قوله تعالى : { قالوا } يعني : السحرة { لن نؤثرك } لن نختارك { على ما جاءنا من البينات } يعني : الدلالات ، قال مقاتل : يعني اليد البيضاء والعصا . وقيل : كان استدلالهم أنهم لو كان هذا سحراً فأين حبالنا وعصينا ؟ وقيل : من البينات يعني : من اليقين والعلم . حكي عن القاسم بن أبي بزة أنه قال : إنهم لما ألقوا سجداً ما رفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار ، ورأوا ثواب أهلها ، ورأوا منازلهم في الجنة فعند ذلك قالوا : لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات { والذي فطرنا } يعني : لن نؤثرك على الله الذي فطرنا وقيل : هو قسم { فاقض ما أنت قاض } يعني : فاصنع ما أنت صانع { إنما تقضي هذه الحياة الدنيا } يعني : أمرك وسلطانك في الدنيا وسيزول عن قريب .
ثم حكى - سبحانه - أن السحرة بعد أن استقر الإيمان فى قلوبهم ، قد قابلوا تهديد فرعون لهم بالاستخفاف وعدم الاكتراث فقال : { قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ على مَا جَآءَنَا مِنَ البينات والذي فَطَرَنَا فاقض مَآ أَنتَ قَاضٍ . . . } .
أى : قال السحرة فى ردهم على تهديد فرعون لهم : لن نختارك يا فرعون ولن نرضى بأن نكون من حزبك ، ولن نقدم سلامتنا من عذابك . . . على ما ظهر لنا من المعجزات التى جاءنا بها موسى ، والتى على رأسها عصاه التى ألقاها فإذا هى تبتلع حبالنا وعصينا .
وجملة " والذى فطرنا " الواو فيها للعطف على " ما " فى قوله { مَا جَآءَنَا } .
أى : لن نختارك يا فرعون على الذى جاءنا من البينات على يد موسى ، ولا على الذى فطرنا أى ؛ خلقنا وأوجدنا فى هذه الحياة .
ويصح أن تكون هذه الواو للقسم ، والموصول مقسم به ، وجواب القسم محذوف دل عليه ما قبله ، والمعنى : وحق الذى فطرنما لن نؤثرك يا فرعون على ما جاءنا من البينات .
وقوله : { فاقض مَآ أَنتَ قَاضٍ } تصريح منهم بأن تهديده لهم لا وزن له عندهم ، ورد منهم على قوله : { لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ } .
أى : لن نقدم طاعتك على طاعة خالقنا بعد أن ظهر لنا الحق ، فافعل ما أنت فاعله ، ونفذ ما تريد تنفيذه فى جوارحنا ، فهى وحدها التى تملكها ، أما قلوبنا فقد استقر الإيمان فيها ، ولا تملك شيئا من صرفها عما آمنت به .
قال بعض العلماء : واعلم أن العلماء اختلفوا : هل فعل بهم فرعون ما توعدهم به ، أو لم يفعله بهم ؟
فقال قوم : قتلهم وصلبهم ، وقوم أنكروا ذلك ، وأظهرهما عندى : أنه لم يقتلهم ، وأن الله عصمهم منه لأجل إيمانهم الراسخ بالله - تعالى - لأن الله قال لموسى وهارون : { أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون } وقوله : { إِنَّمَا تَقْضِي هذه الحياة الدنيآ إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا } تعليل لعدم مبالاتهم بتهديده لهم .
أى : افعل يا فرعون ما أنت فاعله بأجسامنا ، فإن فعلك هذا إنما يتعلق بحياتنا فى هذه الحياة الدنيا ، وهى سريعة الزوال ، وعذابها أهون من عذاب الآخرة .
ولكنه كان قد فات الأوان . كانت اللمسة الإيمانية قد وصلت الذرة الصغيرة بمصدرها الهائل . فإذا هي قوية قويمة . وإذا القوى الأرضية كلها ضئيلة ضئيلة . وإذا الحياة الأرضية كلها زهيدة زهيدة . وكانت قد تفتحت لهذه القلوب آفاق مشرقة وضيئة لا تبالي أن تنظر بعدها إلى الأرض وما بها من عرض زائل . ولا إلى حياة الأرض وما فيها من متاع تافه :
( قالوا : لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا ، فاقض ما أنت قاض . إنما تقضي هذه الحياة الدنيا . إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر ، والله خير وأبقى ) .
إنها لمسة الإيمان في القلوب التي كانت منذ لحظة تعنو لفرعون وتعد القربى منه مغنما يتسابق إليه المتسابقون . فإذا هي بعد لحظة تواجهه في قوة ، وترخص ملكه وزخرفه وجاهه وسلطانه :
( قالوا : لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا . . )فهي علينا أعز وأغلى وهو جل شأنه أكبر وأعلى . ( فاقض ما أنت قاض )ودونك وما تملكه لنا في الأرض . ( إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ) . فسلطانك مقيد بها ، وما لك من سلطان علينا في غيرها . وما أقصر الحياة الدنيا ، وما أهون الحياة الدنيا . وما تملكه لنا من عذاب أيسر من أن يخشاه قلب يتصل بالله ، ويأمل في الحياة الخالدة أبدا .
فلما صال عليهم بذلك وتوعدهم ، هانت عليهم أنفسهم في الله عز وجل ، و{ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ } أي : لن نختارك على ما حصل لنا من الهدى واليقين . { وَالَّذِي فَطَرَنَا } يحتمل أن يكون قسمًا ، ويحتمل أن يكون معطوفًا على البينات .
يعنون : لا{[19431]} نختارك على فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم ، المبتدئ خلقنا من الطين ، فهو المستحق للعبادة والخضوع لا أنت .
{ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ } أي : فافعل ما شئت وما وَصَلَت إليه يدك ، { إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } أي : إنما لك تَسَلُّط في هذه الدار ، وهي دار الزَّوال ونحن قد رغبنا في دار القرار . {[19432]}
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُواْ لَن نّؤْثِرَكَ عَلَىَ مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ وَالّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنّمَا تَقْضِي هََذِهِ الْحَيَاةَ الدّنْيَآ * إِنّآ آمَنّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السّحْرِ وَاللّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ } .
يقول تعالى ذكره : قالت السحرة لفرعون لما توعدهم بما توعّدهم به : لَنْ نُؤْثِرَكَ فنتبعك ونكذّب من أجلك موسى عَلى ما جاءَنا مِنَ البّيّناتِ يعني من الحجج والأدلة على حقيقة ما دعاهم إليه موسى . وَالّذِي فَطَرَنا يقول : قالوا : لن نؤثرك على الذي جاءنا من البينات ، وعلى الذي فطرنا . ويعني بقوله : فَطَرنا : خلقنا ، فالذي من قوله : وَالّذِي فَطَرنا خفض على قوله : ما جاءَنا ، وقد يحتمل أن يكون قوله : وَالّذِي فَطَرنا خفضا على القسم ، فيكون معنى الكلام : لن نؤثرك على ما جاءنا من البيّنات والله . وقوله : " فاقْضِ ما أنْتَ قاضٍ " يقول : فاصنع ما أنت صانع ، واعمل بنا ما بدا لك إنما تَقْضِي هَذِهِ الحَياةَ الدّنيا يقول : إنما تقدر أن تعذّبنا في هذه الحياة الدنيا التي تفنى . ونصب الحياة الدنيا على الوقت وجعلت إنما حرفا واحدا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : حُدثت عن وهب بن منبه " لَنْ نُؤْثرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ البَيّناتِ وَالّذِي فَطَرَنا " أي على الله على ما جاءنا من الحجج مع بينة . " فاقْضِ ما أنْتَ قاضٍ " : أي اصنع ما بدا لك . " إنّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدّنيا " أي ليس لك سلطان إلا فيها ، ثم لا سلطان لك بعده .
{ قالوا لن نؤثرك } لن نختارك . { على ما جاءنا } موسى به ، ويجوز أن يكون الضمير فيه لما . { من البينات } المعجزات الواضحات . { الذي فطرنا } عطف على ما جاءنا أو قسم { فاقض ما أنت قاض } ما أنت قاضيه أي صانعه أو حاكم به . { إنما تقضي هذه الحياة الدنيا } إنما تصنع ما تهواه ، أو تحكم ما تراه في هذه الدنيا { والآخرة خير وأبقى } فهو كالتعليل لما قبله والتمهيد لما بعده . وقرئ { تقضي هذه الحياة الدنيا } كقولك : صيم يوم الجمعة .
أظهروا استخفافهم بوعيده وبتعذيبه ، إذ أصبحوا أهل إيمان ويقين ، وكذلك شأن المؤمنين بالرسل إذا أشرقت عليهم أنوار الرسالة فسرعان ما يكون انقلابهم عن جهالة الكفر وقساوته إلى حكمة الإيمان وثباته . ولنا في عمر بن الخطّاب ونحوه ممن آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم مَثَلُ صدق .
والإيثار : التفضيل . وتقدّم في قوله تعالى : { لقد آثرك الله علينا } في سورة يوسف ( 91 ) . والتفضيل بين فرعون وما جاءهم من البيّنات مقتض حذف مضاف يناسب المقابلة بالبيّنات ، أي لن نؤثر طاعتك أو دينك على ما جاءنا من البيّنات الدالة على وجوب طاعة الله تعالى ، وبذلك يلتئم عطف { والذي فَطَرنا } ، أي لا نؤثرك في الربوبية على الذي فطرنا .
وجيء بالموصول للإيماء إلى التّعليل ، لأنّ الفاطر هو المستحق بالإيثار .
وأخر { الذي فطرنا } عن { ما جَاءَنَا مِنَ البينات } لأنّ البيّنات دليل على أنّ الذي خلقهم أراد منهم الإيمان بموسى ونبذ عبادة غير الله ، ولأنّ فيه تعريضاً بدعوة فرعون للإيمان بالله .
وصيغة الأمر في قوله { فَاقْضِ مَا أنتَ قَاضٍ } مستعملة في التسوية ، لأن { ما أنت قاض } مَا صْدَقُه ما توعدهم به من تقطيع الأيدي والأرجل والصّلببِ ، أي سواء علينا ذلك بعضه أو كلّه أو عدم وقوعه ، فلا نطلب منك خلاصاً منه جزاء طاعتك فافعل ما أنت فاعل ( والقضاء هنا التنفيذ والإنجاز ) فإنّ عذابك لا يتجاوز هذه الحياة ونحن نرجو من ربنا الجزاء الخالد .
وانتصب { هذه الحياة } على النيابة عن المفعول فيه ، لأنّ المراد بالحياة مُدّتُها .
والقصر المستفاد من ( إنما ) قصر موصوف على صفة ، أي إنك مقصور على القضاء في هذه الحياة الدنيا لا يتجاوزه إلى القضاء في الآخرة ، فهو قصر حقيقيّ .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قالت السحرة لفرعون لما توعدهم بما توعّدهم به: "لَنْ نُؤْثِرَكَ "فنتبعك ونكذّب من أجلك موسى "عَلى ما جاءَنا مِنَ البّيّناتِ "يعني من الحجج والأدلة على حقيقة ما دعاهم إليه موسى.
"وَالّذِي فَطَرَنا" يقول: قالوا: لن نؤثرك على الذي جاءنا من البينات، وعلى الذي فطرنا". ويعني بقوله: "فَطَرنا": خلقنا، فالذي من قوله: "وَالّذِي فَطَرنا" خفض على قوله: "ما جاءَنا"، وقد يحتمل أن يكون قوله: "وَالّذِي فَطَرنا" خفضا على القسم، فيكون معنى الكلام: لن نؤثرك على ما جاءنا من البيّنات والله. وقوله: "فاقْضِ ما أنْتَ قاضٍ" يقول: فاصنع ما أنت صانع، واعمل بنا ما بدا لك، "إنما تَقْضِي هَذِهِ الحَياةَ الدّنيا" يقول: إنما تقدر أن تعذّبنا في هذه الحياة الدنيا التي تفنى...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... أي لن نؤثرك بالربوبية والعبادة لك والطاعة على ما جاءنا من البينات على ربوبية الله وألوهيته وعبادته.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أي بالله الذي فطرنا إنَّا لن نُؤْثِرَكَ على ما جاءَنا من البينات. ولما طلعت في أسرارهم شموسُ العرفان، وانبسطت عليهم أنوار العناية أبصروا الحقَّ سبحانه بأسرارهم، فنطقوا ببيان التصديق، وسجدوا بقلوبهم لمشهودهم، ولم يحتشموا مما توعدهم به من العقوبة، ورأوا ذلك من الله فاستعذبوا البلاء، وتحملوا اللأواء، فكانوا في الغَدَاةِ كُفَّاراً سَحَرَةً، وأَمْسَوْا أَخياراً بَرَرَةَ.. قوله: {فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ...} عَلِمُوا أَنَّ البَلاَءَ في الدنيا يَنْقَضي -وإنْ تمادى، وينتهي وإن تناهى.
اعلم أنه تعالى لما حكى تهديد فرعون لأولئك، حكى جوابهم عن ذلك بما يدل على حصول اليقين التام والبصيرة الكاملة لهم في أصول الدين، فقالوا: {لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات} وذلك يدل على أن فرعون طلب منهم الرجوع عن الإيمان وإلا فعل بهم ما أوعدهم فقالوا: {لن نؤثرك} جوابا لما قاله وبينوا العلة وهي أن الذي جاءهم بينات وأدلة، والذي يذكره فرعون محض الدنيا، ومنافع الدنيا ومضارها لا تعارض منافع الآخرة ومضارها،
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما علموا ما خيل به على عقول الضعفاء، نبهوهم فأخبر تعالى عن ذلك بقوله مستأنفاً: {قالوا لن نؤثرك} أي نقدم أثرك بالاتباع لك لنسلم من عذابك الزائل {على ما جاءنا} به موسى عليه السلام {من البينات} التي عايناها وعلمنا أنه لا يقدر أحد على مضاهاتها. ولما بدأوا بما يدل على الخالق من الفعل الخارق، ترقوا إلى ذكره بعد معرفته بفعله، إشارة إلى عليّ قدره فقالوا: {والذي} أي ولا نؤثرك بالاتباع على الذي {فطرنا} أي ابتدأ خلقنا، إشارة إلى شمول ربوبيته سبحانه وتعالى لهم وله ولجميع الناس، وتنبيهاً على عجز فرعون عند من استحقه، وفي جميع أقوالهم هذه من تعظيم الله تعالى عبارة وإشارة وتحقير فرعون أمر عظيم.
ولما تسبب عن ذلك أنهم لا يبالون به، علماً بأن ما فعله فهو بإذن الله، قالوا: {فاقض ما} أي فاصنع في حكمك الذي {أنت قاض} ثم عللوا ذلك بقولهم: {إنما تقضي} أي تصنع بنا ما تريد إن قدرك الله عليه {هذه الحياة الدنيا} أي إنما حكمك في مدتها على الجسد خاصة، فهي ساعة تعقب راحة، ونحن لا نخاف إلا ممن يحكم على الروح وإن فني الجسد، فذاك هو الشديد العذاب، الدائم الجزاء بالثواب أو العقاب، ولعلهم أسقطوا الجار تنزلاً إلى أن حكمه لو فرض أنه يمتد إلى آخر الدنيا لكان أهلاً لأن لا يخشى لأنه زائل وعذاب الله باق.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(قالوا: لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا، فاقض ما أنت قاض. إنما تقضي هذه الحياة الدنيا. إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر، والله خير وأبقى). إنها لمسة الإيمان في القلوب التي كانت منذ لحظة تعنو لفرعون وتعد القربى منه مغنما يتسابق إليه المتسابقون. فإذا هي بعد لحظة تواجهه في قوة، وترخص ملكه وزخرفه وجاهه وسلطانه: (قالوا: لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا..) فهي علينا أعز وأغلى وهو جل شأنه أكبر وأعلى. (فاقض ما أنت قاض) ودونك وما تملكه لنا في الأرض. (إنما تقضي هذه الحياة الدنيا). فسلطانك مقيد بها، وما لك من سلطان علينا في غيرها. وما أقصر الحياة الدنيا، وما أهون الحياة الدنيا. وما تملكه لنا من عذاب أيسر من أن يخشاه قلب يتصل بالله، ويأمل في الحياة الخالدة أبدا...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أظهروا استخفافهم بوعيده وبتعذيبه، إذ أصبحوا أهل إيمان ويقين، وكذلك شأن المؤمنين بالرسل إذا أشرقت عليهم أنوار الرسالة فسرعان ما يكون انقلابهم عن جهالة الكفر وقساوته إلى حكمة الإيمان وثباته. ولنا في عمر بن الخطّاب ونحوه ممن آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم مَثَلُ صدق.
والإيثار: التفضيل. وتقدّم في قوله تعالى: {لقد آثرك الله علينا} في سورة يوسف (91). والتفضيل بين فرعون وما جاءهم من البيّنات مقتض حذف مضاف يناسب المقابلة بالبيّنات، أي لن نؤثر طاعتك أو دينك على ما جاءنا من البيّنات الدالة على وجوب طاعة الله تعالى، وبذلك يلتئم عطف {والذي فَطَرنا}، أي لا نؤثرك في الربوبية على الذي فطرنا.
وجيء بالموصول للإيماء إلى التّعليل، لأنّ الفاطر هو المستحق بالإيثار.
وأخر {الذي فطرنا} عن {ما جَاءَنَا مِنَ البينات} لأنّ البيّنات دليل على أنّ الذي خلقهم أراد منهم الإيمان بموسى ونبذ عبادة غير الله، ولأنّ فيه تعريضاً بدعوة فرعون للإيمان بالله.
وصيغة الأمر في قوله {فَاقْضِ مَا أنتَ قَاضٍ} مستعملة في التسوية، لأن {ما أنت قاض} مَا صْدَقُه ما توعدهم به من تقطيع الأيدي والأرجل والصّلبِ، أي سواء علينا ذلك بعضه أو كلّه أو عدم وقوعه، فلا نطلب منك خلاصاً منه جزاء طاعتك فافعل ما أنت فاعل (والقضاء هنا التنفيذ والإنجاز) فإنّ عذابك لا يتجاوز هذه الحياة ونحن نرجو من ربنا الجزاء الخالد.
وانتصب {هذه الحياة} على النيابة عن المفعول فيه، لأنّ المراد بالحياة مُدّتُها.
والقصر المستفاد من (إنما) قصر موصوف على صفة، أي إنك مقصور على القضاء في هذه الحياة الدنيا لا يتجاوزه إلى القضاء في الآخرة، فهو قصر حقيقيّ.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إجابة حاسمة قاطعة تقطع أمله في رجوعهم، والإيمان إذا دخل القلب وأشرب حبه كان أثبت من الرواسي، وهو إيمان بحجة وبينة وبرهان {لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا}، أي لن نتركه لأجلك أيها الطاغي الباغي...
فقولهم: {لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا}: لأنه قال {ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى} أنا أم موسى؟ فالمعركة في نظره مع موسى، فأرادوا أن يواجهوه بهذه الحقيقة التي اتضحت لهم جميعا، وهي أن المعركة ليست مع موسى، بل مع آيات الله البينات التي أرسل بها موسى، ولن نفضلك على آيات الله التي جاءتنا واضحة بينة...
ولما رأى السحرة معجزة العصا كانوا هم أكثر القوم إيمانا، وقد وضح عمق إيمانهم لما قالوا: {آمنا برب هارون وموسى}: ولم يقولوا: آمنا بموسى وهارون، إذن: فإيمانهم صحيح صادق من أول وهلة. وقد تعرضنا لهذه المسألة في قصة سليمان مع ملكة سبأ، حين قالت: {وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين (44)} (النمل): فأنا وهو مسلمان لله، ولم تقل: أسلمت لسليمان، فهناك رب أعلى، الجميع مسلم له. إذن: فقول السحرة لفرعون: {لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} تعبير دقيق وواع وحكيم، لا تلحظ فيه ذاتية موسى، إنما تلحظ البينة التي جاء بها موسى من الله. لذلك يقول تعالى: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة (1)} (البينة)، ثم يبين عند من جاءت البينة: {رسول من الله يتلو صحفا مطهرة (2)} (البينة). فالارتقاء من الرسول إلى البينة إلى من أعطى له البينة، فهذه مراحل ثلاث. والبينات: هي الأمور الواضحة التي تحسم كل جدل حولها، فلا تقبل الجدل والمهاترات؛ لأن حجتها جلية واضحة...
وهذه حيثية عدم الرجوع فيما قالوه وهو الإيمان برب هارون وموسى. ثم لم يفتهم الإشارة إلى مسألة التهديدات الفرعونية: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} لذلك يقولون: {فاقض ما أنت قاض} أي: نفذ ما حكمت به من تقطيع الأيدي والأرجل، أو اقض ما أنت قاض من أمور أخرى، وافعل ما تريد فلم تعد تخيفنا هذه التهديدات {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} فأنت إنسان يمكن أن تموت في أي وقت، فما تقضي إلا مدة حياتك، وربما يأتي من بعدك من هو أفضل منك فلا يدعي ما ادعيته من الألوهية.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} الواضحة التي تؤكد لنا الحقيقة من دون شك أو شبهة، فكيف نتنكر لها، ونتركها من دون أساس؟ وماذا تمثل أنت لنا أمام حقيقة الإيمان؟ وماذا تمثل طريقتك في الحياة؟ ما هي قيمك؟ وما هي شريعتك؟ وما هي مفاهيمك؟ هل تثبت بالمقارنة أمام قيم الإيمان وشرائعه ومفاهيمه؟ إن الحقيقة تفرض نفسها علينا، وهي أن شريعة الله هي الشريعة الحقّة، وأن شريعة البشر هي شريعة الباطل، ولن نؤثر الباطل على الحق مهما كانت الإغراءات، ومهما كانت التهديدات... {فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيَآ} هل تريد أن تقتلنا، هل عندك أكثر من التمثيل والصلب والقتل؟ إننا لن نخسر الكثير، إنها حياتنا الدنيا نفقدها، ونفقد شهواتها ومنافعها وملذاتها، ونخسرها، ولكنها لن تكون الخسارة الكبيرة، فهناك الدار الآخرة التي تنتظر المؤمنين، لهم فيها رحمة الله في ما أعد لهم من نعيم الجنة وسعادة الرضوان.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لكن نرى ماذا كان ردّ فعل السّحرة تجاه تهديدات فرعون الشديدة؟ إنّهم لم يخافوا ولم يهربوا من ساحة المواجهة، أثبتوا صمودهم في الميدان بصورة قاطعة، و (قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البيّنات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض) لكن، ينبغي أن تعلم بأنّك تقدر على القضاء في هذه الدنيا، أمّا في الآخرة فنحن المنتصرون، وستلاقي أنت أشدّ العقاب (إنّما تقضي هذه الحياة الدنيا). وعلى هذا، فإنّهم قد بيّنوا هذه الجمل الثلاث الراسخة أمام فرعون:
الأُولى: إنّنا قد عرفنا الحقّ واهتدينا، ولا نستبدله بأي شيء.