المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ وَمَا رَمَيۡتَ إِذۡ رَمَيۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبۡلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡهُ بَلَآءً حَسَنًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (17)

17- إذا كنتم - أيها المؤمنون - قد انتصرتم عليهم ، وقتلتم من قتلتم منهم ، فإنكم لم تقتلوهم بقوتكم ، ولكن الله تعالى هو الذي نصركم وقتلهم بتأييده لكم وإلقاء الرعب في قلوبهم ، وما رميت - أيها الرسول - إذ كنت ترمى التراب والحصا في وجوههم إفزاعاً لهم ، ولكن الله تعالى هو الذي رمى فأفزعهم الرمى ، وكان ذلك لينعم الله على المؤمنين نعماً حسنة ، منها الابتلاء بالشدة ، ليظهر إخلاصهم ، وأن الله عليم بأمورهم ، سميع لأقوالهم ، وكذلك هو عليم بأمور أعدائهم وأقوالهم .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ وَمَا رَمَيۡتَ إِذۡ رَمَيۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبۡلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡهُ بَلَآءً حَسَنًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (17)

قوله تعالى : { فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم } ، قال مجاهد : سبب هذه الآية أنهم لما انصرفوا عن القتال كان الرجل يقول : أنا قتلت فلاناً ، ويقول الآخر مثله ، فنزلت الآية . ومعناه : فلم تقتلوهم أنتم بقوتكم ، ولكن الله قتلهم بنصرته إياكم ، وتقويته لكم . وقيل : لكن الله قتلهم بإمداد الملائكة .

قوله تعالى : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } ، قال أهل التفسير والمغازي :

ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ، فانطلقوا حتى نزلوا بدراً ، ووردت عليهم روايا قريش ، وفيهم أسلم ، غلام أسود لبني الحجاج ، وأبو يسار ، غلام لبني العاص بن سعيد ، فأتوا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لهما : أين قريش ؟ قالا : هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى ، والكثيب : العقنقل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما : كم القوم ؟ قالا : كثير ، قال : ما عدتهم ؟ قالا : لا ندري ، قال : كم ينحرون كل يوم ؟ قالا : يوماً عشرة ويوماً تسعة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : القوم ما بين التسعمائة إلى الألف ، ثم قال لهما : فمن فيهم من أشراف قريش ؟ قالا : عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو البختري بن هشام ، وحكيم بن حزام ، والحارث بن عامر ، وطعيمة بن عدي ، والنضر بن الحارث ، وأبو جهل بن هشام ، وأمية بن خلف ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وسهيل بن عمرو ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذه مكة قد ألقيت إليكم أفلاذ كبدها ، فلما أقبلت قريش ورآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تصوب من العقنقل ، وهو الكثيب الذي جاؤوا منه إلى الوادي ، قال : اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك ، اللهم فنصرك الذي وعدتني ، فأتاه جبريل عليه السلام وقال له : خذ قبضة من تراب فارمهم بها ، فلما التقى الجمعان تناول كفا من حصىً عليه تراب ، فرمى به في وجوه القوم ، وقال : شاهت الوجوه ، فلم يبق منهم مشرك إلا دخل في عينيه ، وفمه ، ومنخريه ، منها شيء . فانهزموا ، وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم . وقال قتادة ، وابن زيد : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم بدر ثلاث حصيات ، فرمى بحصاة في ميمنة القوم ، وبحصاة في ميسرة القوم ، وبحصاة بين أظهرهم ، وقال : شاهت الوجوه فانهزموا ، فذلك قوله تعالى : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } ، إذ ليس في وسع أحد من البشر أن يرمي كفاً من الحصا إلى وجوه جيش فلا يبقى فيهم عين إلا ويصيبها منه شيء ، وقيل : معناه وما بلغت إذ رميت ولكن الله بلغ ، وقيل : وما رميت بالرعب في قلوبهم إذ رميت بالحصباء ولكن الله رمى بالرعب في قلوبهم حتى انهزموا .

قوله تعالى : { وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً } ، أي : ولينعم على المؤمنين منه نعمةً عظيمةً بالنصر والغنيمة .

قوله تعالى : { إن الله سميع } لدعائكم .

قوله تعالى : { عليم } بنياتكم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ وَمَا رَمَيۡتَ إِذۡ رَمَيۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبۡلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡهُ بَلَآءً حَسَنًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (17)

ثم بين لهم - سبحانه - بعض مظاهر فضله عليهم ليزدادوا شكراً له ، وطاعة لأمره فقال - تعالى - : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى وَلِيُبْلِيَ المؤمنين مِنْهُ بلاء حَسَناً إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .

قال القرطبى : قوله - تعالى - : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ } ، أي يوم بدر . روى أن أصحاب رسلو الله - صلى الله عليه وسلم لما صدروا عن بدر .

ذكر كل واحد منهم ما فعل فقال : قتلت كذا ، وأسرت كذا ، فجاء من ذلك تفاخر ونحو ذلك . فنزلت الآية إعلاما بأن الله هو المميت والمقدر لجميع الأشياء ، وأن العبد إنما يشارك بكسبه وقصده . .

وقال ابن كثير : قال على بن طلحة عن ابن عباس : " رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم - ، يديه - يعنى يوم بدر - فقال : " يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا ، فقال جبريل : " خذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم " فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم " ، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين .

وقال السدى : " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلى يوم بدر " أعطنى حصا من الأرض " فناوله حصا عليه تراب ، فرمى به في وجوه القوم " ، فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه من ذلك التراب شئ ، ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم ، وأنزل الله : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } .

وقال أبو معشر المدنى " عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظى قالا : لما دنا القوم بعضهم من بعض أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبضه من تراب فرمى بها في جوه القوم وقال : " شاهت الوجوه " ، فدخلت في أعينهم كلهم . وأقبل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنزل الله .

{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } .

وهناك روايات أخرى ذكرت أن قوله - تعالى - { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } المقصود به رميه - صلى الله عليه وسلم - لأبى بن خلف يوم أحد ، أو رميه لكنانة بن أبى الحقيق في غزوة خيبر ، أو رميه المشركين في غزوة حنين .

قال ابن كثير : وقد روى في هذه القصة عن عروة ومجاهد وعكرمة وقتادة وغير واحد من الأئمة أنها نزلت في رمية النبى - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر . . وسياق الآية في سورة الأنفال في قصة بدر لا محالة ، وهذا مما لا يخفى على أئمة العلم .

والمعنى : إنكم - أيها المؤمنون - لم تقتلوا المشركين في بدر بقوتكم وشجاعتكم ، ولكن الله - تعالى - هو الذي أفظركم بحوله وقوته ، بأن خذلهم ، وقذف في قلوبهم الرعب ، وقوى قلوبكم ، وأمدك بالملائكة ، ومنحكم من معونته ورعايته ما بلغكم هذا النصر .

والفاء في قوله : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ . . } يرى صاحب الكشاف أنها جواب شرط محذوف تقديره : إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم { ولكن الله قَتَلَهُمْ } لأنه و الذي أنزل الملائكة ، وألقى الرعب في قلوبهم ، وشاء النصر والظفر وأذهب عن قلوبكم الفزع والجزع .

وقوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } خطاب للنبى - صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين .

أى : { وَمَا رَمَيْتَ } بالرعب في قلوب الأعداء { إِذْ رَمَيْتَ } في وجوههم بالحصباء يوم بدر { ولكن الله } - تعالى - هو الذي { رمى } بالرعب في قلوبهم فهزمهم ونصركم عليهم .

أو المعنى : ما أوصلت الحصبا إلى أعينهم إذ رميتهم بها ، ولكن الله هو الذي أوصلها إليها .

ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الجملة الكريمة : يعنى أن الرمية التي رميتها - يا محمد - لم ترمها أنت على الحقيقة ، لأنك لو رميتها ما بلغ أثرها إلا ما يبلغه أثر رمى البشر ، ولكنها كانت رمية الله ، حيث أثرت ذلك الأثر العظيم . . فأثبت الرمية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن صورتها وجدت منه ، ونفاها عنه ، لأن أثرها الذي لا تطيقه البشر فعل الله - عز وجل - ، فكان الله - تعالى - هو فاعل الرمية على الحقيقة ، وكأنها لم توجد من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصلا .

وقال الآلوسى : واستدل بالآية على أن أفعال العباد بخلقه - تعالى - وإنما لهم كسبها ومباشرتها وقال الإِمام : أثبت - سبحانه - كونه - صلى الله عليه وسلم - راميا ، فوجب حمله على أنه - صلى الله عليه وسلم - رمى كسبا ، والله - تعالى - رمى خلقا .

فإن قيل : لماذا ذرك مفعول القتل منفياً ومثبتاً ولم يذكر للرمى مفعول قط ؟

فالجواب - كما يقول أبو السعود - : " أن المقصود الأصلى بيان حال الرمى نفيا وإثباتا ، إذ هو الذي ظهر منه ما ظهر ، وهو المنشأ لتغير المرمى به في نفسه وتكثره إلى حيث أصاب عينى كل واحد من أولئك الأمة الجمة شئ من ذلك .

وقوله - سبحانه - : { وَلِيُبْلِيَ المؤمنين مِنْهُ بلاء حَسَناً } بيان لبعض وجوه حكمته - سبحانه - في خذلان الكافرين ، ونصر المؤمنين .

وقوله { لِيُبْلِيَ } من البلاء بمعنى الاختبار . وهو يكون بالنعمة لإِظهار الشكر ، كما يكون بالمحنة لإِظهار الصبر . والمراد به هنا : الإِحسان والنعمة والعطاء ، ليزداد المؤمنون شكراً لربهم لاذى وهبهم ما وهب من نعم .

واللام للتعليل متعلقة بمحذوف مؤخر .

والمعنى ، ولكى يحسن - سبحانه - إلى عباده المؤمنين ، وينعم عليهم بالنصر والغنائم ، ليزدادوا شكراً له ، فعل ما فعل من خذلان الكافرين وإذلالهم .

وقوله { إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } تذييل قصد به الحض على طاعة الله ، والتحذير من معصيته ، أى : إن الله سميع لأقوالكم ودعائكم ، عليم بضمائركم وقلوبكم ، فاستبقوا الخيرات لتنالوا المزيد من رعايته ونصره .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ وَمَا رَمَيۡتَ إِذۡ رَمَيۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبۡلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡهُ بَلَآءً حَسَنًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (17)

15

ثم يمضي السياق بعد هذا التحذير من التولي يوم الزحف ؛ ليكشف لهم عن يد الله وهي تدير المعركة من ورائهم ؛ وتقتل لهم أعداءهم ، وترمي لهم وتصيب . . . وهم ينالون أجر البلاء لأن الله يريد أن يتفضل عليهم بحسن البلاء ، ليثيبهم عليه من فضله وهو الذي وهبهم إياه :

( فلم تقتلوهم ، ولكن الله قتلهم ، وما رميت - إذ رميت - ولكن الله رمى . وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا . إن الله سميع عليم ) . .

وتذهب الروايات المأثورة إلى تفسير الرمي هنا بأنه رمية الحصى التي حثاها رسول الله [ ص ] في وجوه الكفار ، وهو يقول : " شاهت الوجوه . شاهت الوجوه " فأصابت وجوه المشركين ممن كتب عليهم القتل في علم الله . .

ولكن دلالة الآية أعم . فهي تمثل تدبير الله للأمر كله من وراء الحركة الظاهرة للنبي [ ص ] والعصبة المسلمة معه . ولذلك تلاها قول الله تعالى :

( وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا ) . .

أي ليرزقهم من عنده أن يبلوا البلاء الحسن الذي ينالون عليه الأجر ، بعد أن يكتب لهم به النصر . فهو الفضل المضاعف أولاً وأخيراً .

( إن الله سميع عليم ) . .

يسمع استغاثتكم ويعلم حالكم ؛ ويجعلكم ستارا لقدرته ، متى علم منكم الخلوص له ؛ ويعطيكم النصر والأجر . . كما أعطاكم هذا وذاك في بدر . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ وَمَا رَمَيۡتَ إِذۡ رَمَيۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبۡلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡهُ بَلَآءً حَسَنًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (17)

يبين تعالى أنه خالق أفعال العباد ، وأنه المحمود على جميع ما صدر عنهم من خير ؛ لأنه هو الذي وفقهم لذلك وأعانهم ؛ ولهذا قال : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ } أي : ليس بحولكم وقوتكم قتلتم أعداءكم مع كثرة عددهم وقلة عددكم ، أي : بل هو الذي أظفركم [ بهم ونصركم ]{[12764]} عليهم كما قال تعالى : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ] } [ آل عمران : 123 ] . {[12765]} وقال تعالى : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } [ التوبة : 25 ] يعلم - تبارك وتعالى - أن النصر ليس عن كثرة العدد ، ولا بلبس اللأمة والعدد ، وإنما النصر من عند الله تعالى{[12766]} كما قال : { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ البقرة : 249 ] .

ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم أيضا في شأن القبضة من التراب ، التي حصب بها وجوه المشركين{[12767]} يوم بدر ، حين خرج من العريش بعد دعائه وتضرعه واستكانته ، فرماهم بها وقال : " شاهت الوجوه " . ثم أمر الصحابة أن يصدقوا الحملة إثرها ، ففعلوا ، فأوصل الله تلك الحصباء إلى أعين المشركين ، فلم يبق أحد منهم إلا ناله منها ما شغله عن حاله ؛ ولهذا قال [ تعالى ]{[12768]} { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } أي : هو الذي بلغ ذلك إليهم ، وكبتهم بها لا أنت .

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه - يعني يوم بدر - فقال : " يا رب إن تهلك هذه العصابة ، فلن تعبد في الأرض أبدا " . فقال له جبريل : " خذ قبضة من التراب ، فارم بها في وجوههم " فأخذ قبضة من التراب ، فرمى بها في وجوههم ، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة ، فولوا مدبرين .

وقال السُّدِّيّ : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي ، رضي الله عنه ، يوم بدر : " أعطني حصبا من الأرض " .

فناوله حصبا{[12769]} عليه تراب ، فرمى به في وجوه القوم ، فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه من ذلك التراب شيء ، ثم ردفهم المؤمنون{[12770]} يقتلونهم ويأسرونهم ، وأنزل الله : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى }

وقال أبو معشر المدني ، عن محمد بن قَيْس ومحمد بن كعب القُرَظِي قالا لما دنا القوم بعضهم من بعض ، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب ، فرمى بها في وجوه القوم ، وقال : " شاهت الوجوه " . فدخلت في أعينهم كلهم ، وأقبل أصحاب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[12771]} يقتلونهم ويأسرونهم ، وكانت هزيمتهم في رَمْية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى }

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : في قوله [ تعالى ]{[12772]} { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى } قال : هذا يوم بدر ، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حصيات فرمى بحصاة [ في ]{[12773]} ميمنة القوم ، وحصاة في ميسرة القوم ، وحصاة بين أظهرهم ، وقال : " شاهت الوجوه " ، فانهزموا .

وقد روي في هذه القصة{[12774]} عن عروة بن الزبير ، ومجاهد وعكرمة ، وقتادة وغير واحد من الأئمة : أنها نزلت في رمية النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، وإن كان قد فعل ذلك يوم حنين أيضا .

وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا أحمد بن منصور ، حدثنا يعقوب بن محمد ، حدثنا عبد العزيز بن عمران ، حدثنا موسى بن يعقوب بن عبد الله بن زمعة ، عن يزيد بن عبد الله ، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حَثْمَة ، عن حكيم بن حزام قال : لما كان يوم بدر ، سمعنا صوتا وقع من السماء ، كأنه صوت حصاة وقعت في طست ، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرمية ، فانهزمنا{[12775]}

غريب من هذا الوجه . وهاهنا قولان آخران غريبان جدا .

أحدهما : قال ابن جرير : حدثني محمد بن عوف الطائي ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صفوان بن عمرو ، حدثنا عبد الرحمن بن جبير ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ابن أبي الحقيق بخيبر ، دعا بقوس ، فأتى بقوس طويلة ، وقال : " جيئوني غيرها " . فجاؤوا بقوس كبداء ، فرمى النبي صلى الله عليه وسلم الحصن ، فأقبل السهم يهوي حتى قتل ابن أبي الحقيق ، وهو في فراشه ، فأنزل الله عز وجل : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى }{[12776]}

وهذا غريب ، وإسناده جيد إلى عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، ولعله اشتبه عليه ، أو أنه أراد أن الآية تعم هذا كله ، وإلا فسياق الآية في سورة الأنفال في قصة بدر لا محالة ، وهذا مما لا يخفى على أئمة العلم ، والله أعلم .

والثاني : روى ابن جرير أيضا ، والحاكم في مستدركه ، بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب والزهري أنهما قالا أنزلت{[12777]} في رمية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أُبَي بن خلف بالحربة وهو في لأمته ، فخدشه في ترقوته ، فجعل يتدأدأ عن فرسه مرارا ، حتى كانت وفاته [ بها ]{[12778]} بعد أيام ، قاسى فيها العذاب الأليم ، موصولا بعذاب البرزخ ، المتصل بعذاب الآخرة{[12779]}

وهذا القول عن هذين الإمامين غريب أيضا جدا ، ولعلهما أرادا أن الآية تتناوله بعمومها ، لا أنها نزلت فيه خاصة كما تقدم ، والله أعلم .

وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عُرْوَة بن الزبير في قوله : { وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا } أي : ليُعَرّف المؤمنين من نعمته عليهم ، من إظهارهم على عدوهم مع كثرة عدوهم ، وقلة عددهم ، ليعرفوا بذلك حقه ، ويشكروا بذلك نعمته .

وهكذا فسر{[12780]} ذلك ابن جرير أيضا . وفي الحديث : " وكل بلاء حسن أبلانا " .

وقوله : { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : سميع الدعاء ، عليم بمن يستحق النصر والغلب .


[12764]:زيادة من ك، م.
[12765]:زيادة من ك، م، أ، وفي هـ: "الآية".
[12766]:في م: "عنده تعالى".
[12767]:في أ: "القوم".
[12768]:زيادة من أ.
[12769]:في م: "حصباء".
[12770]:في م: "المسلمون".
[12771]:زيادة من م، ك، أ.
[12772]:زيادة من م.
[12773]:في ك، م، أ: "فرمى في".
[12774]:انظر: تفسير الطبري (13/443 - 445).
[12775]:تفسير الطبري (13/443).
[12776]:سقط هذا الأثر والذي يليه من نص الطبري وأثبته المحقق في الهامش (13/446).
[12777]:في م: "نزلت".
[12778]:زيادة من أ.
[12779]:المستدرك (2/327).
[12780]:في د: "فسره".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ وَمَا رَمَيۡتَ إِذۡ رَمَيۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبۡلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡهُ بَلَآءً حَسَنًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (17)

{ فلم تقتلوهم } بقوتكم . { ولكن الله قتلهم } بنصركم وتسليطكم عليهم وإلقاء الرعب في قلوبهم . روي : أنه لما طلعت قريش من العقنقل قال عليه الصلاة والسلام : هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك ، اللهم إني أسألك ما وعدتني فأتاه جبريل عليه السلام وقال له : خذ قبضة من تراب فارمهم بها ، فلما التقى الجمعان تناول كفا من الحصباء فرمى بها في وجوههم وقال " شاهت الوجوه " فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم ، ثم لما انصرفوا أقبلوا على التفاخر فيقول الرجل قتلت وأسرت ، فنزلت . والفاء جواب شرط محذوف تقديره : إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم . { وما رميت } يا محمد رميا توصله إلى أعينهم ولم تقدر عليه . { إذ رميت } أي إذ أتيت بصورة الرمي . { ولكنّ الله رمى } أتى بما هو غاية الرمي فأوصلها إلى أعينهم جميعا حتى انهزموا وتمكنتم من قطع دابرهم ، وقد عرفت أن اللفظ يطلق على المسمى وعلى ما هو كماله والمقصود منه . وقيل معناه ما رميت بالرعب إذ رميت بالحصباء ولكن الله رمى بالرعب في قلوبهم . وقيل إنه نزل في طعنة طعن بها أبي بن خلف يوم أحد ولم يخرج منه دم فجعل يخور حتى مات . أو رمية سهم رماه يوم خيبر نحو الحصن فأصاب كنانة بن أبي الحقيق على فراشه ، والجمهور على الأول . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي { ولكن } بالتخفيف ورفع ما بعده في الموضعين . { وليُبلي المؤمنين منه بلاء حسنا } ولينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة ومشاهدة الآيات فعل ما فعل . { إن الله سميع } لاستغاثتهم ودعائهم . { عليم } بنياتهم وأحوالهم .