محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{فَلَمَّا وَضَعَتۡهَا قَالَتۡ رَبِّ إِنِّي وَضَعۡتُهَآ أُنثَىٰ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا وَضَعَتۡ وَلَيۡسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلۡأُنثَىٰۖ وَإِنِّي سَمَّيۡتُهَا مَرۡيَمَ وَإِنِّيٓ أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ} (36)

( فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم36 ) .

( فلما وضعتها ) الضمير لما في بطني ، وإنما أنث على المعنى ، لأن ما في بطنها كان أنثى في علم الله ، أو على تأويل النفس أو النسمة ( قالت رب إني وضعتها أنثى ) أي وكنت رجوت أن يكون ذكرا ، وإنما تحسرت أو اعتذرت إذ جهلت قدرها ( والله أعلم بما وضعت ) قرىء في السبع بسكون التاء وضمها ، فعلى القراءة الأولى تكون الجملة المعترضة من كلامه تعالى ، إما لدفع ما يتراءى من أن قولها ( رب إني وضعتها أنثى ) قصدت بها إعلام / الله تعالى عن أن يحتاج إلى إعلامها ، فأزيلت الشبهة بقوله : ( والله أعلم بما وضعت ) هذه ما يتراءى لي . وإما لما ذكروه من أن الاعتراض تعظيم من جهته تعالى لموضوعها ، وتفخيم لشأنه ، وتجهيل لها بقدره ، أي والله أعلم بالنفس التي وضعتها ، وما علق بها من عظائم الأمور ، وجعلها وابنها آية للعالمين ، وهي غافلة عن ذلك . وعلى القراءة الثانية أعني ضم التاء ، فالاعتراض من كلامها . إما للوجه الأول من الوجهين السابقين كما استظهرته ، أو لما ذكروه من قصد الاعتذار إلى الله تعالى حيث أتت بمولود لا يصلح لما نذرته ، أو تسلية نفسها على معنى : لعل الله تعالى فيه سرا وحكمة ، ولعل هذه الأنثى خير من الذكر ( وليس الذكر كالأنثى ) جملة معترضة أيضا ، إما من كلامه تعالى قصد به معذرتها في التحسر والتحزن ببيان فضل الذكر على الأنثى ، ولذا جلبت النفوس على الرغبة فيه دونها ، لا سيما في هذا المقام أعني مقام قصد اخلاص النذير للعبادة . فإن الذكر يفضلها من وجوه منها :

أن الذكر يصح أن يستمر على خدمة موضع العبادة ولا يصح في الأنثى لمكان الحيض فيه وسائر عوارض النسوان .

منها : أن الذكر يصلح لقوته وشدته للخدمة والاختلاط دون الأنثى فإنها ضعيفة لا تقوى على الخدمة .

ومنها : أن الذكر لا يلحقه عيب في الخدمة والاختلاط بالناس وليس كذلك الأنثى .

ومنها : أن الذكر لا يلحقه من التهمة عند الاختلاط ما يلحق الأنثى .

فهذه الوجوه تقتضي فضل الذكر على الأنثى في هذا المقام . واللام في ( الذكر والأنثى ) على هذا الملحظ ، للجنس- كذا ظهر لي- وعلى قولهم اللام للعهد فيهما أي ليس الذكر الذي طلبته وتخيلت فيه كمالا ، قصاراه أن يكون كواحد من الأحبار ، كالأنثى التي وهبت لها . فإن دائرة علمها وأمنيتها لا تكاد تحيط بما فيها من جلائل الأمور . هذا ، وإما أن تكون هذه الجملة من كلامها ، والقصد حينئذ تأكيد الاعتذار ببيان أن الذكر ليس كالأنثى في الفضيلة والمزية ، وصلاحية خدمة المتعبدات ، فإنهن بمعزل عن ذلك ، فاللام للجنس .

لطيفة :

قيل : قياس كونه من قولها أن يكون " وليست الأنثى كالذكر " فإن مقصودها تنقيص / الأنثى بالنسبة إلى الذكر . والعادة في مثله أن ينفي عن الناقص شبهه بالكامل ، لا العكس . قال الناصر في ( الانتصاف ) وقد وجد الأمر في ذلك مختلفا فلم يثبت عين مل قيل . ألا ترى إلى قوله تعالى : ( لستن كأحد من النساء ) ، فنفى عن الكامل شبه الناقص ، مع أن الكمال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ثابت بالنسبة إلى عموم النساء ، وعلى ذلك جاءت عبارة امرأة عمران ، والله أعلم . ومنه أيضا : ( أفمن يخلق كمن لا يخلق ، أفلا تذكرون ) . انتهى .

( وإني سميتها مريم ) قال المفسرون : هي في لغتهم بمعنى العابدة ، سمتها بذلك رجاء وتفاؤلا أن يكون فعلها مطابقا لاسمها . لكن رأيت في تأويل الأسماء الموجودة في التوراة والإنجيل أن مريم معناه مرارة أو مر البحر . فلينظر . قال السيوطي في ( الإكليل ) : في الآية دليل على جواز تسمية الأطفال يوم الولادة وأنه يتعين يوم السابع ، لأنها إنما قالت هذا بأثر الوضع ، كما فيها مشروعية التسمية للأم ، وأنها لا تختص بالأب . ثم طلبت عصمتها فقالت : ( وإني أعيذها بك ) أي أجيرها بحفظك ( وذريتها من الشيطان الرجيم ) أي المطرود لمخالفتك ، فلا تجعل عليها وعلى ذريتها له سلطانا يكون سببا لطردهما .