ولما أخبر بما اقتضى مضي عزمها قبل الوضع أخبر بتحقيقه بعده فقال : { فلما وضعتها قالت } أي تحسراً ذاكرة وصف الإحسان استمطاراً للامتنان { رب إني وضعتها } قال الحرالي : من الوضع وهو إلقاء الشيء المستثقل{[16424]} { أنثى } هي أدنى زوجي{[16425]} الحيوان المتناكح - انتهى . ولما كان الإخبار عادة إنما هو لمن لا يعلم الخبر{[16426]} بينت أن أمر الله سبحانه وتعالى ليس كذلك ، لأن المقصود بإخباره ليس مضمون الخبر وإنما هو شيء من لوازمه وهنا التحسر فقالت : { والله } أي الذي له صفات الكمال .
ولما كان المراد التعجيب{[16427]} من هذه المولودة بأنها من خوارق العادات عبرت{[16428]} عنها بما فقالت{[16429]} : { أعلم بما وضعت } وعبرت بالاسم الأعظم موضع ضمير الخطاب إشارة إلى السؤال في أن يهبها من كماله ويرزقها من هيبته وجلاله ، وفي قراءة إسكان التاء الذي هو{[16430]} إخبار من الله سبحانه وتعالى عنها - كما قال الحرالي - إلاحة{[16431]} معنى أن مريم عليها الصلاة والسلام وإن كان ظاهرها الأنوثة ففيها حقيقة المعنى الذي ألحقها بالرجال في الكمال ، حتى كانت ممن كمل من النساء لما{[16432]} لا يصل إليه كثير من رجال عالمها ، فكان في إشعاره أن الموضوع كان ظاهره ذكراً وحقيقته أنثى .
ولما كان مقصودها مع إمضاء نذرها بعد تحقق كونها أنثى التحسر على ما فاتها من الأجر في خدمة البيت المقدس بما{[16433]} يقابل فضل قوة الذكر على الأنثى وصلاحيته للخدمة في كل أحواله قالت : { وليس الذكر } أي{[16434]} الذي هو معتاد للنذر وكنت أحب أن تهبه لي لأفوز بمثل أجره في هذا الفرض في قوته وسلامته من العوارض{[16435]} المانعة من المكث في المسجد ومخالطة القومة{[16436]} { كالأنثى } التي وضعتها ، وهي داخلة في عموم{[16437]} النذر{[16438]} بحكم الإطلاق في الضعف وعارض الحيض ونحوه فلا ينقص يا رب أجري بسبب ذلك ، ولو قالت : وليست الأنثى كالذكر ، لفهم أن مرادها أن نذرها لم يشملها فلا حق للمسجد فيها من جهة الخدمة .
قال الحرالي : وفي إشعار هذا القول تفصل{[16439]} مما تتخوفه أن لا يكون ما وضعته كفافاً لنذرها ، لما شهدت من ظاهر أنوثة ما وضعت ، فجعلها الله سبحانه وتعالى لها أكمل مما اشتملت عليه عزيمتها من رتبة الذكورة التي كانت تعهدها{[16440]} ، فكانت مريم عليها السلام أتم من معهود نذرها مزيد فضل من ربها عليها بعد وفاء حقيقة مقصودها في نذرها - انتهى . ويجوز أن يكون هذا من كلام الله سبحانه وتعالى كالحالية{[16441]} التي قبله إذا أسكنت التاء ، والتقدير : قالت كذا والحال أن الله أعلم منها بما وضعت ، والحال أيضاً{[16442]} أنه ليس الذكر الذي{[16443]} أرادته بحكم معتاد النذر{[16444]} كالأنثى التي وهبت لها فدخلت فيه بحكم إطلاقه ، بل هي أعلى ، لأن غاية ما تعرفه من المنذورين أن يكون كأنبيائهم المقررين لحكم التوراة ، وهذه الأنثى مع ما لها من العلو في نفسها ستكون سبباً في السؤال في نبي هو أعظم أنبيائهم ، وتلد صاحب شريعة مستقلة ، ثم{[16445]} يكون مقرراً لأعظم الشرائع .
ولما تم ما قالته عند الوضع أو قاله الله في تلك الحالة أتم سبحانه وتعالى الخبر عن بقية كلامها{[16446]} وأنها عدلت{[16447]} عن مظهر الجلالة إلى الخطاب على طريق أهل الحضرة ، وأكدت إعلاماً بشدة رغبتها في مضمون كلامها فقال حاكيا : { وإني سميتها مريم } ومعنى هذا الاسم بلسانهم : العابدة . قال الحرالي : فيه إشعار بأن من جاء بشيء أو قربه فحقه{[16448]} أن يجعل له اسماً ، ورد أن السقط إذا لم يسم يطالب من حقه أن يسميه فيقول{[16449]} : يا رب ! أضاعوني ، فكان من تمام أن وضعتها أن تسميها{[16450]} ، فيكون إبداؤها لها{[16451]} وضع عين وإظهار اسم ، لما في وجود الاسم من كمال الوجود في السمع كما هو في العين ، ليقع التقرب والنذر بما هو كامل الوجود عيناً واسماً .
ولما كانت محررة لله سبحانه وتعالى كان حقاً أن يجري الله سبحانه وتعالى إعاذتها قولاً كما هو جاعلها معاذة كوناً من حيث هي له{[16452]} ، وما كان في حمى{[16453]} الملك لا يتطرق إليه طريدة{[16454]} فقالت : { وإني أعيذها بك } وفي قوله : { وذريتها } إشعار بما أوتيته{[16455]} من علم{[16456]} بأنها ذات{[16457]} ذرية ، فكأنها نطقت عن غيب من أمر الله سبحانه وتعالى مما لا يعلمه إلا الله ، فهو معلمه لمن شاء{[16458]} .
ولما كان من في حصن الملك وحرزه بجواره{[16459]} بعيداً ممن أحرقه بنار البعد وأهانه{[16460]} بالرجم{[16461]} حققت الإعادة بقولها : { من الشيطان الرجيم * } وفي هذا التخليص{[16462]} لمريم عليها السلام بالإعاذة ولذريتها حظ من التخليص المحمدي{[16463]} لما شق صدره ونبذ حظ{[16464]} الشيطان منه وغسل قلبه بالماء والثلج في البداية الكونية ، وبماء زمزم في البداية النبوية عند الانتهاء الكوني ، فلذلك كان لمريم ولذريتها بمحمد صلى الله عليه وسلم اتصال واصل ؛ قال صلى الله عليه وسلم : " أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم ، من أجل أنه ليس بيني وبينه نبي ، وبما هو حكم أمامه في خاتمة يومه وقائم من{[16465]} قومة دينه " .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.