135- إن العدل هو نظام الوجود ، وهو القانون الذي لا يختلف النظر فيه ، فيا أيها الذين أذعنتم لله الحق ، ولدعوة رسله ، كونوا مراقبين لأنفسكم في الإذعان للعدل ، ومراقبين للناس ، فانصفوا المظلوم ، وكونوا قائمين لا لرغبة غني أو لعطف على فقير ، لأن الله هو الذي جعل الغني والفقير ، وهو أولى بالنظر في حال الغني أو الفقير ، وإن الهوى هو الذي يميل بالنفس عن الحق فلا تتبعوه لتعدلوا وإن تتولوا إقامة العدل أو تعرضوا عن إقامته فإن الله يعلم ما تعملون علماً دقيقاً ، ويجازيكم بعملكم ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر .
قوله تعالى : { وكان الله سميعا بصيرا يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله } . يعني : كونوا قائمين بالشهادة بالقسط ، أي : بالعدل لله . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ( كونوا قوامين بالعدل ) في الشهادة على من كانت له .
قوله تعالى : { ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين } في الرحم ، أي : قولوا الحق ولو على أنفسكم بالإقرار ، أو الوالدين والأقربين ، فأقيموها عليهم ، ولا تحابوا غيناً لغناه ، ولا ترحموا فقيراً لفقره ، فذلك قوله تعالى : { إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما } ، منكم ، أي أقيموا على المشهود عليه وإن كان غنياً ، وللمشهود له وإن كان فقيراً ، فالله أولى بهما منكم ، أي كلوا أمرهما إلى الله . وقال الحسن : معناه الله أعلم بهما .
قوله تعالى : { فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا } ، أي تجوروا ، وتميلوا إلى الباطل من الحق ، وقيل : معناه لا تتبعوا الهوى لتعدلوا ، أي : لتكونوا عادلين ، كما يقال : لا تتبع الهوى لترضي ربك .
قوله تعالى : { وإن تلووا } أي : تحرفوا الشهادة لتبطلوا الحق .
قوله تعالى : { أو تعرضوا } عنها فتكتموها ، ولا تقيموها ، ويقال : تلووا أي تدافعوا في إقامة الشهادة ، يقال : لويته حقه إذا حقه إذا دفعته ، وأبطلته ، وقيل : هذا خطاب مع الحكام في ليهم الاشداق ، يقول : ( وإن تلووا ) أي تميلوا إلى أحد الخصمين ، أو تعرضوا عنه ، قرأ ابن عامر وحمزة { تلوا } بضم اللام ، قيل : أصله تلووا ، فحذفت إحدى الواوين تخفيفاً . وقيل : معناه وإن تلوا القيام بأداء الشهادة ، أو تعرضوا فتتركوا أداءها .
ثم وجه - سبحانه - بعد ذلك ندائين متتالين إلى المؤمنين أمرهم فيهما بالمداومة على التمسك بفضيلة العدل فى جميع الظروف والأحوال ، وبالثبات على الإِيمان الحق الذى ينالون به ثوابا لله ورضاه ، وتوعد الذين ينحرفون عن طريق الحق بسوء العاقبة فقال - تعالى - : { يَا أَيُّهَا الذين . . . . ضَلاَلاً بَعِيداً } .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( 135 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ( 136 )
وقوله { قَوَّامِينَ } جمع قوام وهو صيغة مبالغة من قائم . والقوام : هو المبالغ فى القيام بالشئ وفى الإِتيان به على أتم وجه وأحسنه .
وقوله { شُهَدَآءَ } جمع شهيد بوزن فعيل . والأصل فى هذه الصغية أنها تدل على الصفات الراسخة فى النفس ككريم وحكيم .
والمعنى : يأيها الذين آمنوا بالحق إيمانا صادقا . كونوا مواظبين على إقامة العدل فيما بينكم فى جميع الظروف والأحوال دون أن يصرفكم عن ذلك صارف ، وكونوا " شهداء لله " أى : مقيمين للشهادة بالحق ابتغاء وجه الله لا لغرض من الأغراض الدنيوية . ولا لمطمع من المطامع الشخصية ، فإن الإِيمان الحق يسلتزم منكم أن تعدلوا فى أحكامكم وأن تؤدوا الشهادة على وجهها .
وفى ندائه - سبحانه - لهم بقوله { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ } تنبيه إلى الأمر الخير الذى ناداهم من أجله ودعاهم إلى تنفيذه وهو التزام العدالة فى كل أمورهم ، وتحريك لعاطفة الإِيمان فى قلوبهم بمقتضى وصفهم - بهذه الصفة الجليلة .
وعبر - سبحانه - بقوله { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ } بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة والمداومة على الشئ ، لتمكين صفة العدالة فى نفوسهم ، وترسيخها فى قلوبهم .
فكأنه - سبحانه - يقول لهم : رضوا أنفسكم على التزام كلمة الحق ، وعودوها على نصرة المظلوم وخذلان الظلم ، وليكن ذلك خلقا من أخلاقكم . وسجية من سجاياكم ، فلا يكفى أن تعدلوا فى أحكامكم مرة أو مرتين ، وإنما الواجب عليكم أن تداوموا على إقامة العدل فى كل الأحوال ، ومع كل الأشخاص .
قال صاحب المنار : وهذه العبارة - وهى قوله - تعالى - { كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط } أبلغ ما يمكن أن يقال فى تأكيد أمر العدل والعناية به فالأمر بالعدل والقسط مطلقا يكون بعبارات مختلفة بعضها آكد من بعض تقول : اعدلوا أو اقسطوا . وتقول : كونوا عادلين أو مقسطين . وهذه العبارة أبلغ ؛ لأنها أمر بتحصيل الصفة لا بمجرد الإِتيان بالقسط الذى يصدق بمرة .
وتقول : أقيموا القسط . وأبلغ منه : كونوا قائمين بالقسط . وأبلغ من هذا وذاك : كونوا قوامين بالقسط . أى : لتكن المبالغة والعناية بإقامة القسط على وجهه صفة من صفاتكم ، بأن تتحروه بالدقة التامة حتى تكون ملكة راسخة فى نفوسكم . والقسط يكون فى العمل كالقيام بما يجب من العدل بين الزوجات والأولاد ويكون فى الحكم بين الناس . . .
وقوله { شُهَدَآءَ } خبر ثان لكونوا . وقوله { للَّهِ } متعلق بمحذوف حال من ضمير { شُهَدَآءَ } .
أى : كونوا ملازمين للعدل فى كل أمروكم وكونوا مقيمين للشهادة على وجهها حالة كونها لوجه الله ، لا لعرض من أعراض الدنيا .
قال الفخر الرازى : وإنما قدم - سبحانه - الأمر بالقيام بالقسط على الأمر بالشهادة لوجوه :
الأول : أن أكثر الناس من عادتهم أنهم يأمرون غيرهم بالمعروف ، فإذا آل الأمر إلى أنفسهم تركوه حتى أن أقبح القبيح إذا صدر عنهم كان فى محل المسامحة وأحسن الحسن .
وإذا صدر عن غيرهم كان محل المنازعة . فالله - تعالى - نبه فى هذه الآية على سوء هذه الطريقة . وذلك أنه - سبحانه - أمرهم بالقيام بالقسط أولا ، ثم أمرهم بالشهادة على الغير ثانيا ، تنبيها على أن الطريقة الحسنة أن تكون مضايقة الإِنسان مع نفسه فوق مضايقته مع الغير .
الثانى : أن القيام بالشهادة عبارة عن دفع ضرر العقاب عن الغير ، وهو الذى عليه الحق . ودفع الضرر عن النفس مقدم على دفع الضرر عن الغير .
الثالث : أن القيام بالقسط فعل ، والشهادة قول والفعل أقوى من القول .
وقوله { وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوالدين والأقربين } تأكيد للأمر بالتزام الحق فى الأحكام والشهادات .
أى : كونوا قوامين بالقسط ، وكونوا مقيمين للشهادة بالحق خالصة لوجه الله ، ولو كانت الشهادة على أنفسكم - بأن تقروا بأن الحق عليها إذا كان واقع الأمر كذلك - ولو كانت - أيضا . على والديكم وعلى أقرب الناس إليكم .
قال القرطبى : وشهادة المرء على نفسه إقراره بالحقوق عليها ثم ذكر الوالدين لوجوب برهما وعظم قدرهما . ثم ثنى بالأقربين إذهم مظنة المودة والتعصب فكان الأجنبى من الناس أحرى أن يقام عليه بالقسط ويشهد عليه . . . ولا خلاف بين أهل العلم فى صحة أحكام هذه الآية ، وأن شهادة الولد على الوالدين ماضية ، ولا يمنع ذلك من برهما ، بل أن يشهد عليهما ويخلصهما من الباطل . وكان من مضى من السلف الصالح يجيزون شهادة الوالدين والأخ ، لأنه لم يكن أحد يتهم فى ذلك من السلف . ثم ظهرت من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم ، فتركت شهادة من يتهم . وأجاز قوم شهادة بعضهم لبعض إذا كانوا عدولا .
و { لَوْ } فى قوله { وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ } شرطية . والجار والمجرور خبر لكان المحذوفة مع اسمها . وجواب لو محذوف . والتقدير : ولو كانت الشهادة على أنفسهم فاشهدوا علهيا بأن تقروا على أنفسكم بالحق ولا تكتموه .
وقوله - تعالى - { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فالله أولى بِهِمَا } تأكيد لوجوب التزام الحق مع الغنى والفقير والصغير والكبير .
أى : إن يكن المشهود عليه غنيا يرجى فى العادة ويخشى أو فقيراً يترحم عليه فى الغالب ولا يخشى ، فلا تمتنعوا عن الشهادة ، لأن الله - تعالى - هو الأول والأجدر بحساب كل من الغنى والفقير ، وهو الأعلم بمصالح الناس ، والأرحم بهم منكم . وجواب الشرط محذوف ، أى : إن يكن المشهود عليه غنيا أو فقيرا فلا تتركوا الشهادة لأن الشهادة فى مصلحتهما .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم ثنى الضمير فى " أولى بهما " وكان حقه أن يوحد ؛ لأن قوله : إن يكن غنيا أو فقيرا فى معنى إن يكن أحد هذين ؟
قلت قد رجع الضمير إلى ما دل عليه قوله : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً } لا إلى المذكور ، فلذلك ثنى ولم يفرد ، وهو جنس الغنى وجنس الفقير .
فكأنه قيل : فالله أولى بجنسى الغنى والفقير . أى : بالأغنياء والفقراء . وفى قراءة أبى : فالله أولى بهم وهى شاهدة على ذلك .
وقال ابن جرير : نزلت فى النبى صلى الله عليه وسلم إذا اختصم إليه رجلان : غنى وفقير : وكان ضعله - أى ميله - مع الفقير ؛ لأنه يرى أن الفقير لا يظلم الغنى . فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط فى الغنى والفقير فقال : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فالله أولى بِهِمَا } .
والذى يستفاد من هذه الرواية ومن ظاهر الآية أن الغنى أو الفقر لا يصح أن يكونا سببا فى التفاوت فى الحكم . ويقاس عليهما غيرهما من أحوال الناس ، لأن الله - تعالى هو الذى نظم الكون بحكمته ، وهو أعلم بمصالح الناس من أنفسهم ، وجعل فيهم الغنى والفقير لأن الغنى والفقر أمران ثابتان فى هذا الوجود ، ولا يمكن أن تخلو منهما الجماعة الإِنسانية ، لأن ذلك تنظيم الله - تعالى ، وإرادته الخالدة ، وهو الذى يتقف مع الطبيعة الإِنسانية ، إذ العقول متفاوتة ، والعزائم مختلفة ، والأعمال متنوعة ، ونتيجة لذلك كانت لثمار ليست متحدة .
والمراد بالهوى فى قوله : { فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى أَن تَعْدِلُواْ } الخضوع للشهوات والميل مع نزعات النفس الأمارة بالسوء .
وقوله { أَن تَعْدِلُواْ } فى موضع المفعول لأجله ويحتمل أن يكون بمعنى العدل فيكون علة للمنهى عنه ، ويكون فى الجملة مضاف مقدر . والمعنى : فلا تتبعوا الهوى والميل مع الشهوات كراهة أن تعدلوا بين الناس ويحتمل أن يكون بمعنى العدول عن الحق فيكون علة للنهى بتقدير لا ، أى : أنهاكم عن اتباع الهوى لئلا تميلوا عن الحق وتتركوا العدل .
قال ابن كثير : أى : لا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إليكم ، على ترك العدل فى شئونكم . بل ألزموا العدل على أى حال كان . كما قال - تعالى - { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } ومن هذا قول عبد الله بن رواحة لما بعثه النبى صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم ، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم ، فقال : والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلى . ولأنتم أبغض الخلق إلى . وما يحملنى حيى إياه وبغضى لكم على أن لا أعدل فيكم . فقالوا : بهذا قامت السموات والأرض .
وقوله - تعالى - { وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } تذييل قصد به تهديدهم ووعيدهم على ترك العدل ، وعلى الامتناع عن الشهادة بالحق .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : وفى الآية قراءتان . فقد قرأ الجمهور { تَلْوُواْ } - بواوين قبلهما لام ساكنة - بمعنى الدفع والإِعراض من قولهم : لواه حقه إذا مطله ودفعه .
أو بمعنى التحريف والتبديل من قولهم لوى الشئ إذا فتله .
وقرأ ابن عامر وحمزة { تلوا } بلام مضمومة بعدها واو ساكنة - من الولاية بمعنى مباشرة الشئ والاشتغال به .
والمعنى على قراءة الجمهور : وإن تلووا ألسنتكم عن الشهادة بالحق بأن تحرفوها وتقيموها على غير وجهتها أو تعرضوا عنها رأسا وتتركوها يعاقبكم الله عقابا شديدا فإنه - سبحانه - عليم بدقائق الأشياء ، خبير بخفايا النفوس ، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه .
والمعنى على القراءة الثانية : وإن تلوا الشهادة فتباشروها على وجهها يعطكم الله أجرا حسنا ، ون تعرضوا عنها وتتركوها بعاقبكم الله عقابا أليما ، فإن الله - تعالى - خبير بكل أقوالكم وأعمالكم . وقيل : إن القراءتين بمعنى واحد لأن أصل ( تلوا ) - وهى قراءة حمزة وابن عامر - تلْووا - وهى قراءة الجمهور - نقلت حركة الواو - فى قراءة الجمهور - إلى الساكن قبلهما فالتقى واوان ساكنان فحذفت إحداهما فصارت الكلمة ( تلوا ) .
هذا ، والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يراها تبنى المجتمع الإِسلامى على أقوى القواعد ، وأمتن الأسس وأشرف المبادئ . إنها تبنيه على قواعد العدل والقسط ، وتأمر المؤمنين أن يلتزموا كملة الحق مع أنفسهم ومع أقرب المقربين إليهم مهما تكلفوا فى ذلك من جهاد شاق يقتضيه التزام الحق ، فإن كلمة الحق كثيرا ما تجعل صاحبها عرضة للإِيذاء والاعتداء والاتهام بالباطل من الأشرار والفجار . بل إن كلمة الحق قد تفضى بصاحبها إلى الموت . ولكن لا بأس ، فإن الموت مع التمسك بالحق ، خير من الحياة فى ظلمات الباطل .
( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله - ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين - إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ؛ فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا . وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا ) . .
إنه نداء للذين آمنوا . نداء لهم بصفتهم الجديدة . وهي صفتهم الفريدة . صفتهم التي بها أنشئوا نشأة أخرى ؛ وولدوا ميلاد آخر . ولدت أرواحهم ، وولدت تصوراتهم ، وولدت مبادئهم وأهدافهم ، وولدت معهم المهمة الجديدة التي تناط بهم ، والأمانة العظيمة التي وكلت إليهم . . أمانة القوامة على البشرية ، والحكم بين الناس بالعدل . . ومن ثم كان للنداء بهذه الصفة قيمته وكان له معناه : يا أيها الذين آمنوا . . . فبسبب من اتصافهم بهذه الصفة ، كان التكليف بهذه الأمانة الكبرى . وبسبب من اتصافهم بهذه الصفة كان التهيؤ والاستعداد للنهوض بهذه الأمانة الكبرى . .
وهي لمسة من لمسات المنهج التربوي الحكيم ؛ تسبق التكليف الشاق الثقيل :
كونوا قوامين بالقسط ، شهداء لله - ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين . إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهمًا . .
إنها أمانة القيام بالقسط . . بالقسط على إطلاقه . في كل حال وفي كل مجال . القسط الذي يمنع البغي والظلم - في الأرض - والذي يكفل العدل - بين الناس - والذي يعطي كل ذي حق حقه من المسلمين وغير المسلمين . . ففي هذا الحق يتساوى عند الله المؤمنون وغير المؤمنين - كما رأينا في قصة اليهودي - ويتساوى الأقارب والأباعد . ويتساوى الأصدقاء والأعداء . ويتساوى الأغنياء والفقراء . .
( كونوا قوامين بالقسط ، شهداء لله ) . .
حسبة لله . وتعاملا مباشرا معه . لا لحساب أحد من المشهود لهم أو عليهم . ولا لمصلحة فرد أو جماعة أو أمة . ولا تعاملا مع الملابسات المحيطة بأي عنصر من عناصر القضية . ولكن شهادة لله ، وتعاملا مع الله . وتجردا من كل ميل ، ومن كل هوى ، ومن كل مصلحة ، ومن كل اعتبار .
( ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ) . .
وهنا يحاول المنهج تجنيد النفس في وجه ذاتها ، وفي وجه عواطفها ، تجاه ذاتها أولا ، وتجاه الوالدين والأقربين ثانيا . . وهي محاولة شاقة . . أشق كثيرا من نطقها باللسان ، ومن إدراك معناها ومدلولها بالعقل . . إن مزاولتها عمليا شيء آخر غير إدركها عقليا . ولا يعرف هذا الذي نقوله إلا من يحاول أن يزاول هذه التجربة واقعيا . . ولكن المنهج يجند النفس المؤمنة لهذه التجربة الشاقة . لأنها لا بد أن توجد . لا بد ان توجد في الأرض هذه القاعدة . ولا بد أن يقيمها ناس من البشر .
ثم هو يجند النفس كذلك في وجه مشاعرها الفطرية أو الاجتماعية ؛ حين يكون المشهود له أو عليه فقيرا ، تشفق النفس من شهادة الحق ضده ، وتود أن تشهد له معاونة لضعفه . أو من يكون فقره مدعاة للشهادة ضده بحكم الرواسب النفسية الاجتماعية كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية . وحين يكون المشهود له أو عليه غنيا ؛ تقتضي الأوضاع الاجتماعية مجاملته . أو قد يثير غناه وتبطره النفس ضده فتحاول أن تشهد ضده ! وهي مشاعر فطرية أو مقتضيات اجتماعية لها ثقلها حين يواجهها الناس في عالم الواقع . . والمنهج يجند النفس تجاهها كذلك كما جندها تجاه حب الذات ، وحب الوالدين والأقربين .
( إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ) . .
وهي محاولة شاقة . . ولا نفتأ نكرر أنها محاولة شاقة . . وأن الإسلام حين دفع نفوس المؤمنين - في عالم الواقع - إلى هذه الذروة ، التي تشهد بها تجارب الواقع التي وعاها التاريخ - كان ينشى ء معجزة حقيقية في عالم البشرية . معجزة لا تقع إلا في ظل هذا المنهج الإلهي العظيم القويم .
( فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ) . .
والهوى صنوف شتى ذكر منها بعضها . . حب الذات هوى . وحب الأهل والأقربين هوى . والعطف على الفقير - في موطن الشهادة والحكم - هوى . ومجاملة الغني هوى . ومضارته هوى . والتعصب للعشيرة والقبيلة والأمة والدولة والوطن - في موضع الشهادة والحكم - هوى . وكراهة الأعداء ولو كانوا أعداء الدين - في موطن الشهادة والحكم - هوى . . وأهواء شتى الصنوف والألوان . . كلها مما ينهي الله الذين آمنوا عن التأثر بها ، والعدول عن الحق والصدق تحت تأثيرها .
وأخيرًا يجيء التهديد والإنذار والوعيد من تحريف الشهادة ، والإعراض عن هذا التوجيه فيها . .
وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا . .
ويكفي أن يتذكر المؤمن أن الله خبير بما يعمل ، ليستشعر ماذا وراء هذا من تهديد خطير ، يرتجف له كيانه . . فقد كان الله يخاطب بهذا القرآن المؤمنين !
حدث أن عبدالله بن رواحة - رضي الله عنه - لما بعثه رسول الله [ ص ] يقدر على أهل خيبر محصولهم من الثمار والزروع لمقاسمتهم إياها مناصفة ، حسب عهد رسول الله [ ص ] بعد فتح خيبر . . أن حاول اليهود رشوته ليرفق بهم ! فقال لهم : " والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلي .
لقد كان - رضي الله عنه - قد تخرج في مدرسة الرسول [ ص ] على المنهج الرباني المنفرد . وكان إنسانا من البشر خاض هذه التجربة الشاقة ونجح ؛ وحقق - كما حقق الكثيرون غيره في ظل ذلك المنهج - تلك المعجزة التي لا تقع إلا في ظل ذلك المنهج !
ولقد مضت القرون تلو القرون بعد تلك الفترة العجيبة ؛ وحفلت المكتبات بكتب الفقه والقانون ؛ وحفلت الحياة بالتنظيمات والتشكيلات القضائية ؛ وضبط الإجراءات والشكليات التنظيمية . وامتلأت الرؤوس بالكلام عن العدالة ؛ وامتلأت الأفواه بالحديث عن إجراءاتها الطويلة . . ووجدت نظريات وهيئات وتشكيلات منوعة لضبط هذا كله . .
ولكن التذوق الحقيقي لمعنى العدالة ؛ والتحقق الواقعي لهذا المعنى في ضمائر الناس وفي حياتهم ؛ والوصول إلى هذه الذروة السامقة الوضيئة . . لم يقع إلا في ذلك المنهج . . في تلك الفترة العجيبة في ذروة القمة . . وبعدها على مدار التاريخ في الأرض التي قام فيها الإسلام . وفي القلوب التي عمرت بهذه العقيدة . وفي الجماعات والأفراد التي تخرجت على هذا المنهج الفريد .
وهذه حقيقة ينبغي أن يتنبه إليها الذين يؤخذون بالتشكيلات القضائية التي جدت ؛ وبالإجراءات القضائية التي استحدثت ؛ وبالأنظمة والاوضاع القضائية التي نمت وتعقدت . فيحسبون أن هذا كله أقمن بتحقيق العدالة وأضمن مما كان في تلك الإجراءات البسيطة في تلك الفترة الفريدة ! في تلك القرون البعيدة ! وأن الأمور اليوم أضبط وأحكم مما كانت على صورتها البسيطة !
هذا وهم تنشئه الأشكال والأحجام في تصورات من لا يدركون حقائق الأشياء والأوضاع . . إن المنهج الرباني وحده هو الذي يبلغ بالناس ما بلغ على بساطة الأشكال وبساطة الأوضاع . . وهو وحده الذي يمكن أن يبلغ بالناس هذا المستوى على ما استحدث من الأشكال والأوضاع !
وليس معنى هذا أن نلغي التنظيمات القضائية الجديدة . ولكن معناه أن نعرف أن القيمة ليست للتنظيمات . ولكن للروح التي وراءها . أيا كان شكلها وحجمها وزمانها ومكانها . . والفضل للأفضل بغض النظر عن الزمان والمكان ! ! !
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للّهِ وَلَوْ عَلَىَ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَىَ بِهِمَا فَلاَ تَتّبِعُواْ الْهَوَىَ أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } . .
وهذا تقدّمٌ من الله تعالى ذكره إلى عباده المؤمنين به وبرسوله أن يفعلوا فعل الذين سَعَوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر بني أبيرق ، أن يقوم بالعذر لهم في أصحابه وذبهم عنهم وتحسينهم أمرهم بأنهم أهل فاقة وفقر¹ يقول الله لهم : { يا أيّها الّذينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ } يقول : ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام بالقسط ، يعني بالعدل . { شُهَدَاءَ لِلّهِ } والشهداء : جمع شهيد ، ونصبت الشهداء على القطع مما في قوله : «قوّامين » ، من ذكر الذين آمنوا ، ومعناه : قوموا بالقسط لله عند شهادتكم ، أو حين شهادتكم . { وَلَوْ على أنْفُسِكُمْ } يقول : ولو كانت شهادتكم على أنفسكم ، أو على والديكم أو أقربيكم ، فقوموا فيها بالقسط والعدل ، وأقيموها على صحتها بأن تقولوا فيها الحقّ ، ولا تميلوا فيها لغني لغناه على فقير ، ولا لفقير لفقره على غنيّ فتجوروا ، فإن الله الذي سوّى بين حكم الغنيّ والفقير فيما ألزمكم أيها الناس من إقامة الشهادة لكل واحد منهما بالعدل أولى بهما ، وأحقّ منكم ، لأنه مالكهما وأولى بهما دونكم ، فهو أعلم بما فيه مصلحة كل واحد منهما في ذلك وفي غيره من الأمور كلها منكم ، فلذلك أمركم بالتسوية بينهما في الشهادة لهما وعليها . { فَلا تَتّبِعُوا الهَوَى أنْ تَعْدِلُوا } يقول : فلا تتبعوا أهواء أنفسكم في الميل في شهادتكم إذا قمتم بها لغنيّ على فقير أو لفقير على غنيّ إلا أحد الفريقين فتقولوا غير الحقّ ، ولكن قوموا فيه بالقسط وأدّوا الشهادة على ما أمركم الله بأدائها بالعدل لمن شهدتم عليه وله .
فإن قال قائل : وكيف يقوم بالشهادة على نفسه الشاهد بالقسط ، وهل يشهد الشاهد على نفسه ؟ قيل¹ نعم ، وذلك أن يكون عليه حقّ لغيره ، فيقرّ له به ، فذلك قيام منه له بالشهادة على نفسه . وهذه الاَية عندي تأديب من الله جلّ ثناؤه عباده المؤمنين أن يفعلوا ما فعله الذين عذروا بني أبيرق في سرقتهم ما سرقوا وخيانتهم ما خانوا من ذكر ما قيل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهادتهم لهم عنده بالصلاح ، فقال لهم : إذا قمتم بالشهادة لإنسان أو عليه ، فقوموا فيها بالعدل ولو كانت شهادتكم على أنفسكم وآبائكم وأمهاتكم وأقربائكم ، فلا يحملنكم غني من شهدتم له أو فقره أو قرابته ورحمة منكم على الشهادة له بالزور ولا على ترك الشهادة عليه بالحقّ وكتمانها . وقد قيل : إنها نزلت تأديبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن حسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ } قال : نزلت في النبيّ صلى الله عليه وسلم ، واختصم إليه رجلان غنيّ وفقير ، وكان ضلعه مع الفقير ، يرى أن الفقير لا يظلم الغنيّ ، فأبي الله إلا أن يقوم بالقسط في الغنيّ والفقير ، فقال : { إنْ يَكُنْ غَنِيّا أو فَقِيرا فاللّهُ أوْلَى بِهِما فَلا تَتّبِعُوا الهَوَى أنْ تَعْدِلُوا } . . . الاَية .
وقال آخرون في ذلك نحو قولنا إنها نزلت في الشهادة أمرا من الله المؤمنين أن يسوّوا في قيامهم بشهاداتهم لمن قاموا بها بين الغني والفقير . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْط شُهَدَاءَ لِلّهِ وَلَوْ على أنْفُسِكُمْ أو الوَالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ } قال : أمر الله المؤمنين أن يقولوا الحقّ ولو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم ، ولا يحابوا غنيا لغناه ، ولا يرحموا مسكينا لمسكنته ، وذلك قوله : { إنْ يَكُنْ غَنِيّا أوْ فَقِيرا فاللّهُ أوْلى بِهِمَا فَلا تَتّبِعُوا الهَوَى أن تَعْدِلوا } فتذروا الحقّ فتجورُوا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن يونس ، عن ابن شهاب في شهادة الوالد لولده وذي القرابة ، قال : كان ذلك فيما مضى من السنة في سلف المسلمين ، وكانوا يتأوّلون في ذلك قول الله : { يا أيّها الّذين آمَنُوا كونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ وَلَوْ على أنْفُسِكُمْ أوِ الوَالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنيّا أوْ فَقِيرا فاللّهُ أوْلى بِهِما } . . . الاَية ، فلم يكن يُتهم سلف المسلمين الصالح في شهادة الوالد لولده ، ولا الولد لوالده ، ولا الأخ لأخيه ، ولا الرجل لامرأته ، ثم دَخِلَ الناس بعد ذلك فظهرت منهم أمور حملت الولاة على اتهامهم ، فتركت شهادة من يتهم إذا كانت من أقربائهم وصار ذلك من الولد والوالد والأخ والزوج والمرأة لم يتهم إلا هؤلاء في آخر الزمان .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ } . . . إلى آخر الاَية ، قال : لا يحملك فقر هذا على أن ترحمه فلا تقيم عليه الشهادة ، قال : يقول هذا للشاهد .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ } . . . الاَية ، هذا في الشهادة ، فأقم الشهادة يا ابن آدم ولو على نفسك ، أو الوالدين ، أو على ذوي قرابتك ، أو أشراف قومك ، فإنما الشهادة لله وليست للناس ، وإن الله رضي العدل لنفسه¹ والإقساط والعدل ميزان الله في الأرض ، به يردّ الله من الشديد على الضعيف ، من الكاذب على الصادق ، ومن المبطل على المحقّ ، وبالعدل يصدق الصادق ، ويكذب الكاذب ، ويردّ المعتدي ، ويوبخه تعالى ربنا وتبارك ، وبالعدل يصلح الناس . يا ابن آدم إن يكن غنيا أو فقيرا ، فالله أولى بهما ، يقول : أولى بغنيكم وفقيركم . قال : وذكر لنا أن نبيّ الله موسى عليه السلام قال : يا ربّ أيّ شيء وضعت في الأرض أقلّ ؟ قال : «العدل أقلّ ما وضعت في الأرض ، فلا يمنعك غني عنيّ ولا فقر فقير أن تشهد عليه بما تعلم ، فإن ذلك عليك من الحق » . وقال جلّ ثناؤه : { فاللّهُ أوْلى بِهِما } .
وقد قيل : { إنْ يَكُنْ غَنِيّا أوْ فَقِيرا } . . . الاَية ، أريد : فالله أولى بغني الغنيّ وفقر الفقير ، لأن ذلك منه لا من غيره ، فلذلك قال «بهما » ، ولم يقل «به » .
وقال آخرون : إنما قيل «بهما » لأنه قال : { إنْ يَكُنْ غَنيّا أوْ فَقِيرا } فلم يقصد فقيرا بعينه ولا غنيا بعينه ، وهو مجهول ، وإذا كان مجهولاً جاز الردّ عليه بالتوحيد والتثنية والجمع . وذكر قائلوا هذا القول أنه في قراءة أبيّ : «فاللّهُ أوْلى بِهِمْ » .
وقال آخرون : «أو » بمعنى الواو في هذا الموضع .
وقال آخرون : جاز تثنية قوله «بهما » ، لأنهما قد ذكرا كما قيل : { ولَهُ أخٌ أوْ أُخْتٌ فِلُكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا } . وقيل : جاز لأنه أضمر فيه «مَنْ » كأنه قيل : إن يكن من خاصم غنيا أو فقيرا ، بمعنى : غنيين أو فقيرين ، فالله أولى بهما .
وتأويل قوله¹ { فَلا تَتّبعُوا الهَوَى أنْ تَعْدِلُوا } أي عن الحقّ ، فتجوروا بترك إقامة الشهادة بالحقّ . ولو وُجّه إلى أن معناه : فلا تتبعوا أهواء أنفسكم هربا من أن تعدلوا عن الحقّ في إقامة الشهادة بالقسط كان وجها . وقد قيل : معنى ذلك : فلا تتبعوا الهوى لتعدلوا ، كما يقال : لا تتبع هواك لترضي ربك ، بمعنى : أنهاك عنه كما ترضي ربك بتركه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا فإنّ اللّهَ كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : عني : وإن تلووا أيها الحكام في الحكم لأحد الخصمين على الاَخر أو تعرضوا ، فإن الله كان بما تعملون خبيرا . ووجهوا معنى الاَية إنها نزلت في الحكام على نحو القول الذي ذكرنا عن السديّ من قوله : إن الاَية نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على ما ذكرنا قبل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد وابن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن قابوس بن أبي ظبيان ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قول الله : { وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا } قال : هما الرجلان يجلسان بين يدي القاضي ، فيكون لَيّ القاضي وإعراضه لأحدهما على الاَخر .
وقال آخرون : معنى ذلك : وإن تلووا أيها الشهداء في شهاداتكم فتحرّفوها ولا تقيموها ، أو تعرضوا عنها فتتركوها . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا } يقول : إن تلووا بألسنتكم بالشهادة أو تعرضوا عنها .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ } . . . إلى قوله : { وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا } يقول : تلوي لسانك بغير الحقّ ، وهي اللجلجة ، فلا تقيم الشهادة على وجهها . والإعراض الترك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَإنْ تَلْوُوا } : أي تبدلّوا الشهادة¹ { أوْ تُعْرِضُوا } قال : تكتموها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَإنْ تَلْوُوا } قال : بتبديل الشهادة ، والإعراض : كتمانها .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرضُوا } قال : إن تحرّفوا ، أو تتركوا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا } قال : تلجلجوا أو تكتموا¹ وهذا في الشهادة .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا } أما تلووا : فتلوي للشهادة فتحرّفها حتى لا تقيمها¹ وأما «تعرضوا » : فتعرض عنها فتكتمها وتقول : ليس عندي شهادة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { وَإنْ تَلْوُوا } فتكتموا الشهادة ، تلوي : تنقض منها ، أو تعرض عنها فتكتمها فتأبي أن تشهد عليه ، تقول : أكتم عنه لأنه مسكين أرحمه فتقول : لا أقيم الشهادة عليه ، وتقول : هذا غنيّ أبقيه وأرجو ما قَبِله فلا أشهد عليه ، فذلك قوله : { إنْ يَكُنْ غَنِيّا أوْ فَقِيرا } .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وإنْ تَلْوُوا } تحرّفوا { أوْ تُعْرِضُوا } : تتركوا .
حدثنا محمد بن عمارة ، قال : حدثنا حسن بن عطية ، قال : حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية في قوله : { وَإنْ تَلْوُوا } قال : إن تلجلجوا في الشهادة فتفسدوها ، { أوْ تُعْرِضُوا } قال : فتتركوها .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : { وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا } قال : إن تلووا في الشهادة ، أن لا تقيموها على وجهها { أوْ تُعْرِضُوا } قال : تكتموا الشهادة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، قال : حدثنا شيبان ، عن قتادة أنه كان يقول : { وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا } يعني : تلجلجوا { أوْ تُعْرِضُوا } قال : تدعها فلا تشهد .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا } أما تلووا : فهو أن يلوي الرجل لسانه بغير الحقّ ، يعني في الشهادة .
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب في ذلك تأويل من تأوّله : إنه ليّ الشاهد شهادته لمن يشهد له وعليه¹ وذلك تحريفه إياها لسانه وتركه إقامتها ليبطل بذلك شهادته لمن شهد له وعمن شهد عليه . وأما إعراضه عنها ، فإنه تركه أداءها والقيام بها فلا يشهد بها . وإنما قلنا هذا التأويل أولى بالصواب ، لأن الله جلّ ثناؤه قال : { كُونُوا قَوّامينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ } فأمرهم بالقيام بالعدل شهداء ، وأظهر معاني الشهداء ما ذكرنا من وصفهم بالشهادة .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : { وَإنْ تَلْوُوا } فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار سوى الكوفة { وَإنْ تَلْوُوا } بواوين من : لو أني الرجل حقي ، والقوم يلوونني دَيْني ، وذلك إذا مَطَلوه ، لَيّا . وقرأ ذلك جماعة من قرّاء أهل الكوفة : «وَإنْ تَلُوا » بواو واحدة¹ ولقراءة من قرأ ذلك كذلك وجهان : أحدهما أن يكون قارئها أراد همز الواو لانضمامها ، ثم أسقط الهمز ، فصار إعراب الهمز في اللام إذ أسقطه ، وبقيت واو واحدة ، كأنه أراد : تلوؤا ، ثم حذف الهمز . وإذا عني هذا الوجه كان معناه معنى من قرأ : { وَإنْ تَلْوُوا } بواوين غير أنه خالف المعروف من كلام العرب ، وذلك أن الواو الثانية من قوله : { تَلْوُوا } واو جمع ، وهي علم لمعنى ، فلا يصحّ همزها ثم حذفها بعد همزها ، فيبطل علم المعنى الذي له أدخلت الواو المحذوفة . والوجه الاَخر : أن يكون قارئها كذلك ، أراد : إن تلوا ، من الولاية ، فيكون معناه : وإن تلوا أمور الناس ، أو تتركوا . وهذا معنى إذا وجه القارىء قراءته على ما وصفنا إليه ، خارج عن معاني أهل التأويل وما وجه إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون تأويل الاَية . فإذا كان فساد ذلك واضحا من كلا وجهيه ، فالصواب من القراءة الذي لا يصلح غيره أن يقرأ به عندنا : { وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا } بمعنى الليّ : الذي هو مطل ، فيكون تأويل الكلام : وإن تدفعوا القيام بالشهادة على وجهها لمن لزمكم القيام له بها ، فتغيروها ، وتبدّلوا ، أو تعرضوا عنها ، فتتركوا القيام له بها ، كما يلوي الرجل دين الرجل ، فيدافعه بأدائه إليه على ما أوجب عليه له مطلاً منه له ، كما قال الأعشى :
يَلْوِينَنِي دَيْنِي النّهارَ وأقْتَضِي ***دَيْنِي إذا وَقَذَ النُعّاسُ الرّقّدَا
وأما تأويل قوله : { فإنّ اللّهَ كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا } فإنه أراد : فإن الله كان بما تعملون من إقامتكم الشهادة وتحريفكم إياها وإعراضكم عنها بكتمانكموها ، خبيرا ، يعني : ذا خبرة وعلم به ، يحفظ ذلك منكم عليكم حتى يجازيكم به جزاءكم في الاَخرة ، المحسن منكم بإحسانه ، والمسيء باساءته ، يقول : فاتقوا ربكم في ذلك .
{ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط } مواظبين على العدل مجتهدين في إقامته . { شهداء لله } بالحق تقيمون شهاداتكم لوجه الله سبحانه وتعالى ، وهو خبر ثان أو حال . { ولو على أنفسكم } ولو كانت الشهادة على أنفسكم بأن تقروا عليها ، لأن الشهادة بيان للحق سواء كان عليه أو على غيره . { أو الوالدين والأقربين } ولو على والديكم وأقاربكم . { إن يكن } أي المشهود عليه أو كل واحد منه ومن المشهود له . { غنيا أو فقيرا } فلا تمتنعوا عن إقامة الشهادة ، أو لا تجوروا فيها ميلا أو ترحما . { فالله أولى بهما } بالغني والفقير وبالنظر لهما فلو لم تكن الشهادة عليهما أو لهما صلاحا لما شرعها ، وهو علة الجواب أقيمت مقامه والضمير في بهما راجع لما دل عليه المذكور ، وهو جنسا الغني والفقير لا إليه وإلا لوحد ، ويشهد عليه أنه " قرئ فالله أولى بهم " . { فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا } لأن تعدلوا عن الحق أو كراهة أن تعدلوا من العدل . { وإن تلووا } ألسنتكم عن شهادة الحق ، أو حكومة العدل . قرأه نافع وابن كثير وأبو بكر وأبو عمرو وعاصم والكسائي بإسكان اللام وبعدها وأوان الأولى مضمومة ، والثانية ساكنة . وقرأ حمزة وابن عامر " وإن تلوا " بمعنى وإن وليتم إقامة الشهادة فأديتموها . { أو تعرضوا } عن آدائها . { فإن الله كان بما تعملون خبيرا } فيجازيكم عليه .
ثم خاطب تعالى المؤمنين بقوله { كونوا قوامين } الآية ، وهذا بناء مبالغة ، أي ليتكرر منكم القيام . { بالقسط } وهو العدل ، وقوله { شهداء } نصب على خبر بعد خبر والحال فيه ضعيفة في المعنى ، لأنها تخصيص القيام بالقسط إلى معنى الشهادة فقط ، قوله { لله } المعنى لذات الله ولوجهه ولمرضاته ، وقوله { ولو على أنفسكم } متعلق ب { شهداء }{[4326]} هذا هو الظاهر الذي فسر عليه الناس ، وأن هذه الشهادة المذكورة هي في الحقوق ، ويحتمل أن يكون قوله { شهداء لله } معناه بالوحدانية ، ويتعلق قوله { ولو على أنفسكم } ب { قوامين بالقسط } ، والتأويل الأول أبين ، وشهادة المرء على نفسه إقراره بالحقائق وقوله الحق في كل أمر ، وقيامه بالقسط عليها كذلك ، ثم ذكر { الوالدين } لوجوب برهما وعظم قدرهما ، ثم ثنى ب { الأقربين } إذ هم مظنة المودة والتعصب ، فجاء الأجنبي من الناس أحرى أن يقام عليه بالقسط ويشهد عليه ، وهذه الآية إنما تضمنت الشهادة على القرابة ، فلا معنى للتفقه منها في الشهادة لهم كما فعل بعض المفسرين ولا خلاف بين أهل العلم في صحة أحكام هذه الآية ، وقوله تعالى : { إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما } معناه : إن يكن المشهود عليه غنياً فلا يراعى لغناه ، ولا يخاف منه ، وإن يكن فقيراً فلا يراعى إشفاقاً عليه فإن الله تعالى أولى بالنوعين وأهل الحالين ، والغني والفقير اسما جنس والمشهود عليه كذلك ، فلذلك ثنى الضمير في قوله { بهما } ، وفي قراءة أبيّ بن كعب «فالله أولى بهم » على الجمع ، وقال الطبري : ثنى الضمير لأن المعنى فالله أولى بهذين المعنيين ، غنى الغني وفقر الفقير ، أي : وهو أنظر فيهما ، وقد حد حدوداً وجعل لكل ذي حق حقه ، وقال قوم { أو } بمعنى الواو ، وفي هذا ضعف .
وذكر السدي : أن هذه الآية نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم ، اختصم إليه غني وفقير ، فكان في ضلع الفقيرعلما منه أن الغني أحرى أن يظلم الفقير ، فأبى إلا أن يقوم بالقسط بين الغني والفقير .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق : وارتبط هذا الأمر على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «فأقضي له على نحو ما أسمع »{[4327]} أما أنه قد أبيح للحاكم أن يكون في ضلع الضعيف{[4328]} ، بأن يعتد له المقالات ويشد على عضده ، ويقول له : قل حجتك مدلاً ، وينبهه تنبيهاً لا يفت في عضد الآخر ، ولا يكون تعليم خصام ، هكذا هي الرواية عن أشهب وغيره .
وذكر الطبري : أن هذه الآية هي بسبب نازلة طعمة بن أبيرق ، وقيام من قام في أمره بغير القسط ، وقوله تعالى : { فلا تتبعوا الهوى } نهي بيِّن ، واتباع الهوى مردٍ مهلك ، وقوله تعالى : { أن تعدلوا } يحتمل أن يكون معناه مخافة أن تعدلوا ، ويكون لعدل هنا بمعنى العدول عن الحق ، ويحتمل أن يكون معناه محبة أن تعدلوا ، ويكون العدل بمعنى القسط ، كأنه قال : انتهوا خوف أن تجوروا أو محبة أن تقسطوا ، فإن جعلت العامل { تتبعوا } فيحتمل أن يكون المعنى محبة أن تجوروا ، وقوله تعالى : { وأن تلووا أو تعرضوا } قال ابن عباس : هو في الخصمين يجلسان بين يدي القاضي فيكون ليّ القاضي وإعراضه لأحدهما على الآخر فاللّي على هذا مطل الكلام وجره حتى يفوت فصل القضاء وإنقاذه للذي يميل القاضي عليه ، وقد شاهدت بعض القضاة يفعلون ذلك ، والله حسيب الكل ، وقال ابن عباس أيضاً ، ومجاهد ، وقتادة والسدي وابن زيد وغيرهم : هي في الشاهد يلوي الشهادة بلسانه ويحرفها ، فلا يقول الحق فيها ، أو يعرض عن أداء الحق فيها .
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله - : ولفظ الآية يعم القضاء والشهادة والتوسط بين الناس ، وكل إنسان مأخوذ بأن يعدل ، والخصوم مطلوبون بعدل ما في القضاة فتأمله . وقرأ جمهور الناس «تلووا » بواوين من لوى يلوي على حسب ما فسرناه ، وقرأ حمزة وابن عامر وجماعة في الشاذ «وأن تلُو » بضم اللام وواو واحدة ، وذلك يحتمل أن يكون أصله «تلئوا » على القراءة الأولى ، همزت الواو المضمومة كما همزت في أدؤر ، وألقيت حركتها على اللام التي هي فاء «لوى » ثم حذفت لاجتماع ساكنين ، ويحتمل أن تكون «تلوا » من قولك ولي الرجل الأمر ، فيكون في الطرف الآخر من { تعرضوا } كأنه قال تعالى للشهود وغيرهم : وإن وليتم الأمر وأعرضتم عنه فالله تعالى خبير بفعلكم ومقصدكم فيه ، فالولاية والإعراض طرفان ، والليّ والإعراض في طريق واحد ، وباقي الآية وعيد .
انتقال من الأمر بالعدل في أحوال معيّنة من معاملات اليتامى والنساء إلى الأمر بالعدل الذي يعمّ الأحوال كلّها ، وما يقارنه من الشهادة الصادقة ، فإنّ العدل في الحكم وأداء الشهادة بالحقّ هو قوام صلاح المجتمع الإسلامي ، والانحراف عن ذلك ولو قيد أنملة يَجرّ إلى فساد متسلسل .
وصيغة { قوّامين } دالّة على الكثرة المراد لازمها ، وهو عدم الإخلال بهذا القيام في حال من الأحوال .
والقِسط العدل ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { قائماً بالقسط } في سورة آل عمران ( 18 ) . وعدل عن لفظ العدل إلى كلمة القسط لأنّ القسط كلمة معرّبَة أدخلت في كلام العرب لدلالتها في اللغة المنقولة منها على العدل في الحُكم ، وأمّا لفظ العدل فأعمّ من ذلك ، ويدلّ لذلك تعقيبه بقوله : { شُهداء لله } فإنّ الشهادة من علائق القضاء والحكممِ .
و { لله } ظرف مستقرّ حال من ضمير { شهداء } أي لأجل الله ، وليست لام تعدية { شهداء } إلى مفعوله ، ولم يذكر تعلّق المشهود له بمتعلَّقه وهو وصف { شهداء } لإشعار الوصف بتعيينه ، أي المشهود له بحقّ . وقد جمعت الآية أصليَ التحاكم ، وهما القضاء والشهادة .
وجملة { ولو على أنفسكم } حالية ، و ( لو ) فيها وصلية ، وقد مضى القول في تحقيق موقع ( لو ) الوصلية عند قوله تعالى : { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به } في سورة آل عمران ( 91 ) .
ويتعلّق { على أنفسكم } بكلَ من { قوّامين } و { شُهداء } ليشمل القضاء والشهادة .
والأنفس : جمع نفس ؛ وأصلها أن تطلق على الذات ، ويطلقها العرب أيضاً على صميم القبيلة ، فيقولون : هو من بني فلان من أنفسهم .
فيجوز أن يكون { أنفسكم } هنا بالمعنى المستعمل به غالباً ، أي : قوموا بالعدل على أنفسكم ، واشهدوا لله على أنفسكم ، أي قضاء غالباً لأنفسكم وشهادة غالبة لأنفسكم ، لأنّ حرف ( على ) مؤذن بأنّ متعلّقة شديد فيه كلفة على المجرور بعلى ، أي ولو كان قضاء القاضي منكم وشهادة الشاهد منكم بما فيه ضرّ وكراهة للقاضي والشاهد ، وهذا أقصى ما يبالغ عليه في الشدّة والأذى ، لأنّ أشقّ شيء على المرء ما يناله من أذى وضرّ في ذاته ، ثمّ ذكر بعد ذلك الوالدان والأقربون لأنّ أقضية القاضي وشهادة الشاهد فيما يلحق ضرّاً ومشقّة بوالديه وقرابته أكثر من قضائه وشهادته فيما يؤول بذلك على نفسه .
ويجوز أن يراد : ولو على قبيلتكم أو والديكم وقرابتكم . وموقع المبالغة المستفادة من ( لو ) الوصلية أنّه كان من عادة العرب أن ينتصروا بمواليهم من القبائل ويدفعوا عنهم ما يكرهونه ، ويرون ذلك من إباء الضيم ، ويرون ذلك حقّاً عليهم ، ويعدّون التقصير في ذلك مسبّة وعاراً يقضي منه العجب . قال مرّة بن عداء الفقسي :
رأيت مواليّ الآلَى يخذلونَني *** على حدثان الدهر إذ يتقلب
ويعدّون الاهتمام بالآباء والأبناء في الدرجة الثانية ، حتّى يقولون في الدعاء : ( فذاك أبي وأمي ) ، فكانت الآية تبطل هذه الحميّة وتبعث المسلمين على الانتصار للحقّ والدفاع عن المظلوم .
فإن أبيتَ إلاّ جعل الأنفس بمعنى ذوات الشاهديِنَ فاجعل عطف « الوالدين والأقربين » بعد ذلك لقصد الاحتراس لئلاّ يظنّ أحد أنّه يشهد بالحقّ على نفسه لأنّ ذلك حقّه ، فهو أمير نفسه فيه ، وأنّه لا يصلح له أن يشهد على والديه أو أقاربه لما في ذلك من المسبّة والمعرّة أو التأثمّ ، وعلى هذا تكون الشهادة مستعملة في معنى مشترك بين الإقرار والشهادة ، كقوله : { شهد الله أنّه لا إله إلاّ هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط } [ آل عمران : 18 ] .
وقوله { إن يكن غنياً أو فقيراً } استئناف واقع موقع العلّة لمجموع جملة { كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله } : أي إن يكن المُقْسَط في حقّه ، أو المشهودُ له ، غنيّاً أو فقيراً ، فلا يكن غناه ولا فقره سبباً للقضاء له أو عليه والشهادة له أو عليه . والمقصود من ذلك التحذير من التأثّر بأحوال يَلتبس فيها الباطل بالحقّ لما يحفّ بها من عوارض يتوهّم أنّ رعيها ضرب من إقامة المصالح ، وحراسة العدالة ، فلمّا أبطلت الآية التي قبلها التأثّر للحميّة أعقبت بهذه الآية لإبطال التأثّر بالمظاهر التي تستجلب النفوسَ إلى مراعاتها فيتمحّض نظرها إليها . وتُغضي بسببها عن تمييز الحقّ من الباطل . وتذهل عنه ، فمن النفوس من يَتوهّم أنّ الغنى يربأ بصاحبه عن أخذ حقّ غيره ، يقول في نفسه : هذا في غنية عن أكل حقّ غيره ، وقد أنعم الله عليه بعدم الحاجة . ومن الناس من يميل إلى الفقير رقّة له ، فيحسبه مظلوماً ، أو يحسب أنّ القضاء له بمال الغنيّ لا يضرّ الغنيّ شيئاً ؛ فنهاهم الله عن هذه التأثيرات بكلمة جامعة وهي قوله : { إن يكن غنياً أو فقيراً فاللهُ أولى بهما } . وهذا الترديد صالح لكلّ من أصحاب هذين التوهّمين ، فالذي يعظّم الغنيّ يَدحض لأجله حقّ الفقير ، والذي يَرقّ للفقير يَدحض لأجله حقّ الغنيّ ، وكِلاَ ذلك باطل ، فإنّ الذي يراعي حال الغنيّ والفقير ويقدّر إصلاح حال الفريقين هو الله تعالى .
فقوله : { فالله أولى بهما } ليس هو الجواب ، ولكنّه دليله وعلّته ، والتقدير : فلا يهمّكم أمرهما عند التقاضي ، فالله أولى بالنظر في شأنهما ، وإنّما عليكم النظر في الحقّ .
ولذلك فرّع عليه قوله : { فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا } فجعل الميل نحو الموالي والأقارب من الهوى ، والنظر إلى الفقر والغنى من الهوى .
والغنيّ : ضد الفقير ، فالغِنَى هو عدم إلى الاحتياج إلى شيء ، وهو مقول عليه بالتفاوت ، فيُعْرَف بالمتعلّق كقوله : « كلانا غَنيّ عَن أخيه حياتَه » ، ويُعْرف بالعرف يقال : فلان غني ، بمعنى له ثروة يستطيع بها تحصيل حاجاته من غير فضل لأحد عليه ، فوجدان أجور الأجرَاء غنى ، وإن كان المستأجر محتاجاً إلى الأجراء ، لأنّ وجدان الأجور يجعله كغير المحتاج ، والغنى المطلق لا يكون إلاّ الله تعالى .
والفقير : هو المحتاج إلاّ أنه يقال افتقر إلى كذا ، بالتخصيص ، فإذا قيل : هو فقير ، فمعناه في العرف أنّه كثير الاحتياج إلى فضل الناس ، أو إلى الصبر على الحاجة لقلّة ثروته ، وكلّ مخلوق فقيرٌ فقراً نسبياً ، قال تعالى : { والله الغني وأنتم الفقراء } [ محمد : 38 ] .
واسم { يكن } ضمير مستتر عائد إلى معلوم من السياق ، يدلّ عليه قوله : { قوّامين بالقسط شهداء لله } من معنى التخاصم والتقاضي . والتقدير : أن يكن أحد الخصمين من أهل هذا الوصف أو هذا الوصف ، والمراد الجنسان ، و ( أو ) للتقسيم ، وتثنية الضمير في قوله : { فالله أولى بهما } لأنّه عائد إلى « غنياً وفقيراً » باعتبار الجنس ، إذ ليس القصد إلى فرد معيّن ذي غني ، ولا إلى فرد معيّين ذي فقر ، بل فرد شائع في هذا الجنس وفي ذلك الجنس .
وقوله : { أن تعدلوا } محذوف منه حرف الجرّ ، كما هو الشأن مع أن المصدرية ، فاحتمل أن يكون المحذوف لام التعليل فيكون تعليلاً للنهي ، أي لا تتّبعوا الهوى لتعدلوا ، واحتمل أن يكون المحذوف ( عن ) ، أي فلا تتّبعوا الهوى عن العدل ، أي معرضين عنه . وقد عرفتُ قاضياً لا مطعن في ثقته وتنزّهه ، ولكنّه كان مُبتلًى باعتقاد أنّ مظنّة القدرة والسلطان ليسوا إلاّ ظلمة : من أغنياء أو رجال . فكان يعتبر هذين الصنفين محقوقين فلا يستوفي التأمّل من حججهما .
وبعد أن أمر الله تعالى ونهى وحذّر ، عقّب ذلك كلّه بالتهديد فقال : { وإن تَلْوا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً } .
وقرأ الجمهور : { تَلْوُوا } بلام ساكنة وواوين بعدها ، أولاهما مضمومة فهو مضارع لَوَى ، واللّي : الفَتل والثَّنْي . وتفرّعت من هذا المعنى الحقيقي معان شاعت فساوت الحقيقة ، منها : عدول عن جانب وإقبالٌ على جانب آخر فإذا عُدّي بعن فهو انصراف عن المجرور بعن ، وإذا عديّ بإلى فهو انصراف عن جانب كان فيه ، وإقبالٌ على المجرور بعلى ، قال تعالى : { ولا تَلْوُون على أحد } [ آل عمران : 153 ] أي لا تعطفون على أحد . ومن معانيه : لوى عن الأمر تثاقل ، ولوى أمره عنّي أخفاه ، ومنها : ليّ اللسان ، أي تحريف الكلام في النطق به أو في معانيه ، وتقدّم عند قوله تعالى : { يَلْوُون ألسنتهم بالكتاب } في سورة آل عمران ( 78 ) ، وقولِه : { ليَّا بألسنتهم } في هذه السورة ( 46 ) . فموقع فعل { تَلووا } هنا موقع بليغ لأنّه صالح لتقدير متعلِّقِه المحذوففِ مجروراً بحرف ( عن ) أو مجروراً بحرف ( على ) فيشمل معاني العدول عن الحقّ في الحكم ، والعدول عن الصدق في الشهادة ، أو التثاقل في تمكين المحقّ من حقّه وأداء الشهادة لطالبها ، أو الميْل في أحد الخصمين في القضاء والشهادة . وأمّا الإعراض فهو الامتناع من القضاء ومن أداء الشهادة والمماطلة في الحكم مع ظهور الحقّ ، وهو غير الليّ كما رأيت . وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، وخلف : { وأن تَلُوا } بلام مضمومة بعدها واو ساكنة فقيل : هو مضارع وَلِيَ الأمرَ ، أي باشره . فالمعنى : وإن تلوا القضاء بين الخصوم ، فيكون راجعاً إلى قوله : { أن تعدلوا } ولا يتّجه رجوعه إلى الشهادة ، إذ ليس أداء الشهادة بولاية . والوجه أنّ هذه القراءة تخفيف { تَلْوُوا } نقلت حركة الواو إلى الساكن قبلها فالتقى واوان ساكنان فحذف أحدهما ، ويكون معنى القراءتين واحداً .
وقوله : { فإنّ الله كان بما تعملون خبيراً } كناية عن وعيد ، لأنّ الخبير بفاعل السوء ، وهو قدير ، لا يعوزه أن يعذبّه على ذلك . وأكّدت الجملةُ ب« إنّ » و« كَانَ » .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا تقدّمٌ من الله تعالى ذكره إلى عباده المؤمنين به وبرسوله أن يفعلوا فعل الذين سَعَوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر بني أبيرق، أن يقوم بالعذر لهم في أصحابه وذبهم عنهم وتحسينهم أمرهم بأنهم أهل فاقة وفقر¹ يقول الله لهم: {يا أيّها الّذينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ} يقول: ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام بالقسط، يعني بالعدل. {شُهَدَاءَ لِلّهِ} والشهداء: جمع شهيد، ومعناه: قوموا بالقسط لله عند شهادتكم، أو حين شهادتكم. {وَلَوْ على أنْفُسِكُمْ} يقول: ولو كانت شهادتكم على أنفسكم، أو على والديكم أو أقربيكم، فقوموا فيها بالقسط والعدل، وأقيموها على صحتها بأن تقولوا فيها الحقّ، ولا تميلوا فيها لغني لغناه على فقير، ولا لفقير لفقره على غنيّ فتجوروا، فإن الله الذي سوّى بين حكم الغنيّ والفقير فيما ألزمكم أيها الناس من إقامة الشهادة لكل واحد منهما بالعدل أولى بهما، وأحقّ منكم، لأنه مالكهما وأولى بهما دونكم، فهو أعلم بما فيه مصلحة كل واحد منهما في ذلك وفي غيره من الأمور كلها منكم، فلذلك أمركم بالتسوية بينهما في الشهادة لهما وعليها.
{فَلا تَتّبِعُوا الهَوَى أنْ تَعْدِلُوا} يقول: فلا تتبعوا أهواء أنفسكم في الميل في شهادتكم إذا قمتم بها لغنيّ على فقير أو لفقير على غنيّ إلا أحد الفريقين فتقولوا غير الحقّ، ولكن قوموا فيه بالقسط وأدّوا الشهادة على ما أمركم الله بأدائها بالعدل لمن شهدتم عليه وله.
فإن قال قائل: وكيف يقوم بالشهادة على نفسه الشاهد بالقسط، وهل يشهد الشاهد على نفسه؟ قيل نعم، وذلك أن يكون عليه حقّ لغيره، فيقرّ له به، فذلك قيام منه له بالشهادة على نفسه. وهذه الآية عندي تأديب من الله جلّ ثناؤه عباده المؤمنين أن يفعلوا ما فعله الذين عذروا بني أبيرق في سرقتهم ما سرقوا وخيانتهم ما خانوا من ذكر ما قيل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهادتهم لهم عنده بالصلاح، فقال لهم: إذا قمتم بالشهادة لإنسان أو عليه، فقوموا فيها بالعدل ولو كانت شهادتكم على أنفسكم وآبائكم وأمهاتكم وأقربائكم، فلا يحملنكم غني من شهدتم له أو فقره أو قرابته ورحمة منكم على الشهادة له بالزور ولا على ترك الشهادة عليه بالحقّ وكتمانها. عن ابن شهاب في شهادة الوالد لولده وذي القرابة، قال: كان ذلك فيما مضى من السنة في سلف المسلمين، وكانوا يتأوّلون في ذلك قول الله: {يا أيّها الّذين آمَنُوا كونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ وَلَوْ على أنْفُسِكُمْ أوِ الوَالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنيّا أوْ فَقِيرا فاللّهُ أوْلى بِهِما...}، فلم يكن يُتهم سلف المسلمين الصالح في شهادة الوالد لولده، ولا الولد لوالده، ولا الأخ لأخيه، ولا الرجل لامرأته، ثم دَخِلَ الناس بعد ذلك فظهرت منهم أمور حملت الولاة على اتهامهم، فتركت شهادة من يتهم إذا كانت من أقربائهم وصار ذلك من الولد والوالد والأخ والزوج والمرأة لم يتهم إلا هؤلاء في آخر الزمان.
هذا في الشهادة، فأقم الشهادة يا ابن آدم ولو على نفسك، أو الوالدين، أو على ذوي قرابتك، أو أشراف قومك، فإنما الشهادة لله وليست للناس، وإن الله رضي العدل لنفسه والإقساط والعدل ميزان الله في الأرض، به يردّ الله من الشديد على الضعيف، من الكاذب على الصادق، ومن المبطل على المحقّ، وبالعدل يصدق الصادق، ويكذب الكاذب، ويردّ المعتدي، ويوبخه تعالى ربنا وتبارك، وبالعدل يصلح الناس. يا ابن آدم إن يكن غنيا أو فقيرا، فالله أولى بهما، يقول: أولى بغنيكم وفقيركم. {فاللّهُ أوْلى بِهِما}.
وقد قيل: {إنْ يَكُنْ غَنِيّا أوْ فَقِيرا}: أريد: فالله أولى بغنى الغنيّ وفقر الفقير، لأن ذلك منه لا من غيره، فلذلك قال «بهما»، ولم يقل «به».
{فَلا تَتّبعُوا الهَوَى أنْ تَعْدِلُوا} عن الحقّ، فتجوروا بترك إقامة الشهادة بالحقّ. ولو وُجّه إلى أن معناه: فلا تتبعوا أهواء أنفسكم هربا من أن تعدلوا عن الحقّ في إقامة الشهادة بالقسط كان وجها. وقد قيل: معنى ذلك: فلا تتبعوا الهوى لتعدلوا، كما يقال: لا تتبع هواك لترضي ربك، بمعنى: أنهاك عنه كما ترضي ربك بتركه.
{وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا فإنّ اللّهَ كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا}.
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: عني: وإن تلووا أيها الحكام في الحكم لأحد الخصمين على الآخر أو تعرضوا، فإن الله كان بما تعملون خبيرا. ووجهوا معنى الآية أنها نزلت في الحكام... عن ابن عباس في قول الله: {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا} قال: هما الرجلان يجلسان بين يدي القاضي، فيكون لَيّ القاضي وإعراضه لأحدهما على الاَخر.
وقال آخرون: معنى ذلك: وإن تلووا أيها الشهداء في شهاداتكم فتحرّفوها ولا تقيموها، أو تعرضوا عنها فتتركوها...
{وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا}: تلوي لسانك بغير الحقّ، وهي اللجلجة، فلا تقيم الشهادة على وجهها. والإعراض الترك.
{وَإنْ تَلْوُوا}: أي تبدلّوا الشهادة¹ {أوْ تُعْرِضُوا} قال: تكتموها.
وأولى التأويلين بالصواب في ذلك تأويل من تأوّله: إنه ليّ الشاهد شهادته لمن يشهد له وعليه وذلك تحريفه إياها لسانه وتركه إقامتها ليبطل بذلك شهادته لمن شهد له وعمن شهد عليه. وأما إعراضه عنها، فإنه تركه أداءها والقيام بها فلا يشهد بها. وإنما قلنا هذا التأويل أولى بالصواب، لأن الله جلّ ثناؤه قال: {كُونُوا قَوّامينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ} فأمرهم بالقيام بالعدل شهداء، وأظهر معاني الشهداء ما ذكرنا من وصفهم بالشهادة.
{فإنّ اللّهَ كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا}: فإن الله كان بما تعملون من إقامتكم الشهادة وتحريفكم إياها وإعراضكم عنها بكتمانكموها، خبيرا، يعني: ذا خبرة وعلم به، يحفظ ذلك منكم عليكم حتى يجازيكم به جزاءكم في الاَخرة، المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته، يقول: فاتقوا ربكم في ذلك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
في كل عمل وقول يلزم أن يقوم المرء به لله، ويجعل الشهادة له. فإذا فعل هكذا لا يمنعه عن القيام بها قرب أحد ولا بعده ولا ما يحصل على نفسه أو والديه...
ثم ما يمنع القيام بها مختلف: أما على نفسه فلنفع يطمع به أي لدفع ضرر يدفعه بذلك، وأما على الوالدين بالاحتشام، يحتشم منهما، فيمتنع عن أداء ما عليه، وأما على القرابة فطلب الغنى لهم ودفع الفقر عنهم، فأخبر أنه {أولى بهما} فلا يمنعك غنى أحد منهم ولا فقره القيام بها...
وقوله تعالى: {وإن تلوا أن تعرضوا} فيه لغتان: تلوا بواو واحدة من الولاية، يقول: كونوا عاملين لله وقائلين له مؤدين بالشهادة له، وإن كنتم وليتم ذلك. وقيل: {تلووا} بواوين من التحريف؛ يقول: لا تتبعوا الهوى، ولا تحرفوا الشهادة، ولا تعرضوا عنها وتكتموها...
وقوله تعالى: {فإن الله كان بما تعملون خبيرا} خرج على الوعيد على كل ما ذكر: منع الشهادة والقيام لله بها وتحريف ما لزم، وبالله العصمة...
قوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بالقِسْطِ} قد أفاد الأمر بالقيام بالحق والعدل، وذلك مُوجِبٌ على كل أحد إنصافَ الناس من نفسه فيما يلزمه لهم وإنصافَ المظلوم من ظالمه ومَنْعَ الظالم من ظلمه؛ لأن جميع ذلك من القيام بالقسط، ثم أكّد ذلك بقوله: {شُهَدَاءَ للَّهِ} يعني والله أعلم: فيما إذا كان الوصول إلى القسط من طريق الشهادة؛ فتضمن ذلك الأمر بإقامة الشهادة على الظالم المانع من الحق للمظلوم صاحب الحق لاستخراج حقه منه وإيصاله إليه، وهو مثل قوله تعالى: {ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} [البقرة: 283].
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
القسط: العدل، والقيام بالله العدل بإيفاء حقوقه من نفسك، واستيفاء حقوقه مِنْ كلِّ مَنْ هو لَكَ عليه أمر... وأصل الدِّين إيثار حق الحق على حق الخلق، فمن آثر على الله -سبحانه أحداً إمَّا والداً أو أُمّاً أو وَلَداً أو قريباً أو نسيباً، أو ادَّخر عنه نصيباً فهو بمعزل عن القيام بالقسط...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
فلا تحابوا غنيا لغناه ولا تحيفوا على الفقير لفقره...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{كونوا قوامين} الآية، وهذا بناء مبالغة، أي ليتكرر منكم القيام. {بالقسط}... قوله {لله} المعنى لذات الله ولوجهه ولمرضاته... {تعرضوا} كأنه قال تعالى للشهود وغيرهم: وإن وليتم الأمر وأعرضتم عنه فالله تعالى خبير بفعلكم ومقصدكم فيه،...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
فِيهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: {شُهَدَاءَ لِلَّهِ}:
كُونُوا مِمَّنْ يُؤَدِّي الشَّهَادَةَ لِلَّهِ وَلِوَجْهِهِ، فَيُبَادِرُ بِهَا قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا، وَيَقُولُ الْحَقَّ فِيهَا، وَإِنَّ اللَّهَ يَشْهَدُ بِالْحَقِّ، وَالْمَلَائِكَةُ وَأَوَّلُو الْعِلْمِ وَعُدُولُ الْأُمَّةِ، وَكُلُّ مَنْ قَامَ بِالْقِسْطِ فَقَدْ شَهِدَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْحَقِّ، وَكُلُّ مَنْ قَامَ لِلَّهِ فَقَدْ شَهِدَ بِالْقِسْطِ، وَلِهَذَا نَزَلَتْ الْآيَةُ الْأُخْرَى فِي الْمَائِدَةِ بِمَقْلُوبِ هَذَا النَّظْمِ، وَهُوَ مِثْلُهُ فِي الْمَعْنَى كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَوِ الْوَالِدَيْنِ}:
أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ عَلَى الْوَالِدَيْنِ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الِابْنِ عَلَى الْأَبَوَيْنِ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ بِرَّهُمَا، بَلْ مِنْ بِرِّهِمَا أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِمَا بِالْحَقِّ، وَيُخْلِصَهُمَا مِنَ الْبَاطِلِ، وَهُوَ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} فِي بَعْضِ مَعَانِيه.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَالَ جَمَاعَةٌ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} فَسَوَّى بَيْنَ الْأَقْرَبِينَ وَالْأَبَوَيْنِ فِي الْأَمْرِ بِالْحَقِّ وَالْوَصِيَّةِ بِالْعَدْلِ، وَإِنْ تَفَاضَلُوا فِي الدَّرَجَةِ؛ كَمَا سَوَّى بَيْنَ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، وَإِنْ تَفَاضَلُوا أَيْضًا فِي الدَّرَجَةِ، وَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: لَا تَلْتَفِتُوا فِي الرَّحِمِ قَرُبَتْ أَوْ بَعُدَتْ فِي الْحَقِّ كُونُوا مَعَهُ عَلَيْهَا، وَلَوْلَا خَوْفُ الْعَدْلِ عَنْهُ لَهَا لَمَا خُصُّوا بِالْوَصِيَّةِ بِهَا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا}: مَعْنَاهُ لَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَكُمْ فِي طَلَبِ الْعَدْلِ بِرَحْمَةِ الْفَقِيرِ وَالتَّحَامُلِ عَلَى الْغَنِيِّ، بَلِ ابْتَغَوا الْحَقَّ فِيهِمَا، وَهَذَا بَيَانٌ شَافٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا}:
الْمَعْنَى إنْ مَطَلْتُمْ حَقًّا فَلَمْ تُنَفِّذُوهُ إلَّا بَعْدَ بُطْءٍ، أَوْ عَرَضْتُمْ عَنْهُ جُمْلَةً فَاَللَّهُ خَبِيرٌ بِعَمَلِكُمْ. يُقَالُ لَوَيْت الْأَمْرَ أَلْوِيه لَيًّا وَلِيَّانًا، إذَا مَطَلْته.
في اتصال الآية بما قبلها وجوه:
الأول: أنه لما تقدم ذكر النساء والنشوز والمصالحة بينهن وبين الأزواج عقبه بالأمر بالقيام بأداء حقوق الله تعالى وبالشهادة لإحياء حقوق الله... فكانت هذه الآية تأكيدا لما تقدم من التكاليف..
الثاني: أن الله تعالى لما منع الناس عن أن يقصروا عن طلب ثواب الدنيا وأمرهم بأن يكونوا طالبين لثواب الآخرة ذكر عقيبه هذه الآية، وبين أن كمال سعادة الإنسان في أن يكون قوله لله وفعله لله وحركته لله وسكونه لله حتى يصير من الذين يكونون في آخر مراتب الإنسانية وأول مراتب الملائكة، فأما إذا عكس هذه القضية كان مثل البهيمة التي منتهى أمرها وجدان علف، أو السبع الذي غاية أمره إيذاء حيوان.
الثالث: أنه تقدم في هذه السورة أمر الناس بالقسط كما قال {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى} وأمرهم بالإشهاد عن دفع أموال اليتامى إليهم، وأمرهم بعد ذلك ببذل النفس والمال في سبيل الله، وأجرى في هذه السورة قصة طعمة بن أبيرق واجتماع قومه على الذب عنه بالكذب والشهادة على اليهودي بالباطل. ثم إنه تعالى أمر في هذه الآيات بالمصالحة مع الزوجة، ومعلوم أن ذلك أمر من الله لعباده بأن يكونوا قائمين بالقسط، شاهدين لله على كل أحد، بل وعلى أنفسهم، فكانت هذه الآية كالمؤكد لكل ما جرى ذكره في هذه السورة من أنواع التكاليف...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان ذكر أعز ما عند الإنسان [وهو نفسه] أتبعه ما يليه وبدأ منه بمن جمع إلى ذلك الهيبة فقال: {أو} أي أو كان ذلك القسط على {الوالدين} وأتبعه ما يعمهما وغيرها فقال: {والأقربين} أي من الأولاد وغيرهم، ثم علل ذلك بقوله: {إن يكن} أي المشهود له أو عليه {غنياً} أي ترون الشهادة له بشيء باطل دافعة ضراً منه للغير من المشهود عليه أو غيره، أو مانعة فساداً أكبر منها، أو عليه بما لم يكن صلاحاً طمعاً في نفع الفقير بما لا يضره ونحو ذلك {أو فقيراً} فيخيل إليكم أن الشهادة له بما ليس له نفعه رحمة له أو بما ليس عليه لمن هو أقوى منه تكن فتنة... ولما كان هذا، تسبب عنه قوله: {فلا تتبعوا} أي تتكلفوا تبع {الهوى} وتنهمكوا فيه انهماك المجتهد في المحب له {أن} أي إرادة أن {تعدلوا} فقد بان لكم أنه لا عدل في ذلك...
{فإن الله} أي المحيط علماً وقدرة {كان} أي لم يزل ولا يزال {بما تعملون خبيراً} أي بالغ العلم باطناً وظاهراً، فهو يجازيكم على ذلك بما تستحقونه، فاحذروه إن خنتم، وارجوه إن وفيتم، وذلك بعد ما مضى من تأديبهم على وجه الإشارة والإيماء من غير أمر، وما أنسبها لختام التي قبلها وأشد التئام الختامين: ختام هذه بصفة الخبر، وتلك بصفتي السمع والبصر...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قد علم مما سبق مكان هذه الآيات وما بعدها إلى آخر السورة مما قبلها وهي أحكام عامة في الإيمان والعمل وأحوال المنافقين وأهل الكتاب في ذلك.
فأما قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط...} فهو يتصل بما قبله من الآيات القريبة خاصة بما فيه من الأمر العام بالقسط بعد الأمر بالقسط في اليتامى والنساء، فهنالك خص اليتامى والنساء في سياق الاستفتاء فيهن، ولأن حقهن آكد، وظلمهن معهود، وهاهنا عمم الأمر بالقسط لأن العدل حفاظا النظام، وقوام أمر الاجتماع، وبما فيه من الشهادة لله بالحق ولو على النفس أو الوالدين والأقربين وعدم محاباة أحد في ذلك لغناه، أو مراعاته لفقره، لأن العدل والحق مقدمان على الحقوق الشخصية وحقوق القرابة وغيرها. وكانت محاباة الأقربين معهودة في الجاهلية، لأن أمرهم قائم بالعصبية، فالواحد منهم كان ينصر قومه وأهل عصبيته لأنه يعتز بهم، كما يظلم النساء واليتامى لضعفهن، وعدم الاعتزاز بهن، فحضر الله محاباة المرء نفسه أو أهله هنا وإعطاءهم ما ليس لهم من الحق، يقابل حظر ظلم النساء واليتامى هناك وهضم ما لهن من الحق. روى ابن المنذر من طريق ابن جرير عن مولى لابن عباس قال لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانت البقرة أول سورة نزلت ثم أردفتها سورة النساء قال فكان الرجل تكون عنده الشهادة قبل ابنه أو ابن عمه أو ذوي رحمه فيلوي بها لسانه أو يكتمها مما يرى من عسرته حتى يوسر فيقضي فنزلت {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله} فتأمل كيف بقي تأثير المحاباة فيهم بعد الإسلام حتى نزلت الآية.
القوامون بالقسط هم الذين يقيمون العدل بالإتيان به على أتم الوجوه وأكملها وأدومها فإن {قوامين} جمع قوام وهو المبالغ في القيام بالشيء، والقيام بالشيء هو الإتيان به مستويا تاما لا نقص فيه ولا عوج، ولذلك أمر تعالى بإقامة الصلاة وإقامة الشهادة وإقامة الوزن بالقسط، لتأكيد العناية بهذه الأشياء، ومن بنى جدارا مائلا أو ناقصا لا يقال إنه أقام البناء أو أقام الجدار، قال تعالى: {فوجدوا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه} [الكهف:77] وإنما احتاج الجدار إلى الإقامة لأنه كان مائلا متداعيا للسقوط. وهذه العبارة أبلغ ما يمكن أن يقال في تأكيد أمر العدل والعناية به، فالأمر بالعدل والقسط مطلقا يكون بعبارات مختلفة بعضها آكد من بعض: تقول اعدلوا أو أقسطوا، وتقول كونوا عادلين أو مقسطين، وهذه أبلغ لأنها أمر بتحصيل الصفة لا بمجرد الإتيان بالقسط الذي يصدق بمرة، وتقول: أقيموا القسط، وأبلغ منه: كونوا قائمين بالقسط، وأبلغ من هذا وذاك: كونوا قوامين بالقسط، أي لتكن المبالغة والعناية بإقامة القسط على وجهه صفة من صفاتكم، بأن تتحروه بالدقة التامة حتى يكون ملكة راسخة في نفوسكم.
والقسط يكون في العمل كالقيام بما يجب من العدل بين الزوجات والأولاد، ويكون في الحكم بين الناس ممن يوليه السلطان أو يحكمه الناس فيما بينهم. وكان ينبغي أن يكون المسلمون بمثل هذه الهداية أعدل الأمم وأقومهم بالقسط، وكذلك كانوا عندما كانوا مهتدين بالقرآن، وصدق على سلفهم قوله تعالى: {وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} [الأعراف:181] ثم خلف من بعد أولئك السلف خلف نبذوا هداية القرآن وراء ظهورهم، حتى صارت جميع الأمم تضرب المثل بظلم حكامهم وسوء حالهم، وتفخر عليهم بالعدل، بل صار الذين ليس لهم من الإسلام إلا اسمه يلتمسون من تلك الأمم القسط، وما يهدي إليه من العلم.
وقوله تعالى: {شهداء لله} خبر بعد خبر أي كونوا شهداء لله والشهداء جمع شهيد بوزن "فعيل "والأصل في صيغة "فعيل" أن تدل على الصفات الراسخة كعليم وحكيم فهو على هذا أمر بالعناية بأمر الشهادة والرسوخ فيها، وقد تقدم تفسير الشهادة في تفسير أواخر سورة البقرة فتراجع في الجزء الثاني من التفسير، ومعنى كون الشهادة لله أن يتحرى فيها الحق الذي يرضاه ويأمر به من غير مراعاة ولا محاباة لأحد.
{ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} أي كونوا شهداء بالحق لوجه الله وامتثال أمره واتباع شرعه، الذي تنالون به مرضاته ومثوبته، ولو كانت الشهادة على أنفسكم، بأن يثبت بها الحق عليكم ومن أقر على نفسه بحق فقد شهد عليها لأن الشهادة إظهار الحق أو على والديكم وأقرب الناس إليكم كأولادكم وإخوتكم، فإنه ليس من بر الوالدين ولا من صلة رحم الأقربين أن يعانوا على ما ليس لهم بحق، بالإعراض عن الشهادة عليهم، أو ليها والتحريف فيها لأجلهم، وإنما البر والصلة في الحق والمعروف والحق أحق أن يتبع والذين يتعاونون على الظلم وهضم حقوق الناس يتعاون الناس على ظلمهم وهضم حقوقهم، فتكون المحاباة في الشهادة من أسباب فشو الظلم والعدوان، وذلك من المفاسد التي لا يأمن شرها أحد من الناس، فالمحاباة في الشهادة مفسدة ضررها عام وإن كانت لمصلحة يريد المحابي بها نفع أهله أو الشفقة على فقير أو العصبية لغني ولذلك قال عز وجل:
{إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما} أي إن يكن المشهود عليه من الأقربين أو غيرهم غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما، وشرعه أحق أن يتبع فيهما، فلا تحابوا الغني طمعا في بره، ولا خوفا من شره، ولا الفقير عطفا عليه ورحمة به، فمرضاة الفقير ليست خيرا لكم ولا له من مرضاة الله تعالى، ولا أنتم أرحم بالفقير وأعلم بمصلحته من ربه عز وجل، ولولا أنه تعالى يعلم أن العدل وإقامة الشهادة بالحق، هي خير للشاهد والمشهود عليه، سواء كان غنيا أو فقيرا لما شرع الله ذلك وأوجبه، روى ابن جرير عن السدي في الآية قال نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم اختصم إليه رجلان غني وفقير فكان حلفه مع الفقير يرى أن الفقير لا يظلم الغني فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط في الغني والفقير اه، أي كان ميله القلبي موجها إلى الفقير لظنه أنه لا يتصدى لظلم الغني، وهو وإن ظن ذلك لا يحكم إلا بالحق الذي تظهره البينة والحجة سواء أنزلت الآية في ذلك أم لا، وروى عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في هذه الآية أنه قال ونعم ما قال: هذا في الشهادة، فأقم الشهادة يا ابن آدم ولو على نفسك أو الوالدين أو الأقربين أو على ذي قرابتك وأشراف قومك، فإنما الشهادة لله وليست للناس، وإن الله رضي بالعدل لنفسه والإقساط. والعدل ميزان الله في الأرض، به يرد الله من الشديد على الضعيف، ومن الصادق على الكاذب، ومن المبطل على المحق، وبالعدل يصلح الصادق ويكذب الكاذب ويرد المعتدي ويوبخه تعالى ربنا وتبارك، وبالعدل يصلح الناس، يا ابن آدم. إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما، ويقول الله أنا أولى بغنيكم وفقيركم. ولا يمنعك غنى غني ولا فقر فقير أن تشهد عليه بما تعلم فإن ذلك من الحق. اه.
قال تعالى: {فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا} أي فلا تتبعوا الهوى وميل النفس إلى أحد ممن كلفتم العدل فيهم، أو الشهادة لهم أو عليهم، كراهة أن تعدلوا، بل آثروا العدل على الهوى، فبذلك يستقيم الأمر في الورى، أو لا تتبعوا الهوى لئلا تعدلوا عن الحق إلى الباطل فالهوى مزلة الأقدام {وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا} كتبت {تلووا} في المصحف الإمام بواو واحدة لتحتمل القراءتين المتواترتين وهي قراءة الكوفيين "تلوا" بضم اللام وإسكان الواو من الولاية وقراءة الباقين بسكون اللام وضم الواو من اللي والمعنى على الأول: وإن تلوا أمر الشهادة وتؤدوها، أو تعرضوا على تأديتها وتكتموها، فإن الله كان خبيرا بعملكم لا يخفى عليه قصدكم ونيتكم فيه، وعلى الثاني وإن تلووا ألسنتكم بالشهادة وتحرفوها، أو تعرضوا عنها فلا تؤدوها، فإن الله كان بعملكم هذا خبيرا فيجازيكم عليه. وقد ذكرهم هنا بكونه خبيرا ولم يقل عليما لأن الخبرة هي العلم بدقائق الأمور وخفاياها، فهي التي تناسب هذا المقام الذي تختلف فيه النيات، ويكثر فيه الغش والاحتيال، حتى أن الإنسان ليغش نفسه ويلتمس لها العذر في كتمان الشهادة أو التحريف فيها، فهل يتدبر المسلمون الآية كما أمرهم الله بتدبر القرآن فيقيموا العدل والشهادة بالحق، أم يعملون برأي أهل الحيل الذين يزعمون أن الله كلفهم اتباعهم دون اتباع كتابه والاهتداء به؟؟.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
القسط في حقوق الله أن لا يستعان بنعمه على معصيته، بل تصرف في طاعته. والقسط في حقوق الآدميين أن تؤدي جميع الحقوق التي عليك كما تطلب حقوقك. فتؤدي النفقات الواجبة، والديون، وتعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، من الأخلاق والمكافأة وغير ذلك...
{فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} أي: محيط بما فعلتم، يعلم أعمالكم خفيها وجليها، وفي هذا تهديد شديد للذي يلوي أو يعرض. ومن باب أولى وأحرى الذي يحكم بالباطل أو يشهد بالزور، لأنه أعظم جرما، لأن الأولين تركا الحق، وهذا ترك الحق وقام بالباطل...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا الدرس حلقة من سلسلة التربية المنهجية، التي تولتها يد الرعاية الإلهية؛ لإخراج الأمة التي قال الله فيها: (كنتم خير أمة أخرجت للناس).. وهي حلقة من المنهج الثابت المطرد الخطو، المرسوم الأهداف لمعالجة النفس البشرية بالدواء الذي صنعه صانع هذه النفس سبحانه الخبير بدروبها ومنحنياتها، البصير بطبيعتها وحقيقتها، العليم بضروراتها وأشواقها وبمقدراتها وطاقاتها.
وهذه الحلقة كما ترسم قواعد المنهج واتجاهاته الثابتة الموضوعة للناس جميعا في أجيالهم كلها لترفعهم من سفوح الجاهلية- حسب مكانهم في الدرج – وتعرج بهم في المرتقى الصاعد إلى القمة السامقة، هي كذلك -في الوقت ذاته- ترتسم فيها حال الجماعة المسلمة الأولى، المخاطبة بهذا القرآن؛ وتبرز من بين السطور صورة لهذه الجماعة إذ ذاك -كما هي- بكل ما فيها من بشرية. وبكل ما في بشريتها من ضعف وقوة؛ ومن رواسب جاهلية ومشاعر فطرية.. وتبرز كذلك طريقة المنهج في علاجها وتقويتها وتثبيتها على الحق الذي تمثله؛ بكل ما في وقفتها مع الحق من جهد وتضحية. ويبدأ الدرس بنداء الجماعة المؤمنة إلى النهوض بتكاليف دورها، في إقامة العدل بين الناس على النحو الفريد الذي لم يقم إلا على يد هذه الجماعة -العدل الذي تتعامل فيه الجماعة مع الله مباشرة؛ متخلصة من كل عاطفة أو هوى أو مصلحة- بما في ذلك ما يسمى مصلحة الجماعة أو الأمة أو الدولة! -متجردة من كل اعتبار آخر غير تقوى الله ومرضاته.. العدل الذي رأينا نموذجا منه في الدرس العملي الذي ألقاه الله- سبحانه -بذاته العلية على النبي وعلى الجماعة المسلمة في حادث اليهودي الذي سلف ذكره. يبدأ الدرس بنداء الذين آمنوا ليقيموا هذا العدل.. بصورته هذه.. ومنزل هذا القرآن يعلم حقيقة المجاهدة الشاقة، التي تتكلفها إقامة العدل على هذا النحو. وفي النفس البشرية ضعفها المعروف، وعواطفها تجاه ذاتها وتجاه الأقارب؛ وتجاه الضعاف من المتقاضين وتجاه الأقوياء أيضا. تجاه الوالدين والأقربين، وتجاه الفقير والغني؛ تجاه المودة وتجاه الشنآن.. ويعلم أن التجرد من هذا كله يحتاج إلى جهاد شاق. جهاد للصعود إلى هذه القمة على سفوح ملساء! لا تتعلق فيها النفس بشيء إلا بحبل الله. ثم يدعوهم دعوة ثانية إلى الإيمان بعناصر الإيمان الشامل. بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ولكل عنصر من هذه العناصر قيمته في تكوين العقيدة الإيمانية؛ وقيمته في تكوين التصور الإسلامي، المتفوق على جميع التصورات الأخرى، التي عرفتها البشرية- قبل الإسلام وبعده -وهو ذاته التفوق الذي انبعث منه كل تفوق آخر أخلاقي أو اجتماعي أو تنظيمي، في حياة الجماعة المسلمة الأولى. والذي يحمل عنصر التفوق دائما لكل جماعة تؤمن به حقا وتعمل بمقتضياته كاملة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. حيث تحق كلمة الله- في هذا الدرس نفسه -(ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا).. وبعد هذين النداءين يأخذ السياق في حملة منوعة الأساليب على المنافقين- من بقي منهم على حالة النفاق، ومن أعلن كفره بعد إعلان إسلامه -حملة يصور فيها طبيعة المنافقين، ويرسم لهم فيها صورا زرية، من واقع ما يقومون به في الصف المسلم؛ ومن واقع مواقفهم المتلونة حسب الظروف. وهم يلقون المسلمين- إذا انتصروا -بالملق والنفاق. ويلقون الذين كفروا- إذا انتصروا كذلك -بدعواهم أنهم سبب انتصارهم! وهم يقومون للصلاة كسالى يراءون الناس. وهم مذبذبون بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. وترد في ثنايا هذه الحملة توجيهات للمؤمنين وتحذيرات. تدل على مدى ما كان لأفاعيل المنافقين في الصف المسلم- حينذاك -من آثار، وعلى مدى ضخامة الجبهة المنافقة وتغلغلها في حياة الجماعة المسلمة؛ مما استدعى هذه الحملة، مع مراعاة ""الواقع ""يومئذ، وأخذ المسلمين خطوة خطوة في الابتعاد عن المنافقين واجتنابهم. من ذلك امرهم باجتناب مجالس المنافقين التي يتداولون فيها الكفر بايات الله والاستهزاء بها. ولم يأمرهم- حينذاك -بمقاطعة المنافقين البتة. مما يدل على أن جبهة النفاق كانت ضخمة ومتغلغلة بصورة يصعب فيها على المسلمين مقاطعتهم! كذلك ترد في ثناياها تحذيرات للمسلمين من سمات النفاق ومقدماته؛ كي لا يقعوا فيها. وأخصها موالاة الكافرين، وابتغاء العزة عندهم، والقوة بهم! وتأمينهم بأن العزة لله جميعا، وبأن الله لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا، وذلك مع رسم الصور البشعة للمنافقين في الدنيا وفي الآخرة. وتقرير أن مكانهم في الدرك الأسفل من النار. وهذه التوجيهات والتحذيرات- بهذا الأسلوب -تشي بطريقة المنهج في علاج النفوس والأوضاع؛ وتغيير الواقع في حدود الطاقة والملابسات القائمة كذلك، حتى ينتهي إلى تغييره نهائيا؛ وإقامة ""واقع"" آخر جديد. كما تشي بحالة الجماعة المسلمة حينذاك وموقفها من جبهة الكفر وجبهة النفاق المتعاونتين في حرب الجماعة المسلمة والدين الجديد. ومن خلال هذه وتلك تتبين طبيعة المعركة التي كان القرآن يخوض بها الجماعة المسلمة، وطبيعة الأساليب المنهجية في قيادته للمعركة وللنفوس.. وهي المعركة الدائمة المتصلة بين الإسلام والجاهلية في كل زمان وكل مكان. وبين الجماعة المسلمة وأعدائها الذين تتغير أشخاصهم ووسائلهم ولكن لا تتغير طبيعتهم ومبادئهم. ومن خلال هذا كله تبرز حقيقة هذا الكتاب.. القرآن.. ودوره في قيادة الأمة المسلمة. ليس بالأمس فقط- فما جاء ليقود جيلا دون جيل. إنما جاء ليقود هذه الأمة، وليكون مرشدها وهاديها، في جميع الاجيال والدهور.. وفي نهاية الدرس تجيء تلك اللفتة العجيبة إلى استغناء الله -سبحانه- عن تعذيب العباد.. فهو لا يطلب منهم إلا أن يؤمنوا ويشكروا. وهو سبحانه غني عن إيمانهم وشكرهم. ولكن ذلك إنما هو لصلاح حالهم، وارتقاء مستواهم؛ حتى يتأهلوا لحياة الآخرة، ومستوى النعيم في الجنة. فإذا هم ارتكسوا وانتكسوا فإنما يؤهلون أنفسهم لمستوى العذاب في الجحيم. حيث يسقط المنافقون إلى أحط الدركات (في الدرك الأسفل من النار) "
إنه نداء للذين آمنوا. نداء لهم بصفتهم الجديدة. وهي صفتهم الفريدة. صفتهم التي بها أنشئوا نشأة أخرى؛ وولدوا ميلاد آخر. ولدت أرواحهم، وولدت تصوراتهم، وولدت مبادئهم وأهدافهم، وولدت معهم المهمة الجديدة التي تناط بهم، والأمانة العظيمة التي وكلت إليهم.. أمانة القوامة على البشرية، والحكم بين الناس بالعدل.. ومن ثم كان للنداء بهذه الصفة قيمته وكان له معناه: يا أيها الذين آمنوا... فبسبب من اتصافهم بهذه الصفة، كان التكليف بهذه الأمانة الكبرى...
كونوا قوامين بالقسط، شهداء لله -ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين. إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهمًا.. إنها أمانة القيام بالقسط.. بالقسط على إطلاقه. في كل حال وفي كل مجال. القسط الذي يمنع البغي والظلم- في الأرض -والذي يكفل العدل- بين الناس -والذي يعطي كل ذي حق حقه من المسلمين وغير المسلمين.. ففي هذا الحق يتساوى عند الله المؤمنون وغير المؤمنين- كما رأينا في قصة اليهودي -ويتساوى الأقارب والأباعد. ويتساوى الأصدقاء والأعداء. ويتساوى الأغنياء والفقراء.. (كونوا قوامين بالقسط، شهداء لله).. حسبة لله. وتعاملا مباشرا معه. لا لحساب أحد من المشهود لهم أو عليهم. ولا لمصلحة فرد أو جماعة أو أمة...
(ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين).. وهنا يحاول المنهج تجنيد النفس في وجه ذاتها، وفي وجه عواطفها، تجاه ذاتها أولا، وتجاه الوالدين والأقربين ثانيا.. وهي محاولة شاقة...
ثم هو يجند النفس كذلك في وجه مشاعرها الفطرية أو الاجتماعية؛ حين يكون المشهود له أو عليه فقيرا، تشفق النفس من شهادة الحق ضده،... وحين يكون المشهود له أو عليه غنيا؛ تقتضي الأوضاع الاجتماعية مجاملته...
وهي مشاعر فطرية أو مقتضيات اجتماعية لها ثقلها حين يواجهها الناس في عالم الواقع.. والمنهج يجند النفس تجاهها كذلك كما جندها تجاه حب الذات، وحب الوالدين والأقربين...
والهوى صنوف شتى[...] كلها مما ينهي الله الذين آمنوا عن التأثر بها، والعدول عن الحق والصدق تحت تأثيرها...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قد جمعت الآية أصلَي التحاكم، وهما القضاء والشهادة...
{ولو على أنفسكم}... أي: قوموا بالعدل على أنفسكم، واشهدوا لله على أنفسكم، أي قضاء غالباً لأنفسكم وشهادة غالبة لأنفسكم، لأنّ حرف (على) مؤذن بأنّ متعلّقة شديد فيه كلفة على المجرور بعلى، أي ولو كان قضاء القاضي منكم وشهادة الشاهد منكم بما فيه ضرّ وكراهة للقاضي والشاهد، وهذا أقصى ما يبالغ عليه في الشدّة والأذى، لأنّ أشقّ شيء على المرء ما يناله من أذى وضرّ في ذاته، ثمّ ذكر بعد ذلك الوالدان والأقربون لأنّ أقضية القاضي وشهادة الشاهد فيما يلحق ضرّاً ومشقّة بوالديه وقرابته أكثر من قضائه وشهادته فيما يؤول بذلك على نفسه. ويجوز أن يراد: ولو على قبيلتكم أو والديكم وقرابتكم...
وقوله {إن يكن غنياً أو فقيراً}... أي إن يكن المُقْسَط في حقّه، أو المشهودُ له، غنيّاً أو فقيراً، فلا يكن غناه ولا فقره سبباً للقضاء له أو عليه والشهادة له أو عليه. والمقصود من ذلك التحذير من التأثّر بأحوال يَلتبس فيها الباطل بالحقّ لما يحفّ بها من عوارض يتوهّم أنّ رعيها ضرب من إقامة المصالح، وحراسة العدالة، فلمّا أبطلت الآية التي قبلها التأثّر للحميّة أعقبت بهذه الآية لإبطال التأثّر بالمظاهر التي تستجلب النفوسَ إلى مراعاتها فيتمحّض نظرها إليها. وتُغضي بسببها عن تمييز الحقّ من الباطل. وتذهل عنه، فمن النفوس من يَتوهّم أنّ الغنى يربأ بصاحبه عن أخذ حقّ غيره، يقول في نفسه: هذا في غنية عن أكل حقّ غيره، وقد أنعم الله عليه بعدم الحاجة. ومن الناس من يميل إلى الفقير رقّة له، فيحسبه مظلوماً، أو يحسب أنّ القضاء له بمال الغنيّ لا يضرّ الغنيّ شيئاً... فقوله: {فالله أولى بهما}... فلا يهمّكم أمرهما عند التقاضي، فالله أولى بالنظر في شأنهما، وإنّما عليكم النظر في الحقّ...
ولذلك فرّع عليه قوله: {فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا} فجعل الميل نحو الموالي والأقارب من الهوى، والنظر إلى الفقر والغنى من الهوى...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
قد أمر الله تعالى بالعدل بهذه الصيغة فقال: "كونوا قوامين بالقسط} فلم يقل تعالت كلماته "اعدلوا "أو "قوموا بالقسط "بل قال سبحانه: {كونوا} وهذا التعبير يقتضي أمرين: أحدهما: أن يروضوا أنفسهم على العدالة ويربوها ويعلموها لشباب هذه الأمة، ويفطموا النفوس عن شهواتها فإنه لا يذهب بالعدل إلا الشهوة فليربوا أنفسهم على السيطرة عليها، وجعلها أمة ذلولا لتكون النفس عادلة دائما. وثانيهما: أن ينصبوا أنفسهم لنشر لواء العدل فلا يتركوا ظالما يرتع، ولا مظلوما يخضع سواء أكان الظالم فردا أو جماعة أم كان أمة فأمة العدل يجب أن تكون قوامة بالعدل. وإن القوامة على العدل توجب عدالة الإنسان في نفسه، وأهله وولده وصحبه وكل من يتصل به وتوجب منع الظلم أنى يكون وتوجب العدل في الولاية والقضاء والصلح بين الناس...
وهناك أمر هو سبيل الحق، وطريق معرفته وهو الشهادة... ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {شهداء لله}...
وساعة ينادي الحق عباده المؤمنين قائلا: يا أيها الذين آمنوا فكأنه يقدم حيثية الحكم الذي يأتي بعده... وحيثيات الحكم الذي يحكم به الله هي الإيمان به...فليسمع العبد من ربه فالمؤمن يدخل على الإيمان بقمة القسط، فالقسط هو العدل، والعدل أن يعطي العادل كل ذي حق حقه، وحق الإله الواحد أن يؤمن به الإنسان ويعترف أنه إله واحد. وما دام المؤمن قد بدأ إيمانه بقمة القسط وهو الإيمان فليجعل القسط سائدا في كل تصرفاته ولا يكفي أن يكون المؤمن قائما بالقسط فقط، بل لا بد أن تكون الشهادة لله ولذلك حدد الحق قوامة المؤمنين بالقسط والشهادة لله ولو على النفس أو الأب أو الأم أو الأقارب، ولا يصح أن يضع أحد المؤمنين ثراء أو فقر المشهود له أو عليه في البال بل يجب أن يكون البال مع الله فقط لذلك قال:"إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا". والذي يفسد ويشوش على العدل هو الهوى، والمثل العربي يقول: "آفة الرأي الهوى "وإياكم أيها المؤمنون وإتباع الهوى حتى لا تفسد قدرتكم على العدل وتجنحوا بعيدا عنه والتاريخ العربي يحفظ لنا في ذاكرته حكاية رجل فاضل ذهب إلى الخليفة وقال له: أعفني من القضاء فقال الخليفة: فمن يكون للقضاء إذن وأنت العادل الذي شهد له كل الناس بذلك. ويتابع الحق سبحانه:"وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا "أن تلووا في الشهادة واللي هو التحريف أي تحرفوا الشهادة وتغيروها فإن الله بما تعملون خبير أو أن يعرض الشخص عن أداء الشهادة لأنه يخاف من المشهود عليه، لذلك يقال إنه خائف من المشهود عليه لأن الشهادة ترجح حكم المشهود له لهذا فهو يعرض عن الشهادة وإن جاء للشهادة فهو يلف الكلمات ويلوي لسانه بها، لذلك يقول الحق:"وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا".
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
أن يكونوا قائمين به؛ أن يجعلوا حياتهم قياماً به من أجل أن يستوعب كل علاقاتها ومعاملاتها وأعمالها وأقوالها، بحيث تتحول كل نشاطاتهم إلى حركة دائبة في هذا السبيل، لا أن يكون ذلك جانباً محدوداً من النشاطات...
{وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ}، لأن الله أقرب إليه من نفسه، فلا ينظر في شهادته مصلحة نفسه ورضاها، بل مصلحة العدل الذي يلتقي به رضا الله. {أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ} فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا قيمة للعلاقات الشخصية أمام علاقته بالله، فإنها تنتهي عند حدود رضاه. وتلك هي قصة القيم الكبرى في الحياة، فإنها تتقدم كل شيء مهما كانت عظمته، لتكون الأشياء كلها في خدمتها من أجل أن تكون في خدمة الإنسان في دوره الحقيقي أمام الله... {وَإِن تَلْوُواْ} أي إن تنحرفوا {أَوْ تُعْرِضُواْ} عن السير مع وصايا الله وتعليماته، فستواجهون الموقف الصعب أمامه غداً يوم القيامة؛ {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} فلا تحاولوا أن تعتذروا بما لا مجال لقبول العذر فيه، لأن الله يعلم واقع الأشياء، إذا كان الناس من حولكم يعلمون ظواهرها من دون النفاذ إلى الأعماق...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
على غرار الأحكام التي وردت في الآيات السابقة حول تطبيق العدالة مع الأيتام والزوجات تذكر الآية الأخيرة موضوع البحث مبدأ أساسياً وقانوناً كلياً في مجال تطبيق العدالة في جميع الشؤون والموارد بدون استثناء، وتأمر جميع المؤمنين بإِقامة العدالة (يا أيّها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط...).
ويجب الانتباه إِلى أنّ كلمة «قوامين» هي جمع لكلمة «قوّام» وهي صيغة مبالغة من «قائم» وتعني «كثير القيام» أي أن على المؤمنين أن يقوموا بالعدل في كل الأحوال والأعمال وفي كل العصور والدهور، لكي يصبح العدل جزءاً من طبعهم وأخلاقهم، ويصبح الانحراف عن العدل مخالفاً ومناقضاً لطبعهم وروحهم.
والإِتيان بكلمة «القيام» في هذا المكان، يحتمل أن يكون بسبب أنّ الإِنسان حين يريد القيام بأي عمل، يجب عليه أن يقوم على رجليه بصورة عامّة ويتابع ذلك العمل، وعلى هذا الأساس فإِن التعبير هنا بالقيام كناية عن العزم والإِرادة الرّاسخة والإِجراء لإِنجاز العمل، حتى لو كان هذا العمل من باب حكم القاضي الذي لا يحتاج إِلى القيام لدى ممارسة عمله.
ويمكن أن يكون التعبير بالقيام جاء لسبب آخر، وهو أنّ كلمة «القائم» تطلق عادة على شيء يقف بصورة عمودية على الأرض دون أن يكون فيه انحراف إِلى اليمين أو الشمال، وعلى هذا فإِن المعنى المراد منه في الآية يكون تأكيداً لضرورة تحقيق العدالة دون أقل انحراف إِلى أي جهة كانت.
ولتأكيد الموضوع جاءت الآية بكلمة «الشهادة» فشددت على ضرورة التخلي عن كل الملاحظات والمجاملات أثناء أداء الشهادة، وأن يكون هدف الشهادة بالحق هو كسب مرضاة الله فقط، حتى لو أصبحت النتيجة في ضرر الشاهد أو أبيه أو أمه أو أقاربه (شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين...).
وقد شاع هذا الأمر في كل المجتمعات، وبالأخص المجتمعات الجاهلية، حيث كانت الشهادة تقاس بمقدار الحبّ والكراهية ونوع القرابة بين الأشخاص والشاهد، دون أن يكون للحق والعدل أثر فيما يفعلون...
لأنّ المؤمن الحقيقي هو ذلك الشخص الذي لا يعير اهتماماً للاعتبارات في مجال الحق والعدل، ويتغاضى عن مصلحته ومصلحة أقاربه من أجل تطبيق الحق والعدل.
وتفيد هذه الآية أنّ للأقارب الحق في الإِدلاء بالشهادة لصالح أو ضد بعضهما البعض، شرط الحفاظ على مبدأ العدالة (إِلاّ إِذا كانت القرائن تشير إِلى وجود انحياز أو تعصب في الموضوع).
وتشير الآية بعد ذلك الى عوامل الانحراف عن مبدأ العدالة، فتبيّن أنّ ثروة الأغنياء يجب أن لا تحول دون الإِدلاء بالشهادة العادلة، كما أنّ العواطف والمشاعر التي تتحرك لدى الإِنسان من أجل الفقراء، يجب أن تكون سبباً في الامتناع عن الادلاء بالشهادة العادلة حتى ولو كانت نتيجتها لغير صالح الفقراء، لأنّ الله أعلم من غيره بحال هؤلاء الذين تكون نتيجة الشهادة العادلة ضدهم، فلا يستطيع صاحب الجاه والسلطان أن يضرّ بشاهد عادل يتمتع بحماية الله، ولا الفقير سيبيت جوعاناً بسبب تحقيق العدالة، تقول الآية في هذا المجال: (إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما).
وللتأكيد أكثر تحكم الآية بتجنّب اتّباع الهوى، لكي لا يبقى مانع أمام سير العدالة وتحقيقها إِذ تقول الآية: (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا).
ويتّضح من هذه الجملة بجلاء أن مصدر الظلم والجور كلّه، هو اتّباع الهوى، فالمجتمع الذي لا تسوده الأهواء يكون بمأمن من الظلم والجور.
ولأهمية موضوع تحقيق العدالة، يؤكّد القرآن هذا الحكم مرّة أُخرى، فيبيّن أنّ الله ناظر وعالم بأعمال العباد فهو يشهد ويرى كل من يحاول منع صاحب الحق عن حقّه، أو تحريف الحق، أو الاعراض عن الحق بعد وضوحه، فتقول الآية: (وإن تلووا أو تعرضوا فإِن الله كان بما تعملون خبيراً).
وجملة (إن تلووا) تشير في الواقع إِلى تحريف الحق وتغييره، بينما تشير جملة «تعرضوا» إِلى الامتناع عن الحكم بالحق،..
والطريف أن الآية اختتمت بكلمة (خبيراً) ولم تختتم بكلمة «عليماً» لأنّ كلمة «خبير» تطلق بحسب العادة على من يكون مطلعاً على جزئيات ودقائق موضوع معين، وفي هذا دلالة على أن الله يعلم حتى أدنى انحراف يقوم به الإِنسان عن مسير الحق والعدل بأي عذر أو وسيلة كان، وهو يعلم كل موطن يتعمد فيه إِظهار الباطل حقاً، ويجازي على هذا العمل.
وتثبت الآية اهتمام الإِسلام المفرط بقضية العدالة الاجتماعية، وإِن مواطن التأكيد المتكررة في هذه الآية تبيّن مدى هذا الاهتمام الذي يوليه الإِسلام لمثل هذه القضية الإِنسانية الاجتماعية الحساسة، وممّا يُؤسف له كثيراً أن نرى الفارق الكبير بين عمل المسلمين وهذا الحكم الإِسلامي السامي، وإِن هذا هو سرّ تخلف المسلمين.