الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَلَمَّا وَضَعَتۡهَا قَالَتۡ رَبِّ إِنِّي وَضَعۡتُهَآ أُنثَىٰ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا وَضَعَتۡ وَلَيۡسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلۡأُنثَىٰۖ وَإِنِّي سَمَّيۡتُهَا مَرۡيَمَ وَإِنِّيٓ أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ} (36)

قوله تعالى : { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا } : الضمير في " وضعَتْها " يعود على " ما " من حيث المعنى ، لأن الذي في بطنها أنثى في علم الله تعالى ، فعاد الضميرُ على معناها ، دونَ لفظها . وقيل : إنما أنَّثه حَمْلاً على معنى النَّسَمَةِ أو الحَبْلة أو النفسِ ، قاله الزمخشري وقال ابن عطية : " حَمْلاً على الموجودة

[ ورفعاً لِلَفْظِ " ما " في قوله : { ما في بطني ] محرّراً } .

قوله : { أُنْثَى } فيه وجهان :

أحدهما : أنها منصوبةٌ على الحال وهي حال مؤكدة لأن التأنيثَ مفهومٌ من تأنيث الضمير ، فجاءت " أنثى " مؤكدة ، قال الزمخشري " فإنْ قلت : كيف جاز انتصاب " أنثى " حالاً من الضمير في " وضَعَتْها " وهو كقولك : " وضَعَتِ الأنثى أنثى " ؟ قلت : الأصل وضَعَتْه أنثى ، وإنما أُنِّث لتأنيث الحال ، لأن الحال وذا الحال لشيء واحد كما أَنَّث الاسمَ في " مَنْ كانت أمَّك " لتأنيث الخبر . ونظيرُه قولُه تعالى : { فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ }

[ النساء : 176 ] ، وأمَّا على تأويل النَّسَمَة والحَبْلة فهو ظاهرٌ ، كأنه قيل : إني وضَعْتُ الحَبْلَةَ والنَّسَمة أنثى " يعني أنَّ الحال على الجوابِ الثاني تكون مبيَّنةً لا مؤكدةً ، وذلك لأن النسمة والحبلة تصدُق على الذَّكر وعلى الأنثى ، فلمَّا حَصَل فيها الاشتراكُ جاءت الحالُ مبينة لها .

إلاَّ أنَّ الشيخَ ناقشه في الجواب الأول فقال : " وآل قَوْلُه يعني الزمخشري إلى أنها حال مؤكدة ، ولا يُخْرِجُه تأنيثُه لتأنيث الحال عن أن تكون حالاً مؤكِّدة . وأمَّا تشبيهُه ذلك بقوله : " مَنْ كانت أمَّك " حيث عادَ الضميرُ على معنى " مَنْ " فليس ذلك نظيرَ " وضَعَتْها أنثى " لأن ذلك حُمِل على معنى " مَنْ " إذ المعنى : أيةُ امرأة كانَتْ أمَّك ، أي : كانت هي أي أمَّك ، فالتأنيثُ ليس لتأنيث الخبر ، وإنما هو من باب الحَمْل على معنى مَنْ ، ولو فرضنا أنه من تأنيث الاسم لتأنيث الخبر لم يكن نظيرَ " وضَعَتْها أنثى " لأنَّ الخبرَ تخصَّص بالإِضافة إلى الضميرِ ، فاستُفيد من الخبرِ ما لا يُسْتفاد من الاسم ، بخلافِ " أنثى " فإنه لمجردِ التوكيدِ . وأمَّا تنظيرُه بقولِهِ : { فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ } فيعني أنه ثَنَّى الاسم لتثنيةِ الخبرِ ، والكلامُ عليه يأتي في مكانه ، فإنه من المُشْكلات ، فالأحسن أن يُجْعَلَ الضميرُ في " وضعَتْها أنثى " عائداً على النَّسَمَة أو النفس ، فتكون الحالُ مبينةً لا مؤكدةً " .

قلت : قوله " ليس نظيرَه ، لأنَّ " مَنْ كانت أمَّك " حُمِل فيه على معنى [ مَنْ ] ، وهذا أُنِّث لتأنيث الخبر " ليس كما قال ، بل هو نظيرهُ ، وذلك أنه في الآية الكريمةُ حُمِل على معنى " ما " كما حُمِل هناك على معنى " مَنْ " ، وقول الزمخشري : " لتأنيث الخبرِ " أي : لأنَّ المراد ب " مَنْ " التأنيثُ بدليل تأنيثِ الخبرِ ، فتأنيثُ الخبرَ بيَّن لنا أن المراد ب " مَنْ " المؤنث ، كذلك تأنيثُ الحال وهي أنثى بَيَّن لنا أن المراد ب " ما " في قوله : { ما في بطني } أنه شيء مؤنث ، وهذا واضح لا يَحتاج إلى فكر .

وأما قوله : " فقد استُفيد من الخبر ما لا يُسْتفاد من الاسم بخلاف " وضَعَتْها أنثى " فإنه لمجردِ التوكيد " فليس بظاهرٍ أيضاً ؛ وذلك لأنَّ الزمخشري إنما أراد بكونه نظيرَه من حيث إنَّ التأنيث في كلٍّ من المثالَيْنِ مفهومٌ قبلَ مجيءِ الحال في الآية ، وقبلَ مجيءِ الخبرِ في النظير المذكور . أمَّا كونُه يفارقه في شيء آخرَ لعارضٍ فلا يَضُرُّ ذلك في التنظيرِ ، ولا يُخْرِجُه عن كونه يُشْبِهُه من هذه الجهة .

وقد تحصَّل لك في هذه الحال وجهان :

أحدُهما : أنها مؤكدةٌ إنْ قلنا إنَّ الضمير في " وضعَتهْا " عائدٌ على معنى " ما " .

والثاني : أنها مبيِّنة إنْ قلنا : إنَّ الضميرَ عائدٌ على معنى الحَبْلة أو النَّسَمة أو النفس ، لصِدْقِ كلٍّ من هذه الألفاظِ الثلاثةِ على الذكرِ والأنثى .

الوجه الثاني من وجهي " أنثى " : أنها بدلٌ من " ها " في " وضَعَتْها " بدلُ كلٍ من كلٍ ، قاله أبو البقاء ، ويكونُ في هذا البدلِ بيانُ ما المرادُ بهذا الضمير ، وهذا من المواضع التي يُفَسَّر فيها الضميرُ بما بعدَه لفظاً ورتبةً . فإنْ كان الضمير مرفوعاً نحو : { وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ }

[ الأنبياء : 3 ] على أحدِ الأوجه ، فالكلُّ يجيزون فيه البدلَ . وإنْ كان غيرَ مرفوعٍ نحو : " ضربْتُه زيداً " ومَرَرْتُ به زيدٍ ، فاخْتُلِف فيه ، والصحيح جوازُه كقول الشاعر :

على حالةٍ لو أنَّ في القوم حاتماً *** على جودِه لضنَّ بالماءِ حاتمِ

بجرِّ " حاتم " الأخيرِ ، بدلاً من الهاء في " جودِه " .

قوله : { بِمَا وَضَعَتْ } قرأ ابن عامر وأبو بكر : " وَضَعْتُ " بتاء المتكلم ، وهو من كلام أم مريم عليها السلام خاطَبَتْ بذلك نفسها تَسَلِّياً لها ، واعتذاراً لله تعالى حيث أتَتْ بمولود لا يَصْلُح لمِا نَذَرَتْه من سِدانة بيتِ المقدس . قال الزمخشري وقد ذكر هذه القراءة : " تعني ولَعلَّ لله تعالى فيه سراً وحكمة ، ولعلَّ هذه الأنثى خيرٌ من الذكر تسليةً لنفسها " . وفي قولهِا { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } التفاتٌ من الخطاب إلى الغَيْبة ، إذ لو جَرَتْ على مقتضى قولِها : " ربِّ " لقالت : " وأنت أعلم " .

وقرأ الباقون : " وضَعَتْ " بتاء التأنيث الساكنة على إسناد الفعل لضميرِ مريم عليها السلام ، وهو من كلامِ الباري تبارك وتعالى ، وفيه تنبيهٌ على عِظَمِ قَدْر هذا المولودِ ، وأنَّ له شأْناً لم تعرفيه ، ولم تَعْرفي إلا كونه أنثى لا غير ، دونَ ما يَؤُول إليه من أمورٍ عظامٍ وآياتٍ واضحةٍ ، قال الزمخشري : " ولتكلُّمِها بذلك على وجه التَحزُّنِ والتحسُّرِ قال الله تعالى : { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } تعظيماً لموضوعِها وتجهيلاً لها بقدْر ما وَهَبَ لها منه ، ومعناه : والله أعلم بالشيء الذي وضعَتْ وما عَلِق من عظائم الأمور ، وأَنْ يجعلَه وولدَه آيةً للعالمين ، وهي جاهلةٌ بذلك لا تعلم منه شيئاً فلذلك تَحَسَّرت " .

وقد رجَّح بعضُهم القراءةَ الثانية على الأولى بقوله : { وَاللَّهُ أَعْلَمُ } قال : " لو كان من كلامِ أم مريم لكانَ التركيبُ : وأنت أعلمُ " وقد تقدَّم جوابُ هذا وأنه التفات .

وقرأ ابنُ عباس : " وضَعْتِ " بكسر التاء على أنها تاءُ المخاطبة ، خاطبها الله تعالى بذلك بمعنى : أنك لا تعلمين قَدْر هذه المولودة ، ولا قَدْر ما عَلِمه الله فيها من عظائم الأمور .

قوله : { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى } هذه الجملةُ تحتمل أن تكونَ معترضة ، وأن يكونَ لها محلٌّ ، وذلك بحسَبِ القراءات المذكورة في " وضعت " ، كما سيمرُّ بك تفصيله . والألفُ واللام في " الذَّكَر " يُحْتمل أن تكونَ للعهد ، والمعنى : ليس الذكرُ الذي طلبَتْ كالأنثى التي وُهِبَتْ لها . قال الزمخشري : " فإنْ قلت : فما معنى قولِها : " وليس الذكر كالأنثى " ؟ قلت : هو بيانٌ ل " ما " في قوله : { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } من التعظيم للموضوعِ والرفعِ منه ، ومعناه : وليس الذكر الذي طَلَبَتْ كالأنثى التي وُهِبت لها ، والألفُ واللام فيهما للعهد " وأن تكون للجنس على أن مرادها أنَّ الذكر ليس كالأنثى في الفَضْلِ والمزيَّة ؛ إذ هو صالح لخدمةِ المُتَعبِّدات وللتحرير ولمخالطةِ الأجانب بخلاف الأنثى ، وكان سياقُ الكلام على هذا يَقْتضي أن يَدْخُلَ النفي على ما استقرَّ وحَصَلَ عندها وانتفَتْ عنه صفاتُ الكمالِ للغرضِ المقصودِ منه ، فكان التركيب : وليس الأنثى كالذكر ، وإنما عَدَلَ عن ذلك لأنها بَدَأَتْ بالأهمِّ بما كانت تريده . وهو المتلَجْلجُ في صدرِها والحائكُ في نفسها فلم يَجْرِ لسانُها في ابتداء النطق إلا به فصار التقديرُ : وليس جنسُ الذكر مثلَ جنس الأنثى لِما بينهما من التفاوتِ فيما ذكَر . ولولا هذه المعاني التي استنبَطَها العلماءُ وفهموها عن الله تعالى لم يكنْ لمجردِ الإِخبارِ بالجملةِ الليسية معنًى ؛ إذ كلُّ أحدٍ يعلم أنَّ الذكرَ ليس كالأنثى .

وقوله : { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } هذه الجملةُ معطوفةٌ على قولِه : { إِنِّي وَضَعْتُهَآ } على قراءةِ مَنْ ضَمَّ التاء في قوله " وضَعْتُ " فتكونُ هي وما قبلها من محلِّ نصب بالقول ، والتقدير : قالت إني وضعتُها ، وقالت : والله أعلم بما وضعتُ ، وقالَتْ : وليس الذكر كالأنثى ، وقالت : إني سميتها مريم . وأما على قراءة مَنْ سكن التاء أو كسرها فيكون " إني سَمَّيْتُها " أيضاً معطوفاً على " إني وضعتُها " ، ويكون قد فَصَل بين المتعاطفين بجملتي اعتراض كقوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [ الواقعة : 76 ] قاله الزمخشري .

قال الشيخ : " ولا يتعيَّن ما ذَكَر من كونِهما جملتين معترضتين ، لأنه يُحْتمل أن يكون { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى } في هذه القراءةِ مِنْ كلامِها ، ويكون المعترضُ جملةً واحدة كما كان من كلامها في قراءة من قرأ : " وضعْتُ " بضم التاء ، بل ينبغي أن يكونَ هذا المتعيِّن لثبوتِ كونه من كلامها في هذه القراءةِ ، ولأنَّ في اعتراضِ جملتين خلافاً ، مذهبُ أبي علي أنه لا تعْتَرِضُ جملتان ، وأيضاً تشبيهُه هاتين الجملتين اللتين اعترَض بهما على زَعْمِه بين المعطوف والمعطوف عليه بقوله : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } ليس تشبيهاً مطابقاً للآية لأنه لم تَعْتَرضْ جملتان بين طالب ومطلوب ، بل اعتُرِض بين القسمِ الذي هو : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } وبين جوابه الذي هو : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } بجملةٍ واحدة ، وهي قولُه :

{ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } لكنه جاء في جملة الاعتراضِ بين بعضِ أجزائهِ وبعضٍ اعتراض بجملة وهو قوله : " لو تعلمون " اعترضَ به بين المنعوتِ الذي هو " لقسمٌ " وبين نعتهِ الذي هو " عظيم " ، فهذا اعتراضٌ في اعتراضٌ ، فليس فصلاً بجملتي اعتراض كقوله : { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى } قلت : والمُشَاحَّةُ بمثل هذه الأشياء ليست طائلة ، وقولُه : " ليس فصلاً بجملتي اعتراض " ممنوعٌ ، بل هو فصلٌ بجملتي اعتراض ، وكونُه جاء " اعتراضٌ في اعتراض " لا يَضُرُّ ذلك ولا يَقْدَحُ في قوله : " فَصَل بجملتين " .

و " سَمَّى " يتعدَّى لاثنين ، أحدُهما بنفسه وإلى الآخر بحرف الجر ، ويجوزُ حَذْفُه ، تقول : سمَّيت ابني زيداً والأصل : يزيد ، قال الشاعر فجمع بين الأصل والفرع :

وسُمِّيْتَ كَعْباً بشَرِّ العِظَامِ *** وكان أبوكَ يُسَمَّى الجُعَلْ

أي : يُسَمَّى بالجُعَلْ . وقد تقدَّم الكلامُ في " مريم " واشتقاقِها ومعناها وكونِها من الشاذ عن نظائره .

قوله : { وِإِنِّي أُعِيذُهَا } عطفٌ على " إني سَمَّيْتُها " ، وأتى هنا بخبرِ " إنَّ " فعلاً مضارعاً دلالةً على طلبِها استمرارَ الاستعاذة دونَ انقطاعِها ، بخلافِ قولِه : " وضَعْتُها وسَمَّيْتُها " حيث أتى بالخبرين ماضِيَيْن لانقطاعِهما ، وقَدَّم المعاذَ به على المعطوف اهتماماً به .

وفَتَح نافع ياءَ المتكلم قبل هذه الهمزةِ المضمومةِ ، وكذلك كلُّ ياء وقعَ بعدَها همزةٌ مضمومةً إلا موضعين ، فإنَّ الكلَّ اتفقوا على سكونها فيهما :

{ بِعَهْدِي أُوفِ } [ البقرة : 40 ] { آتُونِي أُفْرِغْ } [ الكهف : 96 ] ، والباقي عشرة مواضع ، هذا الذي في هذه السورة أحدها .