المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{فَلَمَّا وَضَعَتۡهَا قَالَتۡ رَبِّ إِنِّي وَضَعۡتُهَآ أُنثَىٰ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا وَضَعَتۡ وَلَيۡسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلۡأُنثَىٰۖ وَإِنِّي سَمَّيۡتُهَا مَرۡيَمَ وَإِنِّيٓ أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ} (36)

36- فلما وضعت حملها قالت - معتذرة تناجي ربها - : إني وَلَدت أُنثى والله عليم بما ولدت ، وأن مولودها وهو أنثى خير من مطلوبها وهو الذكر . وقالت : إني سميتها مريم وإنِّي أسألك أن تحصِّنها هي وذريتها من غواية الشيطان الرجيم .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَلَمَّا وَضَعَتۡهَا قَالَتۡ رَبِّ إِنِّي وَضَعۡتُهَآ أُنثَىٰ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا وَضَعَتۡ وَلَيۡسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلۡأُنثَىٰۖ وَإِنِّي سَمَّيۡتُهَا مَرۡيَمَ وَإِنِّيٓ أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ} (36)

قوله تعالى : { فلما وضعتها } أي ولدتها إذا هي جارية ، والهاء في قوله ( وضعتها ) راجعة إلى النذيرة لا إلى " ما " لذلك أنث .

قوله تعالى : { قالت } حنة ، وكانت ترجو أن يكون غلاماً .

قوله تعالى : { رب إني وضعتها أنثى } اعتذاراً إلى الله عز وجل .

قوله تعالى : { والله أعلم بما وضعت } بجزم التاء إخباراً عن الله تعالى عز وجل وهي قراءة العامة ، وقرأ ابن عامر وأبو بكر ويعقوب ، وضعت برفع التاء ، جعلوها من كلام أم مريم .

قوله تعالى : { وليس الذكر كالأنثى } في خدمة الكنيسة والعباد الذين فيها للينها وضعفها وما يعتريها من الحيض والنفاس .

قوله تعالى : { وإني سميتها مريم } وهي بلغتهم العابدة والخادمة ، وكانت مريم أجمل النساء في وقتها وأفضلهن .

قوله تعالى : { وإني أعيذها } أمنعها وأجيرها .

قوله تعالى : { بك وذريتها } أولادها .

قوله تعالى : { من الشيطان الرجيم } والشيطان الطريد اللعين والرجيم المرمي بالشهب .

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا احمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو اليمان ، أنا شعيب عن الزهري . حدثني سعيد بن المسيب قال : قال أبو هريرة رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل الصبي صارخاً من الشيطان غير مريم وابنها " ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه ( وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ) .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا احمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو اليمان ، أنا شعيب عنابي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه بأصبعه حين يولد ، غير عيسى بن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب " .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَلَمَّا وَضَعَتۡهَا قَالَتۡ رَبِّ إِنِّي وَضَعۡتُهَآ أُنثَىٰ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا وَضَعَتۡ وَلَيۡسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلۡأُنثَىٰۖ وَإِنِّي سَمَّيۡتُهَا مَرۡيَمَ وَإِنِّيٓ أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ} (36)

ثم حكى - سبحانه - ما قالته بعد أن وضعت ما في بطنها فقال - تعالى - : { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى } .

قالوا : إن هذا خبر لا يقصد به الإخبار ، بل المقصود منه إظهار التحسر والتحزن والاعتذار ، فقد كانت امرأة عمران تتوقع أن يكون ما في بطنها ذكرا ، لأنه هو الذى يصلح لخدمة بيت الله والانقطاع للعبادة فيه ، لكنها حين وضعت حملها ووجدته أنثى ، قالت على سبيل الاعتذار عن الوفاء بنذرها : رب إني وضعتها أنثى ، والأنثى لا تصلح للمهمة التى نذرت ما فى بطنى لها وهى خدمة بيتك المقدس ، وأنت يا إلهي القدير على كل شيء فبقدرتك أن تخلق الذكر وبقدرتك أن تخلق الأنثى .

والضمير فى قوله { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا } يعود لما فى بطنها . وتأنيث باعتبار حاله في الواقع ونفس الأمر وهو أنه أنثى .

وقوله { أنثى } منصوب على الحال من الضمير في وضعتها ، وهى حال مؤكدة لأن كونها أنثى مفهوم من تأنيث الضمير فجاءت أنثى مؤكدة .

وقوله { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } جملة معترضة سيقت للايماء إلى تعظيم المولود الذى وضعته وتفخيم شأنه ، وللإشعار بأن الأنثى ستصلح لما يصلح له الذكور من خدمة بيته . أى : والله - تعالى - أعلم منها ومن غيرها بما وضعته ، لأنه هو الذى خلق هذا المولود وجعله أنثى ، وهو العليم بما سيصير إليه أمر هذه الأنثى من فضل ، إذ منها سيكون عيسى - عليه السلام - وسيجعلها - سبحانه - آية ظاهرة دالة على كمال قدرته ، ونفوذ إرادته .

وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم ويعقوب { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } بضم التاء وعلى هذه القراءة لا تكون الجملة معترضة وإنما هى من تتمة ما قالته ، ويكون الكلام التفات من الخطاب إلى الاسم الظاهر وهو لفظ الجلاة إذ لو جرت على مقتضى قولها ، { رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى } لقالت : وأنت أعلم بما وضعت .

ويكون قولها هذا من تتمة الاعتذار إلى الله - تعالى - حيث وضعت مولودا لا يصلح لما نذرته - في عرف قومها وتسلية لنفسها ، أى ولعل الله سرا وحكمة لا يعلمها أحد سواه في جعل هذا المولود أنثى . أو لعل هذه الأنثى تكون خيراً من الذكر .

وقوله - تعالى - { وَلَيْسَ الذكر كالأنثى } يحتمل أنه من كلامه - سبحانه - وهو الظاهر - فتكون الجملة معترضة كسابقتها ، ويكون : وليس الذكر الذى طلبته كالأنثى التي ولدتها ، بل هذه الأنثى وإن كانت أفضل منه في العبادة والمكانة إلا أنها لا تصلح عندهم لسدانة بيت الله تعالى ، بسبب حرمة اختلاطها بالرجال وما يعتريها من حيض وغير ذلك مما يعتري النساء .

ويحتمل أنه من كلامها الذى حكاه الله تعالى عنها فلا تكون الجملة معترضة ويكون المعنى : وليس الذكر الذى طلبته كالأنثى التي وضعتها ، بل هو خير منها لأنه هو الذى يصلح لسدانة بيتك وخدمته ، ومع هذا فأنا في كلتا الحالتين راضية بقضائك مستسلمة لإرادتك .

ثم حكى - سبحانك - أيضاً بعض ما قالته بعد ولادتها فقال { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم } .

قالوا : إن كلمة مريم معناها في لغتهم العابدة ، فأرادت بهذه التسمية التقرب إلى الله والالتماس منه أن يعصمها حتى يكون فعلها مطابقا لا سمها .

ومعنى { أُعِيذُهَا بِكَ } أمنعها وأجيرها بحفظك . مأخوذ من العوذ ، وهو أن تلتجىء إلى غيرك وتتعلق به . يقال : عاذ فلان بفلان إذا استجار به ، ومنه العوذة وهي التميمة والرقية .

والشيطان في لغة العرب : كل متمرد من الجن والإنس والدواب وكل شىء . وهو مشتق من شكن إذا بعد ، فهو بعيد بطبعه عن كل خير .

والرجيم : فعيل بمعنى مفعول . أى أنه مرجوم مطرود من رحمة الله ومن كل خير . وقيل رجيم بمعنى راجم لأنه يرجم الناس بالوساوس والشرور .

والمعنى : وإنى يا خالقي مع حبي لأن يكون المولود ذكراً لتتهيأ له خدمة بيتك فقد رضيت بما وهبت لي ، وإني قد سميت هذه الأثنى التي أعطيتنى إياها مريم ، أي العابدة الخادمة لك ، وإني أحصنها وأجيرها بكفالتك لها ولذريتها من الشيطان الرجيم الذى يزين للناس الشرور والمساوىء . قال القرطبى : وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخاً من نخسة الشيطان ، إلا ابن مريم وأمه " .

ثم قال أبو هريرة : " اقرءوا إن شئتم : وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم " .

قال علماؤنا : فأفاد هذا الحديث أن الله - تعالى - استجاب دعاء أم مريم . . . ولا يلزم من هذا أن نخس الشيطان يلزم منه إضلال المنخوس فإن ذلك ظن فاسد ، فكم تعرض الشيطان للأنبياء والأولياء بأنواع الإفساد والإغواء ، ومع ذلك عصمهم الله مما يرومه الشيطان كما قال تعالى :

{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } وقوله : { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } معطوف على { إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى } وما بينهما اعتراض . وهذا على قراءة الجمهور التي جاءت بتسكين التاء فى { وَضَعَتْ } في قوله - تعالى - { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } .

وأما على قراءة غير الجمهور التى جاءت بضم التاء فى قوله : { وَضَعَتْ } فيكون أيضاً معطوفاً على { إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى } ويكون هذا القول وما عطف عليه في محل نصب بالقول ، والتقدير : قالت : إني وضعتها أنثى ، وقالت : الله أعلم بما وضعت وقالت : ليس الذكر كالأنثى ، وقالت : إني سميتها مريم .

وأتى في قوله : { وَإِنِّي أُعِيذُهَا } بخبر إن فعلا مضارعا للدلالة على طلبها استمرار الاستعاذة دون انقطاعها ، بخلاف وضعتها ، وسميتها ، حيث أتى بالخبرين ماضيين لانقطاعهما . وقوله : { وَذُرِّيَّتَهَا } معطوف على الضمير المنصوب فى أعيذها .

وفى التنصيص على إعاذتها وإعاذة ذريتها من الشيطان الرجيم ، رمز إلى طلب بقائها على قيد الحياة حتى تكبر وتكون منها الذرية الصالحة .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَلَمَّا وَضَعَتۡهَا قَالَتۡ رَبِّ إِنِّي وَضَعۡتُهَآ أُنثَىٰ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا وَضَعَتۡ وَلَيۡسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلۡأُنثَىٰۖ وَإِنِّي سَمَّيۡتُهَا مَرۡيَمَ وَإِنِّيٓ أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ} (36)

33

ولكنها وضعتها أنثى ؛ ولم تضعها ذكرا !

( فلما وضعتها قالت : رب إني وضعتها أنثى - والله أعلم بما وضعت - وليس الذكر كالأنثى . وإني سميتها مريم . وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ) . .

لقد كانت تنتظر ولدا ذكرا ؛ فالنذر للمعابد لم يكن معروفا إلا للصبيان ، ليخدموا الهيكل ، وينقطعوا للعبادة والتبتل . ولكن ها هي ذي تجدها أنثى . فتتوجه إلى ربها في نغمة أسيفة :

( رب . إني وضعتها أنثى ) . .

( والله أعلم بما وضعت ) . .

ولكنها هي تتجه إلى ربها بما وجدت ، وكأنها تعتذر إن لم يكن لها ولد ذكر ينهض بالمهمة .

( وليس الذكر كالأنثى ) . .

ولا تنهض الأنثى بما ينهض به الذكر في هذا المجال : ( وإني سميتها مريم ) . .

وهذا الحديث على هذا النحو فيه شكل المناجاة القريبة . مناجاة من يشعر أنه منفرد بربه . يحدثه بما في نفسه ، وبما بين يديه ، ويقدم له ما يملك تقديما مباشرا لطيفا . وهي الحال التي يكون فيها هؤلاء العباد المختارون مع ربهم . حال الود والقرب والمباشرة ، والمناجاة البسيطة العبارة ، التي لا تكلف فيها ولا تعقيد . مناجاة من يحس أنه يحدث قريبا ودودا سميعا مجيبا .

( وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ) . .

وهي الكلمة الأخيرة حيث تودع الأم هديتها بين يدي ربها ، وتدعها لحمايته ورعايته ، وتعيذها به هي وذريتها من الشيطان الرجيم . .

وهذه كذلك كلمة القلب الخالص ، ورغبة القلب الخالص . فما تود لوليدتها أمرا خيرا من أن تكون في حياطة الله من الشيطان الرجيم !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَلَمَّا وَضَعَتۡهَا قَالَتۡ رَبِّ إِنِّي وَضَعۡتُهَآ أُنثَىٰ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا وَضَعَتۡ وَلَيۡسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلۡأُنثَىٰۖ وَإِنِّي سَمَّيۡتُهَا مَرۡيَمَ وَإِنِّيٓ أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ} (36)

{ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } قرئ برفع التاء على أنها تاء المتكلم ، وأن ذلك من تمام قولها ، وقُرئ بتسكين التاء على أنه من قول الله عز وجل { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى } أي : في القوة والجَلَد في العبادة وخدمة المسجد الأقصى { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } فيه دلالة على جواز التسمية يوم الولادة كما هو الظاهر من السياق ؛ لأنه شرع من قبلنا ، وقد حكي مقررًا ، وبذلك ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : " وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ وَلَد سَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أبِي إبْرَاهِيمَ " . أخرجاه{[4953]} وكذلك ثبت فيهما أن أنس بن مالك ذهب بأخيه ، حين ولدته أمه ، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فَحَنَّكه وسماه عبد الله{[4954]} وفي صحيح البخاري : أن رجلا قال : يا رسول الله ، وُلِدَ لي وَلَد ، فما أُسمِّيه ؟ قال : " اسْم وَلدِك{[4955]} عَبْد الرَّحْمَنِ " {[4956]} وثبت في الصحيح أيضًا : أنه لما جاءه أبو أسَيد بابنه ليُحنّكه ، فذَهَل عنه ، فأمر به أبوه فَرَدّه إلى منزلهم ، فلما ذكرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في المجلس سَمّاه المنذر{[4957]} .

فأما حديث قتادة ، عن الحسن البصري ، عن سَمُرَة بن جُنْدُب ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كُلُّ غُلامٍ رَهِين{[4958]} بِعقِيقتِهِ ، يُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ ، ويُسَمَّى وَيحْلَقُ رَأْسُهُ " فقد رواه أحمد وأهل السنن ، وصححه الترمذي بهذا اللفظ ، ويروي : " ويُدَمَّى " ، وهو أثبت وأحفظ{[4959]} والله أعلم . وكذا ما رواه الزبير بن بكار في كتاب النسب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقّ عن ولده إبراهيم يوم سابعه وسماه إبراهيم . فإسناده لا يثبت ، وهو مخالف لما في الصحيح{[4960]} ولو صح لَحُمِل{[4961]} على أنه أشْهَرَ اسمَه بذلك يومئذ ، والله أعلم .

وقوله إخبارًا عن أم مريم أنها قالت : { وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } أي : عَوَّذتها بالله ، عز وجل ، من شر الشيطان ، وعوذت ذريتها ، وهو ولدها عيسى ، عليه السلام . فاستجاب الله لها ذلك كما قال عبد الرزَّاق : أنبأنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا مِن مَوْلُودٍ يُولَدُ إلا مَسَّه الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ ، فَيَسْتَهِلّ صَارخًا مِنْ مَسِّهِ إيَّاهُ ، إلا مَرْيَم َوابْنَهَا " . ثم يقول أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم : { وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } أخرجاه{[4962]} من حديث عبد الرزاق . ورواه ابن جرير ، عن أحمد بن الفرج ، عن بَقِيَّة ، [ عن الزبيدي ]{[4963]} عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه . ورَوَى من حديث قيس ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا مِنْ مَوْلُود إلا وَقَدْ عَصَرَهُ الشَّيطانُ عَصْرَةً أو عَصْرَتَيْن إلا عِيسَى ابن مَرْيَمَ وَمَرْيمََ " . ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ }{[4964]} .

ومن حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة . ورواه مسلم ، عن أبي الطاهر ، عن ابن وهب ، عن عَمْرو بن الحارث ، عن أبي يونس ، عن أبي هريرة . ورواه وهب أيضًا ، عن ابن أبي ذئب ، عن عَجْلان مولى المِشْمَعَلِّ ، عن أبي هريرة . ورواه محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قُسَيط ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بأصل الحديث . وهكذا رواه الليث بن سعد ، عن جعفر بن ربيعة ، عن عبد الرحمن بن هرمز ، الأعرج{[4965]} قال : قال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كُلُّ بني آدَمَ يَطْعنُ الشَّيْطَانُ فِي جَنْبِه حِينَ تَلِدهُ أمُّهُ ، إلا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ، ذَهَبَ يَطْعَنُ فَطَعَنَ فِي الحِجَاب " {[4966]} .


[4953]:رواه البخاري تعليقا برقم (1303) ورواه مسلم برقم (2315) من حديث أنس بن مالك.
[4954]:رواه البخاري برقم (5470) ورواه مسلم برقم (2144).
[4955]:في جـ، ر: "ابنك".
[4956]:صحيح البخاري برقم (6186) من حديث جابر.
[4957]:رواه البخاري برقم (6191) ورواه مسلم برقم (2149) من حديث سهل بن سعد الساعدي.
[4958]:في أ، و: "رهينته".
[4959]:المسند (5/12) وسنن أبي داود برقم (2838) وسنن الترمذي برقم (1522) وسنن النسائي (7/166) وسنن ابن ماجة برقم (3165). وقد صرح الحسن بسماعه هذا الحديث من سمرة؛ لذا قال الترمذي: "حديث حسن صحيح".
[4960]:وقال ابن القيم، رحمه الله، في كتابه "تحفة المودود في أحكام المولود" ص 67 بعد ما ساق قول الزبير بن بكار عن أشياخه: "هكذا قال الزبير وسماه يوم سابعه، والحديث المرفوع أصح من قوله وأولى".
[4961]:في جـ، ر: "يحمل".
[4962]:صحيح البخاري (4548) وصحيح مسلم برقم (2366).
[4963]:زيادة من أ، و.
[4964]:تفسير الطبري (6/339).
[4965]:في أ: "عن الأعرج".
[4966]:تفسير الطبري (6/342) ورواه أحمد في مسنده (2/523) من طريق أبي الزناد عن الأعرج به.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَلَمَّا وَضَعَتۡهَا قَالَتۡ رَبِّ إِنِّي وَضَعۡتُهَآ أُنثَىٰ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا وَضَعَتۡ وَلَيۡسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلۡأُنثَىٰۖ وَإِنِّي سَمَّيۡتُهَا مَرۡيَمَ وَإِنِّيٓ أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ} (36)

هذه الآية خطاب من الله تعالى لمحمد عليه السلام ، والوضع الولادة ، وأنث الضمير في { وضعتها } ، حملاً على الموجودة ورفعاً للفظ { ما } التي في قولها { ما في بطني }{[3108]} [ آل عمران : 33 ] وقولها : { رب إني وضعتها أنثى } لفظ خبر في ضمنه التحسر والتلهف ، وبيّن الله ذلك بقوله : { والله أعلم بما وضعت } : وقرأ جمهور الناس «وضعَتْ » بفتح العين وإسكان التاء ، وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر «وضعْتُ » ، بضم التاء وإسكان العين{[3109]} ، وهذا أيضاً مخرج قولها ، { رب إني وضعتها أنثى } من معنى الخبر إلى معنى التلهف ، وإنما تلهفت لأنهم كانوا لا يحررون الإناث لخدمة الكنائس ولا يجوز ذلك عندهم ، وكانت قد رجت أن يكون ما في بطنها ذكراً فلما وضعت أنثى تلهفت على فوت الأمل وأفزعها أن نذرت ما لا يجوز نذره ، وقرأ ابن عباس «وضعتِ » بكسر التاء على الخطاب من الله لها ، وقولها { وليس الذكر كالأنثى } تريد في امتناع نذره إذ الأنثى تحيض ولا تصلح لصحبة الرهبان{[3110]} قاله قتادة والربيع والسدي وعكرمة وغيرهم ، وبدأت بذكر الأهم في نفسها وإلا فسياق قصتها يقتضي أن تقول : وليست الأنثى كالذكر فتضع حرف النفي مع الشيء الذي عندها وانتفت عنه صفات الكمال للغرض المراد ، وفي قولها { وإني سميتها مريم } سنة تسمية الأطفال قرب الولادة ونحوه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ولد لي الليلة مولود فسميته باسم أبي إبراهيم{[3111]} وقد روي عنه عليه السلام أن ذلك في يوم السابع يعق عن المولود ويسمى{[3112]} ، قال مالك رحمه الله : ومن مات ولده قبل السابع فلا عقيقة عليه ولا تسمية ، قال ابن حبيب : أحب إلي أن يسمى ، وأن يسمى السقط لما روي من رجاء شفاعته{[3113]} ، و { مريم } ، لا ينصرف لعجمته وتعريفه وتأنيثه{[3114]} ، وباقي الآية إعادة ، وورد في الحديث عن النبي عليه السلام من رواية أبي هريرة قال : «كل مولود من بني آدم له طعنة من الشيطان وبها يستهل إلا ما كان من مريم ابنة عمران وابنها فإن أمها قالت حين وضعتها : { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } فضرب بينهما حجاب فطعن الشيطان في الحجاب »{[3115]} ، وقد اختلفت ألفاظ الحديث من طرق والمعنى واحد كما ذكرته .


[3108]:-قال الزمخشري: وإنما أنث على المعنى، لأن ما في بطنها كان أنثى في علم الله، أو على تأويل: الجبلة أو النفس أو النسمة.
[3109]:- يعني أن جملة "والله أعلم بما وضعت" تتمة كلام أم مريم، كأنها تخاطب نفسها.
[3110]:- قارن كلامه بما في "زاد المسير" 1/377.
[3111]:- أخرجه الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود عن أنس. الجامع الصغير 2/619.
[3112]:- أخرجه الإمام أحمد، وأهل السنن، وصححه الترمذي عن سمرة بن جندب "تفسير ابن كثير 1/359" كما أخرجه الطبراني في الصغير عن بريدة مرفوعا، وفي الطبراني الأوسط والكبير عن ابن عمر، وفي الأوسط عن ابن عباس. وأخرجه أبو يعلى والبزار عن عائشة. "مجمع الزوائد" 4/57-59. ومعنى يعق عن المولود: يذبح ذبيحة يوم سبوعه، وتسمى هذه الذبيحة: عقيقة.
[3113]:- رواه ابن عساكر عن أبي هريرة ولفظه: (سموا أسقاطكم) الحديث. الجامع الصغير 2/25.
[3114]:- مريم: قيل: إنه اسم عبراني معناه: العابدة، وقيل: عربي جاء شاذا كمدين وقياسه: مرام كمنال، ومعناه في العربية: التي تغازل الفتيان. قال الراجز: قلت لزيد لم تصله مريمه.
[3115]:- أخرجه البخاري عن أبي هريرة. الجامع الصغير 22/234- وقال عنه الزمخشري: "الله أعلم بصحته" (الكشاف 1/426)