قوله تعالى : { ليميز الله الخبيث } في سبيل الشيطان .
قوله تعالى : { من الطيب } ، يعني : الكافر من المؤمن ، فينزل المؤمن الجنان ، والكافر النيران ، وقال الكلبي : العمل الخبيث من العمل الصالح الطيب . فيثيب على الأعمال الصالحة الجنة ، وعلى الأعمال الخبيثة النار ، وقيل : يعني : الإنفاق الخبيث في سبيل الشيطان من الإنفاق الطيب في سبيل الله .
قوله تعالى : { ويجعل الخبيث بعضه على بعض } ، أي : فوق بعض .
قوله تعالى : { فيركمه جميعاً } ، أي : يجمعه ، ومنه السحاب المركوم ، وهو المتجمع الكثيف .
قوله تعالى : { فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون } ، رده إلى قوله : { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم } { أولئك هم الخاسرون } الذين خسرت تجارتهم لأنهم اشتروا بأموالهم عذاب الآخرة .
وقوله : { لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب وَيَجْعَلَ الخبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ } بيان لحكمته - سبحانه - في هزيمة الكافرين وحشرهم إلى جهنم .
وقوله : { فَيَرْكُمَهُ } أى : فيجمعه ويضم بعضه يقال : ركم الشئ يركمه ، إذا جمعه وألقى بعضه على بعضه . وارتكم الشئ وتراكم أى : اجتمع .
والمعنى : أنه - سبحانه - فعل ما فعل من خذلان الكافرين وحشرهم إلى جهنم ، ومن تأييد المؤمنين وفوزهم برضوانه ، ليتميز الفريق الخبيث وهو فريق الكافرين ، من الفريق الطيب وهو فريق المؤمنين ، فإذا ما تمايزوا جل - سبحانه - الفريق الخبيث منضما بعضه على بعض ، فيلقى به في جهنم جزاء خبثه وكفره . واللام في قوله { لِيَمِيزَ } متلعقة بقوله { يُغْلَبُونَ } أو بقوله { يُحْشَرُونَ } ويجوز أن يكون المراد بالخبيث ما أنفقه الكافرون من أموال للصد عن سبيل الله ، وبالطيب ما أنفقه المؤمنون من أموال لإِعلاء كلمة الله . وعليه تكون اللام في قوله { لِيَمِيزَ } متعلقة بقوله : { ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً } أى : أنه - سبحانه - يميز هذه الأموال بعضها من بعض ، ثم يضم الأموال الخبيثة بعضها إلى بعض ، فيلقى بها بوأصحابها في جهنم .
والتعبير بقوله - سبحانه - { فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً } تعبير مؤثر بليغ ، لأنه يصور الفريق الخبيث كأنه لشدة تزاحمه وانضمام بعضه إلى بعض شئ متراكم مهمل ، يقذف به في النار بدون اهتمام أو اعتبار .
واسم الإِشارة في قوله : { أولئك هُمُ الخاسرون } يعود إلى هذا الفريق الخبيث ، أى : أولئك الكافرون الذين أنفقوا أموالهم في الصد عن سبيل الله هم الخاسرون لدنياهم وآخرتهم .
( ليميز الله الخبيث من الطيب ، ويجعل الخبيث بعضه على بعض ، فيركمه جميعاً ؛ فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون ) . .
إن هذا المال الذي ينفق يؤلب الباطل ويملي له في العدوان ؛ فيقابله الحق بالكفاح والجهاد ؛ وبالحركة للقضاء على قدرة الباطل على الحركة . . وفي هذا الاحتكاك المرير ، تنكشف الطباع ، ويتميز الحق من الباطل ، كما يتميز أهل الحق من أهل الباطل - حتى بين الصفوف التي تقف ابتداء تحت راية الحق قبل التجربة والابتلاء ! - ويظهر الصامدون الصابرون المثابرون الذين يستحقون نصر الله ، لأنهم أهل لحمل أماناته ، والقيام عليها ، وعدم التفريط فيها تحت ضغط الفتنة والمحنة . . عند ذلك يجمع الله الخبيث على الخبيث ، فيلقي به في جهنم . . وتلك غاية الخسران . .
والتعبير القرآني يجسم الخبيث حتى لكأنه جِرم ذو حجم ، وكأنما هو كومة من الأقذار ، يقذف بها في النار ، دون اهتمام ولا اعتبار !
( فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم ) . .
وهذا التجسيم يمنح المدلول وقعا أعمق في الحس . . وتلك طريقة القرآن الكريم في التعبير والتأثير . .
وقوله تعالى : { لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } فيميز أهل السعادة من أهل الشقاء{[12931]} وقال السُّدِّي : يميز المؤمن من الكافر . وهذا يحتمل أن يكون هذا التمييز في الآخرة ، كما قال تعالى : { ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ } [ يونس : 28 ] ، وقال تعالى{ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [ الروم : 14 ] ، وقال في الآية الأخرى : { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } [ الروم43 ] ، وقال تعالى : { وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ } [ يس : 59 ] .
ويحتمل أن يكون هذا التمييز في الدنيا ، بما يظهر من أعمالهم للمؤمنين ، وتكون " اللام " معللة لما جعل الله للكفار من مال ينفقون في الصد عن سبيل الله ، أي : إنما أقدرناهم على ذلك ؛{ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } أي : من يطيعه بقتال أعدائه الكافرين ، أو يعصيه بالنكول عن ذلك كما قال تعالى : { وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ } الآية [ آل عمران : 166 ، 167 ] ، وقال تعالى : { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ } الآية [ آل عمران : 179 ] ، وقال تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } [ آل عمران : 142 ]ونظيرتها في براءة أيضا .
فمعنى الآية على هذا : إنما ابتليناكم بالكفار يقاتلونكم ، وأقدرناهم على إنفاق الأموال وبذلها في ذلك ؛ ليتميز{[12932]} الخبيث من الطيب ، فيجعل الخبيث بعضه على بعض ، { فَيَرْكُمَهُ } أي : يجمعه كله ، وهو جمع الشيء بعضه على بعض ، كما قال تعالى في السحاب : { ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا } [ النور : 43 ]أي : متراكما متراكبا ، { فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } أي : هؤلاء هم الخاسرون في الدنيا والآخرة .
وقرأ ابن كثير ونافع عاصم وأبو عمرو وابن عامر «ليَمِيز » بفتح الياء وكسر الميم ، وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وشيبة بن نصاح وشبل وأبي عبد الرحمن والحسن وعكرمة ومالك بن دينار ، تقول مزت الشيء ، والعرب تقول مزته فلم يتميز لي ، حكاه يعقوب وفي شاذ القراءة وانمازوا{[5340]} اليوم ، وأنشد أبو زيد : [ البسيط ]
لما ثنى الله عني شرَّ عدوتِهِ*** وانمزت لا منشئاً ذعراً ولا وجلا{[5341]}
وهو مطاوع ماز ، وقرأ حمزة والكسائي «ليُمَيّز » بضم الياء وفتح الميم وشد الياء ، وهي قراءة الأعرج وطلحة بن مصرف والأعمش والحسن أيضاً عيسى البصري ، تقول ميزت أميز إذا فرقت بين شيئين فصاعداً ، وفي القرآن { تميز من الغيظ }{[5342]} فهو مطاوع ميز ومعناه تتفصل ، وقال ابن عباس رضي الله عنه والسدي ، المعنيّ ب { الخبيث } الكفار وب { الطيب } المؤمنون .
قال القاضي أبو محمد : واللام على هذا التأويل من قوله { ليميز } متعلقة ب { يحشرون } [ الأنفال : 36 ] والمعنى أن الله يحشر الكافرين إلى جهنم ليميز الكافرين من المؤمنين بأن يجمع الكافرين جميعاً فيلقيهم في جهنم ، ثم أخبر عنهم أنهم هم الخاسرون أي الذين خابت سعايتهم وتبت أيديهم وصاروا إلى النار ، وقال ابن سلام والزجّاج : المعنيّ ب { الخبيث } المال الذي أنفقه المشركون في الصد عن سبيل الله ، و { الطيب } هو ما أنفقه المؤمنون في سبيل الله .
قال القاضي أبو محمد : واللام على هذا التأويل من قوله { ليميز } متعلقة ب { يغلبون } [ الأنفال : 36 ] ، والمعنى : الكفار ينفقون أموالهم فتكون عليهم حسرة ثم يغلبون مع نفقتها ، وذلك ليميز الله الفرق بين الخبيث والطيب فيخذل أهل الخبيث وينصر أهل الطيب ، وقوله تعالى على هذا التأويل { ويجعل الخبيث بعضه على بعض } إلى قوله { في جهنم } مترتب على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن الله تعالى يخرج من الأموال ما كان صدقة أو قربة يوم القيامة ثم يأمر بسائر ذلك فيلقى في النار ، وحكى الزهراوي عن الحسن أن الكفار يعذبون بذلك المال ، فهي كقوله { فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم }{[5343]} وقاله الزجّاج : وعلى التأويلين فقوله { ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً } إنما هي عبارة عن جمع ذلك وضمه وتأليف أشتاته وتكاثفه بالاجتماع ، و { يركمه } في كلام العرب يكثفه ، ومنه { سحاب مركوم }{[5344]} وركام ، ومنه قول ذي الرمة : [ البسيط ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** زْع بالزمام وجوز الليلِ مركومُ{[5345]}
وقوله { ويجعل الخبيث } بمعنى يلقي ، قاله أبو علي ، { أولئك هم الخاسرون } على هذه التأويل يراد المنافقون من الكفار ، ولفظة الخسارة تليق بهم من جهة المال وبغير ذلك من الجهات .