قوله عز وجل { وأشرقت الأرض } أضاءت { بنور ربها } بنور خالقها وذلك حين يتجلى الرب لفصل القضاء بين خلقه فما يتضارون في نوره كما لا يتضارون في الشمس في اليوم الصحو . وقال الحسن ، والسدي : بعدل ربها ، وأراد بالأرض عرصات القيامة { ووضع الكتاب } أي : كتاب الأعمال . { وجيء بالنبيين والشهداء } قال ابن عباس : يعني : الذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة ، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم . وقال عطاء : يعني الحفظة . يدل عليه قوله تعالى :{ وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد } ( ق-21 ) { وقضي بينهم بالحق } أي : بالعدل ، { وهم لا يظلمون } أي : لا يزاد في سيئاتهم ، ولا ينقص من حسناتهم .
والمراد بالأرض فى قوله - تعالى - : بعد ذلك : { وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا . . . } أرض المحشر .
وأصل الإِشراق : الإِضاءة . يقال : أشرقت الشمس إذا أضاءت ، وشرقت : إذا طلعت .
قال ابن كثير : وقوله : { وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا } أى : أضاءت - الأرض - يوم القيامة ، إذا تجلى الحق - تبارك وتعالى - للخلائق لفصل القضاء .
والمراد بالكتاب فى قوله - تعالى - : { وَوُضِعَ الكتاب } صحائف الأعمال التى تكون فى أيدى أصحابها .
فالمراد بالكتاب جنسه ، أى : أعطى كل واحد كتابه إما بيمينه . وإما بشماله . وقيل المراد بالكتاب هنا : اللوح المحفوظ الذى فيه أعمال الخلق .
{ وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء } أى : وبعد أن أعطى كل إنسان صحائف أعماله جئ بالنبيين لكى يشهدوا على أممهم أنهم بلغوهم ما كلفهم الله بتبليغه إليهم ، وجئ بالشهداء وهم الملائكة الذين يسجلون على الناس أعمالهم من خير وشر ، كما قال - تعالى - :
{ وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } وقيل المراد بهم : من استشهدوا فى سبيل الله .
ثم بين - سبحانه - مظاهر عدالته فى جمل حكيمة فقال : { وَقُضِيَ بَيْنَهُم بالحق } أى : وقضى - سبحانه - بين الجميع بقضائه العادل { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أى : نوع من الظلم .
( وأشرقت الأرض بنور ربها ) . .
أرض الساحة التي يتم فيها الاستعراض . ونور ربها الذي لا نور غيره في هذا المقام . .
( ووضع الكتاب ) . . الحافظ لأعمال العباد . .
( وجيء بالنبيين والشهداء ) . . ليقولوا كلمة الحق التي يعلمون . . وطوي كل خصام وجدال - في هذ المشهد - تنسيقاً لجوه مع الجلال والخشوع الذي يسود الموقف العام :
( وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون . ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون ) . .
فلا حاجة إلى كلمة تقال ، ولا إلى صوت واحد يرتفع .
ومن ثم تجمل وتطوى عملية الحساب والسؤال والجواب التي تعرض في مشاهد أخرى . لأن المقام هنا مقام روعة وجلال .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنّبِيّيْنَ وَالشّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : فأضاءت الأرض بنور ربها ، يقال : أشرقت الشمس : إذا صفت وأضاءت ، وشرقت : إذا طلعت ، وذلك حين يبرز الرحمن لفصل القضاء بين خلقه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأشْرَقَتِ الأرْضُ بنُورِ رَبّها قال : فما يتضارّون في نوره إلا كما يتضارّون في الشمس في اليوم الصحو الذي لا دخن فيه .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وأشْرَقَتِ الأرْضُ بنُورِ رَبّها قال : أضاءت .
وقوله : وَوُضِعَ الكِتَابُ يعني : كتاب أعمالهم لمحاسبتهم ومجازاتهم ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَوُضِعَ الكِتَابُ قال : كتاب أعمالهم .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَوُضِعَ الكِتابُ قال : الحساب .
وقوله : وَجِيءَ بالنّبِيّينَ والشّهدَاءِ يقول : وجيء بالنبيين ليسألهم ربهم عما أجابتهم به أممهم ، وردّت عليهم في الدنيا ، حين أتتهم رسالة الله والشهداء ، يعني بالشهداء : أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، يستشهدهم ربهم على الرسل ، فيما ذكرت من تبليغها رسالة الله التي أرسلهم بها ربهم إلى أممها ، إذ جحدت أممهم أن يكونوا أبلغوهم رسالة الله ، والشهداء : جمع شهيد ، وهذا نظير قول الله : وكَذلكَ جَعَلْناكُمْ أُمّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَداءَ على النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا وقيل : عُني بقوله : الشّهدَاء : الذين قتلوا في سبيل الله وليس لما قالوا من ذلك في هذا الموضع كبير معنى ، لأن عقيب قوله : وَجِيءَ بالنّبِيّينَ والشهدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحَقّ ، وفي ذلك دليل واضح على صحة ما قلنا من أنه إنما دعى بالنبيين والشهداء للقضاء بين الأنبياء وأممها ، وأن الشهداء إنما هي جمع شهيد ، الذين يشهدون للأنبياء على أممهم كما ذكرنا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله وَجِيءَ بالنّبِيّينِ وَالشّهدَاءِ فإنهم ليشهدون للرسل بتبليغ الرسالة ، وبتكذيب الأمم إياهم .
ذكر من قال ما حكينا قوله من القول الاَخر :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَجِيءَ بالنّبِيّينَ والشهدَاءِ : الذين استشهدوا في طاعة الله .
وقوله : وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحَقّ يقول تعالى ذكره : وقضي بين النبيين وأممها بالحقّ ، وقضاؤه بينهم بالحق ، أن لا يحمل على أحد ذنب غيره ، ولا يعاقب نفسا إلا بما كسبت .
{ وأشرقت الأرض بنور ربها } بما أقام فيها من العدل سماه " نور " لأنه يزين البقاع ويظهر الحقوق كما سمى الظلم ظلمة . وفي الحديث " الظلم ظلمات يوم القيامة " .
ولذلك أضاف اسمه إلى { الأرض } أو بنور خلق فيها بلا واسطة أجسام مضيئة ولذلك أضافه إلى نفسه . { ووضع الكتاب } للحساب والجزاء من وضع المحاسب كتاب المحاسبة بين يديه ، أو صحائف الأعمال في أيدي العمال ، واكتفى باسم الجنس عن الجمع . وقيل اللوح المحفوظ يقابل الصحائف { وجيء بالنبيين والشهداء } الذين يشهدون للأمم وعليهم من الملائكة والمؤمنين ، وقيل المستشهدون . { وقضي بينهم } بين العباد . { بالحق وهم لا يظلمون } بنقص ثواب أو زيادة عقاب على ما جرى به الوعد .
{ أشرقت } معناه : أضاءت وعظم نورها ، يقال شرقت الشمس إذا طلعت ، وأشرقت إذا أضاءت .
وقرأ ابن عباس وعبيد بن عمير : «أشرِقت » بضم الهمزة وكسر الراء على بناء الفعل للمفعول ، وهذا إنما يترتب في فعل يتعدى ، فهذا على أن يقال : أشرق البيت ، وأشرقه السراج ، فيكون الفعل متجاوزاً أو غير متجاوز بلفظ واحد كرجع ورجعته ووقف ووقفته ، ومن المتعدي من ذلك يقال أشرقت الأرض : و : { الأرض } في هذه الآية : الأرض المبدلة من الأرض المعروفة .
وقوله : { بنور ربها } إضافة خلق إلى خالق ، أي بنور الله تعالى ، و : { الكتاب } كتاب حساب الخلائق ، ووحده على اسم الجنس ، لأن كل أحد له كتاب على حدة . وقالت فرقة : وضع اللوح المحفوظ ، وهذا شاذ وليس فيه معنى التوعد وهو مقصد الآية .
وقوله : { وجيء بالنبيين } أي ليشهدوا على أممهم .
وقوله : { والشهداء } قيل هو جمع شاهد ، والمراد أمة محمد الذين جعلهم الله شهداء على الناس . وقال السدي : { الشهداء } جمع شهيد في سبيل الله ، وهذا أيضاً يزول عنه معنى التوعد ، ويحتمل أن يريد بقوله : { والشهداء } الأنبياء أنفسهم ، عطف الصفة على الصفة بالواو ، كما تقول : جاء زيد الكريم والعاقل . وقال زيد بن أسلم : { الشهداء } : الحفظة . والضمير في قوله : { بينهم } عائد على العالم بأجمعه . إذ الآية تدل عليهم . و : { لا يظلمون } معناه : لا يوضع شيء من أمورهم غير موضعه .