ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بهذه الآية التى فيها من التسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن التحديد الدقيق لوظيفته ، فقال - تعالى - : { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ } .
أى : نحن - أيها الرسول الكريم - أعلم بما يقوله هؤلاء المشركون فى شأنك وفى شأن دعوتك ، وسنجازيهم على ذلك بما يستحقونه من عقاب ، فاصبر على أقوالهم ، وبلغ رسالة ربك دون أن تخشى أحدا سواه .
وأنت لست بمسلط عليهم لتجبرهم على اتباعك ، وتقهرهم على الدخول فى الإِسلام ، وإنما وظيفتك التذكير بهذا القرآن لمن يخشى عذابى ، ويخاف وعيدى .
كما قال - سبحانه - : { فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ } وكما قال - تعالى - : { وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب } وبعد فهذا تفسير محرر لسورة " ق " التى حفظها بعض الصحابة من فم النبى - صلى الله عليه وسلم - خلال تكراره لها فى خطب الجمعة .
نسأل الله - تعالى - أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا ، وأنس نفوسنا .
وفي ظلال هذا المشهد كذلك يتوجه بالتثبيت للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] تجاه جدلهم وتكذيبهم في هذه الحقيقة الواضحة المشهودة بعين الضمير :
( نحن أعلم بما يقولون . وما أنت عليهم بجبار . فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) . .
( نحن أعلم بما يقولون ) . . وهذا حسبك . فللعلم عواقبه عليهم . . وهو تهديد مخيف ملفوف .
( وما أنت عليهم بجبار ) . . فترغمهم على الإيمان والتصديق . فالأمر في هذا ليس إليك . إنما هو لنا نحن ، ونحن عليهم رقباء وبهم موكلون . .
( فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) . . والقرآن يهز القلوب ويزلزلها فلا يثبت له قلب يعي ويخاف ما يواجهه به من حقائق ترجف لها القلوب . على ذلك النحو العجيب .
وحين تعرض مثل هذه السورة ، فإنها لا تحتاج إلى جبار يلوي الأعناق على الإيمان . ففيها من القوة والسلطان ما لا يملكه الجبارون . وفيها من الإيقاعات على القلب البشري ما هو أشد من سياط الجبارين ! وصدق الله العظيم . .
القول في تأويل قوله تعالى : { نّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّارٍ فَذَكّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } .
يقول تعالى ذكره : نحن يا محمد أعلم بما يقول هؤلاء المشركون بالله من فِريتهم على الله ، وتكذيبهم بآياته ، وإنكارهم قُدرة الله على البعث بعد الموت وَما أنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّارٍ يقول : وما أنت عليهم بمسلط . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَما أنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّارٍ قال : لا تتجبر عليهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَما أنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّارٍ فإن الله عزّ وجلّ كره الجبرية ، ونهى عنها ، وقدّم فيها . وقال الفرّاء : وضع الجبار في موضع السلطان من الجبرية وقال : أنشدني المفضل :
وَيَوْمَ الحَزْنِ إذْ حَشَدَتْ مَعَدّ *** وكانَ النّاسُ إلا نَحْنُ دِينا
عَصَيْنا عَزْمَةَ الجَبّارِ حَتّى *** صَبَحْنا الجَوْفَ ألْفا مُعْلَمِينا
ويروى : «الجوف » وقال : أراد بالجبار : المنذر لوَلايته .
قال : وقيل : إن معنى قوله : وَما أنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّارٍ لم تُبعث لتجْبُرَهم على الإسلام ، إنما بعثت مذكّرا ، فذكّر . وقال : العرب لا تقول فعال من أفعلت ، لا يقولون : هذا خراج ، يريدون : مُخْرِج ، ولا يقولون : دخَال ، يريدون : مُدْخِل ، إنما يقولون : فعال ، من فعلت ويقولون : خراج ، من خرجت ودخال : من دخلت وقتّال ، من قتلت . قال : وقد قالت العرب في حرف واحد : درّاك ، من أدركت ، وهو شاذّ .
قال : فإن قلت الجبار على هذا المعنى ، فهو وجه . قال : وقد سمعت بعض العرب يقول : جبره على الأمر ، يريد : أجبره ، فالجبار من هذه اللغة صحيح ، يراد به : يقهرهم ويجبرهم .
وقوله : فَذَكّرْ بالقُرآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ يقول تعالى ذكره : فذكر يا محمد بهذا القرآن الذي أنزلته إليه من يخاف الوعيد الذي أوعدته من عصاني وخالف أمري .
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأوديّ ، قال : حدثنا حكام الرازي ، عن أيوب ، عن عمرو الملائي ، عن ابن عباس ، قال : قالوا يا رسول الله لو خوّفتنا ؟ فنزلت فَذَكّرْ بالقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ .
حدثنا ابن حُميد ، قال : حدثنا حكام ، عن أيوب بن سيار أبي عبد الرحمن ، عن عمرو بن قيس ، قال : قالوا : يا رسول الله ، لو ذكّرتنا ، فذكر مثله .
وقوله تعالى : { نحن أعلم بما يقولون } وعيد محض للكفرة .
واختلف الناس في معنى قوله : { وما أنت عليهم بجبار } . فقال قتادة : نهى الله عن التجبر وتقدم فيه ، فمعناه : وما أنت عليهم بمتعظم من الجبروت . وقال الطبري وغيره معناه : وما أنت عليهم بمسلط تجبرهم على الإيمان ، ويقال جبرته على كذا ، أي قسرته ف «جبار » بناء مبالغة من جبر وأنشد المفضل : [ الوافر ]
عصينا عزمة الجبار حتى . . . صحبنا الخوف إلفاً معلمينا{[10577]}
قال : أراد ب «الجبار » النعمان بن المنذر لولايته ، ويحتمل أن نصب عزمة على المصدر وأراد عصينا مقدمين عزمة جبار ، فمدح نفسه وقومه بالعتو والاستعلاء أخلاق الجاهلية والحياة الدنيا ، وروى ابن عباس أن المؤمنين قالوا : يا رسول الله لو خوفتنا ، فنزلت : { فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } .
قال القاضي أبو محمد : ولو لم يكن هذا سبباً فإنه لما أعلمه أنه ليس بمسلط على جبرهم ، أمره بالاقتصار على تذكير الخائفين من الناس .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{نحن أعلم بما يقولون} في السر مما يكره النبي صلى الله عليه وسلم، يعني كفار مكة {وما أنت عليهم} يا محمد {بجبار} يعني بمسلط فتقتلهم {فذكر} يعني فعظ أهل مكة {بالقرآن}... {من يخاف وعيد} وعيدي عذابي في الآخرة، فيحذر المعاصي...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: نحن يا محمد أعلم بما يقول هؤلاء المشركون بالله من فِريتهم على الله، وتكذيبهم بآياته، وإنكارهم قُدرة الله على البعث بعد الموت." وَما أنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّارٍ "يقول: وما أنت عليهم بمسلط... عن مجاهد "وَما أنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّارٍ" قال: لا تتجبر عليهم...
وقيل: إن معنى قوله: "وَما أنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّارٍ" لم تُبعث لتجْبُرَهم على الإسلام، إنما بعثت مذكّرا، فذكّر...
وقوله: "فَذَكّرْ بالقُرآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ" يقول تعالى ذكره: فذكر يا محمد بهذا القرآن الذي أنزلته إليه من يخاف الوعيد الذي أوعدته من عصاني وخالف أمري.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبّار} يقول، والله أعلم: {فاصبر على ما يقولون} {نحن أعلم بما يقولون} فنُكافئهم. أو يقول: عن علم بذلك نتركهم على ذلك، ونُمهلُهم؛ يصبّر رسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك ليتسلّى به بعض ما يُحزن قلبه...
{وما أنت عليهم بجبّار} قال بعضهم: من الجبر والقهر، أي ما أنت بقاهر عليهم وجبّار، تُجبرهم على التوحيد. وقال بعضهم: من التجبُّر والتكبّر، والجبّار، هو الذي يقتل بلا ذنب ولا حق... {فذكّر بالقرآن من يخاف وعيدِ} أي بلّغ ما أُنزل إليك، فعليك التبليغ، وأنا المجازي لهم والمكافئ بما يفعلون. ثم لم يخصّ بالتذكير من يخاف الوعيد، لكن أمر بتذكير الكل لأن منفعة الذكرى تكون لمن يخاف الوعيد، لا لمن لا يخاف الوعيد. فلذلك خصّه بالذكر، لكن التخصيص بالذكر لا يكون تخصيصا بالحُكم ونفيا عن غيره...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} تهديد لهم وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم {بِجَبَّارٍ} كقوله تعالى: {بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية: 22] حتى تقسرهم على الإيمان، إنما أنت داع وباعث...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{فذكر بالقرآن من يخاف وعيد}: لأن من لا يخاف الوعيد لكونه غير مصدّق بوقوعه لا يذكر، إذ لا تنفع فيه الذكرى،...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{نحن} أي لا غيرنا ولا هم أنفسهم {أعلم} أي من كل من يتوهم فيه العلم {بما يقولون} أي في الحال والاستقبال من التكذيب بالبعث وغيره مع إقرارهم بقدرتنا... {وما أنت عليهم} ولما أفاد حرف الاستعلاء القهر والغلبة صرح به مؤكداً في النفي فقال: {بجبار} أي متكبر قهار عات تردهم قهراً عما تكره منهم من الأقوال والأفعال، إنما أنت منذر، ولما نفى عنه الجبروت، أثبت لهم ما أفهمه واو العطف من النذارة كما قدرته قبله، فقال مسبباً عنه معبراً بالتذكير الذي يكون عن نسيان لأن كل ما في القرآن من وعظ إذا تأمله الإنسان وجده شاهداً في نفسه أو فيما يعرفه من الآفاق {فذكر} أي بطريق البشارة والنذارة {بالقرآن} أي الجامع بمجده لكل خير المحيط كل صلاح {من يخاف وعيد} أي يمكن خوفه، وهو كل عاقل...وهذا هو المجد للقرآن ولمن أنزله ولمن أتى به عنه بتمام قدرة من هو صفته وشمول علمه، فقد انعطف هذا الآخر على ذلك- الأول أشد انعطاف، والتفت فروعه بأصله أتم التفاف، فاعترفت به أولو- براعة وأهل الإنصاف والاتصاف- بالتقدم في كل صناعة بالسبق الذي لا يمكن لحاقه أيّ اعتراف...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(نحن أعلم بما يقولون).. وهذا حسبك. فللعلم عواقبه عليهم.. وهو تهديد مخيف ملفوف. (وما أنت عليهم بجبار).. فترغمهم على الإيمان والتصديق. فالأمر في هذا ليس إليك. إنما هو لنا نحن، ونحن عليهم رقباء وبهم موكلون.. (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد).. والقرآن يهز القلوب ويزلزلها فلا يثبت له قلب يعي ويخاف ما يواجهه به من حقائق ترجف لها القلوب. على ذلك النحو العجيب. وحين تعرض مثل هذه السورة، فإنها لا تحتاج إلى جبار يلوي الأعناق على الإيمان. ففيها من القوة والسلطان ما لا يملكه الجبارون. وفيها من الإيقاعات على القلب البشري ما هو أشد من سياط الجبارين! وصدق الله العظيم...