعدل } . أي ليكتب كتاب الدين بين الطالب والمطلوب كاتب بالعدل ، أي بالحق من غير زيادة ولا نقصان ولا تقديم أجل ولا تأخير .

قوله تعالى : { ولا يأب } . أي لا يمتنع .

قوله تعالى : { كاتب أن يكتب } . واختلفوا في وجوب الكتابة على الكاتب وتحمل الشهادة على الشاهد ، فذهب قوم إلى وجوبها إذا طولب وهو قول مجاهد ، وقال الحسن : يجب إذا لم يكن كاتب غيره ، وقال قوم : هو على الندب والاستحباب ، وقال الضحاك : كانت عزيمة واجبة على الكاتب والشاهد فنسخها قوله تعالى ( ولا يضار كاتب ولا شهيد ) .

قوله تعالى : { كما علمه الله } . أي كما شرعه الله وأمره .

قوله تعالى : { فليكتب وليملل الذي عليه الحق } . يعني : المطلوب يقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه ، والإملال والإملاء لغتان فصيحتان معناهما واحد جاء بهما القرآن ، فالإملال هنا ، والإملاء ، قوله تعالى : ( فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً ) .

قوله تعالى : { وليتق الله ربه } . يعني المملي .

قوله تعالى : { ولا يبخس منه شيئا } . أي ولا ينقص منه أي من الحق الذي عليه شيئاً .

قوله تعالى : { فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً } . أي جاهلاً بالإملاء ، قاله مجاهد ، وقال الضحاك والسدي : طفلاً صغيراً ، وقال الشافعي _ السفيه : المبذر المفسد لماله أو في دينه .

قوله تعالى : { أو ضعيفا } . أي شيخاً كبيراً وقيل هو ضعيف العقل لعته أو جنون .

قوله تعالى : { أو لا يستطيع أن يمل هو } . لخرس أو عمي أو عجمة أو حبس أو غيبة لا يمكنه حضور الكتابة ، أو جهل بما له وعليه .

قوله تعالى : { فليملل وليه } . أي قيمة .

قوله تعالى : { بالعدل } . أي بالصدق والحق ، وقال ابن عباس رضي الله عنه ومقاتل : أراد بالولي صاحب الحق ، يعني إن عجز من عليه الحق من الإملال فليملل ولي الحق ، وصاحب الدين بالعدل لأنه أعلم بالحق .

قوله تعالى : { واستشهدوا } . أي وأشهدوا .

قوله تعالى : { شهيدين } . أي شاهدين .

قوله تعالى : { من رجالكم } . يعني الأحرار المسلمين ، دون العبيد والصبيان ، وهو قول أكثر أهل العلم ، وأجاز شريح وابن سيرين شهادة العبيد .

قوله تعالى : { فإن لم يكونا رجلين } . أي لم يكن الشاهدان رجلين .

قوله تعالى : { فرجل وامرأتان } . أي فليشهد رجل وامرأتان . وأجمع الفقهاء على أن شهادة النساء جائزة مع الرجال في الأموال حتى تثبت برجل وامرأتين . واختلفوا في غير الأموال ، فذهب جماعة إلى أنه يجوز شهادتين مع الرجال في غير العقوبات ، وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي ، وذهب جماعة إلى أن غير المال لا يثبت إلا برجلين عدلين ، وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن ما يطلع عليه النساء غالباً كالولادة والرضاع والثيوبة والبكارة ونحوها يثبت بشهادة رجل وامرأتين ، وبشهادة أربع نسوة ، واتفقوا على أن شهادة النساء غير جائزة في العقوبات .

قوله تعالى : { ممن ترضون من الشهداء } . يعني من كان مرضياً في ديانته وأمانته ، وشرائط قبول الشهادة سبعة : الإسلام والحرية والعقل والبلوغ والعدالة والمروءة وانتفاء التهمة ، فشهادة الكافر مردودة لأن المعروفين بالكذب عند الناس لا تجوز شهادتهم ، فالذي يكذب على الله تعالى أولى أن يكون مردود الشهادة ، وجوز أصحاب الرأي شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض ، ولا تقبل شهادة العبيد ، وأجازها شريح وابن سيرين وهو قول أنس بن مالك رضي الله عنه ، ولا قول للمجنون حتى يكون له شهادة ، ولا يجوز شهادة الصبيان . سئل ابن عباس رضي الله عنه عن ذلك ؟ فقال : لا يجوز ، لأن الله تعالى يقول : ( ممن ترضون من الشهداء ) والعدالة شرط ، وهي أن يكون الشاهد مجتنباً للكبائر غير مصر على الصغائر ، والمروءة شرط ، وهي ما يتصل بآداب النفس مما يعلم أن تاركه قليل الحياء ، وهي حسن الهيئة ، والسيرة والعشرة والصناعة ، فإن كان الرجل يظهر من نفسه في شيء منها ما يستحي أمثاله من إظهاره في الأغلب يعلم به قلة مروءته وترد شهادته ، وانتفاء التهمة شرط ، حتى لا تقبل شهادة العدو على العدو وإن كان مقبول الشهادة على غيره ، لأنه متهم في حق عدوه ، ولا تقبل شهادة الرجل لولده ووالده وإن كان مقبول الشهادة عليهما ، ولا يقبل شهادة من يجر بشهادته إلى نفسه نفعاً ، كالوارث يشهد على رجل بقتل مورثه ، أو يدفع عن نفسه بشهادته ضرراً كالمشهود عليه يشهد بجرح من يشهد عليه لتمكن التهمة في شهادته .

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسن المروزي ، أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سراج القطان ، أخبرنا أبو أحمد محمد بن قريش بن سليمان ، أخبرنا علي بن عبد العزيز المكي ، أخبرنا أبو عبيد القاسم ابن سلام أخبرنا مروان الفزاري عن شيخ من أهل الحيرة يقال له يزيد بن زياد عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها ترفعه " لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه ولا ظنين في ولاء ولا قرابة ولا القانع مع أهل البيت " .

قوله تعالى : { أن تضل إحداهما } . قرأ حمزة إن تضل بكسر الألف .

قوله تعالى : { فتذكر } . برفع الراء ، ومعناه الجزاء والابتداء ، وموضع تضل جزم بالجزاء ، إلا أنه لا نسق بالتضعيف ، فتذكر رفع لأن ما بعد فاء الجزاء مبتدأ ، وقراءة العامة بفتح الألف ونصب الراء على الاتصال بالكلام الأول ، و " تضل " محله نصب " بأن " فتذكر منسوق عليه ، ومعنى الآية : فرجل وامرأتان كي تذكر .

قوله تعالى : { إحداهما الأخرى } . ومعنى تضل : أي تنسى ، يريد إذا نسيت إحداهما شهادتها ، تذكرها الأخرى فتقول : ألسنا حضرنا مجلس كذا ؟ وسمعنا كذا ؟ قرأ ابن كثير وأهل البصرة : فتذكر مخففاً ، وقرأ الباقون مشدداً ، وذكر واذكر بمعنى واحد ، وهما متعديان من الذكر الذي هو ضد النسيان ، وحكي عن سفيان بن عيينة أنه قال : هو من الذكر ، أي تجعل إحداهما الأخرى ذكراً ، أي تصير شهادتهما كشهادة ذكر ، والأول أصح لأنه معطوف على النسيان .

قوله تعالى : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } . قيل : أراد به إذا ما دعوا لتحمل الشهادة ، سماهم شهداء على معنى أنهم يكونون شهداء وهو أمر إيجاب عند بعضهم ، وقال قوم : تجب الإجابة إذا لم يكن غيرهم ، فإن وجد غيرهم فهم مخيرون وهو قول الحسن ، وقال قوم : هو أمر ندب وهو مخير في جميع الأحوال ، وقال بعضهم : هذا في إقامة الشهادة وأدائها فمعنى الآية ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا لأداء الشهادة التي تحملوها ، وهو قول مجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير ، وقال الشعبي : الشاهد بالخيار ما لم يشهده ، وقال الحسن : الآية في الأمرين جميعاً ، في التحمل والإقامة إذا كان فارغاً .

قوله تعالى : { ولا تسأموا } . أي ولا تملوا .

قوله تعالى : { أن تكتبوه } . والهاء راجعة إلى الحق .

قوله تعالى : { صغيراً } . كان الحق .

قوله تعالى : { أو كبيراً } . قليلاً كان أو كثيراً .

قوله تعالى : { إلى أجله } . إلى محل الحق .

قوله تعالى : { ذلكم } . أي الكتاب .

قوله تعالى : { أقسط } . أعدل .

قوله تعالى : { عند الله } . لأنه أمر به ، واتباع أمره أعدل من تركه .

قوله تعالى : { وأقوم للشهادة } . لأن الكتابة تذكر الشهود .

قوله تعالى : { وأدنى } . وأحرى وأقرب إلى .

قوله تعالى : { أن لا ترتابوا } . تشكوا في الشهادة .

قوله تعالى : { إلا أن تكون تجارة حاضرة } . قرأهما عاصم بالنصب على خبر كان ، وأضمر الاسم مجازا ، إلا أن تكون التجارة تجارة ، أو المبايعة تجارة ، وقرأ الباقون بالرفع ، وله وجهان : أحدهما : أن يجعل الكون بمعنى الوقوع معناه إلا أن تقع تجارة . والثاني : أن تجعل الاسم في التجارة والخبر في الفعل .

قوله تعالى : { تديرونها بينكم } . تقديره إلا أن تكون تجارة حاضرة دائرة بينكم ، ومعنى الآية إلا أن تكون تجارة حاضرة يداً بيد تديرونها بينكم ليس فيها أجل .

قوله تعالى : { فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها } . يعني التجارة .

قوله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } . قال الضحاك : هو عزم والإشهاد واجب في صغير الحق وكبيره ، نقداً أو نسئه ، وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : الأمر فيه إلى الأمانة ، كقوله تعالى ( فإن أمن بعضكم بعضاً ) الآية ، وقال الآخرون هو أمر ندب .

قوله تعالى : { ولا يضار كاتب ولا شهيد } . هذا نهي للغائب ، وأصله يضاور ، فأدغمت إحدى الراءين في الأخرى ونصبت لحق التضعيف لاجتماع الساكنين ، واختلفوا فيه فمنهم من قال : أصله يضارر بكسر الراء الأولى ، وجعل الفعل للكاتب والشهيد ، معناه : لا يضارر الكاتب فيأبى أن يكتب ، ولا الشهيد فيأبى أن يشهد ، ولا يضار الكاتب فيزيد أو ينقص أو يحرف ما أملي عليه ولا الشهيد فيشهد بما لم يستشهد عليه ، وهذا قول طاووس والحسن وقتادة ، وقال قوم : أصله " يضارر " بفتح الراء على الفعل المجهول ، وجعلوا الكاتب والشهيد مفعولين ، ومعناه أن يدعو الرجل الكاتب أو الشاهد وهما على شغل مهم ، فيقولان : نحن على شغل مهم فاطلب غيرنا ، فيقول الداعي إن الله أمركما أن تجيبا ويلح عليهما فيشغلهما عن حاجتهما ، فنهي عن ذلك وأمر بطلب غيرهما .

قوله تعالى : { وإن تفعلوا } . ما نهيتكم عنه من الضرر .

قوله تعالى : { فإنه فسوق بكم } . أي معصية وخروج عن الأمر .

قوله تعالى : { واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم } .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيۡنٍ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى فَٱكۡتُبُوهُۚ وَلۡيَكۡتُب بَّيۡنَكُمۡ كَاتِبُۢ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَلَا يَأۡبَ كَاتِبٌ أَن يَكۡتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُۚ فَلۡيَكۡتُبۡ وَلۡيُمۡلِلِ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ وَلَا يَبۡخَسۡ مِنۡهُ شَيۡـٔٗاۚ فَإِن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ سَفِيهًا أَوۡ ضَعِيفًا أَوۡ لَا يَسۡتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلۡيُمۡلِلۡ وَلِيُّهُۥ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَٱسۡتَشۡهِدُواْ شَهِيدَيۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ فَإِن لَّمۡ يَكُونَا رَجُلَيۡنِ فَرَجُلٞ وَٱمۡرَأَتَانِ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحۡدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحۡدَىٰهُمَا ٱلۡأُخۡرَىٰۚ وَلَا يَأۡبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْۚ وَلَا تَسۡـَٔمُوٓاْ أَن تَكۡتُبُوهُ صَغِيرًا أَوۡ كَبِيرًا إِلَىٰٓ أَجَلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقۡوَمُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَرۡتَابُوٓاْ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةٗ تُدِيرُونَهَا بَيۡنَكُمۡ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَلَّا تَكۡتُبُوهَاۗ وَأَشۡهِدُوٓاْ إِذَا تَبَايَعۡتُمۡۚ وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٞ وَلَا شَهِيدٞۚ وَإِن تَفۡعَلُواْ فَإِنَّهُۥ فُسُوقُۢ بِكُمۡۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (282)

وبعد أن أمر - سبحانه - المؤمنين أن يسارعوا في التصدق على المحتاجين ، وأن يجتنبوا الربا والمرابين ، وبين لهم أن أموالهم تزكو وتنمو بالإِنفاق في وجوه الخير ، وتمحق وتذهب بتعاطي الربا ، بعد أن وضح كل ذلك ساق لهم آية جامعة ، متى اتبعوا توجيهاتها استطاعوا أن يحفظوا أموالهم بأفضل طريق ، وأشرف وسيلة ، وأن يصونوها عن الهلاك والضياع عندما يعطي أحدهم أخاه شيئا من المال على سبيل الدين أو القرض الحسن المنزه عن الربا . استمع إلى القرآن وهو يتكلم عن أحكام الدين وعن أحكام بعض المعاملات التجارية الحاضرة فيقول :

{ ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم . . . }

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 282 )

قال ابن كثير : قوله - تعالى - : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه } هذا إرشاد منه - تعالى - لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها ، وقد نبه على ذلك في آخر الآية حيث قال : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أَلاَّ ترتابوا } وروى البخاري عن ابن عباس أنه قال : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله وأذن فيه ثم قرأ { ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم } . الآية . وثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " .

ومعنى { تَدَايَنتُم } : تعاملتم بالدين وداين بعضكم بعضا . وحقيقة الدين - كما يقول القرطبي - " عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقداً والآخر في الذمة نسيئة ، فإن العين عند العرب ما كان حاضرا ، والدين ما كان غائبا " .

والأجل في اللغة هو الوقت المضروب لانقضاء الأمد ، وأجل الإِنسان هو الوقت المحدد لانقضاء عمره . وأجل الدين هو الوقت المعين لأدائه في المستقبل . وأصله من التأخير ، يقال : أجل الشيء يأجل إذا تأخر والآجل نقيض العاجل .

والمعنى : يأيها الذين آمنوا إذا عامل بعضكم بعضا بالدين إلى وقت معين فاكتبوا هذا الدين ، لأن في هذه الكتابة حفظاً له ، وضبطاً لمقداره ، ومنعاً للتنازع من أن يقع بينكم .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : هلا قيل : إذا تدانيتم إلى أجل مسمى ، وأي حاجة إلى ذكر الدين ؟ قلت : ذكر - لفظ الدين - ليرجع الضمير إليه في قوله : { فاكتبوه } إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال : فاكتبوا الدين ، فلم يكن النظم بذلك الحسن ، ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال . فإن قلت : ما فائدة قوله : { مُّسَمًّى } قلت : ليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوما كالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام . ولو قال : إلى الحصاد أو الدياس أو رجوع الحاج لم يجز لعدم التسمية " .

وجمهور العلماء على أن الأمر في قوله " فاكتبوه " للندب ، ولأن الله - تعالى - قد قال بعد ذلك { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ } ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزم الدائنين بكتابه ديونهم ، ولا المدنيني بأن يكتبوها .

وقال الظاهرية : إن الأمر هنا للوجوب ، ومن لم يفعل ذلك كان آتماً ، لأن الأصل في الأمر أنه للوجوب . .

وقوله : { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل } بيان لكيفية الكتابة المأمور بها وتعيين من يتولاها عقب الأمر بها على سبيل الإِجمال .

أي : عليكم أيها المؤمنون إذا تعاملتم بالدين إلى أجل معين أن تكتبوا هذا الدين ، وليتول الكتابة بينكم شخص يجيدها وعنده فقهها وعلمها ، بأن يكون على معرفة بشروط العقود وتوثيقها ، وما يكون من الشروط موافقاً لشريعة الإِسلام وما يكون منها غير موافق ، وعلى هذا الكاتب أن يلتزم الحق مع الدائن والمدين في كتابته ، لأن الله - تعالى - يقول : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } فالجملة الكريمة تحض المتعاملين بالدين أن يختاروا لكتابته شخصاً تتوفر فيه إجادة الكتابة ، والخبرة بشروط العقود وتوثيقها ، كما تتوفر فيه الاستقامة وتحري الحق . ومفعول ( يكتب ) محذوف ثقة بانفهامه أي وليكتب بينكم الكتابة كاتب بالعدل . والتقييد بالظرف بينكم للإِيذان بأنه ينبغي للكاتب ألا يسمح لنفسه بأن ينفرد به أحد المتعاقدين ، لأن في هذا الانفراد تهمة يجب أن يربأ بنفسه عنها .

والجار والمجرور وهو ( بالعدل ) متعلق بمحذوف صفة لكاتب أي : وليكن المتصدي للكتابة من شأنه أن يكتب بالسوية من غير ميل إلى أحد الجانبين . أو متعلق بالفعل يكتب . أي : وليكتب بالحق .

ثم نهى الله - تعالى - من كان قادراً على الكتابة عن الامتناع متى دعى إليها فقال :

{ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله فَلْيَكْتُبْ } .

أي : ولا يمتنع كاتب من أن يكتب للمتداينين ديونهما بالطريقة التي علمه الله إياها أن يتحرى بالعدل والحق في كتابته ، وأن يلتزم فيها ما تقتضيه أحكام الشريعة الإِسلامية .

فالكاف في قوله - تعالى - : { كَمَا عَلَّمَهُ الله } نعت لمصدر محذوف والتقدير : فليكتب كتابة مثل ما علمه الله - تعالى - بمعنى أن يلتزم الحق والعدل فيها .

ويجوز أن تكون الكاف للتعليل فيكون المعنى : لا يمتنع عن الكتابة لأنه كما علمه الله إياها ويسرها له ونفعه بها ، فعليه أن ينفع غيره بها ، فهو كقوله - تعالى - : { وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ } وفي الحديث الشريف " إن من الصدقة أن تعين صانعاً أو تصنع لأخرق " وفي حديث آخر : " من كتم علماً يعلمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة " .

وقوله : ( فليكتب ) تفريع على قوله " ولا يأب كاتب " أي : فليكتب الكتابة التي علمه الله إياها فهو توكيد للأمر المستفاد من قوله : { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ } . ويجوز أن يكون توكيداً للأمر الصريح في قوله : { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل } .

قال القرطبي : واختلف الناس في وجوب الكتابة على الكاتب والشهادة على الشاهد . فقال الطبريك : واجب على الكاتب إذا أمر أن يكتب . وقال الحسن : ذلك واجب عليه في الموضع الذي لا يقدر فيه على كاتب غيره فيضر صاحب الدين إن امتنع ، فإن كان كذلك فهو فريضة ، وإن قدر على كاتب غيره فهو في سعة إذا قام بها غيره " .

وإلى هنا تكون الآية الكريمة قد قررت مبدأ الكتابة في الدين ، وبينت كيفية الكتابة ، وأشارت إلى إجادة الكاتب لها ، ونهته عن الامتناع عنها إذا دعى إليها . ثم انتقلت الآية بعد ذلك إلى بيان من يتولى الإِملاء فقال - تعالى - : { وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } .

والإِملالل معناه الإِملاء . فهما لغتان معناهما واحد . وقد جاء القرآن باللغتين قال - تعالى - : { وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي : وعلى المدين الذي عليه الدين وقد التزم بأدائه أن يمل على الكاتب هذا الدين ، وذلك ليكون إملاؤه إقراراً به وبالحقوق التي عليه الوفاء بها . وعليه كذلك أن يراقب الله - تعالى - في إملائه فلا ينقص من الدين الذي عليه شيئاً ، لأن هذا الإِنقاص ظلم حرمه الله - تعالى - .

وقد أمر الله - تعالى - بأن يكون الذي يملي على الكاتب هو المدين لأنه هو المكلف بأداء مضمون الكتابة ، ولأنه بإملائه يكون قد أقر على نفسه بما عليه ، ولأنه لو أفلس الدائن فربما يزيد في الدين ، أو يملي شيئاً ليس محل اتفاق بينه وبين المدين ، ولأن المدين في الغالب في موقف ضعيف فأعطاه الله - تعالى - حق الإِملاء على الكاتب حتى لا يغبن من الدائن .

فأنت ترى أن الله - تعالى - قد مكن المدين من الإِملاء على الكاتب حتى تكون الكتابة تحت سمعه وبصره وباختياره ، ولكنه في الوقت نفسه أوجب عليه أمرين : تقوى الله وعدم الانقاص من الدين الذي عليه ، وإن ذلك لتشريع عادل حكيم لا ظلم فيه لا للدائن ولا للمدين .

ثم بين - سبحانه - الحكم فيما إذا كان الذي عليه الدين لا يحسن الإِملاء فقال - تعالى - : { فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق } وهو المدين { سَفِيهاً } أي جاهلا بالإِملاء أو ناقص العقل ، أو متلافاً مبذراً لا يحسن تدبير أمره " .

{ أَوْ ضَعِيفاً } بأن يكون صبياً أو شيخاً تقدمتبه الشيخوخة .

{ أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ } بأن يكون عيياً أو أخرس أو لا خبرة له بإملاء أمثال هذه المكاتبات .

{ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل } أي فعلى ولي أمره أو من يهمه شأنه ولا يرضى له أن يضيع حقه أن يتولى الإِملاء الحق والعدل فيما يكلف به .

وبعد هذا البيان الحكيم عن الكتابة وأحكامها في شأن الديون ، انتقل القرآن إلى الحديث عن الإِشهاد فقال - تعالى - : { واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ } أي : اطلبوا شاهدين عدلين من الرجال ليشهدوا على ما يجري بينكم من معاملات مؤجلة ، لأن هذا الإِشهاد يعطي الديون والكتابة توثيقاً وتثبيتاً ، والسين التاء في قوله : " واستشهدوا " للطلب .

قال الآلوسي : " وفي اختيار صيغة المبالغة في { شَهِيدَيْنِ } للإِيماء إلى من تكررت منه الشهادة ، فهو علام بها مقتدر على أدائها وكأن فيه رمزاً إلى العدالة ، لأنه لا يتكرر ذلك من الشخص عند الحكام إلا وهو مقبول عندهم ولعله لم يقل رجلين لذلك . والأمر للندب أو للوجوب على الخلاف على ذلك .

وقوله : { مِّن رِّجَالِكُمْ } متعلق بقوله : { واستشهدوا } ومن لابتداء الغاية ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف صفة لشهيدين ومن للتبعيض ، أي من رجالكم المسلمين الأحرار فإن الكلام في معاملتهم .

ثم بين - سبحانه - الحكم إذا لم يتيسر شاهدان من الرجال فقال : { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء } .

وقوله : { مِمَّن تَرْضَوْنَ } متعلق بمحذوف على أنه صفة لرجل وامرأتان . أي فإن لم يتيسر رجلان للشهادة فليشهد رجل وامرأتان كائنون مرضيون عندكم بعدالتهم .

وهذا الوصف وإن كان في جميع الشهود إلا أنه ذكر هنا للتشديد في اعتباره ، لأن اتصاف النساء به قد لا يتوفر كثيراً .

وقوله : { مِنَ الشهدآء } متلعق بمحذوف حال من الضمير المفعول المقدر في { تَرْضَوْنَ } العائد إلى الموصول : أي فليشهد رجل وامرأتان ممن ترضونهم حال كونهم من بعض الشهداء لعلمكم بعدالتهم ، وثقتكم بهم .

وقوله - تعالى - : { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء } أدق في الدالالة على صدق الشهادة من العدالة ، لأن الإِنسان العدل قد يكون مرضياً في دينه وخلقه ولكنه قد يتأثر بالمشاهد المؤثرة فتخونه ذاكرته في وقت الحاجة إليها ، أو قد يكون ممن يمنعه منصبه وجاهه ومقامه في الناس من الكذب إلا أنه قد يرتكب بعض المعاصي ، فجاء - سبحانه - بهذه الجملة الحكيمة لكي يقول للناس . اختاروا الشهداء من الذين يرتضي قولهم ، ويقيمون الشهادة على وجهها الحق بدون التأثر بأي نوع من أنواع المؤثرات .

هذا ، وشهادة النساء مع الرجال تجوز عند الحنفية في الأموال والطلاق والنكاح والرجعة وكل شيء إلا الحدود والقصاص . وعند المالكية تجوز في الأموال وتوابعها خاصة ، ولا تقبل في أحكام الأبدان مثل الحدود والقصاص والنكاح والطلاق والرجعة .

ثم بين - سبحانه - العلة في أن المرأتين تقومان مقام الرجل في الشهادة فقال : { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى } .

وقال القرطبي : معنى تضل تنسي ، والضلال عن الشهادة فإنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء ، ويبقى المرء حيران بين ذلك ضلالا " .

والمعنى : جعلنا المرأتين بدل رجل واحد في الشهادة ، خشية أن تنسى إحداهما فتذكر كل واحدة منهما الأخرى : إذ المرأة لقوة عاطفتها ، وشدة انفعالها بالحوادث ، قد تتوهم ما لم تر ، فكان من الحكمة أن يكون مع المرأة أخرى في الشهادة بحيث يتذكران الحق فيما بينهما .

والعلة في الحقيقة هي التذكير ، ولكن الضلال لما كان سبباص في التذكير ، نزل منزلة العلة .

وذلك كأن تقول : أعددت السلاح خشية أن يجيء العدو فأدفعه ، فإن العلة هي الدفاع عن النفس ، ولكن لما كان مجئ العدو سبباً فيه نزل منزلته .

وكما أمر الله - سبحانه - الكتاب في أول الآية بعدم الامتناع عن الكتابة أمر الشهود أيضاً بعدم الامتناع عن الشهادة فقال - تعالى - : { وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ } أي : ولا يمتنع الشهود عن أداء الشهادة وتحملها متى دعوا إليها ، لأن الامتناع عن تحمل الشهادة وأدائها قد يؤدي إلى ضياع الحقوق . والله - تعالى - قد شرع الشهادة لإِحقاق الحق ، ونشر العدل بين الناس ، فعلى من اشتهروا بالعدالة ووثق الناس بهم أن يؤدوا الشهادة كما أمرهم الله - تعالى- .

ثم أمر - سبحانه - بكتابه الدين سواء أكبر الدين أم صغر فقال : { وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ } .

السأم : الضجر والملل . يقال : سئمت الشيء أسأمه وسآمة أي مللته وضجرته .

والمعنى : وعليكم أيها المؤمنون أن لا تملوا من كتابة الدين إلى الوقت المحدد له سواء أكان هذا الدين كبيراً أم صغيراً ، لأن الكتابة في الحالتين أدعى إلى حفظ الحقوق وصيانتها ، وإلى عدم نشوب التنازع أو التخاصم بينكم ، ولأن الدين قد يكون صغيراً في نظر الغني المليء ، إلا أنه كبير في نظر الفقير المعسر ، ولأن التهاون في شأن الدين الصغير قد يؤدي إلى التهاون في شأن الدين الكبير ، لذا وجب عليكم أن تنقادوا لشرع الله وأن تكتبوا ما بينكم من ديون .

والضمير في قوله : { أَن تَكْتُبُوهُ } يعود إلى الدين أو إلى الحق ، وقولهك { صَغِيراً أَو كَبِيراً } حالان من الضمير . أي لا تسأموا أن تكتبوه على كل حال قليلا أو كثيراً ، وقدم الصغير على الكبير اهتماما به وانتقالا من الأدنى إلى الأعلى .

ثم بين - سبحانه - ثلاث فوائد تعود عليهم إذا ما امتثلوا ما أمرهم الله - تعالى - به ، فقال : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله } .

واسم الإِشارة { ذَلِكُمْ } يعود إلى كل ما سبق ذكره في الآية من الكتابة والإِشهاد ومن عدم الامتناع عنهما ، ومن تحرى الحق والعدل .

و { أَقْسَطُ } بمعنى أعدل : يقال : أقسط فلان في الحكم يقسط إقساطاً إذا عدل فهو مقسط .

قال - تعالى - : { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } ويقال : هو قاسط إذا جار وظلم . قال - تعالى - : { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } أي : ذلكم الذي شرعناه لكم في أمر الديون من لكتابة والإِشهاد وغيرهما أعدل في علم الله - تعالى - ، وكل ما كان كذلك فهو الأعدل والأفضل والأحكم في ذاته ، لأنه - سبحانه - هو الأعلم بما فيه مصلحتكم فاستجيبوا له ، وتلك هي الفائدة الأولى .

أما الفائدة الثانية فهي قوله - سبحانه - : { وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ } ومعنى { وَأَقْومُ } أبلغ في الاستقامة التي هي ضد الاعوجاج .

أي : أثبت لها وأعون على إقامتها وأدائها .

وأما الفائدة الثالثة فهي قوله : { وأدنى أَلاَّ ترتابوا } أي : أقرب إلى زوال الشك والريبة أي أن الأوامر والنواهي السابقة إذا نفذت على وجهها كان تنفيذها أعدل في علم الله - تعالى - وأعون على إقامة الشهادة إذ بها يتم الاعتماد على الحفظ ، وأقرب إلى عدم الشك في جنس الدين وقدره وأجله ، وإذا توفرت هذه الفوائد الثلاث في المعاملات ساد الوفاق والتعاون بين الناس ، أما إذا فقدت فإن الثقة تزول من بينهم ، ويحل محلها النزاع والشقاق .

ثم أباح - سبحانه - في التجارة الحاضرة عدم الكتابة فقال : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا } .

والتجارة الحاضرة التي تدور بين التجار : هي التي تجري فيها التقابض في المجلس أو التي يتأخر فيها الأداء زمنا يسيرا . وسميت حاضرة ، لأن المبيع والثمن كلاهما حاضر .

والمعنى : أن الله - تعالى - يأمركم بكتابة الديون وبالإِشهاد عليها إلا أنه - سبحانه - رحمة بكم أباح لكم عدم الكتابة في التجارة الحاضرة التي تكثرون إدارتها والتعامل فيها ، لأنه لو كلفكم بذلك لشق الأمر عليكم ، وهو - سبحانه - { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } ولأن أمثال هذه التجارات التي يحصل فيها التقابض ويكثر تكرارها ، لا يتوقع فيها التنازع أن أو النسيان .

والاستثناء هنا منقطع لأنه ليس هناك دين حتى يكتب ، وليست التجارة الحاضرة من جنس التعامل بالديون فكأنه قيل : إذا تداينتم فتكاتبوا وأشهدوا لكن التجارة الحاضرة التي يجري فيها التقابض لا جناح عليكم في عدم كتابتها .

وقيل : الاستثناء متصل والجملة المستثناة في موضع نصب لأنه استثناء من الجنس ، لأنه أمر بالكتابة في كل معاملة واستثنى منها التجارة الحاضرة والتقدير : آمركم بالكتابة والإِشهاد فثي كل معاملة إلا في حال حضور التجارة فلا بأس من ترك الكتابة . { تِجَارَةً } قرأها الجمهور بالرفع على أنها اسم تكون ، والخبر جملة { تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } . أو على أنها فاعل تكون إذا اعتبرناها تامة .

وقرأها عاصم بالنصب على أنها خبر تكون واسمها ضمير مستتر فيها يعود على التجارة .

أي : إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة .

وقوله - تعالى - : { وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } أمر منه - سبحانه - بالإِشهاد عند البيع ، وهذا الأمر للإِرشاد والتعليم عند جمهور العلماء . ويرى الظاهرية أنه للوجوب .

قال صاحب الكشاف : هذا أمر بالإِشهاد على التتابع مطلقا ناجزاً أو كالئا - أي مؤجلا - لأنه أحوط وأبعد مما عسى يعق من الاختلاف . ويجوز أن يراد : وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع . يعني التجارة الحاضرة على أن الإِشهاد كاف فيه دون الكتابة ، وعن الضحاك : هي عزيمة من الله ولو على باقة بقل .

ثم نهى - سبحانه - عن المضارة فقال : { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } .

والمضارة : إدخال الضرر . والفعل ( يضار ) يحتمل أن يكون مبنيا للفاعل ، وأن أصله " لا يضارر - بكسر الراء - ويحتمل أن يكون مبنيا للمفعول . وأن أصله لا يضارر بفتح الراء الأولى .

والمعنى على الأولى : نهى الكاتب والشاهد عن أن ينزلا ضرراص بأحد المتعاقدين ، بأن يبخس الكاتب أحدهما ، أو يشهد بغير الحق .

والمعنى على الثاني : وهو الظاهر - نهى الدائن والمدين عن أن ينزل أحدهما ضرراً بالكاتب أو الشاهد لحملهما على كتابة غير الحق أو قول غير الحق ، فإنهما أمينان ، والإِضرار بهما قد يحملهما على الخيانة وفي ذلك ضياع للأمانة وذهاب للثقة . ولذا قال - تعالى - بعد ذلك { وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } .

أي : وإن تفعلوا ما نهيتم عنه أو تخالفوا ما أمرتم به ، فإنكم بذلك تكونون قد خرجتم عن طاعة الله ، وتلبستم بمعصيته ، وصرت مأهلا لعقوبته ، فعليكم أن تقفوا عند حدود الله حتى تتحقق لكم السعادة في دينكم ودنياكم .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بالأمر بخشيته . وبتذكيرهم بنعمه فقال : { واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .

أي : واتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه ، فهو - سبحانه - الذي يعلمكم ما يصلح لكم أمر دنياكم وما يصلح لكم أمر دينكم متى اتقيتموه واستجبتم له ، وهو - سبحانه - بكل شيء عليم لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء .

وبعد : فهذه هي آية الدين التي هي أطول آية في القرآن ، تقرؤها فتراها قد اشتملت على أدق التشريعات ، وأحكم التوجيهات ، وأنجع الإِرشادات التي تهدي إلى حفظ الحقوق وضبطها وتوثيقها بمختلف الوسائل .

تقرؤها فترى الدقة العجيبة في الصياغة بأن وضع كل لفظ في مكانه المناسب ، وترى الطلاوة في التعبير ، والعذوبة في الألفاظ بحيث لا تطغى دقة الصياغة على جمال العرض .

وترى الوفاء الكامل ، لكل الجوانب التشريعية والاحتراس التام من كل المؤثرات التي قد تؤثر على سلامة التعاقد ، والإِرشاد الجامع إلى كل ما يضمن وصول الحق والعدل إلى جميع الأطراف بدون محاباة أو غبن .

وترى قبل ذلك وبعد ذلك كيف يسوق القرآن تشريعاته بطريقة تغرس في النفوس الخوف من الله - تعالى - والمراقبة له ، والاستجابة لأوامره ، لا كطريقة البشر في قوانينهم التي صاغوها في قوالب صماء من الألفاظ لا تشعر معها بتأثير في النفس ، ولا باهتزاز في القلب .

ولو لم يكن في شريعة الله سوى هذا التأثير الذي تشعر به النفوس النقية الصافية عند تدبرها لكفاها ذلك دليلا على سموها وفضلها وعلى أنها من صنع الله - تعالى - ولو أن المسلمين أخذوا بها وبتوجيهاتها في سائر شئونهم لظفروا بالسعادتين : الدينية والدنيوية .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيۡنٍ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى فَٱكۡتُبُوهُۚ وَلۡيَكۡتُب بَّيۡنَكُمۡ كَاتِبُۢ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَلَا يَأۡبَ كَاتِبٌ أَن يَكۡتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُۚ فَلۡيَكۡتُبۡ وَلۡيُمۡلِلِ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ وَلَا يَبۡخَسۡ مِنۡهُ شَيۡـٔٗاۚ فَإِن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ سَفِيهًا أَوۡ ضَعِيفًا أَوۡ لَا يَسۡتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلۡيُمۡلِلۡ وَلِيُّهُۥ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَٱسۡتَشۡهِدُواْ شَهِيدَيۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ فَإِن لَّمۡ يَكُونَا رَجُلَيۡنِ فَرَجُلٞ وَٱمۡرَأَتَانِ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحۡدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحۡدَىٰهُمَا ٱلۡأُخۡرَىٰۚ وَلَا يَأۡبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْۚ وَلَا تَسۡـَٔمُوٓاْ أَن تَكۡتُبُوهُ صَغِيرًا أَوۡ كَبِيرًا إِلَىٰٓ أَجَلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقۡوَمُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَرۡتَابُوٓاْ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةٗ تُدِيرُونَهَا بَيۡنَكُمۡ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَلَّا تَكۡتُبُوهَاۗ وَأَشۡهِدُوٓاْ إِذَا تَبَايَعۡتُمۡۚ وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٞ وَلَا شَهِيدٞۚ وَإِن تَفۡعَلُواْ فَإِنَّهُۥ فُسُوقُۢ بِكُمۡۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (282)

282

( يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ) . .

هذا هو المبدأ العام الذي يريد تقريره . فالكتابة أمر مفروض بالنص ، غير متروك للاختيار في حالة الدين إلى أجل . لحكمة سيأتي بيانها في نهاية النص .

( وليكتب بينكم كاتب بالعدل ) . .

وهذا تعيين للشخص الذي يقوم بكتابة الدين فهو كاتب . وليس أحد المتعاقدين . وحكمة استدعاء ثالث - ليس أحد الطرفين في التعاقد - هي الاحتياط والحيدة المطلقة . وهذا الكاتب مأمور أن يكتب بالعدل ، فلا يميل مع أحد الطرفين ، ولا ينقص أو يزيد في النصوص . .

( ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله ) . .

فالتكليف هنا من الله - بالقياس إلى الكاتب - كي لا يتأخر ولا يأبى ولا يثقل العمل على نفسه . فتلك فريضة من الله بنص التشريع ، حسابه فيها على الله . وهي وفاء لفضل الله عليه إذ علمه كيف يكتب . . ( فليكتب )كما علمه الله .

وهنا يكون الشارع قد انتهى من تقرير مبدأ الكتابة في الدين إلى أجل . ومن تعيين من يتولى الكتابة . ومن تكليفه بأن يكتب . ومع التكليف ذلك التذكير اللطيف بنعمة الله عليه ، وذلك الإيحاء بأن يلتزم العدل . .

وهنا ينتقل إلى فقرة تالية يبين فيها كيف يكتب . .

( وليملل الذي عليه الحق . وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا . فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل ) . .

إن المدين - الذي عليه الحق - هو الذي يملي على الكاتب اعترافه بالدين ، ومقدار الدين ، وشرطه وأجله . . ذلك خيفة أن يقع الغبن على المدين لو أملى الدائن ، فزاد في الدين ، أو قرب الأجل ، أو ذكر شروطا معينة في مصلحته . والمدين في موقف ضعيف قد لا يملك معه إعلان المعارضة رغبة في اتمام الصفقة لحاجته إليها ، فيقع عليه الغبن . فإذا كان المدين هو الذي يملي لم يمل إلا ما يريد الارتباط به عن طيب خاطر . ثم ليكون إقراره بالدين أقوى وأثبت ، وهو الذي يملي . . وفي الوقت ذاته يناشد ضمير المدين - وهو يملي - أن يتقي الله ربه ولا يبخس شيئا من الدين الذي يقر به ولا من سائر أركان الإقرار الأخرى . . فإن كان المدين سفيها لا يحسن تدبير أموره . أو ضعيفا - أي صغيرا أو ضعيف العقل - أو لا يستطيع أن يمل هو إما لعي أو جهل أو آفة في لسانه أو لأي سبب من الأسباب المختلفة الحسية أو العقلية . . فليملل ولي أمره القيم عليه . ( بالعدل ) . . والعدل يذكر هنا لزيادة الدقة . فربما تهاون الولي - ولو قليلا - لأن الدين لا يخصه شخصيا . كي تتوافر الضمانات كلها لسلامة التعاقد .

وبهذا ينتهي الكلام عن الكتابة من جميع نواحيها ، فينتقل الشارع إلى نقطة أخرى في العقد ، نقطة الشهادة :

( واستشهدوا شهيدين من رجالكم . فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان - ممن ترضون من الشهداء - أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ) . .

إنه لا بد من شاهدين على العقد - ( ممن ترضون من الشهداء )- والرضى يشمل معنيين : الأول أن يكون الشاهدان عدلين مرضيين في الجماعة . والثاني أن يرضى بشهادتهما طرفا التعاقد . . ولكن ظروفا معينة قد لا تجعل وجود شاهدين أمرا ميسورا . فهنا ييسر التشريع فيستدعي النساء للشهادة ، وهو إنما دعا الرجال لأنهم هم الذين يزاولون الأعمال عادة في المجتمع المسلم السوي ، الذي لا تحتاج المرأة فيه أن تعمل لتعيش ، فتجوربذلك على أمومتها وأنوثتها وواجبها في رعاية أثمن الأرصدة الإنسانية وهي الطفولة الناشئة الممثلة لجيل المستقبل ، في مقابل لقيمات أو دريهمات تنالها من العمل ، كما تضطر إلى ذلك المرأة في المجتمع النكد المنحرف الذي نعيش فيه اليوم ! فأما حين لا يوجد رجلان فليكن رجل واحد وامرأتان . . ولكن لماذا امرأتان ؟ إن النص لا يدعنا نحدس ! ففي مجال التشريع يكون كل نص محددا واضحا معللا : ( أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ) . . والضلال هنا ينشأ من أسباب كثيرة . فقد ينشأ من قلة خبرة المرأة بموضوع التعاقد ، مما يجعلها لا تستوعب كل دقائقه وملابساته ومن ثم لا يكون من الوضوح في عقلها بحيث تؤدي عنه شهادة دقيقة عند الاقتضاء ، فتذكرها الأخرى بالتعاون معا على تذكر ملابسات الموضوع كله . وقد ينشأ من طبيعة المرأة الانفعالية . فإن وظيفة الأمومة العضوية البيولوجية تستدعي مقابلا نفسيا في المرأة حتما . تستدعي أن تكون المرأة شديدة الاستجابة الوجدانية الانفعالية لتلبية مطالب طفلها بسرعة وحيوية لا ترجع فيهما إلى التفكير البطيء . . وذلك من فضل الله على المرأة وعلى الطفولة . . وهذه الطبيعة لا تتجزأ ، فالمرأة شخصية موحدة هذا طابعها - حين تكون امرأة سوية - بينما الشهادة على التعاقد في مثل هذه المعاملات في حاجة إلى تجرد كبير من الانفعال ، ووقوف عند الوقائع بلا تأثر ولا إيحاء . ووجود امرأتين فيه ضمانة أن تذكر إحداهما الأخرى - إذا انحرفت مع أي انفعال - فتتذكر وتفيء إلى الوقائع المجردة .

وكما وجه الخطاب في أول النص إلى الكتاب ألا يأبوا الكتابة ، يوجهه هنا إلى الشهداء ألا يأبوا الشهادة :

( ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ) .

فتلبية الدعوة للشهادة إذن فريضة وليست تطوعا . فهي وسيلة لإقامة العدل وإحقاق الحق . والله هو الذي يفرضها كي يلبيها الشهداء عن طواعيه تلبية وجدانية ، بدون تضرر أو تلكؤ . وبدون تفضل كذلك على المتعاقدين أو على أحدهما ، إذا كانت الدعوة من كليهما أو من أحدهما .

وهنا ينتهي الكلام عن الشهادة ، فينتقل الشارع إلى غرض آخر . غرض عام للتشريع . يؤكد ضرورة الكتابة - كبر الدين أم صغر - ويعالج ما قد يخطر للنفس من استثقال الكتابة وتكاليفها بحجة أن الدين صغير لا يستحق ، أو أنه لا ضرورة للكتابة بين صاحبيه لملابسة من الملابسات كالتجمل والحياء أو الكسل وقلة المبالاة ! ثم يعلل تشديده في وجوب الكتابة تعليلا وجدانيا وتعليلا عمليا :

( ولا تسأموا أن تكتبوه - صغيرا أو كبيرا - إلى أجله . ذلكم أقسط عند الله ، وأقوم للشهادة ، وأدنى ألا ترتابوا ) .

لا تسأموا . . فهو إدراك لانفعالات النفس الإنسانية حين تحس أن تكاليف العمل أضخم من قيمته . . ( ذلكم أقسط عند الله ) . . أعدل وأفضل . وهو إيحاء وجداني بأن الله يحب هذا ويؤثره . ( وأقوم للشهادة ) . فالشهادة على شيء مكتوب أقوم من الشهادة الشفوية التي تعتمد على الذاكرة وحدها . وشهادة رجلين أو رجل وامرأتين أقوم كذلك للشهادة وأصح من شهادة الواحد ، أو الواحد والواحدة . ( وأدنى ألا ترتابوا ) :

أقرب لعدم الريبة . الريبة في صحة البيانات التي تضمنها العقد ، أو الريبة في أنفسكم وفي سواكم إذا ترك الأمر بلا قيد .

وهكذا تتكشف حكمة هذه الإجراءات كلها ؛ ويقتنع المتعاملون بضرورة هذا التشريع ، ودقة أهدافه ، وصحة إجراءاته . إنها الصحة والدقة والثقة والطمأنينة .

ذلك شأن الدين المسمى إلى أجل . أما التجارة الحاضرة فإن بيوعها مستثناة من قيد الكتابة . وتكفي فيهاشهادة الشهود تيسيرا للعمليات التجارية التي يعرقلها التعقيد ، والتي تتم في سرعة ، وتتكرر في أوقات قصيرة . ذلك أن الإسلام وهو يشرع للحياة كلها قد راعى كل ملابساتها ؛ وكان شريعة عملية واقعية لا تعقيد فيها ، ولا تعويق لجريان الحياة في مجراها :

تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم ، فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ) .

وظاهر النص أن الإعفاء من الكتابة رخصة لا جناح فيها . أما الإشهاد فموجب . وقد وردت بعض الروايات بأن الإشهاد كذلك للندب لا للوجوب . ولكن الأرجح هو ذاك .

والأن - وقد انتهى تشريع الدين المسمى ، والتجارة الحاضرة ، والتقى كلاهما عند شرطي الكتابة والشهادة - على الوجوب وعلى الرخصة - فإنه يقرر حقوق الكتاب والشهداء كما قرر واجباتهم من قبل . . لقد أوجب عليهم ألا يأبوا الكتابة أو الشهادة . فالأن يوجب لهم الحماية والرعاية ليتوازن الحق والواجب في أداء التكاليف العامة .

( ولا يضار كاتب ولا شهيد . وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم . واتقوا الله ويعلمكم الله . والله بكل شيء عليم ) .

لا يقع ضرر على كاتب أو شهيد ، بسبب أدائه لواجبه الذي فرضه الله عليه . وإذا وقع فإنه يكون خروجا منكم عن شريعة الله ومخالفة عن طريقه . وهو احتياط لا بد منه . لأن الكتاب والشهداء معرضون لسخط أحد الفريقين المتعاقدين في أحيان كثيرة . فلا بد من تمتعهم بالضمانات التي تطمئنهم على أنفسهم ، وتشجعهم على أداء واجبهم بالذمة والأمانة والنشاط في أداء الواجبات ، والحيدة في جميع الأحوال . ثم - وعلى عادة القرآن في إيقاظ الضمير ، واستجاشة الشعور كلما هم بالتكليف ، ليستمد التكليف دفعته من داخل النفس ، لا من مجرد ضغط النص - يدعو المؤمنين إلى تقوى الله في النهاية ؛ ويذكرهم بأن الله هو المتفضل عليهم ، وهو الذي يعلمهم ويرشدهم ، وأن تقواه تفتح قلوبهم للمعرفة وتهيىء أرواحهم للتعليم ، ليقوموا بحق هذا الإنعام بالطاعة والرضى والإذعان :

( وتقوا الله . ويعلمكم الله . والله بكل شيء عليم ) .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيۡنٍ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى فَٱكۡتُبُوهُۚ وَلۡيَكۡتُب بَّيۡنَكُمۡ كَاتِبُۢ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَلَا يَأۡبَ كَاتِبٌ أَن يَكۡتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُۚ فَلۡيَكۡتُبۡ وَلۡيُمۡلِلِ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ وَلَا يَبۡخَسۡ مِنۡهُ شَيۡـٔٗاۚ فَإِن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ سَفِيهًا أَوۡ ضَعِيفًا أَوۡ لَا يَسۡتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلۡيُمۡلِلۡ وَلِيُّهُۥ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَٱسۡتَشۡهِدُواْ شَهِيدَيۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ فَإِن لَّمۡ يَكُونَا رَجُلَيۡنِ فَرَجُلٞ وَٱمۡرَأَتَانِ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحۡدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحۡدَىٰهُمَا ٱلۡأُخۡرَىٰۚ وَلَا يَأۡبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْۚ وَلَا تَسۡـَٔمُوٓاْ أَن تَكۡتُبُوهُ صَغِيرًا أَوۡ كَبِيرًا إِلَىٰٓ أَجَلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقۡوَمُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَرۡتَابُوٓاْ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةٗ تُدِيرُونَهَا بَيۡنَكُمۡ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَلَّا تَكۡتُبُوهَاۗ وَأَشۡهِدُوٓاْ إِذَا تَبَايَعۡتُمۡۚ وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٞ وَلَا شَهِيدٞۚ وَإِن تَفۡعَلُواْ فَإِنَّهُۥ فُسُوقُۢ بِكُمۡۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (282)

هذه الآية الكريمة أطول آية في القرآن العظيم ، وقد قال الإمام أبو جعفر بن جرير :

حدثنا يونس ، أخبرنا{[4669]} ابن وهب ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب قال ، حدثني سعيد بن المسيب : أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدَّيْن .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مِهْران ، عن ابن عباس أنه قال : لما نزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أول من جحد آدم ، عليه السلام ، أن الله لما خلق آدم ، مسح ظهره فأخرِج منه ما هو ذارئ إلى يوم القيامة ، فجعل يعرض ذريته عليه ، فرأى فيهم رجلا يَزْهر ، فقال : أي رب ، من هذا ؟ قال : هو ابنك داود . قال : أي رب ، كم عمره ؟ قال : ستون عامًا ، قال : رب زد في عمره . قال : لا إلا أن أزيده من عمرك . وكان عمر آدم ألف سنة ، فزاده أربعين عامًا ، فكتب عليه بذلك كتابا وأشهد عليه الملائكة ، فلما احتُضر آدم وأتته الملائكة قال : إنه قد بقي من عمري أربعون عامًا ، فقيل له : إنك قد وهبتها لابنك داود . قال : ما فعلت . فأبرز الله عليه الكتاب ، وأشهد عليه الملائكة " .

وحدثنا أسود بن عامر ، عن حماد بن سلمة ، فذكره ، وزاد فيه : " فأتمها الله لداود مائة ، وأتمها لآدم ألف سنة " {[4670]} .

وكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن يوسف بن حبيب ، عن أبي داود الطيالسي ، عن حماد بن سلمة [ به ]{[4671]} .

هذا حديث غريب جدا ، وعلي بن زيد بن جُدعان في أحاديثه نكارة . وقد رواه الحاكم في مستدركه بنحوه ، من حديث الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب{[4672]} عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة . ومن رواية داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن أبي هريرة . ومن طريق محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة . ومن حديث هشام{[4673]} بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره بنحوه{[4674]} .

فقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ، ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها ، وأضبط للشاهد فيها ، وقد نبه على هذا في آخر الآية حيث قال : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا }

وقال سفيان الثوري ، عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } قال : أنزلت في السَّلَم إلى أجل معلوم .

وقال قتادة ، عن أبي حَسَّان{[4675]} الأعرج ، عن ابن عباس ، قال : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أحله وأذن فيه ، ثم قرأ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } رواه البخاري .

وثبت في الصحيحين من رواية سفيان بن عيينة ، عن ابن أبي نَجيح ، عن عبد الله بن كثير ، عن أبي المِنْهال ، عن ابن عباس ، قال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يُسْلفُون في الثمار السنتين والثلاث ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أسلف فليسلف في كيل معلوم ، ووزن معلوم ، إلى أجل معلوم " {[4676]} .

وقوله : { فَاكْتُبُوهُ } أمر منه تعالى بالكتابة [ والحالة هذه ]{[4677]} للتوثقة والحفظ ، فإن قيل : فقد ثبت في الصحيحين ، عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنا أمَّة أمية لا نكتب ولا نحسب " {[4678]} فما الجمع بينه وبين الأمر بالكتابة ؟ فالجواب : أن الدّين من حيث هو غير مفتقر إلى كتابة أصلا ؛ لأن كتاب الله قد سَهل الله ويسر حفظه على الناس ، والسنن أيضًا محفوظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والذي أمر الله بكتابته إنما هو أشياء جزئية تقع بين الناس ، فأمروا أمْر إرشاد لا أمر إيجاب ، كما ذهب إليه بعضهم .

قال ابن جريج : من ادّان فليكتب ، ومن ابتاع فليُشْهد .

وقال قتادة : ذكر لنا أن أبا سليمان المرعشيّ ، كان رجلا صحب كعبا ، فقال ذات يوم لأصحابه : هل تعلمون مظلوما دعا ربه فلم يستجب له ؟ فقالوا : وكيف [ يكون ]{[4679]} ذلك ؟ قال : رجل باع بيعًا إلى أجل فلم يشهد ولم يكتب ، فلما حل ماله جحده صاحبه ، فدعا ربه فلم يستجب له ؛ لأنه قد عصى ربه .

وقال أبو سعيد ، والشعبي ، والربيع بن أنس ، والحسن ، وابن جريج ، وابن زيد ، وغيرهم : كان ذلك واجبًا ثم نسخ بقوله : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ }

قال الإمام أحمد : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا ليث ، عن جعفر بن ربيعة ، عن عبد الرحمن بن هُرْمُز ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر " أن رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يُسْلفه ألف دينار ، فقال : ائتني بشهداء أشهدهم . قال : كفى بالله شهيدًا . قال : ائتني بكفيل . قال : كفى بالله كفيلا . قال : صدقت . فدفعها إليه إلى أجل مسمى ، فخرج في البحر فقضى حاجته ، ثم التمس مركبًا يقدم عليه للأجل الذي أجله ، فلم يجد مركبًا ، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة معها إلى صاحبها ، ثم زَجج موضعها ، ثم أتى بها البحر ، ثم قال : اللهم إنك قد علمت أني استسلفت فلانًا ألف دينار ، فسألني كفيلا فقلت : كفى بالله كفيلا . فرضي بذلك ، وسألني شهيدًا ، فقلت : كفى بالله شهيدًا . فرضي بذلك ، وإني قد جَهِدْتُ أن أجد مركبًا أبعث بها إليه بالذي أعطاني فلم أجد مركبًا ، وإني اسْتَوْدعْتُكَها . فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ، ثم انصرف ، وهو في ذلك يطلب مركبًا إلى بلده ، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبًا تجيئه بماله ، فإذا بالخشبة التي فيها المال ، فأخذها لأهله حطبًا فلما كسرها وجد المال والصحيفة ، ثم قدم الرجل الذي كان تَسَلف منه ، فأتاه بألف دينار وقال : والله ما زلت جاهدًا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبًا قبل الذي أتيت فيه . قال : هل كنت بعثت إلي بشيء ؟ قال : ألم أخبرك أني لم أجد مركبًا قبل هذا الذي جئت فيه ؟ قال : فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة ، فانصرف بألفك راشدًا " .

وهذا إسناد صحيح{[4680]} وقد رواه البخاري في سبعة مواضع من طرق صحيحة{[4681]} معلقًا بصيغة الجزم ، فقال : وقال الليث بن سعد ، فذكره{[4682]} . ويقال : إنه رواه في بعضها عن عبد الله بن صالح كاتب الليث ، عنه .

وقوله : { لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ } أي : بالقسط والحق ، ولا يَجُرْ في كتابته على أحد ، ولا يكتب إلا ما اتفقوا عليه من غير زيادة ولا نقصان .

وقوله : { وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ } أي : ولا يمتنع من يعرف الكتابة إذا سُئِل أن يكتبَ للناس ، ولا ضرورة عليه في ذلك ، فكما علمه الله ما لم يكن يعلم ، فَلْيتصدق على غيره ممن لا يحسن الكتابة وليكتب ، كما جاء في الحديث : " إن من الصدقة أن تعين صانعًا أو تصنع لأخْرَق " {[4683]} . وفي الحديث الآخر : " من كتم علمًا يَعْلَمه ألْجِمَ يوم القيامة بلجام من نار " {[4684]} .

وقال مجاهد وعطاء : واجب على الكاتب أن يكتب .

وقوله : { وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ } أي : وليملل المدين على الكاتب ما في ذمته من الدين ، وليتق الله في ذلك ، { وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا } أي : لا يكتم منه شيئًا ، { فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا } محجورًا عليه بتبذير ونحوه ، { أَوْ ضَعِيفًا } أي : صغيرًا أو مجنونًا { أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ } إما لعي أو جهل بموضع صواب ذلك من خطئه . { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ }

وقوله { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُم } أمْرٌ بالإشهاد مع الكتابة لزيادة التوثقة ، { فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } وهذا إنما يكون في الأموال وما يقصد به المال ، وإنما أقيمت المرأتان مقام الرجل لنقصان عقل المرأة ، كما قال مسلم في صحيحه : حدثنا قتيبة ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن عمرو بن أبي عَمْرو ، عن المَقْبُري ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يا معشر النساء ، تصدقن وأكثرن الاستغفار ، فإني رأيتكُن أكثر أهل النار " ، فقالت امرأة منهن جَزْلة : وما لنا - يا رسول الله - أكثر أهل النار{[4685]} ؟ قال : " تُكْثرْنَ اللعن ، وتكفُرْنَ العشير ، ما رأيتُ من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لُب منكن " . قالت : يا رسول الله ، ما نقصان العقل والدين ؟ قال : " أما نقصان عقلها فشهادة امرأتين تَعْدل شهادة رجل ، فهذا نقصان العقل ، وتمكث الليالي لا تصلي ، وتفطر في رمضان ، فهذا نقصان الدين " {[4686]} .

وقوله : { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ } فيه دلالة على اشتراط العدالة في الشهود ، وهذا مقيَّد ، حَكَم به الشافعي على كل مطلق في القرآن ، من الأمر بالإشهاد من غير اشتراط . وقد استدل من رد المستور بهذه الآية الدالة على أن يكون الشاهد عدلا مرضيًا .

وقوله : { أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا } يعني : المرأتين إذا نسيت الشهادة { فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى } أي : يحصل لها ذكرى بما وقع به الإشهاد ، ولهذا قرأ آخرون : " فَتُذكر " بالتشديد من التذكار . ومن قال : إن شهادتها معها تجعلها كشهادة ذكر{[4687]} فقد أبعد ، والصحيح الأول . والله أعلم .

وقوله : { وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } قيل : معناه : إذا دعوا للتحمل فعليهم الإجابة ، وهو قول قتادة والربيع بن أنس . وهذا كقوله : { وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ } ومن هاهنا استفيد أن تَحَمّل الشهادة فرض كفاية .

وقيل - وهو مذهب الجمهور - : المراد بقوله : { وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } للأداء ، لحقيقة قوله : { الشُّهَدَاء } والشاهد حقيقة فيمن {[4688]} تحمَّل ، فإذا دعي لأدائها{[4689]} فعليه الإجابة إذا تعينت وإلا فهو فرض كفاية ، والله أعلم .

وقال مجاهد وأبو مِجْلَز ، وغير واحد : إذا دعيت لتشهد فأنت بالخيار ، وإذا شهدت فدعيت{[4690]} فأجب .

وقد ثبت في صحيح مسلم والسنن ، من طريق مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان ، عن عبد الرحمن بن أبي عَمْرَة ، عن زيد بن خالد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا أخبركم بخير الشهداء ؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها " {[4691]} .

فأما الحديث الآخر في الصحيحين : " ألا أخبركم بشر الشهداء ؟ الذين يشهدون قبل أن يُستْشْهَدوا " ، وكذا قوله : " ثم يأتي قوم تسبق أيمانُهم شهادتهم وتسبق شهادَتُهم أيمانهم " . وفي رواية : " ثم يأتي قوم يَشْهَدُون ولا يُسْتَشْهَدون " {[4692]} . فهؤلاء شهود الزور . وقد روي عن ابن عباس والحسن البصري : أنها تعم الحالين : التحَمّل والأداء .

وقوله : { وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِه } هذا من تمام الإرشاد ، وهو الأمر بكتابة الحق صغيرًا كان أو كبيرًا ، فقال : { وَلا تَسْأَمُوا } أي : لا تملوا أن تكتبوا الحق على أي حال كان من القلة والكثرة { إلى أجله }

وقوله { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا } أي : هذا الذي أمرناكم به من الكتابة للحق إذا كان مؤجلا هو { أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } أي : أعدل { وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ } أي : أثبت للشاهد إذا وضع خطه ثم رآه تذكر به الشهادة ، لاحتمال أنه لو لم يكتبه أن ينساه ، كما هو الواقع غالبًا { وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا } وأقرب إلى عدم الريبة ، بل ترجعون عند التنازع إلى الكتاب الذي كتبتموه ، فيفصل بينكم بلا ريبة .

وقوله : { إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا } أي : إذا كان البيع بالحاضر يدا بيد ، فلا بأس بعدم الكتابة لانتفاء المحذور في تركها .

فأما الإشهاد على البيع ، فقد قال تعالى : { وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُم } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثني يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر ، حدثني ابن لَهِيعة ، حدثني عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير

في قول الله : { وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُم } يعني : أشهدوا على حقكم إذا كان فيه أجل أو لم يكن ، فأشهدوا على حقكم على كل حال . قال : وروي عن جابر بن زيد ، ومجاهد ، وعطاء ، والضحاك ، نحو ذلك .

وقال الشعبي والحسن : هذا الأمر منسوخ بقوله : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ }

وهذا الأمر محمول عند الجمهور على الإرشاد والندب ، لا على الوجوب . والدليل على ذلك حديث خُزَيمة بن ثابت الأنصاري ، وقد رواه الإمام أحمد :

حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب ، عن الزهري ، حدثني عمَارة بن خزيمة الأنصاري ، أن عمه حدثه - وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسًا من أعرابي ، فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه ، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم وأبطأ الأعرابي ، فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس ، ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه ، حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه النبي صلى الله عليه وسلم ، فنادى الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن كنت مبتاعًا هذا الفرس فابتَعْه ، وإلا بعتُه ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي ، قال : " أو ليس قد ابتعته منك ؟ " قال الأعرابي : لا والله ما بعتك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " بل{[4693]} قد ابتعته منك " . فطفق الناس يلوذون بالنبي صلى الله عليه وسلم والأعرابي وهما يتراجعان ، فطفق الأعرابي يقول : هَلُم شهيدًا يشهد أني بايعتك . فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي : ويلك ! إن النبي {[4694]} صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول إلا حقًّا . حتى جاء خزَيْمة ، فاستمع لمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم ومراجعة الأعرابي يقول{[4695]} هلم شهيدًا يشهد أني{[4696]} بايعتك . قال خزيمة : أنا أشهد أنك قد بايعته . فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال : " بم تشهد ؟ " فقال : بتصديقك يا رسول الله . فجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شهادة خُزَيمة بشهادة رجلين .

وهكذا رواه أبو داود من حديث شعيب ، والنسائي من رواية محمد بن الوليد الزبيري{[4697]} كلاهما عن الزهري ، به{[4698]} نحوه .

ولكن الاحتياط هو الإشهاد ، لما رواه الإمامان الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه والحاكم في مستدركه من رواية معاذ بن معاذ العنبري ، عن شعبة ، عن فراس ، عن الشعبي ، عن أبي بُرْدة ، عن أبي موسى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم : رجل له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ، ورجل دفع مال يتيم قبل أن يبلغ ، ورجل أقرض رجلا مالا فلم يُشْهد " .

ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد على شرط الشيخين ، قال : ولم يخرجاه ، لتوقيف أصحاب شعبة هذا الحديث على أبي موسى ، وإنما أجمعوا على سند حديث شعبة بهذا الإسناد : " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين " {[4699]} .

وقوله : { وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ } قيل : معناه : لا يضار الكاتب ولا الشاهد ، فيكتب هذا خلاف ما يملي ، ويشهد هذا بخلاف ما سمع أو يكتمها بالكلية ، وهو قول الحسن وقتادة وغيرهما .

وقيل : معناه : لا يضر بهما ، كما قال ابن أبي حاتم :

حدثنا أسيد بن عاصم ، حدثنا الحسين - يعني ابن حفص - حدثنا سفيان ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مقْسَم ، عن ابن عباس في هذه الآية : { وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ } قال : يأتي الرجل فيدعوهما إلى الكتاب والشهادة ، فيقولان : إنا على حاجة فيقول : إنكما قد أمرتما أن تجيبا . فليس له أن يضارهما .

ثم قال : وروي عن عكرمة ، ومجاهد ، وطاوس ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، وعطية ، ومقاتل بن حَيَّان ، والربيع بن أنس ، والسدي ، نحو ذلك .

وقوله : { وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } أي : إن خالفتم ما أمرتم به ، وفعلتم ما نَهِيتم عنه ، فإنه فسق كائن بكم ، أي : لازم لكم لا تحيدون عنه ولا تنفكون عنه .

وقوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : خافوه وراقبوه ، واتبعوا أمره واتركوا زجره{[4700]} { وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ } كقوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } [ الأنفال : 29 ] ، وكقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ } [ الحديد : 28 ] .

وقوله : { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي : هو عالم بحقائق الأمور ومصالحها وعواقبها ، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء ، بل علمه محيط بجميع الكائنات .


[4669]:في جـ: "أنبأنا".
[4670]:المسند (1/251، 252).
[4671]:زيادة من أ، و.
[4672]:في أ: "بن أبي ذئاب".
[4673]:في جـ، أ: "تمام".
[4674]:المستدرك (1/64، 2/586).
[4675]:في جـ، أ: "أبي حيان".
[4676]:صحيح البخاري برقم (2240) وصحيح مسلم برقم (1604).
[4677]:زيادة من جـ، أ، و.
[4678]:صحيح البخاري برقم (1913) وصحيح مسلم برقم (1080).
[4679]:زيادة من أ، و.
[4680]:المسند (2/348).
[4681]:في جـ، أ، و: "في صحيحه".
[4682]:صحيح البخاري برقم (1498، 2291، 2404، 2430، 2744، 6261، 2063).
[4683]:رواه البخاري في صحيحه برقم (2518) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[4684]:رواه أحمد في المسند (2/304) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4685]:في جـ: "يا رسول الله وما لنا أكثر أهل النار".
[4686]:صحيح مسلم برقم (80).
[4687]:في و: "كشهادة رجل".
[4688]:في جـ: "فقد".
[4689]:في جـ: "فإن دعى إلى الإدلاء بها".
[4690]:في جـ: "وإذا دعيت".
[4691]:صحيح مسلم برقم (1719) وسنن أبي داود برقم (3596) وسنن الترمذي برقم (2295، 2296) وسنن النسائي الكبرى برقم (6029) وسنن ابن ماجة برقم (2364).
[4692]:صحيح البخاري برقم (6428) وصحيح مسلم برقم (2535).
[4693]:في ج: "بلى".
[4694]:في و: "إن رسول الله".
[4695]:في جـ، أ، و: "وطفق الأعرابي يقول".
[4696]:في و: "أني قد".
[4697]:في جـ: "الزبيدي".
[4698]:المسند (5/213) وسنن أبي داود برقم (3607) وسنن النسائي (7/301).
[4699]:المستدرك (2/302).
[4700]:في و: "زواجره".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيۡنٍ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى فَٱكۡتُبُوهُۚ وَلۡيَكۡتُب بَّيۡنَكُمۡ كَاتِبُۢ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَلَا يَأۡبَ كَاتِبٌ أَن يَكۡتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُۚ فَلۡيَكۡتُبۡ وَلۡيُمۡلِلِ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ وَلَا يَبۡخَسۡ مِنۡهُ شَيۡـٔٗاۚ فَإِن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ سَفِيهًا أَوۡ ضَعِيفًا أَوۡ لَا يَسۡتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلۡيُمۡلِلۡ وَلِيُّهُۥ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَٱسۡتَشۡهِدُواْ شَهِيدَيۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ فَإِن لَّمۡ يَكُونَا رَجُلَيۡنِ فَرَجُلٞ وَٱمۡرَأَتَانِ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحۡدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحۡدَىٰهُمَا ٱلۡأُخۡرَىٰۚ وَلَا يَأۡبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْۚ وَلَا تَسۡـَٔمُوٓاْ أَن تَكۡتُبُوهُ صَغِيرًا أَوۡ كَبِيرًا إِلَىٰٓ أَجَلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقۡوَمُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَرۡتَابُوٓاْ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةٗ تُدِيرُونَهَا بَيۡنَكُمۡ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَلَّا تَكۡتُبُوهَاۗ وَأَشۡهِدُوٓاْ إِذَا تَبَايَعۡتُمۡۚ وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٞ وَلَا شَهِيدٞۚ وَإِن تَفۡعَلُواْ فَإِنَّهُۥ فُسُوقُۢ بِكُمۡۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (282)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ } قال ابن عباس رضي الله عنه نزلت هذه الآية في السلم خاصة .

قال القاضي أبو محمد : معناه أن سلم أهل المدينة كان بسبب هذه الآية ، ثم هي تتناول جميع المداينات إجماعاً( {[2759]} ) ، وبين تعالى بقوله : { بدين } ما في قوله : { تداينتم } من الاشتراك ، إذ قد يقال في كلام العرب : تداينوا بمعنى جازى بعضهم بعضاً( {[2760]} ) . ووصفه الأجل بمسمى دليل على أن المجهلة لا تجوز ، فكأن الآية رفضتها ، وإذا لم تكن تسمية وحد فليس أجل ، وذهب بعض الناس إلى أن كتب الديون واجب على أربابها فرض بهذه الآية ، وذهب الربيع إلى أن ذلك وجب بهذه الألفاظ ، ثم خففه الله تعالى بقوله : { فإن أمن بعضكم بعضاً } [ البقرة : 283 ] وقال الشعبي : كانوا يرون أن قوله : { فإن أمن } ناسخ لأمره بالكتب ، وحكى نحوه ابن جريج ، وقاله ابن زيد ، وروي عن أبي سعيد الخدري ، وقال جمهور العلماء : الأمر بالكتب ندب إلى حفظ الأموال وإزالة الريب( {[2761]} ) ، وإذا كان الغريم تقياً فما يضره الكتاب وإن كان غير ذلك فالكتب ثقاف( {[2762]} ) في دينه وحاجة صاحب الحق ، وقال بعضهم : إن أشهدت فحزم ، وإن ائتمنت ففي حل وسعة ، وهذا هو القول الصحيح ، ولا يترتب نسخ في هذا لأن الله تعالى ندب إلى الكتب فيما للمرء أن يهبه ويتركه بإجماع ، فندبه إنما هو على جهة الحيطة للناس ، ثم علم تعالى أنه سيقع الائتمان فقال إن وقع ذلك { فليؤد } [ البقرة : 283 ] الآية ، فهذه وصية للذين عليهم الديون ، ولم يجزم تعالى الأمر نصاً بأن لا يكتب إذا وقع الائتمان ، وأما الطبري رحمه الله فذهب إلى أن الأمر بالكتب فرض واجب وطول في الاحتجاج ، وظاهر قوله أنه يعتقد الأوامر على الوجوب حتى يقوم دليل على غير ذلك .

واختلف الناس في قوله تعالى : { وليكتب بينكم } فقال عطاء وغيره : واجب على الكاتب أن يكتب ، وقال الشعبي وعطاء أيضاً : إذا لم يوجد كاتب سواه فواجب عليه أن يكتب ، وقال السدي : هو واجب مع الفراغ ، وقوله تعالى : { بالعدل } معناه بالحق والمعدلة( {[2763]} ) ، والباء متعلقة بقوله تعالى : { وليكتب } ، وليست متعلقة ب { كاتب } لأنه كان يلزم أن لا كتب وثيقة إلا العدل في نفسه ، وقد يكتبها الصبي والعبد والمسخوط إذا أقاموا فقهها ، أما أن المنتصبين لكتبها لا يتجوز للولاة ما أن يتركوهم إلا عدولاً مرضيين ، وقال مالك رحمه الله : لا يكتب الوثائق من الناس إلا عارف بها عدل في نفسه مأمون ، لقوله تعالى { وليكتب بينكم كاتب بالعدل } ثم نهى الله تعالى الكتاب عن الإباية ، وأبى يأبى شاذ لم يجىء إلا قلى يقلى( {[2764]} ) وأبى يأبى ، ولا يجيء فعل يفعل بفتح العين في المضارع إلا إذا رده حرف حلق ، قال الزجّاج والقول في أبى أن الألف فيه أشبهت( {[2765]} ) الهمزة فلذلك جاء مضارعه يفعل بفتح العين ، وحكى المهدوي عن الربيع والضحاك أن قوله { ولا يأب } منسوخ بقوله

{ لا يضار كاتب ولا شهيد }( {[2766]} ) [ البقرة : 282 ] والكاف في قوله { كما علمه الله } متعلقة بقوله : { أن يكتب } المعنى كتباً كما علمه الله ، هذا قول بعضهم ، ويحتمل أن تكون { كما } متعلقة بما في قوله { ولا يأب } من المعنى أي كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة فلا يأب هو ، وليفضل كما أفضل الله عليه( {[2767]} ) ، ويحتمل أن يكون الكلام على هذا المعنى تاماً عند قوله : { أن يكتب } ، ثم يكون قوله : { كما علمه الله } ابتداء كلام ، وتكون الكاف متعلقة بقوله { فليكتب }( {[2768]} ) .

قال القاضي أبو محمد : وأما إذا أمكن الكتاب فليس يجب الكتب على معين ، ولا وجوب الندب ، بل له الامتناع إلا إن استأجره( {[2769]} ) ، وأما إذا عدم الكاتب فيتوجه وجوب الندب حينئذ على الحاضر( {[2770]} ) ، وأما الكتب في الجملة فندب كقوله تعالى : { وافعلوا الخير }( {[2771]} ) [ الحج : 77 ] وهو من باب عون الضائع .

قوله عز وجل :

{ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ }

أمر الله تعالى الذي عليه الحق بالإملاء( {[2772]} ) ، لأن الشهادة إنما تكون بحسب إقراره ، وإذا كتبت الوثيقة وأقرّ بها فهو كإملاء له . وأمره الله بالتقوى فيما يملي ونهي عن أن { يبخس } شيئاً من الحق ، والبخس النقص بنوع من المخادعة والمدافعة ، وهؤلاء الذين أمروا بالإملاء هم المالكون لأنفسهم إذا حضروا ، ثم ذكر الله تعالى ثلاثة أنواع تقع نوازلهم في كل زمن .

فقال { فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً } وكون الحق يترتب في جهات سوى المعاملات كالمواريث إذا قسمت وغير ذلك( {[2773]} ) ، والسفيه المهلهل الرأي في المال الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء منها ، مشبه بالثوب السفيه وهو الخفيف النسج ، والسفه الخفة ، ومنه قول الشاعر وهو ذو الرمة : [ الطويل ] .

مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ . . . أعالِيهَا مَرُّ الرِّيَاحِ النَّواسِمِ( {[2774]} )

وهذه الصفة في الشريعة لا تخلو من حجر أب أو وصي ، وذلك هو وليه ، ثم قال : { أو ضعيفاً } والضعيف هو المدخول في عقله الناقص الفطرة ، وهذا أيضاً قد يكون وليه أباً أو وصياً ، الذي لا يستطيع أن يمل هو الصغير ، و { وليه } وصيه أو أبوه والغائب عن موضع الإشهاد إما لمرض أو لغير ذلك من العذر ، و { وليه } وكيله ، وأما الأخرس فيسوغ أن يكون من الضعفاء ، والأوْلى أنه ممن لا يستطيع ، فهذه أصناف تتميز ، ونجد من ينفرد بواحد واحد منها ، وقد يجتمع منها اثنان في شخص واحد ، وربما اجتمعت كلها في شخص ، وهذا الترتيب ينتزع من قول مالك وغيره من العلماء الحذاق ، وقال بعض الناس : السفيه الصبي الصغير ، وهذا خطأ ، وقال قوم الضعيف هو الكبير الأحمق ، وهذا قول الحسن ، وجاء الفعل مضاعفاً في قوله : { أن يمل } لأنه لو فك لتوالت حركات كثيرة ، والفك في هذا الفعل لغة قريش .

و { بالعدل } معناه بالحق وقصد الصواب ، وذهب الطبري إلى أن الضمير في { وليه } عائد على { الحق } ، وأسند في ذلك عن الربيع وعن ابن عباس .

قال القاضي أبو محمد : وهذا عندي شيء لا يصح عن ابن عباس ، وكيف تشهد على البينة على شيء وتدخل مالاً في ذمة السفيه بإملاء الذي له الدين ؟ هذا شيء ليس في الشريعة ، والقول ضعيف إلا أن يريد قائله أن الذي لا يستطيع { أن يمل } بمرضه إذا كان عاجزاً عن الإملاء فليمل صاحب الحق بالعدل ويسمع الذي عجز ، فإذا كمل الإملاء أقر به ، هذا معنى لم تعن( {[2775]} ) الآية إليه ، ولا يصح هذا إلا فيمن لا يستطيع أن يمل بمرض .

{ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى }

الاستشهاد : طلب الشهادة( {[2776]} ) وعبر ببناء( {[2777]} ) مبالغة في { شهيدين } دلالة على من قد شهد وتكرر ذلك منه ، فكأنها إشارة إلى العدالة : وقوله تعالى : { من رجالكم } نص في رفض الكفار والصبيان والنساء ، وأما العبيد فاللفظ يتناولهم . واختلف العلماء فيهم فقال شريح وإسحاق بن راهويه( {[2778]} ) وأحمد بن حنبل : شهادة العبد جائزة إذا كان عدلاً ، وغلبوا لفظ الآية . وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور العلماء : لا تجوز شهادة العبد ، وغلبوا نقص الرق( {[2779]} ) ، واسم كان الضمير الذي في قوله { يكونا } .

والمعنى في قول الجمهور ، فإن لم يكن المستشهد رجلين أي إن أغفل ذلك صاحب الحق أو قصده لعذر ما ، وقال قوم : بل المعنى فإن لم يوجد رجلان ، ولا يجوز استشهاد المرأتين إلا مع عدم الرجال ، وهذا قول ضعيف ، ولفظ الآية لا يعطيه بل الظاهر منه قول الجمهور( {[2780]} ) ، وقوله : { فرجل وامرأتان } مرتفع بأحد ثلاثة أشياء ، إما أن يقدر( {[2781]} ) فليستشهد رجل وامرأتان ، وإما فليكن رجل وامرأتان ويصح أن تكون { يكونا } هذه التامة والناقصة ، ولكن التامة أشبه ، لأنه يقل الإضمار ، وإما فرجل وامرأتان يشهدون ، وعلى كل وجه فالمقدر هو العامل في قوله : { أن تضل إحداهما } وروى حميد بن عبد الرحمن عن بعض أهل مكة أنهم قرؤوا «وامرأْتان » بهمز الألف ساكنة .

قال ابن جني : لا نظير لتسكين الهمزة المتحركة على غير قياس وإنما خففوا الهمزة( {[2782]} ) فقرب من الساكن ، ثم بالغوا في ذلك فصارت الهمزة ألفاً ساكنة كما قال الشاعر : [ الطويل ] .

يقولون جهلاً لَيْسَ للشَّيخَ عَيِّلٌ . . . لَعَمْري لَقَدْ أعْيَلْتَ وَأن رَقُوب( {[2783]} )

يريد «وأنا » ، ثم بعد ذلك يدخلون الهمزة على هذه الألف كما هي . وهي ساكنة وهي هذا نظر ، ومنه قراءة ابن كثير «عن ساقيها »( {[2784]} ) وقولهم يا ذو خاتم قال أبو الفتح : فإن قيل شبهت الهمزة بالألف في أنها ساوتها في الجهر والزيادة والبدل والحذف وقرب المخرج وفي الخفاء فقول مخشوب( {[2785]} ) لا صنعة فيه ، ولا يكاد يقنع بمثله ، وقوله تعالى : { ممن ترضون من الشهداء } رفع في موضع الصفة لقوله عز وجل : { فرجل وامرأتان }( {[2786]} ) .

قال أبو علي : ولا دخل في هذه الصفة قوله : { شهيدين } اختلاف الإعراب .

قال القاضي أبو محمد : وهذا حكم لفظي ، وأما المعنى فالرضى شرط في الشهيدين كما هو في الرجل والمرأتين .

قال ابن بكير وغيره : قوله { ممن ترضون } مخاطبة للحكام .

قال القاضي أبو محمد : وهذا غير نبيل ، إنما الخطاب لجميع الناس ، لكن المتلبس بهذه القضية إنما هم الحكام ، وهذا( {[2787]} ) كثير في كتاب الله يعم الخطاب فيما يتلبس به البعض ، وفي قوله : { ممن ترضون } دليل على أن في الشهود من لا يرضى ، فيجيء من ذلك أن الناس ليسوا بمحمولين على العدالة حتى تثبت لهم . وقرأ حمزة وحده : «إن تَضِل » بكسر الألف وفتح التاء وكسر الضاد «فتذَكَرُ » بفتح الذال ورفع الراء وهي قراءة الأعمش ، وقراها الباقون «أن تضل » بفتح الألف «فتذكرَ » بنصب الراء . غير أن ابن كثير وأبا عمرو خففا الذال والكاف ، وشددها الباقون( {[2788]} ) ، وقد تقدم القول فيما هو العامل في قوله : { أن تضل }( {[2789]} ) ، و { أن } مفعول من أجله( {[2790]} ) والشهادة لم تقع لأن تضل إحداهما . وإنما وقع إشهاد امرأتين لأن تذكر إحداهما إن ضلت الأخرى . قال سيبويه : وهذا كما تقول : أعددت هذه الخشبة أن يميل هذا الحائط فأدعمه( {[2791]} ) .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ولما كانت النفوس مستشرقة إلى معرفة أسباب الحوادث ، قدم في هذه العبارة ذكر سبب الأمر المقصود أن يخبر به( {[2792]} ) ، وفي ذلك سبق النفوس إلى الإعلام بمرادها ، وهذا من أبرع أنواع الفصاحة ، إذ لو قال رجل لك : أعددت هذه الخشبة أن أدعم بها الحائط ، لقال السامع : ولم تدعم حائطاً قائماً ؟ فيجب ذكر السبب فيقال : إذا مال . فجاء في كلامهم تقديم السبب أخصر من هذه المحاورة . وقال أبو عبيد : معنى { تضل } تنسى .

قال القاضي أبو محمد : والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء . ويبقى المرء بين ذلك حيران ضالاً ، ومن نسي الشهادة جملة فليس يقال : ضل فيها( {[2793]} ) ، فأما قراءة حمزة فجعل { أن } الجزاء ، والفاء في قوله { فتذكر } جواب الجزاء ، وموضع الشرط وجوابه رفع بكونه صفة للمذكور ، وهما المرأتان ، وارتفع «تذكر » كما ارتفع قوله تعالى :

{ ومن عاد فينتقم الله منه }( {[2794]} ) [ المائدة : 95 ] هذا قول سيبويه .

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر( {[2795]} ) ، وأما نصب قوله «فتذكرَ » على قراءة الجماعة فعلى العطف على الفعل المنصوب ب { أن } ، وتخفيف الكاف على قراءة أبي عمرو وابن كثير هو بمعنى تثقيله من الذكر ، يقال : ذكروأذكر ُتعديه بالتضعيف أو بالهمز ، وروي عن أبي عمرو بن العلاء وسفيان بن عيينة( {[2796]} ) أنهما قالا : معنى قوله : «فتذكر » بتخفيف الكاف أي تردها ذكراً في الشهادة ، لأن شهادة امرأة نصف شهادة ، فإذا شهدتا صار مجموعهما كشهادة ذكر ، وهذا تأويل بعيد ، غير فصيح ، ولا يحسن في مقابلة الضلال إلا الذكر ، وذكرت بشد الكاف يتعدى إلى مفعولين ، وأحدهما في الآية محذوف ، تقديره فتذكر إحداهما الأخرى «الشهادة » ، التي ضلت عنها ، وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر : «أن تُضَل » بضم التاء وفتح الضاد بمعنى تنسى ، هكذا حكى عنهما أبو عمرو الداني ، وحكى النقاش عن الجحدري ضم التاء وكسر الضاد بمعنى أن تضل الشهادة ، تقول : أضللت الفرس والبعير إذا تلفا لك وذهبا فلم تجدهما ، وقرأ حميد بن عبد الرحمن ومجاهد «فتذكِرُ » بتخفيف الكاف المكسورة ورفع الراء ، وتضمنت هذه الآية جواز شهادة امرأتين بشرط اقترانهما برجل( {[2797]} ) ، واختلف قول مالك في شهادتهما ، فروى عنه ابن وهب أن شهادة النساء لا تجوز إلا حيث ذكرها الله في الدين ، أو فيما يطلع عليه أحد إلا هن للضرورة إلى ذلك ، وروى عنه ابن القاسم أنها تجوز في الأموال والوكالات على الأموال وكل ما جر إلى مال ، وخالف في ذلك أشهب وغيره ، وكذلك إذا شهدن على ما يؤدي إلى غير مال ، ففيها قولان في المذهب .

قوله عز وجل :

{ وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ }

قال قتادة والربيع وغيرهما : معنى الآية : إذا دعوا أن يشهدوا فيتقيد حق بشهادتهم ، وفي هذا المعنى نزلت ، لأنه كان يطوف الرجل في القوم الكثير يطلب من يشهد له فيتحرجون هم عن الشهادة فلا يقوم معه أحد ، فنزلت الآية في ذلك ، وقال الحسن بن أبي الحسن : الآية جمعت أمرين : لا تأب إذا دعيت إلى تحصيل الشهادة ، ولا إذا دعيت إلى أدائها ، وقاله ابن عباس ، وقال مجاهد : معنى الآية ، لا تأب إذا دعيت إلى أداء شهادة قد حصلت عندك ، وأسند النقاش إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الآية بهذا ، قال مجاهد : فأما إذا دعيت لتشهد أولاً ، فإن شئت فاذهب ، وإن شئت فلا تذهب( {[2798]} ) ، وقاله لاحق بن حميد( {[2799]} ) وعطاء وإبراهيم وابن جبير والسدي وابن زيد وغيرهم .

قال القاضي أبو محمد : والآية كما قال الحسن جمعت أمرين على جهة الندب ، فالمسلمون مندوبون إلى معونة إخوانهم ، فإذا كانت الفسحة لكثرة الشهود والامن من تعطيل الحق فالمدعو مندوب ، وله أن يتخلف لأدنى عذر وإن تخلف لغير عذر فلا إثم عليه ولا ثواب له ، وإذا كانت الضرورة وخيف تعطل الحق أدنى خوف قوي الندب وقرب من الوجوب ، وإذا علم أن الحق يذهب ويتلف بتأخر الشاهد عن الشهادة فواجب عليه القيام بها ، لا سيما إن كانت محصلة ، وكان الدعاء إلى أدائها ، فإن هذا الظرف آكد لأنها قلادة في العنق وأمانة تقتضي الأداء ، { ولا تسأموا } معناه تملوا ، و { صغيراً أو كبيراً } حالان من الضمير في { تكتبوه } ، وقد الصغير اهتماماً به ، وهذا النهي الذي جاء عن السآمة إنما جاء لتردد المداينة عندهم( {[2800]} ) ، فخيف عليهم أن يملوا الكتب( {[2801]} ) و { أقسط } معناه أعدل ، وهذا أفعل من الرباعي وفيه شذوذ( {[2802]} ) ، فانظر هل هو من قسُط بضم السين ؟ كما تقول : «أكرم » من «كرُم » يقال : { أقسط } بمعنى عدل وقسط بمعنى جار ، ومنه قوله تعالى :

{ وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً }( {[2803]} ) [ الجن : 15 ] ومن قدر قوله تعالى : { وأقوم للشهادة } بمعنى وأشد إقامة فذلك أيضاً أفعل من الرباعي ، ومن قدرها من قام بمعنى اعتدل زال عن الشذوذ ، { وأدنى } معناه أقرب ، و { ترتابوا } معناه ، تشكوا وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «يسأموا » و «يكتبوا » و «يرتابوا » كلها بالياء على الحكاية عن الغائب .

قوله عز وجل :

{ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .

لما علم الله تعالى مشقة الكتاب عليهم نص على ترك ذلك ورفع الجناح فيه في كل مبايعة بنقد( {[2804]} ) ، وذلك في الأغلب إنما هو في قليل كالمطعوم ونحوه في كثير كالأملاك ونحوها . وقال السدي والضحاك : هذا فيما كان يداً بيد تأخذ وتعطي ، وأن في موضع نصب على الاستثناء المنقطع ، وقول تعالى : { تديرونها بينكم } يقتضي التقابض والبينونة بالمقبوض ، ولما كانت الرباع والأرض وكثير من الحيوان لا تقوى( {[2805]} ) البينونة به ولا يعاب عليه حسن الكتب فيها ولحقت في ذلك بمبايعة الدين وقرأ عاصم وحده «تجارةً » نصباً ، وقرأ الباقون «تجارةٌ » رفعاً ، قال أبو علي وأشك في ابن عامر ، وإذا أتت بمعنى حدث ووقع غنيت عن خبر ، وإذا خلع منها معنى الحدوث لزمها الخبر المنصوب ، فحجة من رفع تجارة إن كان بمعنى حدث ووقع ، وأما من نصب فعلى خبر كان ، والاسم مقدر تقديره عند أبي علي إما المبايعة التي دلت الآيات المتقدمة عليها ، وإما { إلا أن تكون } التجارة { تجارة } ، ويكون ذلك مثل قول الشاعر : [ الطويل ] .

فدىً لبني ذُهْلِ بنِ شَيْبَانَ نَاقتي . . . إذا كَانَ يَوْماً ذَا كَوَاكِبَ أَشْنَعَا

أي إذا كان اليوم يوماً .

قال القاضي أبو محمد : هكذا أنشد أبي علي البيت ، وكذلك أبو العباس المبرد ، وأنشده الطبري : [ الطويل ]

ولله قومي أيُّ قومٍ لحرّةٍ . . . إذَا كَان يوماً ذا كَوَاكِبَ أَشْنَعَا( {[2806]} )

وأنشده سيبويه بالرفع إذا كان يوم ذو كواكب .

وقوله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } قال الطبري معناه وأشهدوا على صغير ذلك وكبيره ، واختلف الناس هل ذلك على الوجوب أو على الندب ؟ فقال الحسن والشعبي وغيرهما : ذلك على الندب ، وقال ابن عمرو والضحاك : ذلك على الوجوب ، وكان ابن عمر يفعله في قليل الأشياء وكثيرها ، وقاله عطاء ورجح ذلك الطبري .

قال القاضي أبو محمد : والوجوب في ذلك قلق أما في الدقائق فصعب شاق وأما ما كثر فربما يقصد التاجر الاستيلاف بترك الإشهاد ، وقد يكون عادة في بعض البلاد ، وقد يستحيي من العالم والرجل والكبير الموقر فلا يشهد عليه ، فيدخل ذلك كله في الائتمان ، ويبقى الأمر بالإشهاد ندباً لما فيه من المصلحة في الأغلب ما لم يقع عذر يمنع منه كما ذكرنا .

وحكى المهدي عن قوم أنهم قالوا : { وأشهدوا إذا تبايعتم } منسوخ بقوله { فإن أمن } [ البقرة : 283 ] ، وذكره مكي عن أبي سعيد الخدري .

واختلف الناس في معنى قوله تعالى : { ولا يضار كاتب ولا شيهد } فقال الحسن وقتادة وطاوس وابن زيد وغيرهم . المعنى ولا يضار الكاتب بأن يكتب ما لم يمل عليه ولا يضار الشاهد بأن يزيد في الشهادة أو ينقص منها ، وقال مثله ابن عباس ومجاهد وعطاء إلا أنهم قالوا : لا يضار الكاتب والشاهد بأن يمتنعا .

قال القاضي أبو محمد : ولفظ الضرر يعم هذا والقول الأول ، والأصل في يضار على هذين القولين «يضارِر » بكسر الراء ثم وقع الإدغام وفتحت الراء في الجزم لخفة الفتحة ، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد والضحاك والسدي وطاوس وغيرهم : معنى الآية { ولا يضار كاتب ولا شهيد } بأن يؤذيه طالب الكتبة أو الشهادة فيقول اكتب لي أو اشهد لي في وقت عذر أو شغل للكتب أو الشاهد فإذا اعتذرا بعذرهما حرج وآذاهما ، وقال خالفت أمر الله ونحو هذا من القول ، ولفظ المضارة إذا هو من اثنين يقتضي هذه المعاني كلها( {[2807]} ) ، والكاتب والشهيد على القول الأول رفع بفعلهما وفي القول الثاني رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله ، وأصل { يضار } على القول الثاني «يضارَر » بفتح الراء ، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن ابن مسعود ومجاهد أنهم كانوا يقرؤون «ولا يضارَر » بالفك وتفح الراء الأولى ، وهذا على معنى ، أن يبدأهما بالضرر طالب الكتبة والشهادة ، وذكر ذلك الطبري عنهم في ترجمة هذا القول وفسر القراءة بهذا المعنى فدل ذلك على أن الراء الأولى مفتوحة كما ذكرنا ، وحكى أبو عمرو الداني عن عمر بن الخطاب وابن عباس وابن أبي إسحاق ومجاهد أن الراء الأولى مكسورة ، وحكى عنهم أيضاً فتحها ، وفك الفعل هي لغة أهل الحجاز والإدغام لغة تميم ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وعمرو بن عبيد «ولا يضارْ » بجزم الراء ، قال أبو الفتح : تسكين الراء مع التشديد فيه نظر ، ولكن طريقه أجرى الوصل مجرى الوقف ، وقرأ عكرمة «ولا يضارر » بكسر الراء الأولى «كاتباً ولا شهيداً » بالنصب أي لا يبدأهما صاحب الحق بضرر ، ووجوه المضارة لا تنحصر ، ورى مقسم( {[2808]} ) عن عكرمة أنه قرأ «ولا يضارُ » بالإدغام وكسر الراء للالتقاء ، وقرأ ابن محيصن «ولا يضارِ » برفع الراء مشددة ، قال ابن مجاهد( {[2809]} ) : ولا أدري ما هذه القراءة ؟

قال أبو الفتح هذا الذي أنكره ابن مجاهد معروف ، وذلك على أن تجعل { لا } نفياً أي ليس ينبغي أن يضار كما قال الشاعر : [ الطويل ]

على الْحَكَم الْمَأْتِيّ يوماً إذَا انْقَضَى . . . قَضيَّتَهُ أَنْ لاَ يَجُوزَ وَيَقْصِدُ( {[2810]} )

فرفع ويقصد على إرادة وينبغي أن يقصد فكذلك يرتفع «ولا يضارُّ » على معنى وينبغي أن لا يضار ، قال : وإن شئت كان لفظ خبر على معنى النهي .

قال القاضي أبو محمد : وهذا قريب من النظر الأول .

وقوله تعالى : { وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم } من جعل المضارة المنهي عنها زيادة الكاتب والشاهد فيما أملي عليهما أو نقصهما منه فالفسوق على عرفه في الشرع وهو مواقعة الكبائر ، لأن هذا من الكذب المؤذي في الأموال والأبشار ، وفيه إبطال الحق ، ومن جعل المضارة المنهي عنها أذى الكتاب والشاهد بأن يقال لهما : أجيبا ولا تخالفا أمر الله أو جعلها امتناعهما إذا دعيا ، فالفسوق على أصله في اللغة الذي هو الخروج من شيء كما يقال فسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها ، وفسقت الرطبة( {[2811]} ) فكأن فاعل هذا فسق عن الصواب والحق في هذه النازلة ، ومن حيث خالف أمر الله في هذه الآية فيقرب الأمر من الفسوق العرفي في الشرع ، وقوله { بكم } تقديره فسوق حال بكم ، وباقي الآية موعظة وتعديد نعمه والله المستعان والمفضل لا رب غيره( {[2812]} ) ، وقيل إن معنى الآية الوعد بأن من اتقى علم الخير وألهمه( {[2813]} ) .


[2759]:- سواء كانت من قرض أم ثمن بيع كالسَّلم- والسَّلم بيع معلوم في الذمة محصور بالصفة – بعين حاضرة أو ما هو في حكمها إلى أجل معلوم.
[2760]:- ومنه قولهم: كما يدين الفتى يُدان.
[2761]:- يعني أن الأمر ندب وإرشاد إلى حفظ الأموال وصيانتها، وذهب الإمام الطبري ومن معه إلى أن الأمر للوجوب، وذلك رأيه في الأمر حتى يأتي ما يدل على خلافه، والصحيح أن الأمر للإرشاد كا لابن عطية وابن العربي رحمهما الله، إذ لو كانت الكتابة واجبة ما صح أخذ الأجرة عليها، وجواز أخذ الأجرة على كتب الوثيقة لا خلاف فيه، ولو كانت واجبة ما صح إسقاطها، كما يأتي في قوله تعالى: [فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمِن أمانته].
[2762]:- والثقاف هو الآلة التي تعض الرماح وتقبضها لتقويمها، والكتاب قابض على الدين وحافظ له كالثقاف للرماح.
[2763]:- بحيث لا يزيد ولا ينقص، أي لا يبدِّل ولا يغير، بل يكتب ما أُملي عليه من دون تصرف فيه.
[2764]:- في لسان العرب: "قال يعقوب: "أبى يأبى نادر" – وقال سيبويه: «شبهوا الألف بالهمزة في قرأ يقرأ». وقال أحمد بن يحيى: «لم يسمع من العرب فعَل يفعَل مما ليس عينه ولامه من حروف الحلق إلا أبى يأبى، وقلاه يقلاه، وغشى يغشى، وشجا يشجى».
[2765]:- قال في المصباح: وبناء أبى شاذ، لأن باب فعل يفعل بفتحتين أن يكون حلقي العين أو اللام، ولم يأت من حلقي الفاء إلا أبا يأبى وعضّ يعضُّ في لغة وأثَّ الشعر يأث إذا كثر والتف، وربما جاء في غير ذلك». انتهى. وحروف الحلق هي: الهمزة والهاء والحاء والخاء والعين والغين، والذي يوجب فتح العين من المضارع هو أن تكون عينه أو لامه حلقية، وأما إذا كان حرف الحلق في أوله فلا يوجب ذلك، لأنه في المضارع يسكن فيخف النطق به، وحروف الحلق إنما أوجبت الفتح لثقلها، وقال الزجاج: إن الألف في أبى – وهي لام الكلمة – أشبهت الهمزة فلذلك جاء المضارع على يفعل بفتح العين.
[2766]:- هذا مبني على وجوب الكتابة وحرمة الإباية.
[2767]:- الكاف على هذا الاحتمال تعليلية، والاحتمال الأول أحسن الاحتمالات.
[2768]:- غير ظاهر لوجود الفاء بعده، ولأنه لو كان متعلقا بقوله: [فليكتب] لكان النظم: «فليكتب كما علمه الله»، ولا يُصار إلى تقديم ما هو متأخر في المعنى.
[2769]:- يعني أن ما سبق من وجوب الكتابة على الكاتب إذا لم يوجد غيره، وأما إذا وجد الكتبة فلا تجب على معين، وفي بعض النسخ: قال القاضي أبو محمد رحمه الله: أما إذا أمكن الخ.
[2770]:- أي يتأكد وجوب الندب عليه.
[2771]:- من الآية (77) من سورة الحج.
[2772]:- يقال أمللت، وأمليت بمعنى، فهما لغتان موجودتان في القرآن. الأولى جاءت في هذه الآية والأخرى في قوله تعالى: [وقالوا أساطير الأولين اكْتَتَبَهَا فهي تُملي عليه بكرة وأصيلا].
[2773]:- عبارة أبي حيان نقلا عن ابن عطية: «ذكر تعالى ثلاثة أنواع تقع نوازلهم في كل زمان، ويترتب الحق لهم في كل جهات سوى المعاملات كالمواريث إذا قسمت وغير ذلك» ا هـ. نميل إلى أن يكون الكلام كما نقله أبو (ح) – عن ابن عطية كالآتي: «ثم ذكر الله تعالى ثلاثة أنواع تقع نوازلهم في كل زمن، ويترتب الحق في كل جهات سوى المعاملات كالمواريث إذا قسمت وغير ذلك. فقال: [فإن كان الذي عليه الحق سفيها] – والسفيه: المهلهل الرأي – الخ».
[2774]:- جاء في اللسان: السفه: الخفة، وثوب سفيه: لهْلَهٌ سخيف – وتسفهت الرياح: اضطربت: وتسفهت الريح الغصون: حركتها واستخفتها، ثم ذكر هذا البيت شاهداً على ما يقول.
[2775]:- أي: لم تتعرض له ولم تقصده.
[2776]:- أمر بالإشهاد بعد الأمر بالكتابة لمزيد التوثق والاحتياط في الحقوق، فالكتابة والشهادة وظيفتان قد تجتمعان في شخص، وقد يكتب أحدهما ويشهد الآخر، وفي الآية الكريمة إشارة إلى ذكر الحجة التامة وهي رجلان أو رجل وامرأتان، وأما اليمين مع الشاهد أو مع النكول فليست بتامة، والمراد الحجة في الديون والأموال.
[2777]:- يعني أن بناء المبالغة الدال على تكرر الشهادة يشير إلى شرط العدالة إذ لا تتكرر الشهادة عند الحكام إلا وهو مقبول عندهم، وكأنه قيل: واستشهدوا عدلين من رجالكم.
[2778]:- إسحق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي، أبو يعقوب بن راهويه – عالم خراسان، وأحد كبار الحفاظ، أخذ عنه أحمد بن حنبل والبخاري ومسلم والترمذي – قيل: إن أباه ولد في طريق مكة فقال أهل مرو: راهويه – أي ولد في الطريق. توفي 238هـ. عن "الأعلام".
[2779]:- أي لنقص الرقيق، والنفس من شأنها أن تخضع للكامل دون الناقص.
[2780]:- خلاصة كلامه أن الضمير – على قول الجمهور – اسم كان، ورجلين خبرها، وعلى قول الآخرين كان تامة والضمير فاعل، ورجلين حال، أي فإن لم يكن الشهيدان بهذه الصفة فرجل وامرأتان، والتفسير جار على حسب المعنى لا على حسب حكم اللفظ.
[2781]:- الخلاصة أنه إما أن يكون قوله تعالى: [فرجل وامرأتان] نائبا عن الفاعل، أو فاعلا، أو مبتدأ خبره محذوف.
[2782]:- لكثرة توالي الحركات.
[2783]:- يقال: عال عَيْلَةً وعَيْلا: افتقر – و: كثر عياله فهو عائل – وهو عيِّلٌ أيضا – قال الشاعر: سلامٌ على يحْيَى، ولا يُرْجَ عِنْـدَه ولاءٌ، وإن أزرى بعيِّله الفقـر أي: بعياله – والرَّقوب: الذي لا يبقى له ولد – يقال للرجل والمرأة.
[2784]:- في سورة النمل في قصة بلقيس ونص الآية: [قيل لها ادخلي الصرح فلمّا رأته حسبته لُجّة وكشفت عن ساقيها] الآية (44) – ومثل قوله [سأْقَيْهَا] بهمز الألف ساكنة قولهم: الخأْتم والعأْلم.
[2785]:- أي: غير مرضي ولا مقبول لما فيه من الخلط، قال ابن خالويه: مشبه بالجفنة المخشونة وهي التي لم تحكم صنعتها.
[2786]:- وقيل: هو بدلٌ من قوله تعالى: [رجالكم] على تكرير العامل – قال أبو (ح) عن هذين الإعرابين: "وهما ضعيفان"، لأن الوصف يشعر باختصاصه بالموصوف، فيكون قد انتفى هذا الوصف عن [شهيدين] – ولأن البدل يؤذن بالاختصاص بالشهيدين الرجلين، فعرى عنه: [رجل وامرأتان] – والذي يظهر أنه متعلق بقوله: [واستشهدوا]، أي: واستشهدوا ممن ترضون من الشهداء ليكون قيدا في الجميع، ولذلك جاء متأخرا بعد ذكر الجميع». البحر المحيط 2- 347.
[2787]:- أي كون الخطاب عاما ويتلبس به بعض الناس كأحكام المباشرين للقضايا.
[2788]:- يريد بتخفيف الذال أن تكون ساكنة – أما قوله: «وشدَّدها الباقون» فالضمير عائد على الكاف وحدها. والله أعلم.
[2789]:- في قول ابن عطية: وعلى كل وجه فالمقدر هو العامل في قوله: [أن تضِلّ أحداهما] عند إعراب [فرجل وامرأتان]، وهذه على قراءة [أن تضلا إحداهما] بفتح الهمزة، وهو تعليل لاعتبار العدد في النساء، أي: فليشهد رجل وتشهد امرأتان عوضا عن الرجل الآخر لأجل تذكير إحداهما للأخرى إذا ضلت.
[2790]:- تقديره عند الكوفيين: لئلا تضل إحداهما، الخ. ويرد عليهم [فتذكر إحداهما] بالنصب، إذ يصير التقدير: لئلا تضل، ولئلا تذكر. وتقديره عند البصريين: كراهية أو إرادة أن تضل، ويرد عليهم أيضا قوله تعالى: [فتذكر] بالنصب، فإن حكمه حكم المعطوف، فيكون التذكير مكررها، وإن قدروا الإرادة كان الضلال مراداً. والجواب عن هذا كله أن الكلام محمول على المعني كما قالوا لأن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت. وعدل النساء كعدل الرجال إلا أن عقلهن ينقص عن عقل الرجال كما قال صلى الله عليه وسلم، وشهادة امرأتين بشهادة رجل دليل على ذلك، لأن استشهاد امرأتين مكان رجل هو من أجل إذكار إحداهما الأخرى إذا ضلت، وهذا إنما يكون فيمن يكثر نسيانه ويقل ضبطه.
[2791]:- فالقائل لا يطلب بذلك ميلان الحائط، ولكنه أخبر بعلة الدعم وسببه من قبل، فالكلام محمول على المعنى.
[2792]:- لما بين السبب والمسبب من الاتصال والملابسة – ثم إن الحكمة في تكرير [إحداهما] في الآية إفادة تذكرة الذاكرة للغافلة، وتذكرة الغافلة للذاكرة أيضا لو انقلبت الحال فيهما بأن نذكر الغافلة وتغفل الذاكرة – وذلك غاية في البيان، ولو قيل: فتذكرها الأخرى لكان البيان من جهة واحدة لتذكرة الذاكرة الناسية، قاله ابن العربي، وحاصله أن الفاعل وقع مبهما أولا وثانيا وهو [إحداهما] لإفادة أن كلا من المرأتين يجوز عليها الضلال والإذكار، فلم يرد بإحداهما معينة، وبذلك دخل الكلام معنى العموم، وكأنه قيل: من ضلت منهما أذكرتها الأخرى، فالإظهار خير من الإضمار ليحتمل القول كليهما، وأما الإضمار فيدل على تعيين واحدة منهما.
[2793]:- يرده ما في نهاية ابن الأثير وغيرها من إطلاق الضال على الناس مطلقا، والله أعلم.
[2794]:- من الآية (95) من سورة المائدة.
[2795]:- لعل تنظير قراءة الرفع بقوله تعالى: [ومن عاد فينتقم الله منه] إنما هو من جهة تقدير ضمير بعد الفاء بحسب ما يقتضيه المقام لا من جهة كونه مفردا أو مثنى، أي فهي تذكر أو فهما تذكر إحداهما الأخرى، تأمل، والله أعلم.
[2796]:- سفيان بن عيينة بن ميمون الهلالي الكوفي –أبو محمد- كان حافظا ثقة، قال الشافعي: لولا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز، له "الجامع" في الحديث، وكتاب في التفسير. الأعلام 3-159، وابن خلكان 1-210 وتذكرة الحفاظ 1-242
[2797]:- وأما امرأتان من دون رجل فلا تجوز إلا فيما لا يطلع عليه غيرهن للضرورة كالولادة، وذهب مالك والشافعي رحمهما الله تعالى، إلى أن المدعي كما يحلف مع الشاهد الواحد كذلك يحلف مع المرأتين، لأن الله جعل المرأتين في هذه الآية كالرجل، وليس في الآية ما يمنع ذلك.
[2798]:- يفهم من كلام ابن عطية أن مجاهدا حمل الآية على الأداء، وأن الحسن البصري حملها على التحمل والأداء جميعا – فإذا كانت الشهادة للأداء فواجب على الشهداء أن يؤدوا ما عندهم من العلم بها لأنها أمانة في عنقهم – وإذا كانت للتحمل فلهم أن يجيبوا، ولهم ألا يجيبوا، اللهم إلا إذا علم أن الحق يذهب ويضيع فيجب عليهم أن يقوموا بالشهادة، وأما الحسن البصري فإنه يقول بإجابة الدعاء إلى التحمل، إلا أن الشهيد لا يسمى شهيدا على الحقيقة إلا إذا حصلت الشهادة عنده، وقد يقال حملها على التحمل أولى، لأن الأداء مبين بقوله تعالى: [ومن يكتبها فإنه آثم قلبه] – والله أعلم.
[2799]:- لاحق بن حميد هو أبو مجلز السدوسي البصري التابعي المتوفي في خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
[2800]:- أي: لتكررها وكثرتها.
[2801]:- قوله تعالى في هذه الآية: [إلى أجله] لا يصح أن يتعلق بقوله: [أن تكتبوه] لعدم استمرار الكتابة إلى أجل الدين، إذ أنها تنقضي في زمن وجيز، وليس ذلك نظير قولنا مثلا: «سرت إلى الكوفة» لأن السير يستمر حتى تصل إلى الكوفة – وإنما هو متعلق بمحذوف، ويكون التقدير: «ولا تسأموا أن تكتبوه مستقرا في الذمة إلى أجله».
[2802]:- نصُّوا على أن قسط الثلاثي تأتي بمعنى: عدل، وبمعنى: جار، ونص سيبويه على أن أفعل التفضيل يأتي من أفعل الرباعي، وعليه فأقسط وأقوم إما من قسط وقام، وإمّا من أقسط وأقام، وعلى هذا فلا شذوذ. وإن أردت مزيداً من التفصيل والآراء فارجع إلى البحر المحيط. 2-351، 352.
[2803]:- الآية (10) من سورة الجن.
[2804]:- يشير إلى أن الاستثناء من قوله تعالى: [فاكتبوه]. وما بين المستثنى والمستثنى منه كله اعتراض.
[2805]:- في بعض النسخ "لا تقبل البينونة" بدلا من قوله: لا تقوى البينونة، وترجع إلى الأرض والرباع. «ولا يغاب عليه» يرجع إلى «الكثير من الحيوان». وهي متفقة مع عبارة القرطبي، أما التعبير بقوله: «لا تقوى البينونة به» فقد ورد في البحر المحيط» - والمعنى: لا يقوى على البينونة ولا على الغياب عليه – لكن جملة: «ولا يغاب عليه» وردت في البحر: «ولا يعاب عليها حسن الكتب» - وكل ذلك من سهو النساخ – والله أعلم.
[2806]:- الشاعر هو: مقاس العابدي واسمه: مسهر بن النعمان، وهو من قريش – نزل في بني ذهل بن شيبان (واليوم يوم الحرب) ووصفه بقوله: ذا كواكب، إشارة إلى أنه يوم مظلم كالليل الذي ترى فيه الكواكب، والشناعة: القبح، ومنهم من أنشد البيت هكذا: بني أسدٍ، هل تعلمون بلاءنَا إذا كان يوما ذا كواكب أشْنَعَا ؟ وقد نسبوه إلى عمرو بن شاس، وقد أنشده سيبويه بالرفع – وأنشده الطبري – كما ذكر ابن عطية هكذا. ولله قومي، أيّ قوم لحـرَّةٍ إذا كان يوما ذا كواكب أشْنَعَـا
[2807]:- خلاصة ذلك أن المفسرين اتفقوا على إسناد الضرر إلى الكاتب والشهيد، واختلفوا في تفسير الضرر. وقول ابن عطية: «وقال: خالفت أمر الله». وردت هكذا بالنسخ التي بين أيدينا – لكن القرطبي عبر بقوله: «خالفتما» وهو الأصح لأن الضمير يعود على الكاتب والشهيد إذا اعتذرا.
[2808]:- مِقْسم كمِنبر. يقال له مولى ابن عباس – ولم يكن مولاه – لملازمته إياه. توفي سنة 101هـ.
[2809]:- هو مقرئ العراق أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد، توفي سنة 324هـ. عن ثمانين سنة.
[2810]:- قيل هو أبو اللحام التغلبي، وقيل عبد الرحمن بن الحكم، والصحيح الأول ما قاله صاحب اللسان.
[2811]:- وفسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها أيضا.
[2812]:- كان مالك بن دينار البصري التابعي رحمه الله يقول: جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم، فالتقوى جهاد، وجهاد الأهواء أشق من جهاد الأعداء.
[2813]:- التقوى لها موضعان: الأول اتقاء الكفر والشرك، والاعتراف برسالة الله، وبذلك تكون الاستجابة إلى الإسلام. والموضع الثاني: اتقاء المعاصي والذنوب، وبذلك يلقي الله سبحانه نوراً في القلوب، فيعلم الإنسان ما لم يكن يعلم، فلا تنافي بين كون العلم سببا في التقوى، وكون التقوى تثمر العلم، وتفرق بين الحق والباطل، وعليه فمعنى الآية الكريمة – على ما قرره الأئمة في صناعة النحو – أن الله يعلِّمكم على كل حال فاتقوه. فكان الثاني سببا في الأول فترتب الأمر بالتقوى على حصول التعليم ترتبا معنويا، وهو يقتضي تقدم العلم على العمل، والأدلة على ذلك كثيرة، ففي صحيح البخاري "باب العلم قبل القول والعمل": وإن الله لم يتعبد الخلق بالجهل، وإنما تعبدهم على مقتضى قوله سبحانه: [واتقوا الله ويعلِّمكم الله]، ومن الناس من جعل الآية الكريمة على حد قوله تعالى: [إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا]، ولكن هذا لا تساعده قواعد اللغة العربية، ثم إن تكرار اسم الجلالة في هذه الجمل الثلاث هو من التكرار المستحسن، وهو ما كان للتعظيم في جمل متعاقبة، كل واحدة قائمة بنفسها، فالأولى: أمر بتقوى الله العظيم، والثانية: وعد بنعمة التعليم، والثالثة: غاية في باب التعظيم، ووجه العطف فيها اختلافها في الظاهر بالخبر والإنشاء. هذا – ويرى أبو (ح) أن جملة [ويعلمكم الله] جملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب، وهي تذكر بنعم الله التي أشرفها تعليم العلوم للناس. وجملة: [والله بكلّ شيء عليم] أيضا جملة مستقلة تدل على إحاطته تعالى بالمعلومات وقد ذكرنا بعد جملة تحث على التقوى. وهذا هو معنى ما أشرنا إليه من قيام كل جملة بنفسها.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيۡنٍ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى فَٱكۡتُبُوهُۚ وَلۡيَكۡتُب بَّيۡنَكُمۡ كَاتِبُۢ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَلَا يَأۡبَ كَاتِبٌ أَن يَكۡتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُۚ فَلۡيَكۡتُبۡ وَلۡيُمۡلِلِ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ وَلَا يَبۡخَسۡ مِنۡهُ شَيۡـٔٗاۚ فَإِن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ سَفِيهًا أَوۡ ضَعِيفًا أَوۡ لَا يَسۡتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلۡيُمۡلِلۡ وَلِيُّهُۥ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَٱسۡتَشۡهِدُواْ شَهِيدَيۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ فَإِن لَّمۡ يَكُونَا رَجُلَيۡنِ فَرَجُلٞ وَٱمۡرَأَتَانِ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحۡدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحۡدَىٰهُمَا ٱلۡأُخۡرَىٰۚ وَلَا يَأۡبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْۚ وَلَا تَسۡـَٔمُوٓاْ أَن تَكۡتُبُوهُ صَغِيرًا أَوۡ كَبِيرًا إِلَىٰٓ أَجَلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقۡوَمُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَرۡتَابُوٓاْ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةٗ تُدِيرُونَهَا بَيۡنَكُمۡ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَلَّا تَكۡتُبُوهَاۗ وَأَشۡهِدُوٓاْ إِذَا تَبَايَعۡتُمۡۚ وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٞ وَلَا شَهِيدٞۚ وَإِن تَفۡعَلُواْ فَإِنَّهُۥ فُسُوقُۢ بِكُمۡۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (282)

لما اهتم القرآن بنظام أحوال المسلمين في أموالهم فابتدأ بما به قوام عامّتهم من مواساة الفقير وإغاثة الملهوف ، ووضّح ذلك بما فيه عبرة للمعتبر ، ثم عطف عليه التحذير من مضايقة المحتاجين إلى المواساة مضايقة الربا مع ما في تلك المعاملات من المفاسد ، ثلّث ببيان التوثّقات المالية من الإشهاد ، وما يقوم مقامه وهو الرهن والائتمان . وإنّ تحديد التوثّق في المعاملات من أعظم وسائل بثّ الثقة بين المتعاملين ، وذلك من شأنه تكثير عقود المعاملات ودوران دولاب التموّل .

والجملة استئناف ابتدائي ، والمناسبة في الانتقال ظاهرة عقب الكلام على غرمَاء أهل الربا .

والتداين من أعظم أسباب رواج المعاملات لأنّ المقتدر على تنمية المال قد يعوزه المال فيضطرّ إلى التداين ليظهر مواهبه في التجارة أو الصناعة أو الزراعة ، ولأنّ المترفّه قد ينضب المال من بين يديه وله قِبل به بعد حين ، فإذا لم يتداين اختلّ نظام ماله ، فشرّع الله تعالى للناس بَقاء التداين المتعارف بينهم كيلا يظنّوا أنّ تحريم الربا والرجوع بالمتعاملين إلى رؤوس أموالهم إبطال للتداين كلّه . وأفاد ذلك التشريعَ بوضعه في تشريع آخر مكمّل له وهو التوثّق له بالكتابة والإشهاد .

والخطاب موجّه للمؤمنين أي لمجموعهم ، والمقصود منه خصوص المتداينين ، والأخصّ بالخطاب هو المدين لأنّ من حق عليه أن يجعل دائنه مطمئن البال على ماله . فعلى المستقرِض أن يطلب الكتابة وإن لم يسألها الدائن ، ويؤخذ هذا مما حكاه الله في سورة القَصص عن موسى وشعيب ، إذ استأجرَ شعيبٌ موسى . فلما تراوضا على الإجارة وتعيين أجلها قال موسى : « واللَّهُ على ما نَقول وكيل » ، فذلك إشهاد على نفسه لمؤاجره دون أن يسألَه شعيب ذلك .

والتداين تفاعل ، وأطلق هنا مع أنّ الفعل صادر من جهة واحدة وهي جهة المُسَلِّف لأنّك تقول ادّان منه فَدانَه ، فالمفاعلة منظور فيها إلى المخاطبين هم مجموع الأمة ؛ لأنّ في المجموع دائناً ومديناً ، فصار المجموع مشتملاً على جانبين . ولك أن تجعل المفاعلة على غير بابها كما تقول تَداينت من زيد .

وزيادة قيد { بدين } إما لِمجرد الإطناب ، كما يقولون رأيتُه بعيني ولمَسته بيدي ، وإما ليكون معاداً للضمير في قوله فاكتبوه ، ولولا ذكره لقال فاكتبوا الدّين فلم يكن النظم بذلك الحسن ، ولأنّه أبين لتنويع الدين إلى مؤجّل وحالّ ، قاله في « الكشاف » .

وقال الطيبي عن صاحب الفرائد : يمكن أن يظنّ استعمال التداين مجازاً في الوعد كقول رؤبة :

داينتُ أرْوَى والديونُ تُقضَى *** فمطَلَتْ بعضاً وأدّت بعضاً

فذكر قوله « بدين » دفعاً لتوهم المجاز . والدين في كلام العرب العوض المؤخّر قال شاعرهم :

وعدَتْنَا بدرهمَيْنَا طِلاء *** وشِواءً معجّلا غيرَ دَيْن

وقوله : { إلى أجل مسمى } طلب تعيين الآجال للديون لئلاّ يقعوا في الخصومات والتداعي في المرادات ، فأدمج تشريع التأجيل في أثناء تشريع التسجيل .

والأجل مدة من الزمان محدودة النهاية مجعولة ظرفاً لعمل غير مطلوب فيه المبادرة ، لرغبة تمام ذلك العمل عند انتهاء تلك المدة أو في أثنائها .

والأجل اسم وليس بمصدر ، والمصدر التأجيل ، وهو إعطاء الأجل . ولما فيه من معنى التوسعة في العمل أطلق الأجل على التأخير ، وقد تقدم في قوله تعالى : { فإذا بلغن أجلهن } [ البقرة : 234 ] وقوله : { حتى يبلغ الكتاب أجله } [ البقرة : 235 ] .

والمُسمّى حقيقته المميّز باسم يميّزه عمّا يشابهه في جنسه أو نوعه ، فمنه أسماء الأعلام وأسماء الأجناس ، والمسمّى هنا مستعار للمعيّن المحدود ، وإنّما يقصد تحديده بنهاية من الأزمان المعلومة عند الناس ، فشبه ذلك بالتحديد بوضع الاسم بجامع التعيين ؛ إذ لا يمكن تمييزه عن أمثاله إلاّ بذلك ، فأطق عليه لفظ التسمية ، ومنه قول الفقهاء المَهر المسمى . فالمعنى أجل معيّن بنهايته . والدين لا يكون إلاّ إلى أجل ، فالمقصود من وصف الدين بهذا الوصف ، هو وصف أجلٍ بمسمّى إدماجاً للأمر بتعيين الأجل .

وقوله : { بدين إلى أجل مسمى } يعمّ كل دين : من قرض أو من بيع أو غير ذلك . وعن ابن عباس أنّها نزلت في السلَم يعني بيعَ الثمار ونحوها من المثليات في ذمة البائع إذا كان ذا ذمة إلى أجلٍ وكان السلَم من معاملات أهل المدينة . ومعنى كلامه أنّ بيع السلم سبب نزول الآية ، ومن المقرر في الأصول أنّ السبب الخاص لا يخصّص العموم .

والأمر في « فاكتبوه » قيل للاستحباب ، وهو قول الجمهور ومالكٍ وأبي حنيفة والشافعي وأحمد ، وعليه فيكون قوله : { فإن أمن بعضكم بعضاً } [ البقرة : 283 ] تكميلاً لمعنى الاستحباب . وقيل الأمر للوجوب ، قاله ابن جريج والشعبي وعطاء والنخعي ، وروي عن أبي سعيد الخدري ، وهو قول داوود ، واختاره الطبَري . ولعلّ القائلين بوجوب الإشهاد الآتي عند قوله تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } قائلون بوجوب الكتابة ، وعليه فقوله : { فإن أمن بعضكم بعضاً } [ البقرة : 283 ] تخصيص لعموم أزمنة الوجوب لأنّ الأمر للتكرار ، لا سيما مع التعليق بالشرط ، وسمّاه الأقدمون في عباراتهم نسخاً .

والقصد من الأمر بالكتابة التوثّق للحقوق وقطع أسباب الخصومات ، وتنظيم معاملات الأمة ، وإمكان الاطّلاع على العقود الفاسدة . والأرجح أنّ الأمر للوجوب فإنّه الأصل في الأمر ، وقد تأكّد بهذه المؤكّدات ، وأنّ قوله : { فإن أمن بعضكم بعضاً } الآية رخصة خاصة بحالة الائتمان بين المتعاقدين كما سيأتي فإنّ حالة الائتمان حالة سالمة من تطرّق التناكر والخصام لأنّ الله تعالى أراد من الأمة قطع أسباب التهارج والفوضى فأوجب عليهم التوثّق في مقامات المشاحنة ، لئلاّ يتساهلوا ابتداء ثم يفضوا إلى المنازعة في العاقبة ، ويظهر لي أنّ في الوجوب نفياً للحرج عن الدائن إذا طلب من مدينه الكتب حتى لا يَعُد المدينُ ذلك من سوء الظنّ به ، فإنّ في القوانين معذرة للمتعاملين .

وقال ابن عطية : « الصحيح عدم الوجوب لأنّ للمرء أن يهب هذا الحق ويتركه بإجماع ، فكيف يجب عليه أن يكتبه ، وإنّما هو ندب للاحتياط » .

وهذا كلام قد يروج في بادىء الرأي ولكنّه مردود بأنّ مقام التوثّق غير مقام التبرّع .

ومقصد الشريعة تنبيه أصحاب الحقوق حتى لا يتساهلوا ثم يندموا وليس المقصود إبطال ائتمان بعضهم بعضاً ، كما أنّ من مقاصدها دفع موجدة الغريم من توثّق دائنه إذا علم أنّه بأمر من الله ومن مقاصدها قطع أسباب الخصام .

وقوله : { فاكتبوه } يشمل حالتين :

الأولى حالة كتابة المتداينين بخطّيهما أو خطّ أحدهما ويسلّمه للآخر إذا كانا يحسنانِ الكتابة معاً ، لأنّ جهل أحدهما بها ينفي ثقته بكتابة الآخر .

والثانية حالة كتابة ثالث يتوسّط بينهما . فيكتب ما تعاقدا عليه ويشهد عليه شاهدان ويسلمه بيد صاحب الحق إذا كانا لا يحسنان الكتابة أو أحدهما ، وهذه غالب أحوال العرب عند نزول الآية . فكانت الأميّة بينهم فاشية ، وإنّما كانت الكتابة في الأنبار والحِيرة وبعض جهات اليمن وفيمن يتعلّمها قليلاً من مكة والمدينة .

وقوله : { وليكتب بينكم كاتب بالعدل } أمر للمتداينِين بأن يوسّطوا كاتباً يكتب بينهم لأنّ غالب حالهم جهل الكتابة .

فعل الأمر به إلى الكاتب مبالغة في أمر المتعاقدين بالاستكتاب . والعرب تعمد إلى المقصود فتنزّله منزلة الوسيلة مبالغة في حصوله كقولهم في الأمر ليكن ولدُك مهذّباً ، وفي النهي لا تنس ما أوصيتُك ، ولا أعرِفَنَّك تفعلُ كذا .

فمتعلِّق فعل الطلب هو ظرف بينكم وليس هذا أمراً للكاتب ، وأما أمر الكاتب فهو قوله : { ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب } .

وقوله : { بالعدل } أي بالحق ، وليس العدل هنا بمعنى العدالة التي يوصف بها الشاهد فيقال رجل عدل لأنّ وجود الباء يصرف عن ذلك ، ونظيره قوله الآتي : { فليملل وليه بالعدل } .

ولذلك قصر المفسرون قوله : { فاكتبوه } على أن يكتبه كاتب غير المتداينين لأنّه الغالب ، ولتعقيبه بقوله : وليكتب بينكم كاتب بالعدل ، فإنّه كالبيان لكيفية فاكتبوه ، على أنّ كتابة المتعاقدين إن كانا يحسنانها تؤخذ بلحن الخطاب أو فحواه .

ولذلك كانت الآية حجة عند جمهور العلماء لصحة الاحتجاج بالخط ، فإنّ استكتاب الكاتب إنّما ينفع بقراءة خطه .

وقوله : { ولا يأب كاتب أن يكتب } نهي لمن تطْلب منه الكتابة بين المتداينين عن الامتناع منها إذا دُعي إليها ، فهذا حكم آخر وليس تأكيداً لقوله : { وليكتب بينكم كاتب بالعدل } لما علمت آنفاً من كون ذلك حكماً موجّهاً للمتداينين . وهذا النهي قد اختلف في مقتضاه فقيل نهي تحريم ، فالذي يدعي لأن يكتب بين المتداينين يحرم عليه الامتناع . وعليه فالإجابة للكتابة فرض عين ، وهو قول الربيع ومجاهد وعطاء والطبري ، وهو الذي لا ينبغي أن يعدل عنه . وقيل : إنّما تجب الإجابة وجوباً عينياً إذا لم يكن في الموضع إلاّ كاتب واحد ، فإن كان غيره فهو واجب على الكفاية وهو قول الحسن ، ومعناه أنّه موكول إلى ديانتهم لأنّهم إذا تمالؤوا على الامتناع أثموا جميعاً ، ولو قيل : إنّه واجب على الكفاية على من يعرف الكتابة من أهل مكان المتداينين ، وإنّه يتعيّن بتعيين طالب التوثق أحدَهم لكان وجيهاً ، والأحق بطلب التوثّق هو المستقرض كما تقدم آنفاً .

وقيل : إنّما يجب على الكاتب في حال فراغه ، قاله السُّدي . وقيل : هو منسوخ بقوله : { ولا يضارّ كاتب ولا شهيد } وهو قول الضحاك ، وروي عن عطاء ، وفي هذا نظر لأنّ الحضور للكتابة بين المتداينين ليس من الإضرار إلاّ في أحوال نادرة كبُعد مكان المتداينين من مكان الكاتب . وعن الشعبي وابن جريج وابن زيد أنّه منسوخ بقوله تعالى بعد هذا { فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي ائتمن أمانته } [ البقرة : 283 ] وسيأتي لنا إبطال ذلك .

وعلى هذا الخلاف يختلف في جواز الأجر على الكتابة بين المتداينين ، لأنّها إن كانت واجبة فلا أجر عليها ، وإلاّ فالأجر جائز .

ويلحق بالتداين جميع المعاملات التي يطلب فيها التوثّق بالكتابة والإشهاد ، وسيأتي الكلام على حكم أداء الشهادة عند قوله تعالى : { ولا يضارّ كاتب ولا شهيد } .

وقوله : { كما علمه الله } أي كتابة تشابه الذي علّمه الله أن يكتبها ، والمراد بالمشابهة المطابقة لا المقاربة ، فهي مثل قوله : { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به } [ البقرة : 137 ] ، فالكاف في موضع المفعول المطلق لأنّها صفة لمصدر محذوف . و ( ما ) موصولة .

ومعنى ما علّمه الله أنّه يكتب ما يعتقده ولا يجحف أو يوارب ، لأنّ الله ما علم إلاّ الحق وهو المستقرّ في فطرة الإنسان ، وإنّما ينصرف الناس عنه بالهوى فيبدّلون ويغيّرون وليس ذلك التبديل بالذي علّمهم الله تعالى ، وهذا يشير إليه قوله النبي صلى الله عليه وسلم " واستفتِ نفسَك وإن أفْتَاكَ الناس " .

ويجوز أن تكون الكاف لمقابلة الشيء بمكافئه والعوضِ بمعوضه ، أي أن يكتب كتابة تكافىء تعليم الله إياه الكتابة ، بأن ينفع الناس بها شكراً على تيسير الله له أسباب علمها ، وإنّما يحصل هذا الشكر بأن يكتب ما فيه حفظ الحق ولا يقصر ولا يدلّس ، وينشأ عن هذا المعنى من التشبيه معنى التعليل كما في قوله تعالى : { وأحسن كما أحسن الله إليك } [ القصص : 77 ] وقوله : { واذكروه كما هداكم } [ البقرة : 198 ] .

والكاف على هذا إما نائبة عن المفعول المطلق أو صفة لمفعول به محذوف على تأويل مصدر فِعل أنْ يَكْتُب بالمكتوب ، و ( ما ) على هذا الوجه مصدرية ، وعلى كلا الوجهين فهو متعلق بقوله : { أن يكتب } ، وجوّز صاحب « الكشاف » تعليقه بقوله فليكتب فهو وجه في تفسير الآية .

وقوله : { فليكتب } تفريع على قوله : { ولا يأب كاتب } ، وهو تصريح بمقتضى النهي وتكرير للأمر في قوله : { فاكتبوه } ، فهو يفيد تأكيدَ الأمر وتأكيدَ النهي أيضاً ، وإنّما أعيد ليُرتَّب عليه قولُه : { وليملل الذي عليه الحق } لبعد الأمر الأول بما وَلِيَه ، ومثله قوله تعالى :

{ اتخذوه } [ الأعراف : 148 ] بعد قوله : { واتخذ قوم موسى من بعده من حليّهم عجلاً جسداً } [ الأعراف : 148 ] الآية .

وقوله : { وليُملل الذي عليه الحق } أمَلّ وأمْلَى لغتان : فالأولى لغة أهل الحجاز وبني أسد ، والثانية لغة تميم ، وقد جاء القرآن بهما قال تعالى : { وليملل الذي عليه الحق } وقال : { فهي تملي عليه بكرة وأصيلا } [ الفرقان : 5 ] ، قالوا والأصل هو أمللّ ثم أبدلت اللاّم ياء لأنّها أخف ؛ أي عكسَ ما فعلوا في قولهم تقضّي البازي إذْ أصله تَقَضض .

ومعنى اللفظين أن يلقي كلاماً على سامعه ليكتبه عنه ، هكذا فسره في « اللِّسَان » و« القاموس » . وهو مقصور في التفسير أحسب أنّه نشأ عن حصر نظرهم في هذه الآية الواردة في غرض الكتابة ، وإلاّ فإن قوله تعالى في سورة الفرقان ( 5 ) : { فهي تملى عليه بكرة وأصيلا } تشهد بأنّ الإملاء والإملال يكونان لغرض الكتابة ولغرض الرواية والنقل كما في آية الفرقان ، ولغرض الحفظ كما يقال مَلّ المؤدب على الصبي للحفظ ، وهي طريقة تحفيظ العميان . فتحرير العبارة أن يفسر هذان اللفظان بإلقاء كلاممٍ ليُكتب عنه أو ليُروى أو ليُحفظ ، والحق هنا ما حقَّ أي ثبت للدائن .

وفي هذا الأمر عبرة للشهود فإنّ منهم من يكتبون في شروط الحُبُس ونحوه ما لم يملله عليهم المشهود عليه إلاّ إذا كان قد فوّض إلى الشاهد الإحاطة بما فيه توثقه لحقّه أو أوقفه عليه قبل عقده على السدارة .

والضميران في قوله : { وليتق } ، وقوله : { ولا يبخس منه } يحتمل أن يعودا إلى الذي عليه الحق لأنّه أقرب مذكور من الضميرين ، أي لا يُنقصْ ربّ الدين شيئاً حينَ الإملاء ، قاله سعيد بن جبير ، وهو على هذا أمر للمدين بأن يقرّ بجميع الدين ولا يغبن الدائن . وعندي أنّ هذا بعيد إذ لا فائدة بهذه الوصاية ؛ فلو أخفى المدين شيئاً أو غبن لأنكر عليه ربُّ الديْن لأنّ الكتابة يحضرها كلاهما لقوله تعالى : { وليكتب بينكم } . ويحتمل أن يعود الضميران إلى { كاتب } بقرينة أنّ هذا النهي أشدّ تعلّقاً بالكاتب ؛ فإنّه الذي قد يغفل عن بعض ما وقع إملاؤه عليه .

والضمير في قوله : { منه } عائد إلى الحق وهو حق لكِلاَ المتداينين ، فإذا بخس منه شيئاً أضرّ بأحدهما لا محالة ، وهذا إيجاز بديع .

والبخْس فسره أهل اللغة بالنقص ويظهر أنّه أخصّ من النقص ، فهو نقص بإخفاء . وأقربُ الألفاظ إلى معناه الغبن ، قال ابن العربي في الأحكام في سورة الأعراف : « البخس في لسان العرب هو النقص بالتعْييب والتزهِيدِ ، أو المخادعة عن القيمة ، أو الاحتيال في التزيّد في الكيل أو النقصان منه » أي عن غفلة من صاحب الحق ، وهذا هو المناسب في معنى الآية لأنّ المراد النهي عن النقص من الحق عن غفلة من صاحبه ، ولذلك نُهي الشاهد أو المدين أو الدائن ، وسيجيء في سورة الأعراف عند قوله تعالى : { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } [ الأعراف : 85 ] .

وقوله : { فإن كان عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً } السفيه هو مختلّ العقل ، وتقدم بيانه عند قوله تعالى : { سيقول السفهاء من الناس } [ البقرة : 142 ] .

والضعيف الصغير ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { وله ذرية ضعفاء } [ البقرة : 266 ] .

والذي لا يستطيع أن يملّ هو العاجز كمن به بَكَم وعمًى وصمَمٌ جميعاً .

ووجه تأكيد الضمير المسْتتر في فعل يُملّ بالضمير البارز هو التمهيد لقوله : { فليملل } لئلا يتوهّم الناس أنّ عجزه يسقط عنه واجب الإشهاد عليه بما يستدينه ، وكان الأولياء قبل الإسلام وفي صدره كبراء القرابة . والولي من له ولاية على السفيه والضعيف ومن لا يستطيع أن يملّ كالأب والوصيّ وعرفاء القبيلة ، وفي حديث وفد هوازن : قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم « لِيَرْفَعْ إلَيّ عُرفَاؤُكم أمْرُكم » وكان ذلك في صدر الإسلام وفي الحقوق القَبَلِيَّةِ .

ومعنى { بالعدل } أي بالحق . وهذا دليل على أنّ إقرار الوصي والمقدّم في حق المولّى عليه ماضضٍ إذا ظهر سببه ، وإنّما لم يعمل به المتأخّرون من الفقهاء سدّاً للذريعة خشية التواطؤ على إضاعة أموال الضعفاء .

{ واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الاخرى } .

عطف على { فاكتبوه } ، وهو غيره وليس بياناً له إذ لو كان بياناً لما اقترن بالواو . فالمأمور به المتداينون شيآن : الكتابة ، والإشهاد عليها . والمقصود من الكتابة ضبط صيغة التعاقد وشروطه وتذكر ذلك خشية النسيان . ومن أجل ذلك سمّاها الفقهاء ذُكْر الحق ، وتسمّى عَقداً قال الحارث بن حلزة :

حذر الجور والتطاخي وهل ين *** قض ما في المهارق الأهواء

قال تعالى : { وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة } [ البقرة : 283 ] ، فلم يجعل بين فقدان الكاتب وبين الرهن درجة وهي الشهادة بلا كتابة لأنّ قوله : { ولم تجدوا كاتباً } [ البقرة : 283 ] صار في معنى ولم تجدوا شهادة ، ولأجل هذا يجوز أن يكون الكاتب أحد الشاهدين . وإنّما جعَل القرآن كاتباً وشاهدين لندرة الجمع بين معرفة الكتابة وأهلية الشهادة .

{ واستشهدوا } بمعنى أشهدوا ، فالسين والتاء فيه لمجرد التأكيد ، ولك أن تجعلهما للطلب أي اطلبوا شهادة شاهدين ، فيكون تكليفاً بالسعي للإشهاد وهو التكليف المتعلّق بصاحب الحق . ويكون قوله : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } تكليفاً لمن يَطلب منه صاحبُ الحق أن يَشهد عليهما ألاّ يمتنع .

والشهادة حقيقتها الحضور والمشاهدة ، والمراد بها هنا حضور خاص وهو حضور لأجل الاطّلاع على التداين ، وهذا إطلاق معروف للشهادة على حضورٍ لمشاهدة تعاقدٍ بين متعاقدَيْن أو لسماععِ عقد من عاقد واحد مثل الطلاق والحُبس . وتطلق الشهادة أيضاً على الخبر الذي يخبر به صاحبه عن أمر حصل لقصد الاحتجاج به لمن يزعمه ، والاحتجاج به على من ينكره ، وهذا هو الوارد في قوله : { ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } [ النور : 4 ] .

وجَعَل المأمورَ به طلب الإشهاد لأنّه الذي في قدرة المكلّف وقد فهم السامع أنّ الغرض من طلب الإشهاد حصوله .

ولهذا أمَرَ المستشهَدَ بفتح الهاء بعد ذلك بالامتثال فقال : { ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا } .

والأمر في قوله : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } قيل للوجوب ، وهو قول جمهور السلف ، وقيل للندب ، وهو قول جمهور الفقهاء المتأخرين : مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وسيأتي عند قوله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } .

وقوله : { من رجالكم } أي من رجال المسلمين ، فحصل به شرطان : أنّهم رجال ، وأنّهم ممّن يشملهم الضمير .

وضمير جماعة المخاطبين مراد به المسلمون لقوله في طالعة هذه الأحكام يأيها الذين آمنوا .

وأما الصبيّ فلم يعتبره الشرع لضعف عقله عن الإحاطة بمواقع الإشهاد ومداخل التهم .

والرجل في أصل اللغة يفيد وصف الذكورة فخرجت الإناث ، ويفيد البلوغ فخرج الصبيان ، والضمير المضاف إليه أفاد وصف الإسلام . فأما الأنثى فيذكر حكمها بعد هذا ، وأما الكافر فلأنّ اختلاف الدِّين يوجب التباعد في الأحوال والمعاشرات والآداب فلا تمكن الإحاطة بأحوال العدول والمرتابين من الفريقين ، كيف وقد اشترط في تزكية المسلمين شدة المخالطة ، ولأنّه قد عرف من غالب أهل الملل استخفاف المخالف في الدين بحقوق مخالفه ، وذلك من تخليط الحقوق والجهل بواجبات الدين الإسلامي . فإنّ الأديان السالفة لم تتعرّض لاحترام حقوق المخالفين ، فتوَهَم أَتْباعهم دحضها . وقد حكى الله عنهم أنّهم قالوا : « ليس علينا في الأمّيين سبيل » . وهذه نصوص التوراة في مواضع كثيرة تنهى عن أشياء أو تأمر بأشياء وتخصّها ببني إسرائيل ، وتسوغ مخالفة ذلك مع الغريب ، ولم نر في دين من الأديان التصريحَ بالتسوية في الحقوق سوى دين الإسلام ، فكيف نعتدّ بشهادة هؤلاء الذين يرون المسلمين مارقين عن دين الحق مناوئين لهم ، ويرمون بذلك نبيئهم فمن دونه ، فماذا يرجَى من هؤلاء أن يقولوا الحق لهم أو عليهم والنصْرانية تابعة لأحكام التوراة . على أنّ تجافي أهل الأديان أمر كان كالجبليّ فهذا الإسلام مع أمره المسلمين بالعدل مع أهل الذمة لا نرى منهم امتثالاً فيما يأمرهم به في شأنهم .

وفي القرآن إيماء إلى هذه العلة « ذلك بأنّهم قالوا ليس علينا في الأمّيين سبيل » . وفي « البخاري » ، في حديث أبي قلابة في مجلس عمر بن عبد العزيز . وما روي عن سهل بن أبي حَثْمة الأنصاري : أنّ نفراً من قومه ذهبوا إلى خيبر فتفرّقوا بها ، فوجدوا أحدهم قتيلاً ، فقالوا للذين وجد فيهم القتيل أنتم قتلتم صاحبنا ، قالوا ما قتلنا ، فانطلقوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكَوْا إليه ، فقال لهم : " تأتون بالبيّنة على من قتله " قالوا : « ما لنا بيّنة » ، قال : " فتحلف لكم يهودُ خمسين يميناً " قالوا : « ما يُبالُون أن يقتلونا أجمعين ثم يحلفون » ، فكرِه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُبطل دمَه ووَدَاه من مال الصدقة .

فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم قولَ الأنصار في اليهود : إنّهم ما يبالون أن يقتلوا كل القوم ثم يحلفون .

فإن قلت : كيف اعتدتّ الشريعة بيمين المدّعى عليه من الكفار ، قلت : اعتدّت بها لأنّها أقصى ما يمكن في دفع الدعوى ، فرأتْها الشريعة خيراً من إهمال الدعوى من أصلها .

ولأجل هذا اتّفق علماء الإسلام على عدم قبول شهادة أهل الكتاب بين المسلمين في غير الوصية في السفر ، واختلفوا في الإشهاد على الوصية في السفر ، فقال ابن عباس ومجاهد وأبو موسى الأشعري وشريح بقبول شهادة غير المسلمين في الوصية في السفر ، وقضى به أبو موسى الأشعري مدّة قضائه في الكُوفة ، وهو قول أحمدَ وسفيانَ الثوري وجماعة من العلماء ، وقال الجمهور : لا تجوز شهادة غير المسلمين على المسلمين ورأوا أنّ ما في آية الوصية منسوخ ، وهو قول زيد بن أسلم ومالك وأبي حنيفة والشافعي ، واختلفوا في شهادة بعضهم على بعض عند قاضي المسلمين فأجازها أبو حنيفة ناظراً في ذلك إلى انتفاء تهمة تساهلهم بحقوق المسلمين ، وخالَفه الجمهور ، والوجه أنّه يتعذّر لقاضي المسلمين معرفة أمانة بعضهم مع بعض وصدق أخبارهم كما قدمناه آنفاً .

وظاهر الآية قبول شهادة العبد العدل وهو قول شريح وعثمان البَتِّي وأحمد وإسحاق وأبي ثور ، وعن مجاهد : المراد الأحرار ، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي ، والذي يظهر لي أنّ تخصيص العبيد من عموم الآية بالعرف وبالقياس ، أما العرف فلأنّ غالب استعمال لفظ الرجل والرجال ألاّ يرد مُطلقاً إلاّ مراداً به الأحرار ، يقولون : رجال القبيلة ورجال الحي ، قال محكان التميمي :

يا رَبَّةَ البيتِ قُومي غيرَ صاغِرة *** ضُمي إليكِ رِجَالَ الحَيِّ والغُرَبا

وأما القياس فلعدم الاعتداد بهم في المُجتمع لأنّ حالة الرقّ تقطعهم عن غير شؤون مالكيهم فلا يضبطون أحوال المعاملات غالباً ؛ ولأنّهم ينشؤون على عدم العناية بالمروءة ، فترك اعتبار شهادة العبد معلُول للمظنّة وفي النفس عدم انثلاج لِهذا التعليل .

واشتُرط العددُ في الشاهد ولم يكتف بشهادة عدل واحد لأنّ الشهادة لما تعلّقت بحق معيّن لمعيّن اتّهم الشاهد باحتمال أن يتوسّل إليه الظالم الطالب لحق مزعوم فيحمله على تحريف الشهادة ، فاحتيج إلى حيطة تدفع التهمة فاشترط فيه الإسلام وكفى به وازعاً ، والعدالة لأنّها تزع من حيث الدين والمروءة ، وزِيد انضمام ثانٍ إليه لاستبعاد أن يتواطأ كلا الشاهدين على الزور . فثبت بهذه الآية أنّ التعدّد شرط في الشهادة من حيث هي ، بخلاف الرواية لانتفاء التهمة فيها إذ لا تتعلق بحقّ معيّن ، ولهذا لو روَى راوٍ حديثاً هو حجة في قضية للراوي فيها حق لَمَا قُبلت روايتُه ، وقد كلف عُمَرُ أبا موسى الأشعريّ أن يأتي بشاهد معه على أنّ رسول الله قال : « إذا استأذن أحدكم ثلاثاً ولم يؤذن له فليرجع » إذ كان ذلك في ادّعاء أبي موسى أنّه لما لم يأذنْ له عُمَر في الثالثة رجَع ، فشهد له أبو سعيد الخدْري في ملإ من الأنصار .

والعدد هو اثنان في المعاملات المالية كما هنا .

وقوله : { فإن لم يكونا رجلين } أي لم يكن الشاهدَانِ رجلين ، أي بحيث لم يحضر المعاملة رجلان بل حضر رجل واحد ، فرجل وامرأتان يشهدان . فقوله : { فرجل وامرأتان } جواب الشرط ، وهو جزء جملة حُذف خبرها لأنّ المقدر أنسب بالخبرية ودليل المحذوف قوله : { واستشهدوا } وقد فهم المحذوف فكيفما قدّرْتَه ساغ لك .

وجيء في الآية بكان الناقصة مع التمكّن من أن يقال فإن لم يكنْ رجلان لئلاّ يتوهم منه أنّ شهادة المرأتين لا تقبل إلاّ عند تعذّر الرجلين كما توهّمه قوم ، وهو خلاف قول الجمهور لأنّ مقصود الشارع التوسعة على المتعاملين . وفيه مرمى آخر وهو تعويدهم بإدخال المرأة في شؤون الحياة إذ كانت في الجاهلية لا تشترك في هذه الشؤون ، فجعل الله المرأتين مقام الرجل الواحد وعلّل ذلك بقوله : { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } ، وهذه حيطة أخرى من تحريف الشهادة وهي خشية الاشتباه والنسياننِ لأنّ المرأة أضعف من الرجل بأصل الجبلّة بحسب الغالب ، والضلال هنا بمعنى النسيان .

وقوله : { أن تضل } قرأه الجمهور بفتح همزة أنْ على أنّه محذوف منه لام التعليل كما هو الغالب في الكلام العربي مع أنْ ، والتعليل في هذا الكلام ينصرف إلى ما يحتاج فيه إلى أن يُعلّل لقصد إقناع المكلّفين ، إذ لا نجد في هذه الجملة حكماً قد لا تطمئنّ إليه النفوس إلاّ جعْلَ عوضِ الرجل الواحد بامرأتين اثنتين فصُرح بتعليله . واللام المقدرة قبل أنْ متعلقة بالخبر المحذوف في جملة جواب الشرط إذ التقدير فرجل وامرأتان يشهدان أو فليشهد رجل وامرأتان ، وقرأوه بنصب { فتذكّر } عطفاً على { أن تضلّ } ، وقرأه حمزة بكسر الهمزة على اعتبار إنْ شرطية وتضلّ فعل الشرط ، وبرفع تذكرُ على أنّه خبر مبتدأ محذوف بعد الفاء لأنّ الفاء تؤذن بأنّ ما بعدها غير مجزوم والتقدير فهي تذكّرها الأخرى على نحو قوله تعالى : { ومن عاد فينتقم الله منه } [ المائدة : 95 ] .

ولما كان « أن تضلّ » في معنى لضلال إحداهما صارت العلّة في الظاهر هي الضلال ، وليس كذلك بل العلّة هي ما يترتّب على الضلال من إضاعة المشهود به ، فتفرّع عليه قوله : { فتذكر إحداهما الأخرى } لأنّ فتذكّر معطوف على تضلّ بفاء التعقيب فهو من تكملته ، والعبرة بآخر الكلام كما قدمناه في قوله تعالى : { أيودّ أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب } [ البقرة : 266 ] ، ونظيره كما في « الكشاف » أن تقول : أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعِّمَه ، وأعددت السلاح أن يجيءَ عدوّ فأدْفَعَه . وفي هذا الاستعمال عدول عن الظاهر وهو أن يقال : أن تذكر إحداهما الأخرى عند نسيانها . ووجَّهه صاحب « الكشاف » بأنّ فيه دلالة على الاهتمام بشأن التذكير حتى صار المتكلم يعلّل بأسبابه المفضية إليه لأجل تحصيله .

وادّعى ابن الحاجب في أماليه على هذه الآية بالقاهرة سنة ست عشرة وستمائة : أنّ من شأن لغة العرب إذا ذكروا علة وكان للعلة علة قَدّموا ذكر علة العلة وجعلوا العلة معطوفة عليها بالفاء لتحصل الدلالتان معاً بعبارة واحدة . ومثَّله بالمثال الذي مثَّل به « الكشاف » ، وظاهر كلامه أنّ ذلك مُلتزم ولم أره لِغيره .

والذي أراه أنّ سبب العدول في مثله أنّ العلة تارة تكون بسيطة كقولك : فعلت كذا إكراماً لك ، وتارة تكون مركّبة من دفع ضُر وجلب نَفْع بدفعِه . فهنالك يأتي المتكلم في تعليله بما يدل على الأمرين في صورة علة واحدة إيجازاً في الكلام كما في الآية والمثالين . لأنّ المقصود من التعدد خشية حصول النسيان للمرأة المنفردة ، فلذا أخِذ بقولها حَقُّ المشهود عليه وقُصد تذكير المرأة الثانية إياها ، وهذا أحسن مما ذكره صاحب « الكشاف » .

وفي قوله : { فتذكر إحداهما الأخرى } إظهار في مقام الإضمار لأنّ مقتضى الظاهر أن يقول فتذكّرها الأخرى ، وذلك أن الإحدى والأخرى وصفان مبهمان لا يتعيّن شخص المقصود بهما ، فكيفما وضعتَهما في موضعي الفاعل والمفعول كان المعنى واحداً ، فلو أضمر للإحدى ضمير المفعول لكان المعاد واضحاً سواء كان قوله أحداهما المظهر فاعلاً أو مفعولاً به ، فلا يظنّ أن كَون لفظ إحداهما المظهر في الآية فاعلاً ينافي كونه إظهاراً في مقام الإضمار لأنّه لو أضمر لكان الضمير مفعولاً ، والمفعول غير الفاعل كما قد ظنّه التفتازاني لأنّ المنظور إليه في اعتبار الإظهار في مقام الإضمار هو تأتي الإضمار مع اتّحاد المعنى . وهو موجود في الآية كما لا يخفى .

ثم نكتة الإظهار هنا قد تحيّرت فيها أفكار المفسرين ولم يتعرّض لها المتقدمون ، قال التفتازاني في « شرح الكشاف » : « ومما ينبغي أن يتعرض له وجه تكرير لفظ إحداهما ، ولا خفاء في أنّه ليس من وضع المظهر موضع المضمر إذ ليست المذكِّرة هي الناسية إلاّ أن يجعل إحداهما الثانية في موقع المفعول ، ولا يجوز ذلك لتقديم المفعول في موضع الإلباس ، ويصح أن يقال : فتذكرها الأخرى ، فلا بد للعدول من نكتة » . وقال العصام في « حاشية البيضاوي » « نكتة التكرير أنّه كان فصل التركيب أن تذكّر إحداهما الأخرى إن ضلّت ، فلما قدّم إن ضلّت وأبرز في معرض العلّة لم يصح الإضمار ( أي لعدم تقدم إمعاد ) ولم يصح أن تضلّ الأخرى لأنّه لا يحسن قبل ذكر إحداهما ( أي لأنّ الأخرى لا يكون وصفاً إلاّ في مقابلة وصف مقابل مذكور ) فأبدل بإحداهما ( أي أبدل موقع لفظ لأخرى بلفظ إحداهما ) ولم يغيّر ما هو أصل العلّة عن هيأته لأنّه كأن لم يقدم عليه ، { أن تضلّ إحداهما } يعني فهذا وجه الإظهار .

وقال الخفاجي في « حاشية التفسير » « قالوا : إنّ النكتة الإبهام لأنّ كل واحدة من المرأتين يجوز عليها ما يجوز على صاحبتها من الضلال والتذكير ، فدخل الكلام في معنى العموم » يعني أنّه أظهر لئلاّ يتوهم أنّ إحدى المرأتين لا تكون إلاّ مذكِّرة الأخرى ، فلا تكون شاهدة بالأصالة .

وأصل هذا الجواب لشهاب الدين الغزنوي عصري الخفاجي عن سؤال وجّهه إليه الخفاجي ، وهذا السؤال :

يا رأس أهل العلوم السادةِ البـرره *** ومَن نداه على كل الورى نَشَـره

ما سِرُّ تَكْرَار إحدَى دون تُذْكِرُهـا *** في آية لذوي الأشهاد في البقـره

وظاهر الحال إيجاز الضمير علـى *** تكرار إحداهما لو أنّه ذكـــره

وحَمل الإحدى على نفس الشهادة في *** أولاهما ليس مرضياً لدى المهره

فغُص بفكرك لاستخراج جوهــره *** من بحر علمك ثم ابعث لنا درره

فأجاب الغزنوي :

يا من فوائده بالعلم منتشره *** ومَن فضائله في الكون مشتهره

تَضلَّ إحداهما فالقولُ محتمل *** كِلَيهما فهي للإظهار مفتقره

ولو أتى بضمير كان مقتضيا *** تعيين واحدة للحكم معتبره

ومن رَدَدْتُم عليه الحَلّ فهو كما *** أشرتُم ليس مرضيا لمن سبَره

هذا الذي سمح الذهن الكليل به *** واللَّهُ أعلم في الفحوى بما ذكره

وقد أشار السؤال والجواب إلى ردّ على جواب لأبي القاسم المغربي في تفسيره ؛ إذ جعل إحداهما الأولَ مراداً به إحدى الشهادتين ، وجعل تضلّ بمعنى تتلف بالنسيان ، وجعل إحداهما الثاني مراداً به إحدى المرأتين . ولما اختلف المدلول لم يبق إظهار في مقام الإضمار ، وهو تكلّف وتشتيت للضمائر لا دليل عليه ، فينزّه تخريج كلام الله عليه ، وهو الذي عناه الغزنوي بقوله : « ومن رَدَدْتُم عليه الحَلّ إلخ » .

والذي أراه أنّ هذا الإظهار في مقام الإضمار لنكتة هي قصد استقلال الجملة بمدلولها كيلا تحتاج إلى كلام آخر فيه مَعاد الضمير لَو أضمر ، وذلك يرشّح الجملة لأن تَجري مَجرى المثل . وكأنّ المراد هنا الإيماء إلى أنّ كلتا الجملتين علّة لمشروعية تعدّد المرأة في الشهادة ، فالمرأة معرضة لتطرق النسيان إليها وقلة ضبط ما يهم ضبطه ، والتعدد مظنّة لاختلاف مواد النقص والخلل ، فعسى ألا تنسى إحداهما ما نسيته الأخرى . فقوله أن تضلّ تعليل لعدم الاكتفاء بالواحدة ، وقوله : { فتذكر إحداهما الأخرى } تعليل لإشهاد امرأة ثانية حتى لا تبطل شهادة الأولى من أصلها .

{ وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ } .

عُطف { ولا يأب } على { واستشهدوا شهيدين } لأنّه لما أمر المتعاقدين باستشهاد شاهدين نَهى من يُطلب إشهاده عن أن يأبَى ، ليتم المطلوب وهو الإشهاد .

وإنما جيء في خطاب المتعاقدين بصيغة الأمر وجيء في خطاب الشهداء بصيغة النهي اهتماماً بما فيه التفريط . فإنّ المتعَاقدين يظنّ بهما إهمال الإشهاد فأمرا به ، والشهود يظنّ بهم الامتناع فنهوا عنه ، وكل يستلزم ضدّه .

وتسمية المدعوِّينَ شهداء باعتبار الأوّل القريببِ ، وهو المشارفة ، وكأنَّ في ذلك نكتة عظيمة : وهي الإيماء إلى أنّهم بمجرّد دعوتهم إلى الإشهاد ، قد تعيّنت عليهم الإجابة ، فصاروا شهداء .

وحذف معمول دُعوا إمّا لظهوره من قوله قبله { واستشهدوا شهيدين } أي إذا ما دعوا إلى الشهادة أي التحمّل ، وهذا قول قتادة ، والربيع بن سليمان ، ونقل عن ابن عباس ، فالنهي عن الإباية عند الدعاء إلى الشهادة حاصل بالأوْلى ، ويجوز أن يكون حذف المعمول لقصد العموم ، أي إذا ما دعوا للتحمّل والأداء معاً ؛ قاله الحسن ، وابن عباس ، وقال مجاهد : إذا ما دعوا إلى الأداء خاصة ، ولعلّ الذي حمله على ذلك هو قوله : { الشهداء } لأنّهم لا يكونون شهداء حقيقة إلاّ بعد التحمّل ، ويبعده أنّ الله تعالى قال بعد هذا

{ ولا تكتموا الشهادة } [ البقرة : 283 ] وذلك نهي عن الإباية عند الدعوة للأداء .

والذي يظهر أنّ حذف المتعلِّق بفعل { دعوا } لإفادة شمول ما يُدعَون لأجله في التعاقد : من تحمّل ، عند قصد الإشهاد ، ومن أداء ، عند الاحتياج إلى البيّنة . قال ابن الحاجب : « والتحمّل حيث يفتقر إليه فرض كفاية والأداء من نحو البريدين إن كانا اثنين فرضُ عين ، ولا تحِلُّ إحالته على اليمين » .

والقول في مقتضى النهي هنا كالقول في قوله : { ولا يأب كاتب } ويظهر أنّ التحمّل يتعيّن بالتعيين من الإمام ، أو بما يعينه ، وكان الشأن أن يكون فرض عين إلاّ لِضرورة فينتقل المتعاقدان لآخر ، وأما الأداء ففرض عين إن كان لا مضرة فيه على الشاهد في بدنه ، أو ماله ، وعند أبي حنيفة الأداء فرض كفاية إلاّ إذا تعيَّن عليه : بأن لا يوجد بَدَلُه ، وإنّما يجب بشرط عدالة القاضي ، وقرب المكان : بأن يرجع الشاهد إلى منزله في يومه ، وعِلْمِه بأنّه تقبل شهادته ، وطلب المدّعي . وفي هذه التعليقات ردّ بالشهادة إلى مختلف اجتهادات الشهود ، وذلك باب من التأويلات لا ينبغي فتحه .

قال القرطبي : « يؤخذ من هذه الآية أنّه يجوز للإمام أن يقيم للناس شهوداً ، ويجعل لهم كفايتهم من بيت المال ، فلا يكون لهم شغل إلاّ تحمل حقوق الناس حفظاً لها » . قلت : وقد أحسن . قضاة تونس المتقدّمون ، وأمراؤها ، في تعيين شهود مُنتصبين للشهادة بين الناس ، يؤخذون ممّن يقبلهم القضاة ويعرفونهم بالعدالة ، وكذلك كان الأمر في الأندلس ، وذلك من حسن النظر للأمة ، ولم يكن ذلك متّبعاً في بلاد المشرق ، بل كانوا يكتفون بشهرة عدالة بعض الفقهاء وضبطهم للشروط وكَتب الوثائق فيعتمدهم القضاة ، ويكلون إليهم ما يجري في النوازِل من كتابة الدعوى والأحكام ، وكان ممّا يعدّ في ترجمة بعض العلماء أن يقال : كان مقبولاً عند القاضي فلان .

{ وَلاَ تسئموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إلى أَجَلِهِ } .

تعميم في أكوان أو أحوال الديون المأمور بكتابتها ، فالصغير والكبير هنا مَجازان في الحقير والجليل . والمعاملات الصغيرة أكثر من الكبيرة ، فلذلك نُهوا عن السآمة هنا . والسآمة : الملل من تكرير فعلٍ مَّا .

والخطاب للمتداينين أصالة ، ويستتبع ذلك خطاب الكاتب : لأنّ المتداينين إذا دعواه للكتابة وجب عليه أن يكتب .

والنهي عنها نهي عن أثرها ، وهو ترك الكتابة ، لأنّ السآمة تحصل للنفس من غير اختيار ، فلا ينهى عنها في ذاتها ، وقيل السآمة هنا كناية عن الكسل والتهاون .

وانتصب صغيراً أو كبيراً على الحال من الضمير المنصوب بتكتبوه ، أو على حذف كانَ مع اسمها . وتقديم الصغير على الكبير هنا ، مع أنّ مقتضى الظاهر العكس ، كتقديم السِنة على النوم في قوله تعالى : { لا تأخذه سنة ولا نوم } [ البقرة : 255 ] لأنّه قصد هنا إلى التنصيص على العموم لدفع ما يطرأ من التوهّمات في قلة الاعتناء بالصغير ، وهو أكثر ، أو اعتقاد عدم وجوب كتابة الكبير ، لو اقتصر في اللفظ على الصغير .

وجملة { إلى أجله } حال من الضمير المنصوب بتكتبوه ، أي مُغيَّى الدّينُ إلى أجله الذي تعاقدا عليه ، والمراد التغيية في الكتابة .

{ ذلكم أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْوَمُ للشهادة وأدنى أَلاَّ ترتابوا } .

تصريح بالعلة لتشريع الأمر بالكتابة : بأنّ الكتابة فيها زيادة التوثّق ، وهو أقسط أي أشدّ قسطاً ، أي عدلاً ، لأنّه أحفظ للحق ، وأقوم للشهادة ، أي أعون على إقامتها ، وأقرب إلى نفي الريبة والشك ، فهذه ثلاث علل ، ويستخرج منها أنّ المقصد الشرعي أن تكون الشهادة في الحقوق بيّنة ، واضحة ، بعيدة عن الاحتمالات ، والتوهّمات . واسم الإشارة عائد إلى جميع ما تقدم باعتبار أنّه مذكور ، فلذلك أشير إليه باسم إشارة الواحد .

وفي الآية حجّة لجواز تعليل الحكم الشرعي بعلل متعدّدة وهذا لا ينبغي الاختلاف فيه .

واشتقاق { أقْسَطُ } من أقْسَطَ بمعنى عدل ، وهو رباعي ، وليس من قَسَط لأنّه بمعنى جَار ، وكذا اشتقاق { أقْوَمُ } من أقام الشهادةَ إذا أظهرها جارٍ على قول سيبويه بجواز صوغ التفضيل والتعجّب من الرباعي المهموز ، سواء كانت الهمزة للتعدية نحو أعطى أم لغير التعدية نحو أفْرط . وجوّز صاحب « الكشّاف » أن يكون أقسط مشتقاً من قاسط بمعنى ذي قسط أي صيغةِ نسب وهو مشكل ، إذ ليس لهذه الزنة فعل . واستشكل أيضاً بأنّ صوغه من الجامد أشدّ من صوغه من الرباعي . والجواب عندي أنّ النسبَ هنا لما كان إلى المصدر شابَه المشتق : إذ المصدر أصل الاشتقاق ، وأن يكون أقوم مشتقاً من قام الذي هو محوّل إلى وزن فَعُلَ بضم العين الدال على السجيّة ، الذي يجيء منه قويم صفة مشبّهة .

{ إِلاَ أَن تَكُونَ تجارة حَاضِرَةٌ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُم فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا } .

استثناء من عموم الأحوال أو الأكوان في قوله : { صغيراً أو كبيراً } . وهو استثناء ؛ قيل منقطع ، لأنّ التجارة الحاضرة ليست من الدين في شيء ، والتقدير : إلاّ كونَ تجارةٍ حاضرة .

والحاضرة الناجزة ، التي لا تأخير فيها ، إذ الحاضر ، والعاجل ، والناجز : مترادفة . والدين ، والأجل ، والنّسيئة : مترادفة .

وقوله : { تديرونها بينكم } بيان لجملةِ { أن تكون تجارة حاضرة } بل البيان في مثل هذا ، أقرب منه في قول الشاعر ممّا أنشده ابن الأعرابي في نوادره ، وقال العيني : ينسب إلى الفرزدق :

إلى الله أشكُو بالمدينةِ حاجة *** وبالشَّام أخرى كيفَ يلتقيان

إذ جعل صاحب « الكشاف » كيفَ يلتقيان بياناً لحاجةٍ وأخرى ، أو تجعل { تديرونها } صفة ثانية لتجارة في معنى البيان ، ولعلّ فائدة ذكره الإيماءُ إلى تعليل الرخصة في ترك الكتابة ، لأنّ إدارتها أغنت عن الكتابة . وقيل : الاستثناء متّصل ، والمراد بالتجارة الحاضرة المؤجّلة إلى أجل قريب ، فهي من جملة الديون ، رخص فيها ترك الكتابة بها ، وهذا بعيد .

وقوله : { فليس عليكم جناح ألا تكتبوها } تصريح بمفهوم الاستثناء ، مع ما في زيادة قوله : { جُناح } من الإشارة إلى أنّ هذا الحكم رخصة ، لأنّ رفع الجناح مؤذن بأنّ الكتابة أولى وأحسن .

وقرأ الجمهور تجارةٌ بالرفع : على أنّ تكونَ تامة ، وقرأه عاصم بالنصب : على أنّ تكونَ ناقصة ، وأنّ في فعل تكون ضميراً مستتراً عائداً على ما يفيده خبر كان ، أي إلاّ أن تكون التجارةُ تجارةً حاضرة ، كما في قول عَمّرو بن شاس -أنشده سيبويه :

بنِي أسد هل تعلمون بلاءَنَا *** إذَا كان يوماً ذَا كَوَاكِبَ أشْنَعا

تقديره إذا كان اليومُ يوماً ذا كواكب ، وقوله : { ألا } أصله أن لا فرسم مدغماً .

{ وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } .

تشريع للإشهاد عند البيع ولو بغير دين إذا كان البيع غيرَ تجارة حاضرة ، وهذا إكمال لصور المعاملة : فإنّها إمّا تداين ، أو آيل إليه كالبيع بدين ، وإمّا تناجز في تجارة ، وإمّا تناجز في غير تجارة كبيع العقار والعروض في غير التجر . وقيل : المراد بتبايعتم التجارة ، فتكون الرخصة في ترك الكتابة مع بقاء الإشهاد بدون كتابة ، وهذا بعيد جداً ، لأنّ الكتابة ما شُرعت إلاّ لأجل الإشهاد والتوثّق .

وقوله تعالى : { وأشهدوا } أمر : قيل هو للوجوب ، وهذا قول أبي موسى الأشعري ، وابن عمر ، وأبي سعيد الخُدْري ، وسعيد بن المسيّب ، ومجاهد ، والضحّاك ، وعطاء ، وابن جريج ، والنخعي ، وجابر بن زيد ، وداوود الظاهري ، والطبري . وقد أشهد النبي صلى الله عليه وسلم على بيع عبد باعه للعَدّاء بن خالد بن هوذة ، وكتَب في ذلك « باسم الله الرحمان الرحيم ، هذا ما اشترى العَدّاء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله اشترى منه عبداً لا داءَ ولا غائلة ولا خِبثة بيعَ المُسلم للمُسلم » وقيل : هو للندب وذهب إليه من السلف الحسن ، والشعبي ، وهو قول مالك ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وتمسّكوا بالسنّة : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم باع ولم يُشهد ، قاله ابن العربي ، وجوابه : أنّ ذلك في مواضع الائتمان ، وسيجيء قوله تعالى : { فإن أمن بعضكم بعضاً } [ البقرة : 283 ] الآية وقد تقدم ما لابن عطية في توجيه عدم الوجوب ورَدُّنا له عند قوله تعالى : { فاكتبوه } .

{ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } .

نهي عن المضارّة وهي تحتمل أن يكون الكاتب والشهيد مصدراً للإضرار ، أو أن يكون المكتوب له والمشهود له مصدراً للإضرار : لأن يضارّ يحتمل البناء للمعلوم وللمجهول ، ولعلّ اختيار هذه المادة هنا مقصود ، لاحتمالها حكمين ، ليكون الكلام موجّهاً فيحمل على كلا معنييه لعدم تنافيهما ، وهذا من وجه الإعجاز .

والمضارّة : إدخال الضرّ بأن يوقع المتعاقدان الشاهدين والكاتب في الحَرج والخسارة ، أو ما يجر إلى العقوبة ، وأن يوقع الشاهدان أحدَ المتعاقدين في إضاعة حق أو تعب في الإجابة إلى الشهادة . وقد أخذ فقهاؤنا من هاته الآية أحكاماً كثيرة تتفرّع عن الإضرار : منها ركوب الشاهد من المسافة البعيدة ، ومنها ترك استفساره بعد المدة الطويلة التي هي مظنّة النسيان ، ومنها استفساره استفساراً يوقعه في الاضطراب ، ويؤخذ منها أنّه ينبغي لولاة الأمور جعل جانب من مال بيت المال لدفع مصاريف انتقال الشهود وإقامتهم في غير بلدهم وتعويض ما سينالهم من ذلك الانتقالِ من الخسائر المالية في إضاعة عائلاتهم ، إعانة على إقامة العدل بقدر الطاقة والسعة .

وقوله تعالى : { وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم } حذف مفعول تفعلوا وهو معلوم ، لأنّه الإضرارُ المستفاد من لا يضارّ مثلُ « اعدلوا هو أقرب » والفسوق : الإثم العظيم ، قال تعالى : { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } [ الحجرات : 11 ] .

{ واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .

أمر بالتّقوى لأنّها مِلاك الخير ، وبها يكون ترك الفسوق . وقوله : { ويعلمكم الله } تذكير بنعمة الإسلام ، الذي أخرجهم من الجهالة إلى العلم بالشريعة ، ونظام العالم ، وهو أكبر العلوم وأنفعها ، ووعدٌ بدوام ذلك لأنّه جيء فيه بالمضارع ، وفي عطفه على الأمر بالتقوى إيماء إلى أنّ التقوى سبب إفاضة العلوم ، حتى قيل : إنّ الواو فيه للتعليل أي ليعلّمكم . وجعله بعضهم من معاني الواو ، وليس بصحيح .

وإظهار اسم الجلالة في الجمل الثلاث : لقصد التنويه بكلّ جملة منها حتى تكون مستقلّة الدلالةِ ، غيرَ محتاجة إلى غيرها المشتمل على معادِ ضميرها ، حتى إذا سمع السامع كلّ واحدة منها حصل له علم مستقلّ ، وقد لا يسمع إحداها فلا يضرّه ذلك في فهم أخراها ، ونظير هذا الإظهار قول الحماسي :

اللُّؤْمُ أكْرَمُ من وَبْرٍ ووالدِهِ *** واللؤمُ أكرَمُ من وَبْرٍ ومَا وَلَدا

واللؤم داءٌ لوَبْرٍ يُقْتَلُونَ به *** لا يُقْتَلُونَ بدَاءٍ غيرِه أبـــدا

فإنّه لما قصد التشنيع بالقبيلة ومَنْ وَلَدَها ، ومَا ولدته ، أظهر اللّؤم في الجمل الثلاث ولما كانت الجملة الرابعة كالتأكيد للثالثة لم يظهر اسم اللؤم بها . هذا ، ولإظهار اسم الجلالة نكتة أخرى وهي التهويل . وللتكرير مواقع يحسن فيها ، ومواقع لا يحسن فيها ، قال الشيخ في « دلائل الإعجاز » ، في الخاتمة التي ذكر فيها أنّ الذوق قد يدرك أشياء لا يُهتدى لأسبابها ، وأنّ ببعض الأئمة قد يعرض له الخطأ في التأويل : « ومن ذلك ما حكي عن الصاحب أنّه قال : كان الأستاذ ابن العميد يختار من شعر ابن الرومي وينقط على ما يختاره ، قال الصاحب فدفع إليّ القصيدة التي أولها :

أتَحْتَ ضلوعي جمرةٌ تتوقّد *** على ما مضى أم حسْرة تتجدّد

وقال لي : تأمّلها ، فتأمَّلتها فوجدته قد ترك خير بيت فيها لم ينقِّط عليه وهو قوله :

بجَهْلٍ كجهل السيفِ والسيفُ منتضًى *** وحِلْمٍ كحلم السيف والسيفُ مُغْمَدُ

فقلت : لِمَ تركَ الأستاذُ هذا البيت ؟ فقال : لعلّ القلم تجاوزه ، ثم رآني من بعد فاعتذر بعذر كان شرّاً من تركه ؛ فقال : إنّما تركته لأنّه أعادَ السيف أربع مرات ، قال الصاحب : لو لم يعده لفسد البيت ، قال الشيخ عبد القاهر : والأمر كما قال الصاحب ثم قال قاله أبو يعقوب : إنّ الكناية والتعريض لا يعملان في العقول عمل الإفصاح والتكشيف لأجل ذلك كان لإعادة اللفظ في قوله تعالى : { وبالحق أنزلته وبالحق نزل } [ الإسراء : 105 ] وقوله : { قل هو الله أحد ، الله الصمد } [ الصمد : 1 ، 2 ] عَمَل لولاه لم يكن .

وقال الراغب : قد استكرهوا التكرير في قوله :

* فما للنَّوى جُذّ النَّوى قُطِع النَّوَى *

حتى قيل : لو سلّط بعير على هذا البيت لرَعى ما فيه من النَّوى ، ثم قال : إنّ التكرير المستحسن هو تكرير يقع على طريق التعظيم ، أو التحقير ، في جمل متواليات كلّ جملة منها مستقلة بنفسها ، والمستقبح هو أن يكون التكرير في جملة واحدة أو في جمل في معنى ، ولم يكن فيه معنى التعظيم والتحقير ، فالراغب موافق للأستاذ ابن العميد ، وعبدُ القاهر موافقٌ للصاحب بن عباد ، قال المرزوقي في شرح الحماسة عند قول يحيى بن زياد :

لَمَّا رَأيتُ الشيبَ لاح بياضُه *** بمَفرِقِ رأسي قُلتُ للشيب مرحبا

« كان الواجب أن يقول : قلت له مرحباً ، لكنّهم يكرّرون الأعلام وأسماءَ الأجناس كثيراً والقصد بالتكرير التفخيم » .

واعلم أنّه ليس التكرير بمقصور على التعظيم بل مقامه كلّ مقام يراد منه تسجيل انتساب الفعل إلى صاحب الاسم المكرّر ، كما تقدّم في بيتي الحماسة : « اللؤم أكرم من وبر » إلخ .

وقد وقع التكرير متعاقباً في قوله تعالى في سورة آل عمران ( 78 ) : { وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون . }