قوله تعالى : { وكيف تكفرون } . يعني ولم تكفرون .
قوله تعالى : { وأنتم تتلى عليكم آيات الله } . القرآن .
قوله تعالى : { وفيكم رسوله } . محمد صلى الله عليه وسلم . قال قتادة في هذه الآية : علمان بينان كتاب الله ، ونبي الله ، أما نبي الله فقد مضى ، وأما كتاب الله فأبقاه بين أظهركم رحمةً من الله ونعمة .
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن العباس الحميدي ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ ، أنا أبو الفضل الحسن بن يعقوب بن يوسف العدل ، أخبرنا أبو أحمد محمد بن عبد الوهاب العبدي ، أنا أبو جعفر بن عوف أخبرنا أبو حيان يحيى بن سعيد بن حيان ، عن يزيد بن حيان قال :سمعت زيد بن أرقم قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خطيباً ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال " أما بعد : أيها الناس ، إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيبه ، وإني تارك فيكم ثقلين ، أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحث على كتاب الله ورغب فيه ، ثم قال : وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي " . قوله تعالى : { ومن يعتصم بالله } . أي يمتنع بالله ويستمسك بدينه وطاعته .
قوله تعالى : { فقد هدي إلى صراط مستقيم } . طريق واضح ، وقال ابن جريج ( ومن يعتصم بالله ) أي يؤمن بالله ، وأصل العصمة المنع ، فكل مانع شيئاً فهو عاصم له .
ثم بين القرآن بعد ذلك أنه ما يسوغ للمؤمنين أن يطيعوا هذا الفريق من الذين أوتوا الكتاب ، أو أن يكفروا بعد إيمانهم ، أو أن يتفرقوا بعد وحدتهم فقال - تعالى - : { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } ، الاستفهام فى قوله : { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ } للانكار ، ولاستبعاد كفرهم فى حال اجتمع لهم فيها كل الأسباب الداعية إلى الإيمان .
أى : كيف يتصور منكم الكفر ، أو يسوغ لكم أن تسيروا فى أسبابه وآيات الله تقرا على مسامعكم غضة طرية صباح مساء ، ورسول الله صلى الله عليكم وسلم بين ظهرانيكم ، يردكم إلى الصواب إن أخطأتم ، ويزيح شبهكم إن التبس عليكم أمر .
وفى هذا ما يومىء إلى إلقاء اليأس فى قلوب هذا الفريق من اليهود من أن يصلوا إلى ما يبغونه بين المؤمنين فى وقت يذكر النبى صلى الله عليه وسلم المؤمنين بما ينفعهم ؛ ويحذرهم مما يؤذيهم ويضرهم .
وفى توجيه الإنكار والاستبعاد إلى كيفية الكفر مبالغة ، لأن كل موجود لا بد أن يكون وجوده على حال من الأحوال ، فإذا أنكر ونفى فى جميع الأحوال انتفى وجوده بالكلية بالطريق البرهانى .
وقوله : { وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } جملتان حاليتان من فاعل { تَكْفُرُونَ } وهو ضمير الجماعة . وهاتان الجملتان هما محط الانكار والاستبعاد .
أى أن كلا تلاوة آيات الله وإقامة الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم ، وازع لهم عن الكفر ، ودافع لهم إلى التمسك بعرى الإيمان .
ففى الآية الكريمة دلالة على عظمة قدر الصحابة ، وأن لهم وازعين عن مواقعة الضلال : سماع القرآن ، ومشاهدة أنوار الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإن وجوده عصمة من ضلالهم .
قال قتادة : أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد مضى إلى رحمة الله ، وأما الكتاب فباق على وجه الدهر .
ثم أرشد الله - تعالى - المؤمنين إلى الوسيلة التى متى تمسكوا بها عصموا أنفسهم من مكر اليهود فقال - تعالى - { وَمَن يَعْتَصِم بالله فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } .
أى ومن يتلجىء إلى الله فى كل أحواله ويتوكل عليه حق التوكل ، ويتمسك بدينه ، فقد هدى إلى الطريق الذى لا عوج فيه ولا انحراف .
وفى هذا إشارة إلى أن التمسك بدين الله وبكتابه كفيل بأن يبعد المسلمين الذين لم يشاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم عما يبيته لهم أعداؤهم من مكر وخداع .
قال ابن جرير ما ملخصه : وأصل العصم : المنع ، فكل مانع شيئاً فهو عاصمه ، والممتنع به معتصم به ولذلك قيل للحبل : عصام ، وللسبب الذى يتسبب به الرجل إلى حاجته عصام ، وأفصح اللغتين : إدخال الباء كما قال - عز وجل - { واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً }
{ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىَ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : وكيف تكفرون أيها المؤمنون بعد إيمانكم بالله وبرسوله ، فترتدوا على أعقابكم { وأنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آياتُ اللّهِ } يعني : حجج الله عليكم التي أنزلها في كتابه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم . { وفِيكُمْ رَسُولُهُ } حجة أخرى عليكم لله ، مع آي كتابه ، يدعوكم جميع ذلك إلى الحقّ ، ويبصركم الهدى والرشاد ، وينهاكم عن الغيّ والضلال يقول لهم تعالى ذكره : فما وجه عذركم عند ربكم في جحودكم نبوّة نبيكم ، وارتدادكم على أعقابكم ، ورجوعكم إلى أمر جاهليتكم ، إن أنتم راجعتم ذلك وكفرتم ، وفيه هذه الحجج الواضحة ، والاَيات البينة ، على خطأ فعلكم ذلك إن فعلتموه . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وأنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آياتُ اللّهِ } . . . الاَية ، علمان بينان : وُجْدَانُ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، وكتاب الله¹ فأما نبيّ الله فمضى صلى الله عليه وسلم¹ وأما كتاب الله ، فأبقاه الله بين أظهركم رحمة من الله ونعمة ، فيه حلاله وحرامه ، وطاعته ومعصيته .
وأما قوله : { مَنْ يَعْتَصِمْ باللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } فإنه يعني : ومن يتعلق بأسباب الله ، ويتمسك بدينه وطاعته ، { فَقَدْ هُدِيَ } يقول : فقد وفق لطريق واضح ومحجة مستقيمة غير معوجة ، فيستقيم به إلى رضا الله وإلى النجاة من عذاب الله والفوز بجنته . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { وَمَنْ يَعْتَصِمْ باللّهِ فَقَدْ هُدِيَ } قال : يؤمن بالله .
وأصل العصم : المنع ، فكل مانع شيئا فهو عاصمه ، والممتنع به معتصم به ، ومنه قول الفرزدق :
أنا ابْنُ العاصِمينَ بني تَمِيم *** ٍإذَا ما أعْظَمُ الحدَثانِ نابَا
ولذلك قيل للحبل : عصام ، وللسبب الذي يتسبب به الرجل إلى حاجته : عصام ، ومنه قول الأعشى :
إلى المَرْءِ قَيْسٍ أُطِيلُ السّرى *** وآخُذُ مِنْ كُلّ حَيّ عُصُمْ
يعني بالعُصُم : الأسباب ، أسباب الذمة والأمان ، يقال منه : اعتصمت بحبل من فلان ، واعتصمت حبلاً منه ، واعتصمت به واعتصمه . وأفصح اللغتين : إدخال الباء ، كما قال عزّ وجلّ : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا } وقد جاء «اعتصمته » ، كما قال الشاعر :
إذَا أنْتَ جازَيْتَ الإخاءَ بِمِثْلِهِ *** وَآسَيْتَنِي ثُمّ اعْتَصَمْتُ حبِالِيا
فقال : «اعتصمت حباليا » ، ولم يدخل الباء ، وذلك نظير قولهم : تناولت الخطام وتناولت بالخطام ، وتعلقت به وتعلقته ، كما قال الشاعر :
تَعَلّقْتَ هِنْدا ناشِئا ذَاتَ مِئْزَرٍ *** وأنتَ وَقد فارَقْتَ لمْ تَدْرِ ما الحِلْمُ
وقد بينت معنى الهدى والصراط وأنه معنّي به الإسلام فيما مضى قبل بشواهده ، فكرهنا إعادته في هذا الموضع .
وقد ذكر أن الذي نزل في سبب تَحَاوُرْ القبيلتين الأوس والخزرج ، كان منه قوله : { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وأنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آياتُ اللّهِ } . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا حسن بن عطية ، قال : حدثنا قيس بن الربيع ، عن الأغرّ بن الصباح ، عن خليفة بن حصين ، عن أبي نصر ، عن ابن عباس ، قال : كانت الأوس والخزرج بينهم حرب في الجاهلية كل شهر ، فبينما هم جلوس إذ ذكروا ما كان بينهم حتى غضبوا ، فقام بعضهم إلى بعض بالسلاح ، فنزلت هذه الاَية : { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وأنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آياتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُه } . . . إلى آخر الاَيتين ، { واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً } . . . إلى آخر الاَية .
ثم وقف تعالى المؤمنين على هذا الأمر المستبعد المستشنع الذي يريده بهم اليهود ، فقال { وكيف تكفرون وأنتم } بهذه الأحوال الموصوفة ؟ و { كيف } في موضع نصب على الحال ، كما هي في قوله تعالى : { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم }{[3373]} والمعنى أجاحدين تكفرون ؟ أجاهلين أمستخفين أمرتدين ؟ ونحو هذا من التقدير والواو في قوله : { وكيف تكفرون } عاطفة جملة كلام على جملة كلام ، ولا يجوز أن تكون { كيف } في هذه الآية كما هي في قولك ، كيف تفعل كذا ، وأنت تسأل عن شيء ثابت الوقوع متحصله ، لأنه كان يلزم أن يكون كفر المؤمنين مقرراً مثبت الوقوع ، وتأمل معنى { كيف } إذا وليها فعل ، ومعناها إذا وليها اسم{[3374]} ، وقرأ جمهور الناس «تتلى » بالتاء من فوق ، وقرأ الحسن : «يتلى » بالياء إذ الآيات هي القرآن ، وقوله تعالى : { وفيكم } هي ظرفية الحضور والمشاهدة لشخصه عليه السلام ، وهو في أمته إلى يوم القيامة ، بأقواله وآثاره ، و { يعتصم } معناه : يتمسك ويستذري{[3375]} ، وعصم الشيء إذا منع وحمى ، ومنه قوله { يعصمني من الماء }{[3376]} والعصم الأسباب التي يمتّ بها ، ويعتصم من الخيبة في الغرض المطلوب ، وقال الأعشى : [ المتقارب ]
إلى الْمَرْءِ قَيْس أُطِيلُ السُّرى . . . وآخُذُ مِنْ كُلِّ حَيٍّ عِصَمْ{[3377]}
وتصرف اللفظة كثير جداً ، وباقي الآية بيّن ، والله المستعان .