109- وتذكروا يوم القيامة حين يجمع الله أمامه كلَّ الرسل ويسألهم قائلا لهم : ماذا أجابتكم به أممكم الذين أرسلتكم إليها ، أبالإيمان أم بالإنكار ؟ والأمم حينئذ حاضرة لتقوم عليهم الحُجة بشهادة رسلهم ، بأننا لا نعلم ما كان بعدنا من أمر من أرسلنا إليهم ، وأنت - وحدك - الذي تعلم ذلك ، لانك الذي أحاط علمه بالخفايا كما أحاط بالظواهر .
قوله تعالى : { يوم يجمع الله الرسل } ، وهو يوم القيامة .
قوله تعالى : { ماذا أجبتم } ، أي : ماذا أجابتكم أمتكم ؟ وما الذي رد عليكم قومكم حين دعوتموهم إلى توحيدي وطاعتي ؟
قوله تعالى : { قالوا } ، أي فيقولون .
قوله تعالى : { لا علم لنا } ، قال ابن عباس معناه : لا علم لنا إلا العلم الذي أنت أعلم به منا ، وقيل : لا علم لنا بوجه الحكمة عن سؤالك إيانا عن أمر أنت أعلم به منا ، وقال ابن جريح : لا علم لنا بعاقبة أمرهم .
قوله تعالى : { إنك أنت علام الغيوب } ، أي : أنت الذي تعلم ما غاب ، ونحن لا نعلم إلا ما نشاهد .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا مسلم بن إبراهيم ، أنا وهيب ، أنا عبد العزيز ، عن أنس رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ليردن علي ناس من أصحابي الحوض حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني ، فأقول : أصحابي ، فيقال : لا تدري ما أحدثوا بعدك ) . وقال ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، والسدي : إن للقيامة أهوالاً وزلازل تزول فيها القلوب عن مواضعها ، فيفزعون من هول ذلك اليوم ويذهلون عن الجواب ، ثم بعدما ثابت إليهم عقولهم ، يشهدون على أممهم .
وبعد أن ساقت السورة الكريمة قبل ذلك ما ساقت من تشريعات حكيمة ومن تفصيل لأحوال أهل الكتاب وعقائدهم الزائفة . بعد كل ذلك اتجهت السورة في أواخرها إلى الكلام عن أحوال الناس يوم القيامة وعن معجزات عيسى - عليه السلام - وعن موقف الحواريين منه . قال - تعالى :
{ يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ . . . }
قال الفخر الرازي : اعلم أن عادة الله تعالى - جارية في هذا الكتاب الكريم أنه إذا ذكر أنواعا كثيرة من الشرائع والتكاليف والأحكام ، أتبعها إما بالإِلهيات وإما بشرح أحوال الأنبياء أو بشرح أحوال القيامة ، ليصير ذلك مؤكدا لما تقدم ذكره من التكاليف والشرائع فلا جرم لما ذكر - فيما تقدم أنواعا كثيرة من الشرائع ، أتبعها بوصف أحوال القيامة .
أحدهما : أنها متصلة بما قبلها والتقدير : واتقوا الله يوم يجمع الله الرسل - فيكون قوله : { يَوْمَ يَجْمَعُ } بدل اشتمال من قوله في الآية السابقة { واتقوا الله } والقول الثاني : أنها منقطعة عما قبلها والتقدير :
اذكروا { يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل } .
والمعنى : لقد سقنا لكم - أيها الناس - ما سقنا من الترغيب والترهيب وبينا لكم ما بينا من الأحكام والآداب ، فمن الواجب عليهك أن تتقوا الله وأن تحذروا عقابه ، وأن تذكروا ذلك اليوم الهائل الشديد يوم يجمع الله الرسل الذين أرسلهم إلى مختلف الأقوام . في شتى الأمكنة والأزمان فيقول لهم : ماذا أجبتم من أقوامكم ؟
أي : ما الإِجابة التي أجابكم بها أقوامكم ؟
وخص - سبحانه - الرسل بالذكر - مع أن الرسل وغيرهم سيجمعون للحساب يوم القيامة - لإِظهار شرفهم وللإِيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بجمع غيرهم من الأقوام لأن هؤلاء الأقوام إنما هم تبع لهم .
وقال - سبحانه - { مَاذَآ أُجِبْتُمْ } ولم يقل - مثلا - " هل بلغتم رسالتي أولا " ؟ للإِشعار بأن الرسل الكرام قد بلغوا رسالة الله على أكمل وجه وأن الذين خالفوهم من أقوامهم سيتحملون وزر مخالفتهم يوم القيامة .
وقوله : { قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب } حكاية لاجابة الرسل فإن قيل : لماذا نفوا عن أنفسهم لاعلم مع أن عندهم بعض العلم ؟ فالجواب على ذلك أن هذا من باب التأديب مع الله - تعالى - فكأنهم يقولون : لا علم لنا يذكر بجانب عليمك المحيط بكل شيء ، ونحن وإن كنا قد عرفنا ما أجابنا به أقوامنا ، إلا أن معرفتنا هذه لا تتعدى الظواهر ، أما علمك أنت - يا ربنا - فشامل للظواهر والبواطن ، أو أنهم قالوا ذلك إظهارا للتشكي والالتجاء إلى الله ليحكم بينهم وبين أقوامهم الذين كذبوهم . أو أن مرادهم لا علم لنا بما كان منهم بعد أن فارقناهم وفارقنا من جاء بعدنا من الناس ، لأن علمنا مقصور على حال من شاهدناهم وعاصرناهم .
ورحم الله صاحب الكشاف قد حكى هذه الأقوال وغيرها بأسلوبه البليغ فقال :
فإن قلت : ما معنى سؤالهم ؟ قلت : توبيخ قومهم . كما كان سؤال الموءودة توبيخا للوائد . فإن قلت : كيف يقولون : " لا علم لنا وقد عملوا بما أجيبوا ؟ " .
قلت : يعلمون أن الغرض بالسؤال توبيخ أعدائهم فيكلون الأمر إلى علمه وإحاطته بما منوا به منهم - أي : بما ابتلوا به منهم - ، وكابدوا من سوء إجابتهم ، إظهارا للتشكي واللجأ إلى ربهم في الانتقام منهم ، وذلك أعظم على الكفرة ، وأفت في أعضادهم ، وأجلب لحسرتهم وسقوطهم في أيديهم ، إذا اجتمع توبيخ الله لهم وتشكى أنبيائه منهم . ومثاله : أن ينكب بعض الخوارج على السلطان خاصة من خواصه نكبة ، قد عرفها السلطان واطلع على كنهها وعزم على الانتصار له منه . فجمع بينهما ويقول له : ما فعل بك هذا الخارجي ؟ - وهو عالم بما فعل به - يريد توبيخه وتبكيته ، فيقول له : أنت أعلم بما فعل بي ، تفويضاً للأمر إلى علم سلطانه واتكالا عليه ، وإظهارا للكشاية وتعظيما لما حل به منه - ولله المثل الأعلى - وقيل : من هول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب ، ثم يجيبون بعدما تثوب إليهم عقولهم بالشهادة على أنفسهم .
وقيل معناه : علمنا ساقط مع علمك ومغمور ، لأنك علام الغيوب ، ومن علم الخفيات لم تخف عليه الظواهر التي فيها إجابة الأمم لرسلهم .
وقيل معناه : " لا علم لنا بما كان منهم بعدنا ، وإنما الحكم للخاتمة ، وكيف يخفي عليهم أمرهم وقد رأوهم سود الوجه موبخين " .
هذا الدرس بطوله بقية في تصحيح العقيدة ؛ وتقويم ما دخل عليها عند النصارى من انحرافات أخرجتها عن أصلها السماوي عند قاعدتها الأساسية . إذ أخرجتها من التوحيد المطلق الذي جاء به عيسى - عليه السلام - كما جاء به كل رسول قبله ، إلى ألوان من الشرك ، لا علاقة لها أصلاً بدين الله .
ومن ثم فإن هذا الدرس كذلك يستهدف تقرير حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية - كما هي في التصور الإسلامي - تقرير هذه الحقيقة من خلال هذا المشهد العظيم الذي يعرضه ؛ والذي يقرر فيه عيسى - عليه السلام - على ملأ من الرسل ، ومن البشر جميعاً ، أنه لم يقل لقومه شيئا مما زعموه من ألوهيته ومن تأليه أمه ؛ وأنه ما كان له أن يقول من هذا الشرك كله شيئاً !
والسياق القرآني يعرض هذه الحقيقة في مشهد تصويري من " مشاهد القيامة " التي يعرضها القرآن الكريم عرضاً حياً ناطقاً ، موحياً مؤثراً ، عميق التأثير ، يهتز له الكيان البشري وهو يتلقاه كأنما يشهده اللحظة في الواقع المنظور . الواقع الذي تراه العين ، وتسمعه الأذن . وتتجلى فيه الانفعالات والسمات النابضة بالحياة
فها نحن أولاء أمام المشهد العظيم :
{ يوم يجمع الله الرسل ، فيقول ماذا أجبتم ؟ قالوا : لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب } : يوم يجمع الله الرسل الذين فرقهم في الزمان فتتابعوا على مداره ؛ وفرقهم في المكان فذهب كل إلى قريته ؛ وفرقهم في الأجناس فمضى كل إلى قومه . . يدعون كلهم بدعوة واحدة على اختلاف الزمان والمكان والأقوام ؛ حتى جاء خاتمهم - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة الواحدة لكل زمان ومكان وللناس كافة من جميع الأجناس والألوان . .
هؤلاء الرسل إلى شتى الأقوام ، في شتى الأمكنة والأزمان . . ها هو ذا مرسلهم فرادى ، يجمعهم جميعاً ؛ ويجمع فيهم شتى الاستجابات ، وشتى الاتجاهات . وها هم أولاء . . نقباء البشرية في حياتها الدنيا ؛ ومعهم رسالات الله إلى البشرية في شتى أرجائها ، ووراءهم استجابات البشرية في شتى أعصارها . هؤلاء هم أمام الله . . رب البشرية - سبحانه - في مشهد يوم عظيم .
وها هو ذا المشهد ينبض بالحياة :
{ يوم يجمع الله الرسل . فيقول : ماذا أجبتم ؟ } .
{ ماذا أجبتم ؟ } . . فاليوم تجمع الحصيلة ، ويضم الشتات ، ويقدم الرسل حساب الرسالات ، وتعلن النتائج على رؤوس الأشهاد .
{ ماذا أجبتم ؟ } . . والرسل بشر من البشر ؛ لهم علم ما حضر ، وليس لديهم علم ما استتر .
لقد دعوا أقوامهم إلى الهدى ؛ فاستجاب منهم من استجاب ، وتولى منهم من تولى . . وما يعلم الرسول حقيقة من استجاب إن كان يعرف حقيقة من تولى . فإنما له ظاهر الأمر وعلم ما بطن لله وحده . . وهم في حضرة الله الذي يعرفونه خير من يعرف ؛ والذي يهابونه أشد من يهاب ؛ والذي يستحيون أن يدلوا بحضرته بشيء من العلم وهم يعلمون أنه العليم الخبير . إنه الاستجواب المرهوب في يوم الحشر العظيم ، على مشهد من الملأ الأعلى ، وعلى مشهد من الناس أجمعين . الاستجواب الذي يراد به المواجهة . . مواجهة البشرية برسلها ؛ ومواجهة المكذبين من هذه البشرية خاصة برسلهم الذين كانوا يكذبونهم . ليعلن في موقف الإعلان ، أن هؤلاء الرسل الكرام إنما جاءوهم من عند الله بدين الله ؛ وها هم أولاء مسؤولون بين يديه - سبحانه - عن رسالاتهم وعن أقوامهم الذين كانوا من قبل يكذبون .
أما الرسل فهم يعلنون أن العلم الحق لله وحده ؛ وأن ما لديهم من علم لا ينبغي أن يدلوا به في حضرة صاحب العلم ، تأدبا وحياء ، ومعرفة بقدرهم في حضرة الله :
وهذا إخبار عما يخاطب الله به المرسلين يوم القيامة ، عما أجيبوا به من أممهم الذين أرسلهم إليهم ، كما قال تعالى : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } [ الأعراف : 6 ] وقال تعالى : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الحجر : 92 ، 93 ] .
وقول الرسل : { لا عِلْمَ لَنَا } قال مجاهد ، والحسن البصري ، والسُّدِّي : إنما قالوا ذلك من هول ذلك اليوم .
قال عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن الأعمش ، عن مجاهد : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ } فيفزعون فيقولون : { لا عِلْمَ لَنَا } رواه ابن جرير وابن أبي حاتم .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حُمَيْد ، حدثنا حَكَّام ، حدثنا عَنْبَسَة قال : سمعت شيخًا يقول : سمعت الحسن يقول في قوله : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ } الآية ، قال : من هول ذلك اليوم .
وقال أسباط ، عن السُّدِّي : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا } ذلك : أنهم نزلوا منزلا ذهلت فيه العقول ، فلما سئلوا قالوا : { لا عِلْمَ لَنَا } ثم نزلوا منزلا آخر ، فشهدوا على قومهم . رواه ابن جرير .
ثم قال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا الحجاج ، عن ابن جُرَيْج قوله : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ } ماذا عملوا بعدكم ؟ وماذا أحدثوا بعدكم ؟ قالوا : { لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ }
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ } يقولون للرب ، عز وجل : لا علم لنا ، إلا علم أنت أعلم به منا .
رواه ابن جرير . ثم اختاره على هذه الأقوال الثلاثة{[10520]} ولا شك أنه قول حسن ، وهو من باب التأدب مع الرب ، عز وجل ، أي : لا علم لنا بالنسبة إلى علمك المحيط بكل شيء ، فنحن وإن كنا قد أجبنا وعرفنا من أجابنا ، ولكن منهم من كنا إنما نطلع على ظاهره ، لا علم لنا بباطنه ، وأنت العليم بكل شيء ، المطلع على كل شيء . فعلمنا بالنسبة إلى علمك كلا عِلْم ، فإنك { أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ }
{ والله لا يهدي القوم الفاسقين } أي لا يهديهم إلى حجة أو إلى طريق الجنة فقوله تعالى :{ يوم يجمع الله الرسل } ظرف له . وقيل بدل من مفعول واتقوا بدل الاشتمال ، أو مفعول واسمعوا على حذف المضاف أي واسمعوا خبر يوم جمعهم ، أو منصوب بإضمار اذكر . { فيقول } أي للرسل . { ماذا أجبتم } أي إجابة أجبتم ، على أن ماذا في موضع المصدر ، أو بأي شيء أجبتم فحذف الجار ، وهذا السؤال لتوبيخ قومهم كما أن سؤال الموؤدة لتوبيخ الوائد ولذلك { قالوا لا علم لنا } أي لا علم لنا بما لست تعلمه . { إنك أنت علام الغيوب } فتعلم ما نعلمه مما أجابونا وأظهروا لنا وما لا نعلم مما أضمروا في قلوبهم ، وفيه التشكي منهم ورد الأمر إلى علمه بما كابدوا منهم . وقيل المعنى لا علم لنا إلى جنب علمك ، أو لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا وإنما الحكم للخاتمة . وقرئ { علام } بالنصب على أن الكلام قد تم بقوله { إنك أنت } ، أي إنك أنت الموصوف بصفاتك المعروفة وعلام منصوب على الاختصاص أو النداء . وقرأ أبو بكر وحمزة الغيوب بكسر الغين حيث وقع .
وقوله تعالى : { ويوم يجمع الله الرسل } ذهب قوم من المفسرين إلى أن العامل في { يوم } ما تقدم من قوله { لا يهدي } ، وذلك ضعيف ، ورصف الآية وبراعتها ، إنما هو أن يكون هذا الكلام مستأنفاً ، والعامل مقدر إما اذكروا وإما تذكروا وإما احذروا ونحو هذا مما حسن اختصاره لعلم السامع ، والإشارة بهذا اليوم إلى يوم القيامة ، وخص الرسل بالذكر لأنهم قادة الخلق ، وفي ضمن جمعهم جمع الخلائق وهم المكلمون أولاً و { ماذا أجبتم } معناه ماذا أجابت به الأمم من إيمان أو كفر وطاعة أو عصيان ، وهذا السؤال للأنبياء الرسل إنما هو لتقوم الحجة على الأمم ويبتدأ حسابهم على الواضح المستبين لكل مفطور . واختلف الناس في معنى قولهم عليهم السلام { لا علم لنا } فقال الطبري ذهلوا عن الجواب لهول المطلع ، وذكر عن الحسن أنه قال : لا علم لنا من هول ذلك اليوم . وعن السدي أنه قال : نزلوا منزلاً ذهلت فيه العقول فقالوا لا علم لنا . ثم نزلوا منزلاً آخر شهدوا على قومهم ، وعن مجاهد أنه قال : يفزعون فيقولون لا علم لنا .
قال القاضي أبو محمد : وضعّف بعض الناس هذا المنزع بقوله تعالى : { لا يحزنهم الفزع الأكبر }{[4788]} والأنبياء في أشد أهوال يوم القيامة وحالة جواز الصراط يقولون سلم سلم وحالهم أعظم وفضل الله عليهم أكثر من أن تذهل عقولهم حتى يقولوا ما ليس بحق في نفسه ، وقال ابن عباس رضي الله عنه : معنى الآية لا علم لنا إلا علماً أنت أعلم به منا .
قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن ، كأن المعنى لا علم لنا يكفي وينتهي إلى الغاية ، وقال ابن جريج : معنى ماذا أجبتم ؟ ماذا عملوا بعدكم وما أحدثوا ؟ فلذلك قالوا لا علم لنا .
قال القاضي أبو محمد : وهذا معنى حسن في نفسه ، ويؤيده قوله تعالى : { إنك أنت علام الغيوب } لكن لفظة { أجبتم } لا تساعد قول ابن جريج إلا على كره ، وقول ابن عباس أصوب هذه المناحي لأنه يتخرج على التسليم لله تعالى ورد الأمر إليه ، إذ قوله { ماذا أجبتم } لا علم عندهم في جوابه إلا بما شوفهوا به مدة حياتهم ، وينقصهم ما في قلوب المشافهين من نفاق ونحوه ، وما ينقصهم ما كان بعدهم من أمتهم والله تعالى يعلم جميع ذلك على التفصيل والكمال . فرأوا التسليم له والخضوع لعلمه المحيط وقرأ أبو حيوة «ماذا أَجبتم » بفتح الهمزة .
جملة { يوم يجمع الله الرّسُلَ } استئناف ابتدائي متّصل بقوله : { فأثابهم الله بما قالوا } إلى قوله { وذلك جزاء المحسنين } [ المائدة : 85 ] . وما بينهما جمل معترضة نشأ بعضها عن بعض ، فعاد الكلام الآن إلى أحوال الذين اتّبعوا عيسى عليه السلام ، فبدّل كثير منهم تبديلاً بلغ بهم إلى الكفر ومضاهاة المشركين ، للتذكير بهول عظيم من أهوال يوم القيامة تكون فيه شهادة الرسل على الأمم وبراءتهم ممّا أحدثه أممهم بعدهم في الدين ممّا لم يأذن به الله ، والتخلّص من ذلك إلى شهادة عيسى على النصارى بأنّه لم يأمرهم بتأليهه وعبادته . وهذا متّصل في الغرض بما تقدّم من قوله تعالى : { ولتجدنّ أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى } [ المائدة : 82 ] . فإنّ في تلك الآيات ترغيباً وترهيباً ، وإبعاداً وتقريباً ، وقع الانتقال منها إلى أحكام تشريعية ناسبت ما ابتدعه اليهود والنصارى ، وذلك من قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم } [ المائدة : 87 ] وتفنّن الانتقال إلى هذا المبلغ ، فهذا عود إلى بيان تمام نهوض الحجّة على النصارى في مشهد يوم القيامة . ولقد جاء هذا مناسباً للتذكير العامّ بقوله تعالى : { واتّقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين } [ المائدة : 108 ] . ولمناسبة هذا المقام التزم وصف عيسى بابن مريم كلّما تكرّر ذكره في هذه الآيات أربع مرات تعريضاً بإبطال دعوى أنّه ابن لله تعالى .
ولأنّه لمّا تمّ الكلام على الاستشهاد على وصايا المخلوقين ناسب الانتقال إلى شهادة الرسل على وصايا الخالق تعالى ، فإنّ الأديان وصايا الله إلى خلقه . قال تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى } [ الشورى : 13 ] . وقد سمّاهم الله تعالى شهداء في قوله : { فكيف إذا جئنا من كلّ أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } [ النساء : 41 ] .
فقوله : { يوم يجمع } ظرف ، والأظهر أنه معمول لعامللٍ محذوف يقدّر بنحو : اذكر يوم يجمع الله الرسل ، أو يقدّر له عامل يكون بمنزلة الجواب للظرف ، لأنّ الظرف إذا تقدّم يعامل معاملة الشرط في إعطائه جواباً . وقد حذف هذا العامل لتذهب نفس السامع كلّ مذهب ممكن من التهويل ، تقديره يوم يجمع الله الرسل يكون هول عظيم لا يبلغه طُولُ التعبير فينبغي طيّه . ويجوز أن يكون متعلّقاً بفعل { قالوا لا علم لنا . . . } الخ ، أي أنّ ذلك الفعل هو المقصود من الجملة المستأنفة . وأصل نظم الكلام : يجمع الله الرسل يوم القيامة فيقول الخ . فغيّر نظم الكلام إلى الأسلوب الذي وقع في الآية للاهتمام بالخبر ، فيفتتح بهذا الظرف المهول وليوردَ الاستشهاد في صورة المقاولة بين الله والرسل . والمقصود من الكلام هو ما يأتي بقوله : { وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس }
[ المائدة : 116 ] وما بينهما اعتراض . ومن البعيد أن يكون الظرف متعلّقاً بقوله : { لا يهدي القوم الفاسقين } [ المائدة : 108 ] لأنّه لا جدوى في نفي الهداية في يوم القيامة ، ولأنّ جزالة الكلام تناسب استئنافه ، ولأنّ تعلّقه به غير واسع المعنى .
ومثله قول الزجّاج : إنّه متعلّق بقوله : { واتّقوا الله } [ المائدة : 108 ] على أنّ { يوم } مفعول لأجله ، وقيل : بدل اشتمال من اسم الجلالة في قوله : { واتّقوا الله } [ المائدة : 108 ] لأنّ جمع الرسل ممّا يشمل عليه شأن الله ، فالاستفهام في قوله : { ماذا أجبتم } مستعمل في الاستشهاد . ينتقل منه إلى لازمه ، وهو توبيخ الذين كذّبوا الرسل في حياتهم أو بدّلوا وارتدّوا بعد مماتهم .
وظاهر حقيقة الإجابة أنّ المعنى : ماذا أجابكم الأقوام الذين أرسلتم إليهم ، أي ماذا تلقّوا به دعواتكم ، حملاً على ما هو بمعناه في نحو قوله تعالى : { فما كان جواب قومه } [ النمل : 56 ] . ويحمل قول الرسل : { لا علم لنا } على معنى لا علم لنا بما يضمرون حين أجابوا فأنت أعلم به منّا . أو هو تأدّب مع الله تعالى لأنّ ما عدا ذلك ممّا أجابت به الأمم يعلمه رسلهم ؛ فلا بدّ من تأويل نفي الرسل العلم عن أنفسهم وتفويضهم إلى علم الله تعالى بهذا المعنى . فأجمع الرسل في الجواب على تفويض العلم إلى الله ، أي أنّ علمك سبحانك أعلى من كلّ علم وشهادتك أعدل من كلّ شهادة ، فكان جواب الرسل متضمّناً أموراً : أحدها : الشهادة على الكافرين من أممهم بأنّ ما عاملهم الله به هو الحقّ . الثاني : تسفيه أولئك الكافرين في إنكارهم الذي لا يجديهم . الثالث : تذكير أممهم بما عاملوا به رسلهم لأنّ في قولهم : { إنّك أنت علاّم الغيوب } ، تعميماً للتذكير بكلّ ما صدر من أممهم من تكذيب وأذى وعناد . ويقال لمن يَسأل عن شيء لا أزيدك علماً بذلك ، أو أنت تعرف ما جرى . وإيراد الضمير المنفصل بعد الضمير المتّصل لزيادة تقرير الخبر وتأكيده .
وعن ابن الأنباري تأويل قول الرسل { لا علم لنا } بأنّهم نفوا أن يكونوا يعلمون ما كان من آخر أمر الأمم بعد موت رسلهم من دوام على إقامة الشرائع أو التفريط فيها وتبديلها فيكون قول الرسل { لا علم لنا } محمولاً على حقيقته ويكون محمل { ماذا } على قوله : { ماذا أجبتم } هو ما أجيبوا به من تصديق وتكذيب ومن دوام المصدّقين على تصديقهم أو نقض ذلك ، ويعضّد هذا التأويل ما جاء بعد هذا الكلام من قوله تعالى : { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتّخذوني وأمّي إلهين من دون الله } ، وقولُ عيسى عليه السلام { وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم } الآية فإنّ المحاورة مع عيسى بعض من المحاورة مع بقية الرسل . وهو تأويل حسن .
وعبّر في جواب الرسل ب { قالوا } المفيد للمضي مع أنّ الجواب لم يقع ، للدلالة على تحقيق أنّه سيقع حتى صار المستقبل من قوة التحقّق بمنزلة الماضي في التحقّق .
على أنّ القول الذي تحكى به المحاورات لا يلتزم فيه مراعاة صيغته لزمان وقوعه لأنّ زمان الوقوع يكون قد تعيّن بقرينة سياق المحاورة .
وقرأ الجمهور { الغيُوب } بضم الغين . وقرأ حمزة ، وأبو بكر عن عاصم بكسر الغين وهي لغة لدفع ثقل الانتقال من الضمّة إلى الباء ، كما تقدّم في بيوت في قوله تعالى { فأمسكوهنّ في البيوت } من سورة النساء ( 15 ) .
وفصل { قالوا } جرياً على طريقة حكاية المحاورات ، كما تقدّم في قوله { وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة } في سورة البقرة ( 30 ) .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: واتقوا الله أيها الناس، واسمعوا وَعْظَه إيَّاكم وتذكيرَه لكم، واحذروا يوم يجمع الله الرسل. ثم حذف «واحذروا» واكتفى بقوله: "وَاتّقُوا اللّهَ واسمَعُوا "عن إظهاره، في قوله: "يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرّسُلَ حذف «واحذروا» لعلم السامع معناه، اكتفاء بقوله: "واتّقُوا اللّهَ واسمَعُوا "إذ كان ذلك تحذيرا من أمر الله تعالى خلقه عقابه على معاصيه.
" ماذَا أُجِبْتُمْ ": ما الذي أجابتكم به أممكم حين دعوتموهم إلى توحيدي والإقرار بي والعمل بطاعتي والانتهاء عن معصيتي؟ قالوا: لا علم لنا.
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: معنى قولهم:"لا عِلْمَ لَنا "لم يكن ذلك من الرسل إنكارا أن يكونوا كانوا عالمين بما عملت أممهم، ولكنهم ذهلوا عن الجواب من هول ذلك اليوم، ثم أجابوا بعد أن ثابت إليهم عقولهم بالشهادة على أممهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: لا علم لنا إلا ما علمتنا.
وقال آخرون: معنى ذلك: قالوا لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا.
وقال آخرون: معنى ذلك "ماذَا أُجِبْتُمْ": ماذا عملوا بعدكم؟ وماذا أحدثوا؟
وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: معناه: لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا، لأنه تعالى ذكره أخبر عنهم أنهم قالوا:"لا عِلْمَ لَنا إلاّ مَا عَلّمْتَنَا إنّكَ أنْتَ عَلاّمُ الغُيُوبِ ": أي أنك لا يخفى عليك ما عندنا من علم ذلك ولا غيره من خفي العلوم وجليها. فإنما نفى القوم أن يكون لهم بما سئلوا عنه من ذلك علم لا يعلمه هو تعالى ذكره، لا أنهم نفوا أن يكونوا علموا ما شاهدوا، كيف يجوز أن يكون ذلك كذلك، وهو تعالى ذكره يخبر عنهم أنهم يخبرون بما أجابتهم به الأمم، وأنهم سيشهدون على تبليغهم الرسالة شهداء، فقال تعالى ذكره: "وكَذَلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ على النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا".
وأما الذي قاله ابن جريج من أن معناه: ماذا عملت الأمم بعدكم؟ وماذا أحدثوا؟ فتأويل لا معنى له، لأن الأنبياء لم يكن عندها من العلم بما يحدث بعدها إلا ما أعلمها الله من ذلك، وإذا سئلت عما عملت الأمم بعدها والأمر كذلك فإنما يقال لها: ماذا عرّفناك أنه كائن منهم بعدك؟ وظاهر خبر الله تعالى ذكره عن مسألته إياهم يدلّ على غير ذلك.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
وفي قوله: {عَلاَّمُ الغُيُوْبِ} تأويلان: أحدهما: أنه مبالغة. والثاني: أنه لتكثير المعلومات. فإن قيل: فلم سألهم عما هو أعلم به منهم؟ فعليه جوابان: أحدهما: أنه إنما سألهم ليعلمهم ما لم يعلموا من كفر أممهم ونفاقهم وكذبهم عليهم من بعدهم. والثاني: أنه أراد أن يفضحهم بذلك على الأشهاد ليكون ذلك نوعاً من العقوبة لهم...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
{يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب} (111). 370- فيا لشدة يوم تذهب فيه عقول الأنبياء وتنمحي علومهم من شدة الهيبة؛ إذ يقال لهم: {ماذا أجبتم} وقد أرسلتم إلى الخلائق؟ وكانوا قد علموا فتدهش عقولهم، فلا يدرون بماذا يجيبون، فيقولون من شدة الهيبة: {لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب} وهم في ذلك الوقت صادقون إذ طارت منهم العقول وانمحت العلوم إلى أن يقويهم الله تعالى [نفسه: 4/551].
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ما معنى سؤالهم؟ قلت: توبيخ قومهم، كما كان سؤال الموؤدة توبيخاً للوائد. فإن قلت: كيف يقولون: {لاَ عِلْمَ لَنَا} وقد علموا بما أجيبوا؟ قلت: يعلمون أن الغرض بالسؤال توبيخ أعدائهم فيكلون الأمر إلى علمه وإحاطته بما منوا به منهم وكابدوا من سوء إجابتهم، إظهاراً للتشكي واللجأ إلى ربهم في الانتقام منهم، وذلك أعظم على الكفرة وأفت في أعضادهم وأجلب لحسرتهم وسقوطهم في أيديهم إذا اجتمع توبيخ الله وتشكي أنبيائه عليهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ويوم يجمع الله الرسل} ذهب قوم من المفسرين إلى أن العامل في {يوم} ما تقدم من قوله {لا يهدي}، وذلك ضعيف، ورصف الآية وبراعتها، إنما هو أن يكون هذا الكلام مستأنفاً، والعامل مقدر إما اذكروا وإما تذكروا وإما احذروا ونحو هذا مما حسن اختصاره لعلم السامع، والإشارة بهذا اليوم إلى يوم القيامة، وخص الرسل بالذكر لأنهم قادة الخلق، وفي ضمن جمعهم جمع الخلائق وهم المكلمون أولاً و {ماذا أجبتم} معناه ماذا أجابت به الأمم من إيمان أو كفر وطاعة أو عصيان، وهذا السؤال للأنبياء الرسل إنما هو لتقوم الحجة على الأمم ويبتدأ حسابهم على الواضح المستبين لكل مفطور. واختلف الناس في معنى قولهم عليهم السلام {لا علم لنا} فقال الطبري ذهلوا عن الجواب لهول المطلع، وذكر عن الحسن أنه قال: لا علم لنا من هول ذلك اليوم. وعن السدي أنه قال: نزلوا منزلاً ذهلت فيه العقول فقالوا لا علم لنا، ثم نزلوا منزلاً آخر شهدوا على قومهم، وعن مجاهد أنه قال: يفزعون فيقولون لا علم لنا.
وضعّف بعض الناس هذا المنزع بقوله تعالى: {لا يحزنهم الفزع الأكبر} 1 والأنبياء في أشد أهوال يوم القيامة وحالة جواز الصراط يقولون سلم سلم، وحالهم أعظم وفضل الله عليهم أكثر من أن تذهل عقولهم حتى يقولوا ما ليس بحق في نفسه، وقال ابن عباس رضي الله عنه: معنى الآية لا علم لنا إلا علماً أنت أعلم به منا.
وهذا حسن، كأن المعنى لا علم لنا يكفي وينتهي إلى الغاية، وقال ابن جريج: معنى ماذا أجبتم؟ ماذا عملوا بعدكم وما أحدثوا؟ فلذلك قالوا لا علم لنا.
وهذا معنى حسن في نفسه، ويؤيده قوله تعالى: {إنك أنت علام الغيوب} لكن لفظة {أجبتم} لا تساعد قول ابن جريج إلا على كره، وقول ابن عباس أصوب هذه المناحي لأنه يتخرج على التسليم لله تعالى ورد الأمر إليه، إذ قوله {ماذا أجبتم} لا علم عندهم في جوابه إلا بما شوفهوا به مدة حياتهم، وينقصهم ما في قلوب المشافهين من نفاق ونحوه، وما ينقصهم ما كان بعدهم من أمتهم والله تعالى يعلم جميع ذلك على التفصيل والكمال. فرأوا التسليم له والخضوع لعلمه المحيط..
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
{لاَ عِلْمَ لَنَا} بجميع أفعالهم إذ كنا نعلم بعضها وقت حياتنا، ولا نعلم ما كان بعد وفاتنا، وإنما يستحق الجزاء بما تقع به الخاتمة، حكاه ابن الأنباري. قال المفسرون: إذا رد الأنبياء العلم إلى الله أُبلست الأمم، وعلمت أن ما أتته في الدنيا غير غائب عنه، وأن الكل لا يخرجون عن قبضته. قوله تعالى: {عَلّامُ الْغُيُوبِ} قال الخطابي: العلام: بمنزلة العليم، وبناء "فعّال "بناء التكثير، فأما "الغيوب" فجمع غيب، وهو ما غاب عنك...
اعلم أن عادة الله تعالى جارية في هذا الكتاب الكريم أنه إذا ذكر أنواعا كثيرة من الشرائع والتكاليف والأحكام، أتبعها إما بالإلهيات، وإما بشرح أحوال الأنبياء، أو بشرح أحوال القيامة ليصير ذلك مؤكدا لما تقدم ذكره من التكاليف والشرائع فلا جرم لما ذكر فيما تقدم أنواعا كثيرة من الشرائع أتبعها بوصف أحوال القيامة أولا، ثم ذكر أحوال عيسى. أما وصف أحوال القيامة فهو قوله {يوم يجمع الله الرسل} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في هذه الآية قولان: أحدهما: أنها متصلة بما قبلها وعلى هذا التقدير ففيه وجهان: الأول: قال الزجاج تقديره: واتقوا الله يوم يجمع الله الرسل، ولا يجوز أن ينصب على الظرف لهذا الفعل لأنهم لم يؤمروا بالتقوى في ذلك اليوم، ولكن على المفعول له.
الثاني: قال القفال رحمه الله: يجوز أن يكون التقدير: والله لا يهدي القوم الفاسقين يوم يجمع الله الرسل، أي لا يهديهم إلى الجنة كما قال {ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم}. والقول الثاني: أنها منقطعة عما قبلها، وعلى هذا التقدير ففيه أيضا وجهان: الأول: أن التقدير: اذكر يوم يجمع الله الرسل. والثاني: أن يكون التقدير: يوم يجمع الله الرسل كان كيت وكيت...
المسألة الثالثة: ظاهر قوله تعالى: {قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب} يدل على أن الأنبياء لا يشهدون لأممهم. والجمع بين هذا وبين قوله تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} مشكل. وأيضا قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} فإذا كانت أمتنا تشهد لسائر الناس فالأنبياء أولى بأن يشهدوا لأممهم بذلك. والجواب عنه من وجوه: الأول: قال جمع من المفسرين إن للقيامة زلازل وأهوالا بحيث تزول القلوب عن مواضعها عند مشاهدتها. فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام عند مشاهدة تلك الأهوال ينسون أكثر الأمور، فهنالك يقولون لا علم لنا، فإذا عادت قلوبهم إليهم فعند ذلك يشهدون للأمم. وهذا الجواب وإن ذهب إليه جمع عظيم من الأكابر فهو عندي ضعيف، لأنه تعالى قال في صفة أهل الثواب {لا يحزنهم الفزع الأكبر} وقال أيضا {وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة} بل إنه تعالى قال: {إن الذين ءامنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من ءامن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف ولا هم يحزنون} فكيف يكون حال الأنبياء والرسل أقل من ذلك، ومعلوم أنهم لو خافوا لكانوا أقل منزلة من هؤلاء الذين أخبر الله تعالى عنهم أنهم لا يخافون البتة. والوجه الثاني: أن المراد منه المبالغة في تحقيق فضيحتهم كمن يقول لغيره ما تقول في فلان؟ فيقول: أنت اعلم به مني، كأنه قيل: لا يحتاج فيه إلى الشهادة لظهوره، وهذا أيضا ليس بقوي لأن السؤال إنما وقع عن كل الأمة، وكل الأمة ما كانوا كافرين حتى تريد الرسل بالنفي تبكيتهم وفضيحتهم. والوجه الثالث: في الجواب وهو الأصح، وهو الذي اختاره ابن عباس أنهم إنما قالوا لا علم لنا لأنك تعلم ما أظهروا وما أضمروا ونحن لا نعلم إلا ما أظهروا فعلمك فيهم أنفذ من علمنا. فلهذا المعنى نفوا العلم عن أنفسهم لأن علمهم عند الله كلا علم. والوجه الرابع: في الجواب أنهم قالوا: لا علم لنا، إلا أن علمنا جوابهم لنا وقت حياتنا، ولا نعلم ما كان منهم بعد وفاتنا.
والجزاء والثواب إنما يحصلان على الخاتمة وذلك غير معلوم لنا. فلهذا المعنى قالوا لا علم لنا وقوله {إنك أنت علام الغيوب} يشهد بصحة هذين الجوابين.
الوجه الخامس: وهو الذي خطر ببالي وقت الكتابة، أنه قد ثبت في علم الأصول أن العلم غير، والظن غير، والحاصل عند كل أحد من حال الغير، إنما هو الظن لا العلم، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر» وقال عليه الصلاة والسلام: «إنكم لتختصمون لدي ولعل بعضكم ألحن بحجته، فمن حكمت له بغير حقه فكأنما قطعت له قطعة من النار» أو لفظ هذا معناه. فالأنبياء قالوا: لا علم لنا البتة بأحوالهم، إنما الحاصل عندنا من أحوالهم هو الظن، والظن كان معتبرا في الدنيا، لأن الأحكام في الدنيا كانت مبنية على الظن، وأما الآخرة فلا التفات فيها إلى الظن لأن الأحكام في الآخرة مبنية على حقائق الأشياء، وبواطن الأمور. فلهذا السبب قالوا {لا علم لنا} ولم يذكروا البتة ما معهم من الظن لأن الظن لا عبرة به في القيامة. الوجه السادس: أنهم لما علموا أنه سبحانه وتعالى عالم لا يجهل، حكيم لا يسفه، عادل لا يظلم، علموا أن قولهم لا يفيد خيرا، ولا يدفع شرا، فرأوا أن الأدب في السكوت، وفي تفويض الأمر إلى عدل الحي القيوم الذي لا يموت...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب} مناسبة هذه لما قبلها أنه لما أخبر تعالى بالحكم في شاهدي الوصية وأمر بتقوى الله والسمع والطاعة، ذكر بهذا اليوم المهول المخوف وهو يوم القيامة فجمع بذلك بين فضيحة الدنيا وعقوبة الآخرة لمن حرّف الشهادة ولمن لم يتق الله ولم يسمع،...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بينا في أول تفسير الآيتين 90 و 91 من هذه السورة وجه الاتصال والترتيب بين مجموع آياتها وطوائفها من أولها إلى هذا السياق الأخير منها وهو يتعلق بمحاجة أهل الكتاب عامة، والنصارى منهم خاصة، وفيه ذكر المعاد والحساب والجزاء الذي ينتهي إليه أمر المختلفين في الدين، وأمر المؤمنين المخاطبين بالأحكام التي سبق بيانها، وهذا هو وجه المناسبة والاتصال بين هذه الآيات وما قبلها مباشرة من آيات الأحكام.
ويرى بعض المفسرين أن كلمة (يوم) في أولها من متعلقات الآية أو الجملة التي قبلها كما ترى فيما يلي:
{يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم} قيل إن هذا متعلق بالفعل من آخر جملة مما قبله، والتقدير: والله لا يهدي القوم الفاسقين إلى طريق النجاة يوم يجمع الرسل في الآخرة ويسألهم عن تبليغ الرسالة وما أجابتهم به أقوامهم – أو لا يهديهم يومئذ طريقا إلا طريق جهنم، وقيل إنه متعلق بقوله: «واتقوا الله» أو بقوله: «واسمعوا» أي واتقوا عقاب الله يوم جمعه الرسل، -أو – واسمعوا يوم يجمع الله الرسل، أي خبره وما يكون فيه.
وذهب آخرون إلى أن الآية منقطعة عما قبلها – والمعنى: يوم يجمع الله الرسل ويسألهم يكون من الأهوال ما لا يفي ببيانه مقال – أو المعنى: واذكر أيها الرسول يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم، وهذا التقدير أظهر وله في التنزيل نظائر. والمراد من السؤال توبيخ أممهم، وإقامة الحجة على الكافرين منهم، والمعنى أي إجابة أجبتم؟ أإجابة إيمان وإقرار، أم إجابة كفر واستكبار؟ فهو سؤال عن نوع الإجابة لا عن الجواب ماذا كان، وإلا لقرن بالباء، وقيل الباء محذوفة والتقدير بماذا أجبتم. وهذا السؤال للرسل من قبيل سؤال الموءودة في قوله تعالى: {وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت} [التكوير: 8، 9] في أن كلا منهما وجه إلى الشاهد دون المتهم لما ذكر آنفا من الحكمة، وهو يكون في بعض مواقف القيامة ويشهدون على الأمم بعد التفويض الآتي أو عقب سؤال غير هذا، ويسأل الله تعالى الأمم في موقف آخر أو في وقت آخر. كما هو شأن قضاة التحقيق في سؤال الخصم والشهود، لتحقق شرائط الحكم الصحيح كما هو المعهود، قال تعالى: {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين * فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين} [الأعراف: 6، 7].
ولما كان تعالى يسأل كلا من الفريقين عما هو أعلم به منه، وكان الرسل عليهم الصلاة والسلام على علم يقيني بذلك – يكون جوابهم في أول العهد بالسؤال التبرؤ من العلم وتفويضه إلى الله تعالى – إما لنقصان علمهم بالنسبة إلى علمه تعالى كما نقل عن ابن عباس، وإما لما يفاجئهم من فزع ذلك اليوم أو هوله أو ذهوله كما نقل عن الحسن ومجاهد والسدي. وذلك قوله تعالى:
{قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب (109)} جاء الجواب منفصلا كسائر ما يأتي من أقوال المراجعة على طريقة الاستئناف البياني، وعبر بالماضي عن المستقبل لتحقق وقوعه حتى كأنه وقع، قال ابن عباس: يقولون للرب: لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا. يعني أنه ليس بنفي لعلمهم بإطلاق وإنما هو نفي لعلم الإحاطة الذي هو خاص بالخلاق العليم، إذ الرسل كانوا يعلمون ظاهر ما أجيبوا به من مخاطبيهم ولا يعلمون بواطنهم، ولا حال من لم يروه من أممهم، إلا ما يوحيه تعالى إليهم من ذلك وهو قليل من كثير، ولذلك قرنوا نفي العلم عنهم بإثبات المبالغة في علم الغيب له تعالى، فإن صيغة علام معناها كثير العلم أي بكثير المعلومات، وإلا فعلمه واحد محيط بكل شيء إحاطة كاملة، ولا يوصف تعالى بالعلامة، ولعله لما فيه من تاء التأنيث. قال تعالى لنوح عليه السلام لما سأل ربه أن ينجي ولده من الطوفان {فلا تسألن ما ليس لك به علم} [هود: 46] وقال لخاتم رسله عليه الصلاة والسلام {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم} [التوبة: 101].
وقال الفخر الرازي ما معناه: إن الرسل أرادوا إنه لم يكن لهم من حقيقة حال أممهم إلا الظن الذي هو ظاهر حالهم لا العلم القطعي الذي يتوقف على معرفة الظاهر والباطن بدليل ما ورد في الحديث من الحكم بالظاهر قال: «فالأنبياء قالوا: لا علم لنا البتة بأحوالهم إنما الحاصل عندنا من أحوالهم هو الظن، والظن كان معتبرا في الدنيا لأن الأحكام في الدنيا كانت مبنية على الظن، وأما الآخرة فلا التفات فيها إلى الظن لأن الأحكام في الآخرة مبنية على حقائق الأشياء وبواطن الأمور. فلهذا السبب قالوا: «لا علم لنا إلا ما علمتنا» ولم يذكروا البتة ما معهم من الظن لأن الظن لا عبرة به في القيامة. اه.
ونقول: إن هذا رأي ضعيف وإن بني على اصطلاح أهل الكلام والأصول في تفسير الظن والعلم، والصواب ما بيناه قبله. وذلك أن الرسل يعلمون كثيرا من الحقائق علما يقينيا، كاستكبار المجرمين عن إجابة دعوتهم وإصرارهم على كفرهم. ومن علمهم بذلك ما شهد به التنزيل إذ أخبرهم الله أن أولئك المعاندين لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية، وأنه قد ختم على قلوبهم وحق القول عليهم، ومنهم من يكاشف النبي بحالهم ويمثلون له في النار، كما كان يعلم أن بعض المؤمنين صادقون في إيمانهم وبشرهم بالجنة، وأن بعضهم ضعفاء الإيمان ولكن إيمانهم صحيح مقبول عند الله تعالى والعلم بالظاهر يقبل في شهادتهم على الجاحدين إذ لا عبرة بالإيمان في الباطن مع الجحود في الظاهر بل هو أشد الكفر. وقد أخبرنا الله تعالى أنهم يشهدون على أممهم، فلو كان كل ما يعرفون من أحوال أممهم ظنا لا عبرة به في القيامة، لما كان لشهادتهم فائدة {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} [النساء: 41].
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
{يوم يجمع الله الرسل، فيقول ماذا أجبتم؟ قالوا: لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب}: يوم يجمع الله الرسل الذين فرقهم في الزمان فتتابعوا على مداره؛ وفرقهم في المكان فذهب كل إلى قريته؛ وفرقهم في الأجناس فمضى كل إلى قومه.. يدعون كلهم بدعوة واحدة على اختلاف الزمان والمكان والأقوام؛ حتى جاء خاتمهم -صلى الله عليه وسلم- بالدعوة الواحدة لكل زمان ومكان وللناس كافة من جميع الأجناس والألوان.. هؤلاء الرسل إلى شتى الأقوام، في شتى الأمكنة والأزمان.. ها هو ذا مرسلهم فرادى، يجمعهم جميعاً؛ ويجمع فيهم شتى الاستجابات، وشتى الاتجاهات. وها هم أولاء.. نقباء البشرية في حياتها الدنيا؛ ومعهم رسالات الله إلى البشرية في شتى أرجائها، ووراءهم استجابات البشرية في شتى أعصارها. هؤلاء هم أمام الله.. رب البشرية -سبحانه- في مشهد يوم عظيم. وها هو ذا المشهد ينبض بالحياة: {يوم يجمع الله الرسل. فيقول: ماذا أجبتم؟}. {ماذا أجبتم؟}.. فاليوم تجمع الحصيلة، ويضم الشتات، ويقدم الرسل حساب الرسالات، وتعلن النتائج على رؤوس الأشهاد. {ماذا أجبتم؟}.. والرسل بشر من البشر؛ لهم علم ما حضر، وليس لديهم علم ما استتر. لقد دعوا أقوامهم إلى الهدى؛ فاستجاب منهم من استجاب، وتولى منهم من تولى.. وما يعلم الرسول حقيقة من استجاب إن كان يعرف حقيقة من تولى. فإنما له ظاهر الأمر وعلم ما بطن لله وحده.. وهم في حضرة الله الذي يعرفونه خير من يعرف؛ والذي يهابونه أشد من يهاب؛ والذي يستحيون أن يدلوا بحضرته بشيء من العلم وهم يعلمون أنه العليم الخبير. إنه الاستجواب المرهوب في يوم الحشر العظيم، على مشهد من الملأ الأعلى، وعلى مشهد من الناس أجمعين. الاستجواب الذي يراد به المواجهة.. مواجهة البشرية برسلها؛ ومواجهة المكذبين من هذه البشرية خاصة برسلهم الذين كانوا يكذبونهم. ليعلن في موقف الإعلان، أن هؤلاء الرسل الكرام إنما جاءوهم من عند الله بدين الله؛ وها هم أولاء مسؤولون بين يديه -سبحانه- عن رسالاتهم وعن أقوامهم الذين كانوا من قبل يكذبون. أما الرسل فهم يعلنون أن العلم الحق لله وحده؛ وأن ما لديهم من علم لا ينبغي أن يدلوا به في حضرة صاحب العلم، تأدبا وحياء، ومعرفة بقدرهم في حضرة الله: (قالوا: لا علم لنا. إنك أنت علام الغيوب)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {يوم يجمع الله الرّسُلَ} استئناف ابتدائي متّصل بقوله: {فأثابهم الله بما قالوا} إلى قوله {وذلك جزاء المحسنين} [المائدة: 85]. وما بينهما جمل معترضة نشأ بعضها عن بعض، فعاد الكلام الآن إلى أحوال الذين اتّبعوا عيسى عليه السلام، فبدّل كثير منهم تبديلاً بلغ بهم إلى الكفر ومضاهاة المشركين، للتذكير بهول عظيم من أهوال يوم القيامة تكون فيه شهادة الرسل على الأمم وبراءتهم ممّا أحدثه أممهم بعدهم في الدين ممّا لم يأذن به الله، والتخلّص من ذلك إلى شهادة عيسى على النصارى بأنّه لم يأمرهم بتأليهه وعبادته. وهذا متّصل في الغرض بما تقدّم من قوله تعالى: {ولتجدنّ أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى} [المائدة: 82]. فإنّ في تلك الآيات ترغيباً وترهيباً، وإبعاداً وتقريباً، وقع الانتقال منها إلى أحكام تشريعية ناسبت ما ابتدعه اليهود والنصارى، وذلك من قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم} [المائدة: 87] وتفنّن الانتقال إلى هذا المبلغ، فهذا عود إلى بيان تمام نهوض الحجّة على النصارى في مشهد يوم القيامة. ولقد جاء هذا مناسباً للتذكير العامّ بقوله تعالى: {واتّقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين} [المائدة: 108]. ولمناسبة هذا المقام التزم وصف عيسى بابن مريم كلّما تكرّر ذكره في هذه الآيات أربع مرات تعريضاً بإبطال دعوى أنّه ابن لله تعالى. ولأنّه لمّا تمّ الكلام على الاستشهاد على وصايا المخلوقين ناسب الانتقال إلى شهادة الرسل على وصايا الخالق تعالى، فإنّ الأديان وصايا الله إلى خلقه. قال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى} [الشورى: 13]. وقد سمّاهم الله تعالى شهداء في قوله: {فكيف إذا جئنا من كلّ أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} [النساء: 41].فقوله: {يوم يجمع} ظرف، والأظهر أنه معمول لعاملٍ محذوف يقدّر بنحو: اذكر يوم يجمع الله الرسل، أو يقدّر له عامل يكون بمنزلة الجواب للظرف، لأنّ الظرف إذا تقدّم يعامل معاملة الشرط في إعطائه جواباً. وقد حذف هذا العامل لتذهب نفس السامع كلّ مذهب ممكن من التهويل، تقديره يوم يجمع الله الرسل يكون هول عظيم لا يبلغه طُولُ التعبير فينبغي طيّه. ويجوز أن يكون متعلّقاً بفعل {قالوا لا علم لنا...} الخ، أي أنّ ذلك الفعل هو المقصود من الجملة المستأنفة. وأصل نظم الكلام: يجمع الله الرسل يوم القيامة فيقول الخ. فغيّر نظم الكلام إلى الأسلوب الذي وقع في الآية للاهتمام بالخبر، فيفتتح بهذا الظرف المهول وليوردَ الاستشهاد في صورة المقاولة بين الله والرسل.
وسؤال الحق لرسله: {ماذا أجبتم} في الظاهر هذا سؤال للرسل، وفي الحق إنه للمخالفين، وكأن هذا تقريع لمن لم يؤمنوا بالرسالة الرسل، ذلك أن مهمة الرسل هي البلاغ...
بماذا يجيب الرسل يومئذ عن الله؟ وهم يجيبون الإجابة الدقيقة المتضمنة لكل أدب الإيمان: {لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب} ونجد من يتساءل: كيف – إذن يقولون: {لا علم لنا} على الرغم من أن هناك من استجاب لدعوتهم ومن لم يستجب لها؟ ونقول: لأن الآخرة فيها حساب على نوايا القلوب والسرائر، لقد علم الرسل بالأمور العلنية من أقوال وسلوك، ولكن الحق يحاسب على حسب النية والسلوك، وهو سبحانه الأعلم بالسرائر وما تخفي الضمائر، وأيضا فالأنبياء قد علموا الذين آمنوا بالمنهج وكانوا ومعاصرين لهم، ولكن ليس لهم علم بمن كفر أو آمن بعد أزمنتهم، وإجابة الرسل هي قمة الأدب مع الله، ذلك لأن كلا منهم قد علم أن معرفة الله شاملة وعلمه قد وسع كل شيء، ولذلك جاء قولهم: {إنك أنت علام الغيوب}...