282- يا أيها الذين آمنوا إذا داين بعضكم بعضا بَدْينٍ مؤجل إلى أجل ، ينبغي أن يكون الأجل معلوماً ، فاكتبوه حفظاً للحقوق تفادياً للنزاع ، وعلى الكاتب أن يكون عادلا في كتابته ، ولا يمتنع عن الكتابة ، شكراً لله الذي علمه ما لم يكن يعلم ، فليكتب ذلك الدين حسب اعتراف المدين وعلى المدين أن يخشى ربه فلا ينقص من الدين شيئاً ، فإن كان المدين لا يحسن التصرف ولا يقدر الأمور تقديراً حسناً ، أو كان ضعيفاً لصغر أو مرض أو شيخوخة ، أو كان لا يستطيع الإملاء لخرس أو عقدة لسان أو جهل بلغة الوثيقة ، فَلْيُنِبْ عنه وليه الذي عينه الشرع أو الحاكم ، أو اختاره هو في إملاء الدين على الكاتب بالعدل التام . وأشهدوا على ذلك الدين شاهدين من رجالكم ، فإن لم يوجدا فليشهد رجل وامرأتان تشهدان معاً لتؤديا الشهادة معاً عند الإنكار ، حتى إذا نسيت إحداهما ذكرتها الأخرى ، ولا يجوز الامتناع عن أداء الشهادة إذا ما طُلب الشهود ، ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً كان أو كبيراً ما دام مؤجلا لأن ذلك أعدل في شريعة الله وأقوى في الدلالة على صحة الشهادة ، وأقرب إلى درء الشكوك بينكم ، إلا إذا كان التعامل على سبيل التجارة الحاضرة ، تتعاملون بها بينكم ، فلا مانع من ترك الكتابة إذ لا ضرورة إليها . ويطلب منكم أن تشهدوا على المبايعة حسماً للنزاع ، وتفادوا أن يلحق أي ضرر بكاتب أو شاهد ، فذلك خروج على طاعة الله ، وخافوا الله واستحضروا هيبته في أوامره ونواهيه ، فإن ذلك يلزم قلوبكم الإنصاف والعدالة ، والله يبين ما لكم وما عليكم ، وهو بكل شيء - من أعمالكم وغيرها - عليم{[29]} .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى } . قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما حرم الله الربا أباح السلم ، وقال : أشهد أن السلم المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله تعالى في كتابه ، وأذن فيه ، ثم قرأ : ( يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ) . قوله : ( إذا تداينتم ) . أي تعاملتم بالدين ، يقال : داينته إذا عاملته بالدين ، وإنما قال بدين بعد قوله تداينتم ، لأن المداينة قد تكون مجازاة ، وتكون معاطاة فقيّده بالدين ليعرف المراد من اللفظ ، وقيل : ذكره تأكيداً كقوله تعالى : ( ولا طائر يطير بجناحيه إلى أجل مسمى ) الأجل : مدة معلومة الأول والآخر ، والأجل : يلزم في الثمن ، والمبيع في السلم ، حتى لا يكون لصاحب الحق الطلب قيل محله ، وفي القرض لا يلزم الأجل عن أكثر أهل العلم ( فاكتبوه ) أي اكتبوا الذي تداينتم به ، بيعاً كان أو سلماً أو قرضاً . واختلفوا في هذه الكتابة : فقال بعضهم : هي واجبة ، والأكثرون على أنه أمر استحباب ، فإن ترك فلا بأس ، كقوله تعالى ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ) .
وقال بعضهم : كانت كتابة الدين والإشهاد والرهن فرضاً ثم نسخ الكل بقوله : ( فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ) وهو قول الشعبي ثم بين كيفية الكتابة فقال جل ذكره :
قوله تعالى : { وليكتب بينكم كاتب بالعدل } . أي ليكتب كتاب الدين بين الطالب والمطلوب كاتب بالعدل ، أي بالحق من غير زيادة ولا نقصان ولا تقديم أجل ولا تأخير .
قوله تعالى : { ولا يأب } . أي لا يمتنع .
قوله تعالى : { كاتب أن يكتب } . واختلفوا في وجوب الكتابة على الكاتب وتحمل الشهادة على الشاهد ، فذهب قوم إلى وجوبها إذا طولب وهو قول مجاهد ، وقال الحسن : يجب إذا لم يكن كاتب غيره ، وقال قوم : هو على الندب والاستحباب ، وقال الضحاك : كانت عزيمة واجبة على الكاتب والشاهد فنسخها قوله تعالى ( ولا يضار كاتب ولا شهيد ) .
قوله تعالى : { كما علمه الله } . أي كما شرعه الله وأمره .
قوله تعالى : { فليكتب وليملل الذي عليه الحق } . يعني : المطلوب يقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه ، والإملال والإملاء لغتان فصيحتان معناهما واحد جاء بهما القرآن ، فالإملال هنا ، والإملاء ، قوله تعالى : ( فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً ) .
قوله تعالى : { وليتق الله ربه } . يعني المملي .
قوله تعالى : { ولا يبخس منه شيئا } . أي ولا ينقص منه أي من الحق الذي عليه شيئاً .
قوله تعالى : { فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً } . أي جاهلاً بالإملاء ، قاله مجاهد ، وقال الضحاك والسدي : طفلاً صغيراً ، وقال الشافعي _ السفيه : المبذر المفسد لماله أو في دينه .
قوله تعالى : { أو ضعيفا } . أي شيخاً كبيراً وقيل هو ضعيف العقل لعته أو جنون .
قوله تعالى : { أو لا يستطيع أن يمل هو } . لخرس أو عمي أو عجمة أو حبس أو غيبة لا يمكنه حضور الكتابة ، أو جهل بما له وعليه .
قوله تعالى : { فليملل وليه } . أي قيمة .
قوله تعالى : { بالعدل } . أي بالصدق والحق ، وقال ابن عباس رضي الله عنه ومقاتل : أراد بالولي صاحب الحق ، يعني إن عجز من عليه الحق من الإملال فليملل ولي الحق ، وصاحب الدين بالعدل لأنه أعلم بالحق .
قوله تعالى : { واستشهدوا } . أي وأشهدوا .
قوله تعالى : { شهيدين } . أي شاهدين .
قوله تعالى : { من رجالكم } . يعني الأحرار المسلمين ، دون العبيد والصبيان ، وهو قول أكثر أهل العلم ، وأجاز شريح وابن سيرين شهادة العبيد .
قوله تعالى : { فإن لم يكونا رجلين } . أي لم يكن الشاهدان رجلين .
قوله تعالى : { فرجل وامرأتان } . أي فليشهد رجل وامرأتان . وأجمع الفقهاء على أن شهادة النساء جائزة مع الرجال في الأموال حتى تثبت برجل وامرأتين . واختلفوا في غير الأموال ، فذهب جماعة إلى أنه يجوز شهادتين مع الرجال في غير العقوبات ، وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي ، وذهب جماعة إلى أن غير المال لا يثبت إلا برجلين عدلين ، وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن ما يطلع عليه النساء غالباً كالولادة والرضاع والثيوبة والبكارة ونحوها يثبت بشهادة رجل وامرأتين ، وبشهادة أربع نسوة ، واتفقوا على أن شهادة النساء غير جائزة في العقوبات .
قوله تعالى : { ممن ترضون من الشهداء } . يعني من كان مرضياً في ديانته وأمانته ، وشرائط قبول الشهادة سبعة : الإسلام والحرية والعقل والبلوغ والعدالة والمروءة وانتفاء التهمة ، فشهادة الكافر مردودة لأن المعروفين بالكذب عند الناس لا تجوز شهادتهم ، فالذي يكذب على الله تعالى أولى أن يكون مردود الشهادة ، وجوز أصحاب الرأي شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض ، ولا تقبل شهادة العبيد ، وأجازها شريح وابن سيرين وهو قول أنس بن مالك رضي الله عنه ، ولا قول للمجنون حتى يكون له شهادة ، ولا يجوز شهادة الصبيان . سئل ابن عباس رضي الله عنه عن ذلك ؟ فقال : لا يجوز ، لأن الله تعالى يقول : ( ممن ترضون من الشهداء ) والعدالة شرط ، وهي أن يكون الشاهد مجتنباً للكبائر غير مصر على الصغائر ، والمروءة شرط ، وهي ما يتصل بآداب النفس مما يعلم أن تاركه قليل الحياء ، وهي حسن الهيئة ، والسيرة والعشرة والصناعة ، فإن كان الرجل يظهر من نفسه في شيء منها ما يستحي أمثاله من إظهاره في الأغلب يعلم به قلة مروءته وترد شهادته ، وانتفاء التهمة شرط ، حتى لا تقبل شهادة العدو على العدو وإن كان مقبول الشهادة على غيره ، لأنه متهم في حق عدوه ، ولا تقبل شهادة الرجل لولده ووالده وإن كان مقبول الشهادة عليهما ، ولا يقبل شهادة من يجر بشهادته إلى نفسه نفعاً ، كالوارث يشهد على رجل بقتل مورثه ، أو يدفع عن نفسه بشهادته ضرراً كالمشهود عليه يشهد بجرح من يشهد عليه لتمكن التهمة في شهادته .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسن المروزي ، أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سراج القطان ، أخبرنا أبو أحمد محمد بن قريش بن سليمان ، أخبرنا علي بن عبد العزيز المكي ، أخبرنا أبو عبيد القاسم ابن سلام أخبرنا مروان الفزاري عن شيخ من أهل الحيرة يقال له يزيد بن زياد عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها ترفعه " لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه ولا ظنين في ولاء ولا قرابة ولا القانع مع أهل البيت " .
قوله تعالى : { أن تضل إحداهما } . قرأ حمزة إن تضل بكسر الألف .
قوله تعالى : { فتذكر } . برفع الراء ، ومعناه الجزاء والابتداء ، وموضع تضل جزم بالجزاء ، إلا أنه لا نسق بالتضعيف ، فتذكر رفع لأن ما بعد فاء الجزاء مبتدأ ، وقراءة العامة بفتح الألف ونصب الراء على الاتصال بالكلام الأول ، و " تضل " محله نصب " بأن " فتذكر منسوق عليه ، ومعنى الآية : فرجل وامرأتان كي تذكر .
قوله تعالى : { إحداهما الأخرى } . ومعنى تضل : أي تنسى ، يريد إذا نسيت إحداهما شهادتها ، تذكرها الأخرى فتقول : ألسنا حضرنا مجلس كذا ؟ وسمعنا كذا ؟ قرأ ابن كثير وأهل البصرة : فتذكر مخففاً ، وقرأ الباقون مشدداً ، وذكر واذكر بمعنى واحد ، وهما متعديان من الذكر الذي هو ضد النسيان ، وحكي عن سفيان بن عيينة أنه قال : هو من الذكر ، أي تجعل إحداهما الأخرى ذكراً ، أي تصير شهادتهما كشهادة ذكر ، والأول أصح لأنه معطوف على النسيان .
قوله تعالى : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } . قيل : أراد به إذا ما دعوا لتحمل الشهادة ، سماهم شهداء على معنى أنهم يكونون شهداء وهو أمر إيجاب عند بعضهم ، وقال قوم : تجب الإجابة إذا لم يكن غيرهم ، فإن وجد غيرهم فهم مخيرون وهو قول الحسن ، وقال قوم : هو أمر ندب وهو مخير في جميع الأحوال ، وقال بعضهم : هذا في إقامة الشهادة وأدائها فمعنى الآية ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا لأداء الشهادة التي تحملوها ، وهو قول مجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير ، وقال الشعبي : الشاهد بالخيار ما لم يشهده ، وقال الحسن : الآية في الأمرين جميعاً ، في التحمل والإقامة إذا كان فارغاً .
قوله تعالى : { ولا تسأموا } . أي ولا تملوا .
قوله تعالى : { أن تكتبوه } . والهاء راجعة إلى الحق .
قوله تعالى : { صغيراً } . كان الحق .
قوله تعالى : { أو كبيراً } . قليلاً كان أو كثيراً .
قوله تعالى : { إلى أجله } . إلى محل الحق .
قوله تعالى : { ذلكم } . أي الكتاب .
قوله تعالى : { أقسط } . أعدل .
قوله تعالى : { عند الله } . لأنه أمر به ، واتباع أمره أعدل من تركه .
قوله تعالى : { وأقوم للشهادة } . لأن الكتابة تذكر الشهود .
قوله تعالى : { وأدنى } . وأحرى وأقرب إلى .
قوله تعالى : { أن لا ترتابوا } . تشكوا في الشهادة .
قوله تعالى : { إلا أن تكون تجارة حاضرة } . قرأهما عاصم بالنصب على خبر كان ، وأضمر الاسم مجازا ، إلا أن تكون التجارة تجارة ، أو المبايعة تجارة ، وقرأ الباقون بالرفع ، وله وجهان : أحدهما : أن يجعل الكون بمعنى الوقوع معناه إلا أن تقع تجارة . والثاني : أن تجعل الاسم في التجارة والخبر في الفعل .
قوله تعالى : { تديرونها بينكم } . تقديره إلا أن تكون تجارة حاضرة دائرة بينكم ، ومعنى الآية إلا أن تكون تجارة حاضرة يداً بيد تديرونها بينكم ليس فيها أجل .
قوله تعالى : { فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها } . يعني التجارة .
قوله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } . قال الضحاك : هو عزم والإشهاد واجب في صغير الحق وكبيره ، نقداً أو نسئه ، وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : الأمر فيه إلى الأمانة ، كقوله تعالى ( فإن أمن بعضكم بعضاً ) الآية ، وقال الآخرون هو أمر ندب .
قوله تعالى : { ولا يضار كاتب ولا شهيد } . هذا نهي للغائب ، وأصله يضاور ، فأدغمت إحدى الراءين في الأخرى ونصبت لحق التضعيف لاجتماع الساكنين ، واختلفوا فيه فمنهم من قال : أصله يضارر بكسر الراء الأولى ، وجعل الفعل للكاتب والشهيد ، معناه : لا يضارر الكاتب فيأبى أن يكتب ، ولا الشهيد فيأبى أن يشهد ، ولا يضار الكاتب فيزيد أو ينقص أو يحرف ما أملي عليه ولا الشهيد فيشهد بما لم يستشهد عليه ، وهذا قول طاووس والحسن وقتادة ، وقال قوم : أصله " يضارر " بفتح الراء على الفعل المجهول ، وجعلوا الكاتب والشهيد مفعولين ، ومعناه أن يدعو الرجل الكاتب أو الشاهد وهما على شغل مهم ، فيقولان : نحن على شغل مهم فاطلب غيرنا ، فيقول الداعي إن الله أمركما أن تجيبا ويلح عليهما فيشغلهما عن حاجتهما ، فنهي عن ذلك وأمر بطلب غيرهما .
قوله تعالى : { وإن تفعلوا } . ما نهيتكم عنه من الضرر .
قوله تعالى : { فإنه فسوق بكم } . أي معصية وخروج عن الأمر .
قوله تعالى : { واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم } .
وبعد أن أمر - سبحانه - المؤمنين أن يسارعوا في التصدق على المحتاجين ، وأن يجتنبوا الربا والمرابين ، وبين لهم أن أموالهم تزكو وتنمو بالإِنفاق في وجوه الخير ، وتمحق وتذهب بتعاطي الربا ، بعد أن وضح كل ذلك ساق لهم آية جامعة ، متى اتبعوا توجيهاتها استطاعوا أن يحفظوا أموالهم بأفضل طريق ، وأشرف وسيلة ، وأن يصونوها عن الهلاك والضياع عندما يعطي أحدهم أخاه شيئا من المال على سبيل الدين أو القرض الحسن المنزه عن الربا . استمع إلى القرآن وهو يتكلم عن أحكام الدين وعن أحكام بعض المعاملات التجارية الحاضرة فيقول :
{ ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم . . . }
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 282 )
قال ابن كثير : قوله - تعالى - : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه } هذا إرشاد منه - تعالى - لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها ، وقد نبه على ذلك في آخر الآية حيث قال : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أَلاَّ ترتابوا } وروى البخاري عن ابن عباس أنه قال : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله وأذن فيه ثم قرأ { ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم } . الآية . وثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " .
ومعنى { تَدَايَنتُم } : تعاملتم بالدين وداين بعضكم بعضا . وحقيقة الدين - كما يقول القرطبي - " عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقداً والآخر في الذمة نسيئة ، فإن العين عند العرب ما كان حاضرا ، والدين ما كان غائبا " .
والأجل في اللغة هو الوقت المضروب لانقضاء الأمد ، وأجل الإِنسان هو الوقت المحدد لانقضاء عمره . وأجل الدين هو الوقت المعين لأدائه في المستقبل . وأصله من التأخير ، يقال : أجل الشيء يأجل إذا تأخر والآجل نقيض العاجل .
والمعنى : يأيها الذين آمنوا إذا عامل بعضكم بعضا بالدين إلى وقت معين فاكتبوا هذا الدين ، لأن في هذه الكتابة حفظاً له ، وضبطاً لمقداره ، ومنعاً للتنازع من أن يقع بينكم .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : هلا قيل : إذا تدانيتم إلى أجل مسمى ، وأي حاجة إلى ذكر الدين ؟ قلت : ذكر - لفظ الدين - ليرجع الضمير إليه في قوله : { فاكتبوه } إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال : فاكتبوا الدين ، فلم يكن النظم بذلك الحسن ، ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال . فإن قلت : ما فائدة قوله : { مُّسَمًّى } قلت : ليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوما كالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام . ولو قال : إلى الحصاد أو الدياس أو رجوع الحاج لم يجز لعدم التسمية " .
وجمهور العلماء على أن الأمر في قوله " فاكتبوه " للندب ، ولأن الله - تعالى - قد قال بعد ذلك { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ } ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزم الدائنين بكتابه ديونهم ، ولا المدنيني بأن يكتبوها .
وقال الظاهرية : إن الأمر هنا للوجوب ، ومن لم يفعل ذلك كان آتماً ، لأن الأصل في الأمر أنه للوجوب . .
وقوله : { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل } بيان لكيفية الكتابة المأمور بها وتعيين من يتولاها عقب الأمر بها على سبيل الإِجمال .
أي : عليكم أيها المؤمنون إذا تعاملتم بالدين إلى أجل معين أن تكتبوا هذا الدين ، وليتول الكتابة بينكم شخص يجيدها وعنده فقهها وعلمها ، بأن يكون على معرفة بشروط العقود وتوثيقها ، وما يكون من الشروط موافقاً لشريعة الإِسلام وما يكون منها غير موافق ، وعلى هذا الكاتب أن يلتزم الحق مع الدائن والمدين في كتابته ، لأن الله - تعالى - يقول : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } فالجملة الكريمة تحض المتعاملين بالدين أن يختاروا لكتابته شخصاً تتوفر فيه إجادة الكتابة ، والخبرة بشروط العقود وتوثيقها ، كما تتوفر فيه الاستقامة وتحري الحق . ومفعول ( يكتب ) محذوف ثقة بانفهامه أي وليكتب بينكم الكتابة كاتب بالعدل . والتقييد بالظرف بينكم للإِيذان بأنه ينبغي للكاتب ألا يسمح لنفسه بأن ينفرد به أحد المتعاقدين ، لأن في هذا الانفراد تهمة يجب أن يربأ بنفسه عنها .
والجار والمجرور وهو ( بالعدل ) متعلق بمحذوف صفة لكاتب أي : وليكن المتصدي للكتابة من شأنه أن يكتب بالسوية من غير ميل إلى أحد الجانبين . أو متعلق بالفعل يكتب . أي : وليكتب بالحق .
ثم نهى الله - تعالى - من كان قادراً على الكتابة عن الامتناع متى دعى إليها فقال :
{ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله فَلْيَكْتُبْ } .
أي : ولا يمتنع كاتب من أن يكتب للمتداينين ديونهما بالطريقة التي علمه الله إياها أن يتحرى بالعدل والحق في كتابته ، وأن يلتزم فيها ما تقتضيه أحكام الشريعة الإِسلامية .
فالكاف في قوله - تعالى - : { كَمَا عَلَّمَهُ الله } نعت لمصدر محذوف والتقدير : فليكتب كتابة مثل ما علمه الله - تعالى - بمعنى أن يلتزم الحق والعدل فيها .
ويجوز أن تكون الكاف للتعليل فيكون المعنى : لا يمتنع عن الكتابة لأنه كما علمه الله إياها ويسرها له ونفعه بها ، فعليه أن ينفع غيره بها ، فهو كقوله - تعالى - : { وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ } وفي الحديث الشريف " إن من الصدقة أن تعين صانعاً أو تصنع لأخرق " وفي حديث آخر : " من كتم علماً يعلمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة " .
وقوله : ( فليكتب ) تفريع على قوله " ولا يأب كاتب " أي : فليكتب الكتابة التي علمه الله إياها فهو توكيد للأمر المستفاد من قوله : { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ } . ويجوز أن يكون توكيداً للأمر الصريح في قوله : { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل } .
قال القرطبي : واختلف الناس في وجوب الكتابة على الكاتب والشهادة على الشاهد . فقال الطبريك : واجب على الكاتب إذا أمر أن يكتب . وقال الحسن : ذلك واجب عليه في الموضع الذي لا يقدر فيه على كاتب غيره فيضر صاحب الدين إن امتنع ، فإن كان كذلك فهو فريضة ، وإن قدر على كاتب غيره فهو في سعة إذا قام بها غيره " .
وإلى هنا تكون الآية الكريمة قد قررت مبدأ الكتابة في الدين ، وبينت كيفية الكتابة ، وأشارت إلى إجادة الكاتب لها ، ونهته عن الامتناع عنها إذا دعى إليها . ثم انتقلت الآية بعد ذلك إلى بيان من يتولى الإِملاء فقال - تعالى - : { وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } .
والإِملالل معناه الإِملاء . فهما لغتان معناهما واحد . وقد جاء القرآن باللغتين قال - تعالى - : { وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي : وعلى المدين الذي عليه الدين وقد التزم بأدائه أن يمل على الكاتب هذا الدين ، وذلك ليكون إملاؤه إقراراً به وبالحقوق التي عليه الوفاء بها . وعليه كذلك أن يراقب الله - تعالى - في إملائه فلا ينقص من الدين الذي عليه شيئاً ، لأن هذا الإِنقاص ظلم حرمه الله - تعالى - .
وقد أمر الله - تعالى - بأن يكون الذي يملي على الكاتب هو المدين لأنه هو المكلف بأداء مضمون الكتابة ، ولأنه بإملائه يكون قد أقر على نفسه بما عليه ، ولأنه لو أفلس الدائن فربما يزيد في الدين ، أو يملي شيئاً ليس محل اتفاق بينه وبين المدين ، ولأن المدين في الغالب في موقف ضعيف فأعطاه الله - تعالى - حق الإِملاء على الكاتب حتى لا يغبن من الدائن .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد مكن المدين من الإِملاء على الكاتب حتى تكون الكتابة تحت سمعه وبصره وباختياره ، ولكنه في الوقت نفسه أوجب عليه أمرين : تقوى الله وعدم الانقاص من الدين الذي عليه ، وإن ذلك لتشريع عادل حكيم لا ظلم فيه لا للدائن ولا للمدين .
ثم بين - سبحانه - الحكم فيما إذا كان الذي عليه الدين لا يحسن الإِملاء فقال - تعالى - : { فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق } وهو المدين { سَفِيهاً } أي جاهلا بالإِملاء أو ناقص العقل ، أو متلافاً مبذراً لا يحسن تدبير أمره " .
{ أَوْ ضَعِيفاً } بأن يكون صبياً أو شيخاً تقدمتبه الشيخوخة .
{ أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ } بأن يكون عيياً أو أخرس أو لا خبرة له بإملاء أمثال هذه المكاتبات .
{ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل } أي فعلى ولي أمره أو من يهمه شأنه ولا يرضى له أن يضيع حقه أن يتولى الإِملاء الحق والعدل فيما يكلف به .
وبعد هذا البيان الحكيم عن الكتابة وأحكامها في شأن الديون ، انتقل القرآن إلى الحديث عن الإِشهاد فقال - تعالى - : { واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ } أي : اطلبوا شاهدين عدلين من الرجال ليشهدوا على ما يجري بينكم من معاملات مؤجلة ، لأن هذا الإِشهاد يعطي الديون والكتابة توثيقاً وتثبيتاً ، والسين التاء في قوله : " واستشهدوا " للطلب .
قال الآلوسي : " وفي اختيار صيغة المبالغة في { شَهِيدَيْنِ } للإِيماء إلى من تكررت منه الشهادة ، فهو علام بها مقتدر على أدائها وكأن فيه رمزاً إلى العدالة ، لأنه لا يتكرر ذلك من الشخص عند الحكام إلا وهو مقبول عندهم ولعله لم يقل رجلين لذلك . والأمر للندب أو للوجوب على الخلاف على ذلك .
وقوله : { مِّن رِّجَالِكُمْ } متعلق بقوله : { واستشهدوا } ومن لابتداء الغاية ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف صفة لشهيدين ومن للتبعيض ، أي من رجالكم المسلمين الأحرار فإن الكلام في معاملتهم .
ثم بين - سبحانه - الحكم إذا لم يتيسر شاهدان من الرجال فقال : { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء } .
وقوله : { مِمَّن تَرْضَوْنَ } متعلق بمحذوف على أنه صفة لرجل وامرأتان . أي فإن لم يتيسر رجلان للشهادة فليشهد رجل وامرأتان كائنون مرضيون عندكم بعدالتهم .
وهذا الوصف وإن كان في جميع الشهود إلا أنه ذكر هنا للتشديد في اعتباره ، لأن اتصاف النساء به قد لا يتوفر كثيراً .
وقوله : { مِنَ الشهدآء } متلعق بمحذوف حال من الضمير المفعول المقدر في { تَرْضَوْنَ } العائد إلى الموصول : أي فليشهد رجل وامرأتان ممن ترضونهم حال كونهم من بعض الشهداء لعلمكم بعدالتهم ، وثقتكم بهم .
وقوله - تعالى - : { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء } أدق في الدالالة على صدق الشهادة من العدالة ، لأن الإِنسان العدل قد يكون مرضياً في دينه وخلقه ولكنه قد يتأثر بالمشاهد المؤثرة فتخونه ذاكرته في وقت الحاجة إليها ، أو قد يكون ممن يمنعه منصبه وجاهه ومقامه في الناس من الكذب إلا أنه قد يرتكب بعض المعاصي ، فجاء - سبحانه - بهذه الجملة الحكيمة لكي يقول للناس . اختاروا الشهداء من الذين يرتضي قولهم ، ويقيمون الشهادة على وجهها الحق بدون التأثر بأي نوع من أنواع المؤثرات .
هذا ، وشهادة النساء مع الرجال تجوز عند الحنفية في الأموال والطلاق والنكاح والرجعة وكل شيء إلا الحدود والقصاص . وعند المالكية تجوز في الأموال وتوابعها خاصة ، ولا تقبل في أحكام الأبدان مثل الحدود والقصاص والنكاح والطلاق والرجعة .
ثم بين - سبحانه - العلة في أن المرأتين تقومان مقام الرجل في الشهادة فقال : { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى } .
وقال القرطبي : معنى تضل تنسي ، والضلال عن الشهادة فإنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء ، ويبقى المرء حيران بين ذلك ضلالا " .
والمعنى : جعلنا المرأتين بدل رجل واحد في الشهادة ، خشية أن تنسى إحداهما فتذكر كل واحدة منهما الأخرى : إذ المرأة لقوة عاطفتها ، وشدة انفعالها بالحوادث ، قد تتوهم ما لم تر ، فكان من الحكمة أن يكون مع المرأة أخرى في الشهادة بحيث يتذكران الحق فيما بينهما .
والعلة في الحقيقة هي التذكير ، ولكن الضلال لما كان سبباص في التذكير ، نزل منزلة العلة .
وذلك كأن تقول : أعددت السلاح خشية أن يجيء العدو فأدفعه ، فإن العلة هي الدفاع عن النفس ، ولكن لما كان مجئ العدو سبباً فيه نزل منزلته .
وكما أمر الله - سبحانه - الكتاب في أول الآية بعدم الامتناع عن الكتابة أمر الشهود أيضاً بعدم الامتناع عن الشهادة فقال - تعالى - : { وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ } أي : ولا يمتنع الشهود عن أداء الشهادة وتحملها متى دعوا إليها ، لأن الامتناع عن تحمل الشهادة وأدائها قد يؤدي إلى ضياع الحقوق . والله - تعالى - قد شرع الشهادة لإِحقاق الحق ، ونشر العدل بين الناس ، فعلى من اشتهروا بالعدالة ووثق الناس بهم أن يؤدوا الشهادة كما أمرهم الله - تعالى- .
ثم أمر - سبحانه - بكتابه الدين سواء أكبر الدين أم صغر فقال : { وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ } .
السأم : الضجر والملل . يقال : سئمت الشيء أسأمه وسآمة أي مللته وضجرته .
والمعنى : وعليكم أيها المؤمنون أن لا تملوا من كتابة الدين إلى الوقت المحدد له سواء أكان هذا الدين كبيراً أم صغيراً ، لأن الكتابة في الحالتين أدعى إلى حفظ الحقوق وصيانتها ، وإلى عدم نشوب التنازع أو التخاصم بينكم ، ولأن الدين قد يكون صغيراً في نظر الغني المليء ، إلا أنه كبير في نظر الفقير المعسر ، ولأن التهاون في شأن الدين الصغير قد يؤدي إلى التهاون في شأن الدين الكبير ، لذا وجب عليكم أن تنقادوا لشرع الله وأن تكتبوا ما بينكم من ديون .
والضمير في قوله : { أَن تَكْتُبُوهُ } يعود إلى الدين أو إلى الحق ، وقولهك { صَغِيراً أَو كَبِيراً } حالان من الضمير . أي لا تسأموا أن تكتبوه على كل حال قليلا أو كثيراً ، وقدم الصغير على الكبير اهتماما به وانتقالا من الأدنى إلى الأعلى .
ثم بين - سبحانه - ثلاث فوائد تعود عليهم إذا ما امتثلوا ما أمرهم الله - تعالى - به ، فقال : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله } .
واسم الإِشارة { ذَلِكُمْ } يعود إلى كل ما سبق ذكره في الآية من الكتابة والإِشهاد ومن عدم الامتناع عنهما ، ومن تحرى الحق والعدل .
و { أَقْسَطُ } بمعنى أعدل : يقال : أقسط فلان في الحكم يقسط إقساطاً إذا عدل فهو مقسط .
قال - تعالى - : { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } ويقال : هو قاسط إذا جار وظلم . قال - تعالى - : { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } أي : ذلكم الذي شرعناه لكم في أمر الديون من لكتابة والإِشهاد وغيرهما أعدل في علم الله - تعالى - ، وكل ما كان كذلك فهو الأعدل والأفضل والأحكم في ذاته ، لأنه - سبحانه - هو الأعلم بما فيه مصلحتكم فاستجيبوا له ، وتلك هي الفائدة الأولى .
أما الفائدة الثانية فهي قوله - سبحانه - : { وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ } ومعنى { وَأَقْومُ } أبلغ في الاستقامة التي هي ضد الاعوجاج .
أي : أثبت لها وأعون على إقامتها وأدائها .
وأما الفائدة الثالثة فهي قوله : { وأدنى أَلاَّ ترتابوا } أي : أقرب إلى زوال الشك والريبة أي أن الأوامر والنواهي السابقة إذا نفذت على وجهها كان تنفيذها أعدل في علم الله - تعالى - وأعون على إقامة الشهادة إذ بها يتم الاعتماد على الحفظ ، وأقرب إلى عدم الشك في جنس الدين وقدره وأجله ، وإذا توفرت هذه الفوائد الثلاث في المعاملات ساد الوفاق والتعاون بين الناس ، أما إذا فقدت فإن الثقة تزول من بينهم ، ويحل محلها النزاع والشقاق .
ثم أباح - سبحانه - في التجارة الحاضرة عدم الكتابة فقال : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا } .
والتجارة الحاضرة التي تدور بين التجار : هي التي تجري فيها التقابض في المجلس أو التي يتأخر فيها الأداء زمنا يسيرا . وسميت حاضرة ، لأن المبيع والثمن كلاهما حاضر .
والمعنى : أن الله - تعالى - يأمركم بكتابة الديون وبالإِشهاد عليها إلا أنه - سبحانه - رحمة بكم أباح لكم عدم الكتابة في التجارة الحاضرة التي تكثرون إدارتها والتعامل فيها ، لأنه لو كلفكم بذلك لشق الأمر عليكم ، وهو - سبحانه - { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } ولأن أمثال هذه التجارات التي يحصل فيها التقابض ويكثر تكرارها ، لا يتوقع فيها التنازع أن أو النسيان .
والاستثناء هنا منقطع لأنه ليس هناك دين حتى يكتب ، وليست التجارة الحاضرة من جنس التعامل بالديون فكأنه قيل : إذا تداينتم فتكاتبوا وأشهدوا لكن التجارة الحاضرة التي يجري فيها التقابض لا جناح عليكم في عدم كتابتها .
وقيل : الاستثناء متصل والجملة المستثناة في موضع نصب لأنه استثناء من الجنس ، لأنه أمر بالكتابة في كل معاملة واستثنى منها التجارة الحاضرة والتقدير : آمركم بالكتابة والإِشهاد فثي كل معاملة إلا في حال حضور التجارة فلا بأس من ترك الكتابة . { تِجَارَةً } قرأها الجمهور بالرفع على أنها اسم تكون ، والخبر جملة { تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } . أو على أنها فاعل تكون إذا اعتبرناها تامة .
وقرأها عاصم بالنصب على أنها خبر تكون واسمها ضمير مستتر فيها يعود على التجارة .
أي : إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة .
وقوله - تعالى - : { وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } أمر منه - سبحانه - بالإِشهاد عند البيع ، وهذا الأمر للإِرشاد والتعليم عند جمهور العلماء . ويرى الظاهرية أنه للوجوب .
قال صاحب الكشاف : هذا أمر بالإِشهاد على التتابع مطلقا ناجزاً أو كالئا - أي مؤجلا - لأنه أحوط وأبعد مما عسى يعق من الاختلاف . ويجوز أن يراد : وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع . يعني التجارة الحاضرة على أن الإِشهاد كاف فيه دون الكتابة ، وعن الضحاك : هي عزيمة من الله ولو على باقة بقل .
ثم نهى - سبحانه - عن المضارة فقال : { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } .
والمضارة : إدخال الضرر . والفعل ( يضار ) يحتمل أن يكون مبنيا للفاعل ، وأن أصله " لا يضارر - بكسر الراء - ويحتمل أن يكون مبنيا للمفعول . وأن أصله لا يضارر بفتح الراء الأولى .
والمعنى على الأولى : نهى الكاتب والشاهد عن أن ينزلا ضرراص بأحد المتعاقدين ، بأن يبخس الكاتب أحدهما ، أو يشهد بغير الحق .
والمعنى على الثاني : وهو الظاهر - نهى الدائن والمدين عن أن ينزل أحدهما ضرراً بالكاتب أو الشاهد لحملهما على كتابة غير الحق أو قول غير الحق ، فإنهما أمينان ، والإِضرار بهما قد يحملهما على الخيانة وفي ذلك ضياع للأمانة وذهاب للثقة . ولذا قال - تعالى - بعد ذلك { وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } .
أي : وإن تفعلوا ما نهيتم عنه أو تخالفوا ما أمرتم به ، فإنكم بذلك تكونون قد خرجتم عن طاعة الله ، وتلبستم بمعصيته ، وصرت مأهلا لعقوبته ، فعليكم أن تقفوا عند حدود الله حتى تتحقق لكم السعادة في دينكم ودنياكم .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بالأمر بخشيته . وبتذكيرهم بنعمه فقال : { واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
أي : واتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه ، فهو - سبحانه - الذي يعلمكم ما يصلح لكم أمر دنياكم وما يصلح لكم أمر دينكم متى اتقيتموه واستجبتم له ، وهو - سبحانه - بكل شيء عليم لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء .
وبعد : فهذه هي آية الدين التي هي أطول آية في القرآن ، تقرؤها فتراها قد اشتملت على أدق التشريعات ، وأحكم التوجيهات ، وأنجع الإِرشادات التي تهدي إلى حفظ الحقوق وضبطها وتوثيقها بمختلف الوسائل .
تقرؤها فترى الدقة العجيبة في الصياغة بأن وضع كل لفظ في مكانه المناسب ، وترى الطلاوة في التعبير ، والعذوبة في الألفاظ بحيث لا تطغى دقة الصياغة على جمال العرض .
وترى الوفاء الكامل ، لكل الجوانب التشريعية والاحتراس التام من كل المؤثرات التي قد تؤثر على سلامة التعاقد ، والإِرشاد الجامع إلى كل ما يضمن وصول الحق والعدل إلى جميع الأطراف بدون محاباة أو غبن .
وترى قبل ذلك وبعد ذلك كيف يسوق القرآن تشريعاته بطريقة تغرس في النفوس الخوف من الله - تعالى - والمراقبة له ، والاستجابة لأوامره ، لا كطريقة البشر في قوانينهم التي صاغوها في قوالب صماء من الألفاظ لا تشعر معها بتأثير في النفس ، ولا باهتزاز في القلب .
ولو لم يكن في شريعة الله سوى هذا التأثير الذي تشعر به النفوس النقية الصافية عند تدبرها لكفاها ذلك دليلا على سموها وفضلها وعلى أنها من صنع الله - تعالى - ولو أن المسلمين أخذوا بها وبتوجيهاتها في سائر شئونهم لظفروا بالسعادتين : الدينية والدنيوية .
{ يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الّذِي عَلَيْهِ الْحَقّ وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الّذِي عَلَيْهِ الْحَقّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ فَإِن لّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشّهَدَآءِ أَن تَضِلّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الاُخْرَىَ وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوَاْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَىَ أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشّهَادَةِ وَأَدْنَىَ أَلاّ تَرْتَابُوَاْ إِلاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوَاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتّقُواْ اللّهَ وَيُعَلّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله { إذَا تَدَايَنْتُمْ } يعني إذا تبايعتم بدين أو اشتريتم به ، أو تعاطيتم ، أو أخذتم به { إلى أَجَلٍ مُسَمّى } يقول : إلى وقت معلوم وقتموه بينكم . وقد يدخل في ذلك القرض والسلم في كل ما جاز . السلم شرى أجّل بيعه يصير دينا على بائع ما أسلم إليه فيه ، ويحتمل بيع الحاضر الجائز بيعه من الأملاك بالأثمان المؤجلة كل ذلك من الديون المؤجلة إلى أجل مسمّى إذا كانت آجالها معلومة بحدّ موقوف عليه . وكان ابن عباس يقول : نزلت هذه الآية في السلم خاصة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن عيسى الرملي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، قال : قال ابن عباس في : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلً مُسَمّى } قال : السلم في الحنطة في كيل معلوم إلى أجل معلوم .
حدثني محمد بن عبد الله المخرمي ، قال : حدثنا يحيى بن الصامت ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن أبي حيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن ابن عباس : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ } قال : نزلت في السلم في كيل معلوم إلى أجل معلوم .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا يزيد بن أبي الزرقاء ، عن سفيان ، عن أبي حيان ، عن رجل ، عن ابن عباس ، قال : نزلت هذه الآية : { إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمّى فاكْتُبُوهُ } في السلم في الحنطة في كيل معلوم إلى أجل معلوم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن محبب ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حيان التيمي ، عن رجل ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمّى } في السلف في الحنطة في كيل معلوم إلى أجل معلوم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : ثني أبي ، عن قتادة ، عن أبي حيان ، عن ابن عباس ، قال : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله عزّ وجلّ قد أحله ، وأذن فيه . ويتلو هذه الآية : { إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمّى } .
فإن قال قائل : وما وجه قوله : { بِدَيْنٍ } وقد دلّ بقوله : { إذَا تَدَايَنْتُمْ } عليه ؟ وهل تكون مداينة بغير دين ، فاحتيج إلى أن يقال بدين ؟ قيل : إن العرب لما كان مقولاً عندها تداينا بمعنى تجازينا وبمعنى تعاطينا الأخذ والإعطاء بدين ، أبان الله بقوله «بدين » المعنى الذي قصد تعريفه من قوله «تداينتم » حكمه ، وأعلمهم أنه حكم الدين دون حكم المجازاة .
وقد زعم بعضهم أن ذلك تأكيد كقوله : { فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلّهُمْ أجْمَعُونَ } . ولا معنى لما قال من ذلك في هذا الموضع .
القول في تأويل قوله تعالى : { فاكتُبُوهُ } .
يعني جل ثناؤه بقوله : { فاكْتُبُوهُ } فاكتبوا الدّين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى من بيع كان ذلك أو قرض .
واختلف أهل العلم في اكتتاب الكتاب بذلك على من هو عليه ، هل هو واجب أو هو ندب ؟ فقال بعضهم : هو حقّ واجب ، وفرض لازم . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مسَمّى فاكْتُبُوهُ } قال : من باع إلى أجل مسمى أمر أن يكتب صغيرا كان أو كبيرا إلى أجل مسمى .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مَسَمّى فاكْتُبُوهُ } قال : فمن ادّان دينا فليكتب ، ومن باع فليشهد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمّى فاكْتُبُوهُ } فكان هذا واجبا .
وحدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بمثله ، وزاد فيه : قال : ثم قامت الرخصة والسعة . قال : { فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْيُؤَدّ الّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ } .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن أبا سليمان المرعشي كان رجلاً صحب كعبا فقال ذات يوم لأصحابه : هل تعلمون مظلوما دعا ربه فلم يستجب له ؟ قالوا : وكيف يكون ذلك ؟ قال : رجل باع شيئا فلم يكتب ولم يُشهد ، فلما حلّ ماله جحده صاحبه ، فدعا ربه ، فلم يستجب له ، لأنه قد عصى ربه .
وقال آخرون : كان اكتتاب الكتاب بالدين فرضا ، فنسخه قوله : { فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْيُؤدّ الّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ } . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن ابن شبرمة ، عن الشعبي ، قال : لا بأس إذا أمنته أن لا تكتب ، ولا تُشهد¹ لقوله : { فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا } . قال ابن عيينة : قال ابن شبرمة عن الشعبي : إلى هذا انتهى .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن عامر في هذه الآية : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمّى فاكْتُبُوهُ } حتى بلغ هذا المكان : { فإنْ أمِنْ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْيُؤَدّ الّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ } قال : رخص في ذلك ، فمن شاء أن يأتمن صاحبه فليأتمنه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن عمرو ، عن عاصم ، عن الشعبي ، قال : إن ائتمنه فلا يشهد عليه ولا يكتب .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي قال : فكانوا يرون أن هذه الآية : { فإنْ أمِنَ بَعضُكُمْ بَعْضا } نسخت ما قبلها من الكتابة والشهود رخصة ورحمة من الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال غير عطاء : نسخت الكتاب والشهادة : { فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا } .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : نسخ ذلك قوله : { فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْيؤدّ الّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ } قال : فلولا هذا الحرف لم يبح لأحد أن يدّان بدين إلا بكتاب وشهداء ، أو برهن ، فلما جاءت هذه نسخت هذا كله ، صار إلى الأمانة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سليمان التيمي ، قال : سألت الحسن قلت : كل من باع بيعا ينبغي له أن يُشهد ؟ قال : ألم تر أن الله عزّ وجلّ يقول : { فَلْيُؤَدّ الّذِي اؤتُمِنَ أمانَتَهُ } .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن عامر في هذه الآية : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمّى فَاكْتُبُوهُ } حتى بلغ هذا المكان : { فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْيُؤَدّ الّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ } قال : رخص في ذلك ، فمن شاء أن يأتمن صاحبه فليأتمنه .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي في قوله : { فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا } قال : إن أشهدت فحزم ، وإن لم تشهد ففي حلّ وسعة .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، قال : قلت للشعبي : أرأيت الرجل يستدين من الرجل الشيء ، أحتم عليه أن يشهد ؟ قال : فقرأ إلى قوله : { فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا } قد نسخ ما كان قبله .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا محمد بن مروان العقيلي ، قال : حدثنا عبد الملك بن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري ، أنه قرأ : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمّى } قال : فقرأ إلى : { فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا } قال : هذه نسخت ما قبلها .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بالعَدْلِ وَلا يأْبَ كَاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلّمَهُ اللّهُ } .
يعني بذلك جل ثناؤه : { ولْيَكْتُبْ } كتاب الدين إلى أجل مسمى بين الدائن والمدين { كاتِبٌ بالعَدْلِ } يعني بالحقّ والإنصاف في الكتاب الذي يكتبه بينهما ، بما لا يحيف ذا الحقّ حقه ، ولا يبخسه ، ولا يوجب له حجة على من عليه دينه فيه بباطل ، ولا يلزمه ما ليس عليه . كما :
حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : { وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بالعَدْلِ } قال : اتقى الله كاتب في كتابه ، فلا يدعنّ منه حقا ، ولا يزيدنّ فيه باطلاً .
وأما قوله : { وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَما عَلّمَهُ اللّهُ } فإنه يعني : ولا يأبينّ كاتب استكتب ذلك أن يكتب بينهم كتاب الدين ، كما علمه الله كتابته فخصه بعلم ذلك ، وحرمه كثيرا من خلقه .
وقد اختلف أهل العلم في وجوب الكتاب على الكاتب إذا استكتب ذلك نظير اختلافهم في وجوب الكتاب على الذي له الحقّ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : { وَلا يَأْبَ كاتِبٌ } قال : واجب على الكاتب أن يكتب .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء قوله : { وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ } أواجب أن لا يأبى أن يكتب ؟ قال : نعم . قال ابن جريج وقال مجاهد : واجب على الكاتب أن يكتب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : { وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَما عَلّمَهُ اللّهُ } بمثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر وعطاء قوله : { وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كمَا عَلّمَهُ اللّهُ } قالا : إذا لم يجدوا كاتبا فدعيت فلا تأب أن تكتب لهم .
ذكر من قال هي منسوخة . قد ذكرنا جماعة ممن قال : كل ما في هذه الآية من الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن منسوخ بالآية التي في آخرها ، وأذكر قول من تركنا ذكره هنالك ببعض المعاني :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { وَلاَ يَأْبَ كاتِبٌ } قال : كانت عزيمة فنسختها : { وَلا يُضَارّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلّمَهُ اللّهُ } فكان هذا واجبا على الكتّاب .
وقال آخرون : هو على الوجوب ، ولكنه واجب على الكاتب في حال فراغه . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : { وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بالعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كمَا عَلّمَهُ اللّهُ } يقول : لا يأب كاتب أن يكتب إن كان فارغا .
والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن الله عزّ وجلّ أمر المتداينين إلى أجل مسمى باكتتاب كتب الدين بينهم ، وأمر الكاتب أن يكتب ذلك بينهم بالعدل ، وأمر الله فرض لازم ، إلا أن تقوم حجة بأنه إرشاد وندب . ولا دلالة تدلّ على أن أمره جل ثناؤه باكتتاب الكتب في ذلك ، وأن تقدمه إلى الكاتب أن لا يأبى كتابة ذلك ندب وإرشاد ، فذلك فرض عليهم لا يسعهم تضييعه ، ومن ضيعه منهم كانَ حَرِجا بتضييعه .
ولا وجه لاعتلال من اعتلّ بأن الأمر بذلك منسوخ بقوله : { فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْيُؤَدّ الّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ } لأن ذلك إنما أذن الله تعالى ذكره به ، حيث لا سبيل إلى الكتاب ، أو إلى الكاتب فأما والكتاب والكاتب موجودان ، فالفرض إذا كان الدّين إلى أجل مسمى ما أمر الله تعالى ذكره به في قوله : { فاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَما عَلّمَهُ اللّهُ } . وإنما يكون الناسخ ما لم يجز اجتماع حكمه وحكم المنسوخ في حال واحدة على السبيل التي قد بيناها ، فأما ما كان أحدهما غير ناف حكم الاَخر ، فليس من الناسخ والمنسوخ في شيء .
ولو وجب أن يكون قوله : { وَإنْ كُنْتُمْ على سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِبا فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْيُؤَدّ الّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ } ناسخا قوله : { إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمّى فاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كمَا عَلّمَهُ اللّهُ } ، لوجب أن يكون قوله : { وَإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ عَلى سَفَرٍ أوْ جاءَ أحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغائِطِ أوْ لامَسْتُمُ النّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءًا فَتَيَمّمُوا صَعِيدا طَيّبا } ناسخا الوضوء بالماء في الحضر عند وجود الماء فيه ، وفي السفر الذي فرضه الله عزّ وجلّ بقوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلى الصّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ } وأن يكون قوله في كفارة الظهار : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } ناسخا قوله : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أنْ يَتَماسّا } . فيسأل القائل إن قول الله عزّ وجلّ : { فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْيُؤَدّ الّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ } ناسخ قوله : { إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْظنٍ إلى أجَلٍ مُسَمّى فَاكْتُبُوهُ } ما الفرق بينه وبين القائل في التيمم وما ذكرنا قوله ، فزعم أن كل ما أبيح في حال الضرورة لعلة الضرورة ناسخ حكمه في حال الضرورة حكمه في كل أحواله ، نظير قوله في أن الأمر باكتتاب كتْب الديون والحقوق منسوخ بقوله : { وَإنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِبا فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْيُؤَدّ الّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ } ؟
فإن قال : الفرق بيني وبينه أن قوله : { فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا } كلام منقطع عن قوله : { وَإنْ كُنْتُمْ على سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِبا فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ } وقد انتهى الحكم في السفر إذا عدم فيه الكاتب بقوله : { فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ } . وإنما عنى بقوله : { فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا } إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى ، فأمن بعضكم بعضا ، فليؤد الذي اؤتمن أمانته . قيل له : وما البرهان على ذلك من أصل أو قياس وقد انقضى الحكم في الدين الذي فيه إلى الكاتب والكتاب سبيل بقوله : { وَيُعَلّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ؟ وأما الذين زعموا أن قوله : { فَاكْتُبُوهُ } وقوله : { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ } على وجه الندب والإرشاد ، فإنهم يسألون البرهان على دعواهم في ذلك ، ثم يعارضون بسائر أمر الله عز وجلّ الذي أمر في كتابه ، ويسألون الفرق بين ما ادّعوا في ذلك وأنكروه في غيره ، فلن يقولوا في شيء من ذلك قولاً إلا ألزموا بالاَخر مثله .
ذكر من قال العدل في قوله : { وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بالعَدْلِ } الحقّ .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الّذِي عَلَيْهِ الحَقّ وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئا } .
يعني بذلك : فليكتب الكاتب ، وليملل الذي عليه الحقّ ، وهو الغريم المدين . يقول : ليتولّ المدين إملال كتاب ما عليه من دين ربّ المال على الكاتب ، وليتّق الله ربه المملي الذي عليه الحقّ ، فليحذر عقابه في بخس الذي له الحقّ من حقه شيئا ، أن ينقصه منه ظلما ، أو يذهب به منه تعديّا ، فيؤخذ به حيث لا يقدر على قضائه إلا من حسناته ، أو أن يتحمل من سيئاته . كما :
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الّذِي عَلَيْهِ الحَقّ } فكان هذا واجبا ، { وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئا } يقول : لا يظلم منه شيئا .
حدثني ونس ، قل : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيئا } قال : لا ينقص من حقّ هذا الرجل شيئا إذا أملى .
القول في تأويل قوله تعالى : { فإن كانَ الّذِي عَلَيْهِ الحَقّ سَفِيها أوْ ضَعِيفا أوْ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيّهُ بالعَدْلِ } . يعني بقوله جل ثناؤه : { فإنْ كانَ الّذِي عَلَيْهِ الحَقّ سَفِيها أوْ ضَعِيفا } فإن كان المدين الذي عليه المال سفيها ، يعني جاهلاً بالصواب في الذي عليه أن يمله على الكاتب . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { فإنْ كانَ الّذِي عَلَيْهِ الحَقّ سَفِيها } أما السفيه : فالجاهل بالإملاء والأمور .
وقال آخرون : بل السفيه في هذا الموضع الذي عناه الله : الطفل الصغير . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { فإنْ كانَ الّذِي عَلَيْهِ الحَقّ سَفِيها } أما السفيه : فهو الصغير .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : { فإنْ كانَ الّذِي عَلَيْهِ الحَقّ سَفِيها أوْ ضَعْيفا } قال : هو الصبيّ الصغير ، { فَلْيُمْلِلْ وَلِيّهُ بالعَدْلِ } .
وأولى التأويلين بالآية ، تأويل من قال : السفيه في هذا الموضع : الجاهل بالإملاء وموضع صواب ذلك من خطئه ، لما قد بينا قبل من أن معنى السفه في كلام العرب : الجهل .
وقد يدخل في قوله : { فإنْ كانَ الّذِي عَلَيْهِ الحَقّ سَفِيها } كل جاهل بصواب ما يملّ من خطئه من صغير وكبير ، وذكر وأنثى . غير أن الذي هو أولى بظاهر الآية أن يكون مرادا بها كل جاهل بموضع خطأ ما يمل وصوابه من بالغي الرجال الذين لا يولى عليهم ، والنساء¹ لأنه أجل ذكره ابتدأ الآية بقوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَيّنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمّى } والصبيّ ومن يولى عليه لا يجوز مداينته ، وأن الله عزّ وجلّ قد استثنى من الذين أمرهم بإملال كتاب الدين مع السفيه الضعيف ومن لا يستطيع إملاله ، ففي فصله جل ثناؤه الضعيف من السفيه ومن لا يستطيع إملاء الكتاب في الصفة التي وصف بها كل واحد منهم ما أنبأ عن أن كل واحد من الأصناف الثلاثة الذين بين الله صفاتهم غير الصنفين الاَخرين . وإذا كان ذلك كذلك ، كان معلوما أن الموصوف بالسفه منهم دون الضعف هو ذو القوّة على الإملال ، غير أنه وضع عنه فرض الإملال بجهله بموضع صواب ذلك من خطئه ، وأن الموصوف بالضعف منهم هو العاجر عن إملاله وإن كان شديدا رشيدا إما لعيّ لسانه أو خرس به ، وأن الموصوف بأنه لا يستطيع أن يمل هو الممنوع من إملاله ، إما بالحبس الذي لا يقدر معه على حضور الكاتب الذي يكتب الكتاب فيمل عليه ، وإما لغيبته عن موضع الإملال فهو غير قادر من أجل غيبته عن إملال الكتاب . فوضع الله عنهم فرض إملال ذلك للعلل التي وصفنا إذا كانت بهم ، وعذرهم بترك الإملال من أجلها ، وأمر عند سقوط فرض ذلك عليهم ولي الحقّ بإملاله فقال : { فإنْ كانَ الّذِي عَلَيْهِ الحَقّ سَفِيها أوْ ضَعِيفا أوْ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيّهُ بالعَدْلِ } يعني وليّ الحقّ .
ولا وجه لقول من زعم أن السفيه في هذا الموضع هو الصغير ، وأن الضعيف هو الكبير الأحمق¹ لأن ذلك إن كان كما قال يوجب أن يكون قوله : { أوْ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلّ هُوَ } هو العاجز من الرجال العقلاء الجائزي الأمر في أموالهم وأنفسهم عن الإملال ، إما لعلة بلسانه من خرس أو غيره من العلل ، وإما لغيبته عن موضع الكتاب . وإذا كان ذلك كذلك معناه ، بطل معنى قوله : { فَلْيُمْلِلْ وَلِيّهُ بالعَدْلِ } لأن العاقل الرشيد لا يولّى عليه في ماله وإن كان أخرس أو غائبا ، ولا يجوز حكم أحد في ماله إلا بأمره . وفي صحة معنى ذلك ما يقضي على فساد قول من زعم أن السفيه في هذا الموضع هو الطفل الصغير أو الكبير الأحمق . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { فإنْ كانَ الّذِي عَلَيْهِ الحَقّ سَفِيها أوْ ضَعِيفا أوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيّهُ بالعَدْلِ } يقول : وليّ الحق .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { فإنْ كانَ الّذِي عَلَيْهِ الحَقّ سَفِيها أوْ ضَعِيفا أو لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيّهُ بالعَدْلِ } قال : يقول : إن كان عجز عن ذلك أملّ صاحب الدين بالعدل .
ذكر الرواية عمن قال : عنى بالضعيف في هذا الموضع : الأحمق . وبقوله : { فَلْيُمْلِلْ وَلِيّهُ بالعَدْلِ } وليّ السفيه والضعيف .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { فإنْ كانَ الّذِي عَلَيْهِ الحَقّ سَفِيها أوْ ضَعِيفا أوْ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلّ هُوَ } قال : أمر وليّ السفيه أو الضعيف أن يملّ بالعدل .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما الضعيف ، فهو الأحمق .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أما الضعيف فالأحمق .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { فإنْ كانَ الّذِي عَلَيْهِ الحَقّ سَفِيها أوْ ضَعِيفا } لا يعرف فيثبت لهذا حقه ويجهل ذلك ، فوليه بمنزلته حتى يضع لهذا حقه .
وقد دللنا على أولى التأويلين بالصواب في ذلك . وأما قوله : { فَلْيُمْلِلْ وَلِيّهُ بالعَدْلِ } فإنه يعني بالحقّ .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } .
يعني بذلك جل ثناؤه : ( واستشهدوا على حقوقكم شاهدين ، يقال : فلان شهيدي على هذا المال وشاهدي عليه . وأما قوله : { مِنْ رِجالِكُمْ } فإنه يعني من أحراركم المسلمين دون عبيدكم ، ودون أحراركم الكفار . ) كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَاسْتَشْهَدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكُمْ } قال : الأحرار .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا علي بن سعيد ، عن هشيم ، عن داود بن أبي هند ، عن مجاهد ، مثله .
القول في تأويل قوله تعالى : { فإنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأتانِ مِمّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشّهَدَاءِ } .
( يعني بذلك جل ثناؤه : فإن لم يكونا رجلين ، فليكن رجل وامرأتان على الشهادة . ورفع الرجل والمرأتان بالرد على الكون ، وإن شئت قلت : فإن لم يكونا رجلين فليشهد رجل وامرأتان على ذلك ، وإن شئت فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان يشهدون عليه¹ وإن قلت : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان كان صوابا كل ذلك جائز ، ولو كان فرجل وامرأتان نصبا كان جائزا على تأويل : فإن لم يكونا رجلين ، فاستشهدوا رجلاً وامرأتين . وقوله : { مِمّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشّهَدَاءِ } يعني من العدول المرتضى دينهم وصلاحهم . ) كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ } يقول في الدين ، { فَإنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأتانِ } وذلك في الدين ممن ترضون من الشهداء . يقول : عدول .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } أمر الله عز وجل أن يشهدوا ذوي عدل من رجالهم ، { فإنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأتانِ مِمّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشّهَدَاءِ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { أنْ تَضِلّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى } .
اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأ عامة أهل الحجاز والمدينة وبعض أهل العراق : { أنْ تَضِلّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إحْدَاهُما الأُخْرَى } بفتح الألف من «أن » ونصب «تضل » و«تذكّر » ، بمعنى : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان كي تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت . وهو عندهم من المقدّم الذي معناه التأخير لأن التذكير عندهم هو الذي يجب أن يكون مكان تضل ، لأن المعنى ما وصفنا في قولهم . وقالوا : إنما نصبنا «تذكر » ، لأن الجزاء لما تقدم اتصل بما قبله فصار جوابه مردودا عليه ، كما تقول في الكلام : إنه ليعجبني أن يسأل السائل فيعطَى ، بمعنى أنه ليعجبني أن يعطى السائل إن سأل أو إذا سأل ، فالذي يعجبك هو الإعطاء دون المسألة . ولكن قوله «أن يسأل » لما تقدم اتصل بما قبله ، وهو قوله : «ليعجبني » فتح «أن » ونصب بها ، ثم أتبع ذلك قوله : «يُعْطَى » ، فنصبه بنصب قوله : «ليعجبني أن يسأل » ، نسقا عليه ، وإن كان في معنى الجزاء .
وقرأ ذلك آخرون كذلك ، غير أنهم كانوا يقرءونه بتسكين الذال من «تُذْكِرَ » وتخفيف كافها . وقارئو ذلك كذلك مختلفون فيما بينهم في تأويل قراءتهم إياه كذلك . وكان بعضهم يوجهه إلى أن معناه : فتصير إحداهما الأخرى ذكرا باجتماعهما ، بمعنى أن شهادتها إذا اجتمعت وشهادة صاحبتها جازت ، كما تجوز شهادة الواحد من الذكور في الدين ، لأن شهادة كل واحدة منهما منفردة غير جائزة فيما جازت فيه من الديون إلا باجتماع اثنتين على شهادة واحد ، فتصير شهادتهما حينئذ منزلة شهادة واحد من الذكور . فكأن كل واحدة منهما في قول متأولي ذلك بهذا المعنى صيرت صاحبتها معها ذكرا وذهب إلى قول العرب : لقد أذكرت بفلان أمّه ، أي ولدته ذكرا ، فهي تُذْكِرُ به ، وهي امرأة مذكرة إذا كانت تلد الذكور من الأولاد . وهذا قول يروى عن سفيان بن عيينة أنه كان يقوله .
حدثت بذلك عن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه قال : حُدثت عن سفيان بن عيينة أنه قال : ليس تأويل قوله : { فَتُذَكّرَ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى } من الذّكْرِ بعد النسيان إنما هو من الذّكَر ، بمعنى أنها إذا شهدت مع الأخرى صارت شهادتهما كشهادة الذكر .
وكان آخرون منهم يوجهونه إلى أنه بمعنى الذكر بعد النسيان .
وقرأ ذلك آخرون : «إنْ تَضِلّ إحْدَاهُمَا فَتذَكّرُ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى » بكسر «إن » من قوله : «إنْ تَضِلّ » ورفع «تُذَكّرُ » وتشديده . كأنه بمعنى ابتداء الخبر عما تفعل المرأتان ، إن نسيت إحداهما شهادتهما تذكرها الأخرى من تثبيت الذاكرة الناسية وتذكيرها ذلك ، وانقطاع ذلك عما قبله .
ومعنى الكلام عند قارىء ذلك كذلك : واستشهدوا شهيدين من رجالكم ، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ، فإن إحداهما إن ضلت ذكرتها الأخرى على استئناف الخبر عن فعلها إن نسيت إحداهما شهادتها من تذكير الأخرى منهما صاحبتها الناسية . وهذه قراءة كان الأعمش يقرؤها ومن أخذها عنه . وإنما نصب الأعمش «تضلّ » لأنها في محل جزم بحرف الجزاء ، وهو «إنْ » . وتأويل الكلام على قراءته : إن تَضْلِلْ ، فلما اندغمت إحدى اللامين في الأخرى حركها إلى أخفّ الحركات ورفع تذكر بالفاء ، لأنه جواب الجزاء .
والصواب من القراءة عندنا في ذلك قراءة من قرأه بفتح «أن » من قوله : { أنْ تَضِلّ إحْدَاهُمَا } وبتشديد الكاف من قوله : { فَتُذَكّرَ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى } ونصب الراء منه ، بمعنى : فإن لم يكونا رجلين فليشهد رجل وامرأتان كي إن ضلت إحداهما ذكرتها الأخرى . وأما نصب «فتذكر » فبالعطف على «تضلّ » ، وفتحت «أن » بحلولها محل «كي » ، وهي في موضع جزاء ، والجواب بعده اكتفاءً بفتحها ، أعني بفتح «أن » من «كي » ونسق الثاني ، أعني «فتذكر » على «تضلّ » ، ليعلم أن الذي قام مقام ما كان يعمل فيه وهو ظاهر قد دلّ عليه وأدّى عن معناه وعمله ، أي عن «كي » . وإنما اخترنا ذلك في القراءة لإجماع الحجة من قدماء القراء والمتأخرين على ذلك ، وانفراد الأعمش ومن قرأ قراءته في ذلك بما انفرد به عنهم ، ولا يجوز ترك قراءة جاء بها المسلمون مستفيضة بينهم إلى غيرها . وأما اختيارنا «فتذكّر » بتشديد الكاف ، فإنه بمعنى تأدية الذكر من إحداهما على الأخرى وتعريفها بإنهاء ذلك لتذكر ، فالتشديد به أولى من التخفيف .
وأما ما حكي عن ابن عيينة من التأويل الذي ذكرناه ، فتأويل خطأ لا معنى له لوجوه شتى : أحدها : أنه خلاف لقول جميع أهل التأويل . والثاني : أنه معلوم بأن ضلال إحدى المرأتين في الشهادة التي شهدت عليها إنما هو خطوها عنها بنسيانها إياها كضلال الرجل في دينه إذا تحير فيه ، فعدل عن الحقّ ، وإذا صارت إحداهما بهذه الصفة فكيف يجوز أن تصير الأخرى ذكرا معها مع نسيانها شهادتها وضلالها فيها ؟ فالضالة منهما في شهادتها حينئذ لا شك أنها إلى التذكير أحوج منها إلى الإذكار ، إلا إن أراد أن الذاكرة إذا ضعفت صاحبتها عن ذكر شهادتها ستجرئها على ذكر ما ضعفت عن ذكره فنسيته ، فقوّتها بالذكر حتى صيرتها كالرجل في قوّتها في ذكر ما ضعفت عن ذكره من ذلك ، كما يقال للشيء القويّ في عمله : ذكر ، وكما يقال للسيف الماضي في ضربه : سيف ذكر ، ورجل ذكر ، يراد به ماض في عمله ، قويّ البطش ، صحيح العزم . فإن كان ابن عيينة هذا أراد ، فهو مذهب من مذاهب تأويل ذلك ؟ إلا أنه إذا تأوّل ذلك كذلك ، صار تأويله إلى نحو تأويلنا الذي تأوّلناه فيه ، وإن خالفت القراءة بذلك المعنى القراءة التي اخترناها بأن تغير القراءة حينئذ الصحيحة بالذي اختار قراءته من تخفيف الكاف من قوله : فتذكر ، ولا نعلم أحدا تأوّل ذلك كذلك ، ويستحبّ قراءته كذلك بذلك المعنى . فالصواب في قوله إذ كان الأمر عاما على ما وصفنا ما اخترنا . )
ذكر من تأوّل قوله : { أنْ تَضِلّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُما الأُخْرَى } نحو تأويلنا الذي قلنا فيه :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأتَانِ مِمّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشّهَدَاءِ أنْ تَضِلّ إحداهما فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى } علم الله أن ستكون حقوق ، فأخذ لبعضهم من بعض الثقة ، فخذوا بثقة الله ، فإنه أطوع لربكم ، وأدرك لأموالكم . ولعمري لئن كان تقيا لا يزيده الكتاب إلا خيرا ، وإن كان فاجرا فبالحَري أن يؤدي إذا علم أن عليه شهودا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { أنْ تَضِلّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى } يقول : أن تنسى إحداهما فتذكرها الأخرى .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { أنْ تَضِلّ إِحْدَاهُمَا } يقول : تنسى إحداهما الشهادة فتذكرها الأخرى .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { أنْ تَضِلّ إحْدَاهُما } يقول : إن تنس إحداهما ، تذكرها الأخرى .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { أنْ تَضِلّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إحْدَاهُما الأُخْرَى } قال : كلاهما لغة وهما سواء ، ونحن نقرأ : { فَتُذَكّرَ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا ما دُعُوا } .
اختلف أهل التأويل في الحال التي نهى الله الشهداء عن إباء الإجابة إذا دعوا بهذه الآية ، فقال بعضهم : معناه : لا يأب الشهداء أن يجيبوا إذا دعوا ليشهدوا على الكتاب والحقوق . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله تعالى : { وَلاَ يَأْبَ الشهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } كان الرجل يطوف في الحِوَاء العظيم فيه القوم ، فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتبعه أحد منهم . قال : وكان قتادة يتأوّل هذه الآية : { ولا يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذا ما دعُوا } ليشهدوا لرجل على رجل .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } قال : كان الرجل يطوف في القوم الكثير يدعوهم ليشهدوا ، فلا يتبعه أحد منهم ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { وَلا يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } قال : لا تأب أن تشهد إذا ما دعيت إلى شهادة .
وقال آخرون بمثل معنى هؤلاء ، إلا أنهم قالوا : يجب فرض ذلك على من دعي للإشهاد على الحقوق إذا لم يوجد غيره ، فأما إذا وجد غيره فهو في الإجابة إلى ذلك مخير إن شاء أجاب وإن شاء لم يجب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا سفيان ، عن جابر ، عن الشعبي ، قال : { لاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } قال : إن شاء شهد ، وإن شاء لم يشهد ، فإذا لم يوجد غيره شهد .
وقال آخرون : معنى ذلك : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا للشهادة على من أراد الداعي إشهاده عليه ، والقيام بما عنده من الشهادة من الإجابة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا أبو عامر ، عن الحسن : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } قال : قال الحسن : الإقامة والشهادة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر في قوله : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } قال : كان الحسن يقول : جمعت أمرين لا تأب إذا كانت عندك : شهادة أن تشهد ، ولا تأب إذا دعيت إلى شهادة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : { وَلا يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } يعني من احتيج إليه من المسلمين شهد على شهادة إن كانت عنده ، ولا يحلّ له أن يأبى إذا ما دعي .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن يونس ، عن الحسن : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } قال : لإقامتها ، ولا يبذأ بها إذا دعاه ليشهده ، وإذا دعاه ليقيمها .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا للقيام بالشهادة التي عندهم للداعي من إجابته إلى القيام بها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } قال : إذا شهد .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } قال : إذا كانوا قد شهدوا قبل ذلك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } يقول : إذا كانوا قد أشهدوا .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } قال : إذا كانت عندك شهادة فدعيت .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا ليث ، عن مجاهد في قوله : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دَعُوا } قال : إذا كانت شهادة فأقمها ، فإذا دعيت لتشهد ، فإن شئت فاذهب ، وإن شئت فلا تذهب .
حدثنا سوار بن عبد الله ، قال : حدثنا عبد الملك بن الصباح ، عن عمران بن حدير ، قال : قلت لأبي مجلز : ناس يدعونني لأشهد بينهم ، وأنا أكره أن أشهد بينهم ؟ قال : دع ما تكره ، فإذا شهدت فأجب إذا دعيت .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عامر ، قال : الشاهد بالخيار ما لم يشهد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا هشيم ، عن يونس ، عن عكرمة في قوله : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } قال : لإقامة الشهادة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن أبي عامر ، عن عطاء قال : في إقامة الشهادة .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا أبو عامر المزني ، قال : سمعت عطاء يقول : ذلك في إقامة الشهادة ، يعني قوله : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو حرّة ، أخبرنا عن الحسن أنه سأله سائل قال : أدعى إلى الشهادة وأنا أكره أن أشهد عليها ؟ قال : فلا تجب إن شئت .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، قال : سألت إبراهيم قلت : أدعى إلى الشهادة وأنا أخاف أن أنسى ؟ قال : فلا تشهد إن شئت .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا أبو عامر ، عن عطاء ، قال : للإقامة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن شريك ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } قال : إذا كانوا قد شهدوا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } قال : هو الذي عنده الشهادة .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } يقول : لا يأب الشاهد أن يتقدم فيشهد إذا كان فارغا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : { وَلاَ يأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } ؟ قال : هم الذين قد شهدوا . قال : ولا يضرّ إنسانا أن يأبى أن يشهد إن شاء . قلت لعطاء : ما شأنه ؟ إذا دعي أن يكتب وجب عليه أن لا يأبى ، وإذا دعي أن يشهد لم يجب عليه أن يشهد إن شاء ؟ قال : كذلك يجب على الكاتب أن يكتب ، ولا يجب على الشاهد أن يشهد إن شاء¹ الشهداء كثير .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } قال : إذا شهد فلا يأب إذا دعي أن يأتي يؤدي شهادة ويقيمها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ } قال : كان الحسن يتأوّلها إذا كانت عنده شهادة دعي ليقيمها .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } قال : إذا كتب الرجل شهادته ، أو أشهد لرجل فشهد ، والكاتب الذي يكتب الكتاب¹ دُعوا إلى مقطع الحقّ ، فعليهم أن يجيبوا ، وأن يشهدوا بما أشهدوا عليه .
وقال آخرون : هو أمر من الله عزّ وجلّ والمرأة بالإجابة إذا دعي ليشهد على ما لم يشهد عليه من الحقوق ابتداء لا إقامة الشهادة ، ولكنه أمر ندب لا فرض . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو العالية العبدي إسماعيل بن الهيثم ، قال : حدثنا أبو قتيبة ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي في قوله : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } قال : أمرت أن تشهد ، فإن شئت فاشهد ، وإن شئت فلا تشهد .
حدثني أبو العالية ، قال : حدثنا أبو قتيبة ، عن محمد بن ثابت العصري ، عن عطاء ، بمثله .
( وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : معنى ذلك : ولا يأب الشهداء من الإجابة إذا دعوا لإقامة الشهادة وأدائها عند ذي سلطان أو حاكم يأخذ من الذي عليه ما عليه للذي هو له .
وإنما قلنا هذا القول بالصواب أولى في ذلك من سائر الأقوال غيره ، لأن الله عزّ وجلّ قال : { وَلا يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } فإنما أمرهم بالإجابة للدعاء للشهادة وقد ألزمهم اسم الشهداء ، وغير جائز أن يلزمهم اسم الشهداء إلا وقد استشهدوا قبل ذلك ، فشهدوا على ما ألزمهم شهادتهم عليه اسم الشهداء ، فأما قبل أن يستشهدوا على شيء فغير جائز أن يقال لهم شهداء ، لأن ذلك الاسم لو كان يلزمهم ولما يستشهدوا على شيء يستوجبون بشهادتهم عليه هذا الاسم لم يكن على الأرض أحد له عقل صحيح إلا وهو مستحقّ أن يقال له شاهد ، بمعنى أنه سيشهد ، أو أنه يصلح لأن يشهد وإن كان خطأ أن يسمى بذلك الاسم إلا من عنده شهادة لغيره ، أو من قد قام بشهادته ، فلزمه لذلك هذا الاسم كان معلوما أن المعنيّ بقوله : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } من وصفنا صفته ممن قد استرعى شهادة أو شهد ، فدعي إلى القيام بها ، لأن الذي لم يستشهد ولم يسترع شهادة قبل الإشهاد غير مستحقّ اسم شهيد ولا شاهد ، لما قد وصفنا قبل . مع أن في دخول الألف واللام في «الشهداء » دلالة واضحة على أن المسمى بالنهي عن ترك الإجابة للشهادة أشخاص معلومون قد عرفوا بالشهادة ، وأنهم الذين أمر الله عزّ وجل أهل الحقوق باستشهادهم بقوله : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأْتَانِ مِمّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشّهَدَاءُ } . وإذا كان ذلك كذلك ، كان معلوما أنهم إنما أمروا بإجابة داعيهم لإقامة شهادتهم بعد ما استشهدوا فشهدوا ولو كان ذلك أمرا لمن أعرض من الناس فدعي إلى الشهادة يشهد عليها لقيل : ولا يأب شاهد إذا ما دعي . غير أن الأمر وءن كان كذلك ، فإن الذي نقول به في الذي يدعى لشهادة ليشهد عليها إذا كان بموضع ليس به سواه ممن يصلح للشهادة ، فإن الفرض عليه إجابة داعيه إليها كما فرض على الكاتب إذا استكتب بموضع لا كاتب به سواه ، ففرض عليه أن يكتب ، كما فرض على من كان بموضع لا أحد به سواه يعرف الإيمان وشرائع الإسلام ، فحضره جاهل بالإيمان وبفرائض الله فسأله تعليمه ، وبيان ذلك له أن يعلمه ويبينه له . ولم نوجب ما أوجبنا على الرجل من الإجابة للشهادة إذا دعي ابتداء ليشهد على ما أشهد عليه بهذه الآية ، ولكن بأدلة سواها ، وهي ما ذكرنا . وقد فرضنا على الرجل إحياء ما قدر على إحيائه من حقّ أخيه المسلم . والشهداء : جمع شهيد . )
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ تَسأمُوا أنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرا أوْ كَبِيرا إلى أجَلِهِ } .
( يعني بذلك جل ثناؤه : ولا تسأموا أيها الذين تداينون الناس إلى أجل أن تكتبوا صغير الحقّ ، يعني قليله أو كبيره يعني أو كثيره { إلى أَجَلِهِ } ، إلى أجل الحقّ ، فإن الكتاب أحصى للأجل والمال . )
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن شريك عن ليث ، عن مجاهد : { وَلاَ تَسأمُوا أنْ تَكُتُبُوهُ صَغِيرا أوْ كَبِيرا إلى أجَلِهِ } قال : هو الدين .
ومعنى قوله : { وَلا تَسأمُوا } لا تملوا ، يقال منه : سئمت فأنا أسأم سآمة وسأمةً ، ومنه قول لبيد :
ولقد سَئِمْتُ من الحياة وطُولِهَا وسؤالِ هذا الناس : كيف لَبيدُ
سَئِمْتُ تَكاليفَ الحياةِ ومن يَعِشْ *** ثمانينَ حَوْلاً لا أبا لَكَ يَسْأمِ
وقال بعض نحويي البصريين : تأويل قوله : { إلى أجَلِهِ } إلى أجل الشاهد ، ومعناه : إلى الأجل الذي تجوز شهادته فيه . وقد بينا القول فيه .
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكُمْ أقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ } .
( يعني جلّ ثناؤه بقوله : ذلكم اكتتاب كتاب الدّين إلى أجله ، ويعني بقوله أقسط : أعدل عند الله ، يقال منه : أقسط الحاكم فهو يقسط إقساطا وهو مقسط ، إذا عدل في حكمه ، وأصاب الحقّ فيه ، فإذا جار قيل : قسط فهو يَقْسِط قُسُوطا ، ومنه قول الله عزّ وجلّ : { وأمّا القاسِطُونَ فكانُوا لجَهَنّمَ حَطَبا } يعني الجائرون . )
وبمثل ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : { ذَلِكُمْ أقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ } يقول : أعدل عند الله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وأقْوَمُ للشّهادَةِ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : وأصوب للشهادة . وأصله من قول القائل : أقمته من عَوَجه ، إذا سويته فاستوى . وإنما كان الكتاب أعدل عند الله وأصوب لشهادة الشهود على ما فيه ، لأنه يحوي الألفاظ التي أقرّ بها البائع والمشتري وربّ الدين والمستدين على نفسه ، فلا يقع بين الشهود اختلاف في ألفاظهم بشهادتهم لاجتماع شهادتهم على ما حواه الكتاب ، وإذا اجتمعت شهادتهم على ذلك ، كان فصل الحكم بينهم أبين لمن احتكم إليه من الحكام ، مع غير ذلك من الأسباب ، وهو أعدل عند الله ، لأنه قد أمر به ، واتباع أمر الله لا شك أنه عند الله أقسط وأعدل من تركه والانحراف عنه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وأدْنَى أنْ لا تَرْتَابُوا } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وأدْنَى } وأقرب ، من الدنوّ : وهو القرب . ويعني بقوله : { أنْ لا تَرْتَابُوا } من أن لا تشكوا في الشهادة . ) كما :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { ذَلِكَ أدْنَى أنْ لا تَرتَابُوا } يقول : أن لا تشكوا في الشهادة .
وهو تفتعل من الرّيبة . ومعنى الكلام : ( ولا تملوا أيها القوم أن تكتبوا الحقّ الذي لكم قِبَل من داينتموه من الناس إلى أجل صغيرا كان ذلك الحقّ ، قليلاً أو كثيرا ، فإن كتابكم ذلك أعدل عند الله وأصوب لشهادة شهودكم عليه ، وأقرب لكم أن لا تشكوا فيما شهد به شهودكم عليكم من الحقّ والأجل إذا كان مكتوبا . )
( القول في تأويل قوله تعالى : { إِلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أنْ لا تَكْتُبُوها } .
ثم استثنى جل ذكره مما نهاهم عنه أن يسأموه من اكتتاب كتب حقوقهم على غرمائهم بالحقوب التي لهم عليهم ، ما وجب لهم قِبَلهم من حقّ عن مبايعة بالنقود الحاضرة يدا بيد ، فرخص لهم في ترك اكتتاب الكتب بذلك¹ لأن كل واحد منهم ، أعني من الباعة والمشترين ، يقبض إذا كان الواجب بينهم فيما يتبايعونه نقدا ما وجب له قِبَل مبايعيه قبل المفارقة ، فلا حاجة لهم في ذلك إلى اكتتاب أحد الفريقين على الفريق الاَخر كتابا بما وجب لهم قِبَلهم وقد تقابضوا الواجب لهم عليهم ، فلذلك قال تعالى ذكره : { إِلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرونَها بَيْنَكُمْ } لا أجل فيها ولا تأخير ولا نساء ، { فَليسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ لا تَكْتُبوهَا } يقول : فلا حرج عليكم أن لا تكتبوها ، يعني التجارة الحاضرة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : { إِلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تَدِيرُونَها بَيْنَكُمْ } يقول : معكم بالبلد ترونها فتؤخذ وتعطى ، فليس على هؤلاء جناح أن لا يكتبوها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { وَلا تَسَأمُوا أنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرا أوْ كَبِيرا إلى أجَلِهِ } إلى قوله : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ لا تَكْتُبُوهَا } قال : أمر الله أن لا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ، وأمر ما كان يدا بيد أن يشهد عليه صغيرا كان أو كبيرا ورخص لهم أن لا يكتبوه .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والعراق وعامة القرّاء : «إِلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةٌ حاضِرَةٌ » بالرفع ، وانفرد بعض قرّاء الكوفيين فقرأه بالنصب . وذلك وإن كان جائزا في العربية ، إذ كانت العرب تنصب النكرات والمنعوتات مع «كان » ، وتضمر معها في «كان » مجهولاً ، فتقول : إن كان طعاما طيبا فأتنا به ، وترفعها فتقول : إن كان طعام طيب فأتنا به ، فتتبع النكرة خبرها بمثل إعرابها . فإن الذي أختار من القراءة ، ثم لا أستجيز القراءة بغيره ، الرفع في «التجارة الحاضرة » ، لإجماع القرّاء على ذلك ، وشذوذ من قرأ ذلك نصبا عنهم ، ولا يعترض بالشاذ على الحجة . ومما جاء نصبا قول الشاعر :
أعَيْنَيّ هَلْ تَبْكِيانِ عِفاقَا إذَا كَانَ طَعْنا بينَهُمْ وَعِناقَا
ولِلّهِ قَوْمِي أيّ قَوْمٍ لِحُرّةٍ إذَا كَانَ يوما ذا كَواكبَ أشْنَعا
وإنما تفعل العرب ذلك في النكرات لما وصفنا من إتباع أخبار النكرات أسماءها ، وكان من حكمها أن يكون معها مرفوع ومنصوب ، فإذا رفعوهما جميعهما تذكروا إتباع النكرة خبرها ، وإذا نصبوهما تذكروا صحبة «كان » لمنصوب ومرفوع ، ووجدوا النكرة يتبعها خبرها ، وأضمروا في كان مجهولاً لاحتمالها الضمير . وقد ظنّ بعض الناس أن من قرأ ذلك : { إِلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً حاضِرَةً } إنما قرأه على معنى : إلا أن يكون تجارة حاضرة ، فزعم أنه كان يلزم قارىء ذلك أن يقرأ «يكون » بالياء ، وأغفل موضع صواب قراءته من جهة الإعراب ، وألزمه غير ما يلزمه . وذلك أن العرب إذا جعلوا مع كان نكرة مؤنثا بنعتها أو خبرها ، أنثوا «كان » مرّة وذكّروها أخرى ، فقالوا : إن كانت جارية صغيرة فاشتروها ، وإن كان جارية صغيرة فاشتروها ، تذكر «كان » وإن نصبت النكرة المنعوتة أو رفعت أحيانا وتؤنث أحيانا .
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله : «إلاّ أن تَكُونَ تِجَارَةٌ حاضِرَةٌ » مرفوعة فيه التجارة الحاضرة لأن يكون بمعنى التمام ، ولا حاجة بها إلى الخبر ، بمعنى : إلا أن توجد أو تقع أو تحدث ، فألزم نفسه ما لم يكن لها لازما ، لأنه إنما ألزم نفسه ذلك إذا لم يكن يجد لكان منصوبا ، ووجد التجارة الحاضرة مرفوعة ، وأغفل جواز قوله : { تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ } أن يكون خبرا لكان ، فيستغني بذلك عن إلزام نفسه ما ألزم . والذي قال من حكينا قوله من البصريين غير خطأ في العربية ، غير أن الذي قلنا بكلام العرب أشبه ، وفي المعنى أصحّ ، وهو أن يكون في قوله : { تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } وجهان : أحدهما أنه في موضع نصب على أنه حلّ محل خبر «كان » ، والتجارة الحاضرة اسمها . والاَخر : أنه في موضع رفع على إتباع التجارة الحاضرة ، لأن خبر النكرة يتبعها ، فيكون تأويله : إلا أن تكون تجارة حاضرة دائرة بينكم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وأشْهِدُوا إذَا تَبايَعْتُمْ } .
يعني بذلك جل ثناؤه : ( وأشهدوا على صغير ما تبايعتم وكبيره من حقوقكم ، عاجل ذلك وآجله ، ونقده ونَسائه ، فإن إرخاصي لكم في ترك اكتتاب الكتب بينكم فيما كان من حقوق تجري بينكم لبعضكم من قبل بعض عن تجارة حاضرة دائرة بينكم يدا بيدٍ ونقدا ليس بإرخاص مني لكم في ترك الإشهاد منكم على من بعتموه شيئا أو ابتعتم منه ، لأن في ترككم الإشهاد على ذلك خوف المضرّة على كل من الفريقين . أما على المشتري فأن يجحد البائع المبيع ، وله بينة على ملكه ما قد باع ، ولا بينة للمشتري منه على الشراء منه فيكون القول حينئذٍ قول البائع مع يمينه ويقضي له به ، فيذهب مال المشتري باطلاً . وأما على البائع فأن يجحد المشتري الشراء ، وقد زال ملك البائع عما باع ، ووجب له قبل المبتاع ثمن ما باع ، فيحلف على ذلك فيبطل حقّ البائع قِبَل المشتري من ثمن ما باعه . فأمر الله عزّ وجلّ الفريقين بالإشهاد ، لئلا يضيع حقّ أحد الفريقين قِبَل الفريق الاَخر . )
ثم اختلفوا في معنى قوله : { وأشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ } أهو أمر من الله واجب بالإشهاد عند المبايعة ، أم هو ندب ؟ فقال بعضهم : هو ندب إن شاء أشهد ، وإن شاء لم يشهد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن الربيع ، عن الحسن وشقيق ، عن رجل ، عن الشعبي في قوله : { وأشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } قال : إن شاء أشهد ، وإن شاء لم يشهد ، ألم تسمع إلى قوله : { فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْيُوءَدّ الّذِي اوءْتُمِنَ أمانَتَهُ } ؟
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا الربيع بن صبيح ، قال : قلت للحسن : أرأيت قول الله عز وجل : { وأشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } ؟ قال : إن أشهدت عليه فهو ثقة للذي لك ، وإن لم تشهد عليه فلا بأس .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن الربيع بن صبيح ، قال : قلت للحسن : يا أبا سعيد قول الله عز وجل : { وأشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } أبيع الرجلَ وأنا أعلم أنه لا ينقد في شهرين ولا ثلاثة ، أترى بأسا ألاّ أشهد عليه ؟ قال : إن أشهدت فهو ثقة للذي لك ، وإن لم تشهد فلا بأس .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن داود ، عن الشعبي : { وأشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ } قال : إن شاءوا أشهدوا ، وإن شاءوا لم يشهدوا .
وقال آخرون : الإشهاد على ذلك واجب . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { إِلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةٍ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُم جُناحٌ أنْ لا تَكْتُبُوهَا } ولكن أشهدوا عليها إذا تبايعتم أمَرَ الله ما كان يدا بيد ، أن يشهدوا عليه صغيرا كان أو كبيرا .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، قال : ما كان من بيع حاضر ، فإن شاء أشهد ، وإن شاء لم يشهد . وما كان من بيع إلى أجل ، فأمر الله أن يكتب ويشهد عليه ، وذلك في المقام .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، أن الإشهاد على كل مبيع ومشترى حق واجب وفرض لازم ، لما قد بينا من أن كل أمر لله ففرض ، إلا ما قامت حجته من الوجه الذي يجب التسليم له بأنه ندب وإرشاد .
وقد دللنا على وَهْي قول من قال ذلك منسوخ بقوله : { فَلْيُوءَدّ الّذِي أوءْتُمِنَ أمانَتَهُ } فيما مضى فأغنى عن إعادته .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ يُضَارّ كاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : ذلك نهي من الله لكاتب الكتاب بين أهل الحقوق والشهيد أن يضار أهله ، فيكتب هذا ما لم يملله المملي ، ويشهد هذا بما لم يستشهده الشهيد . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه في قوله : { وَلاَ يُضَارّ كاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } ولا يضار كاتب فيكتب ما لم يمل عليه ، ولا شهيد فيشهد بما لم يُستشهد .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن يونس ، قال : كان الحسن يقول : لا يضار كاتب فيريد شيئا أو يحرّف ، ولا شهيد ، قال : لا يكتم الشهادة . ولا يشهد إلا بحق .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، عن قتادة ، قال : اتَقى الله شاهد في شهادته لا ينقص منها حقا ولا يزيد فيها باطلاً . اتقى الله كاتب في كتابه ، فلا يدعنّ منه حقا ولا يزيدنّ فيه باطلاً .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : { وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } قال : لا يضار كاتب فيكتب ما لم يملل ، ولا شهيد فيشهد بما لم يستشهد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن قتادة نحوه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ } . قال : لا يضار كاتب فيكتب غير الذي أملي عليه ، قال : والكتاب يومئذٍ قليل ، ولا يدرون أي شيء يكتب ، فيضار ، فيكتب غير الذي أملي عليه ، فيبطل حقهم . قال : والشهيد : يضار فيحول شهادته ، فيبطل حقهم .
فأصل الكلمة على تأويل من ذكرنا من هؤلاء : ولا يضارِر كاتب ولا شهيد ، ثم أدغمت الراء في الراء لأنهما من جنس وحركت إلى الفتح وموضعها جزم ، لأن الفتح أخفّ الحركات .
وقال آخرون ممن تأول هذه الكلمة هذا التأويل : معنى ذلك : ولا يضارّ كاتب ولا شهيد بالامتناع عمن دعاهما إلى أداء ما عندهما من العلم أو الشهادة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء في قوله : { وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } يقول : أن يؤدّيا ما قِبَلهما .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : { وَلا يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } قال : «لا يضارّ » أن يؤدّيا ما عندهما من العلم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال : { لاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } قال : أن يدعوهما فيقولان : إنّ لنا حاجة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن عطاء ومجاهد : { وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } قالا : واجب على الكاتب أن يكتب ، { ولا شَهِيدٌ } ، قالا : إذا كان قد شهدا قِبَله .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولا يضارّ المستكتب والمستشهد الكاتب والشهيد . وتأويل الكلمة على مذهبهم : ولا يضارَر على وجه ما لم يسمّ فاعله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة ، قال : كان عمر يقرأ : «ولا يضارَرْ كاتب ولا شهيد » .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك ، قال : كان ابن مسعود يقرأ : «ولا يُضارَرْ » .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير عن مجاهد ، أنه كان يقرأ : «ولا يضارر كاتب ولا شهيد » ، وأنه كان يقول في تأويلها : ينطلق الذي له الحقّ فيدعو كاتبه وشاهده إلى أن يشهد ، ولعله أن يكون في شغل أو حاجة ليؤثمه إن ترك ذلك حينئذٍ لشغله وحاجته . وقال مجاهد : لا يقم عن شغله وحاجته ، فيجد في نفسه أو يحرج .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : { وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } والضرار : أن يقول الرجل للرجل وهو عنه غنيّ : إن الله قد أمرك أن لا تأتي إذا دعيت ، فيضاره بذلك وهو مكتف بغيره . فنهاه الله عزّ وجلّ عن ذلك ، وقال : { وإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : { وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } يقول : إنه يكون للكاتب والشاهد حاجة ليس منها بدّ ، فيقول : خلوا سبيله .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن يونس ، عن عكرمة في قوله : { وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } قال : يكون به العلة ، أو يكون مشغولاً . يقول : فلا يضارّه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أنه كان يقول : { وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ } يقول : لا يأت الرجل فيقول : انطلق فاكتب لي واشهد لي ، فيقول : إن لي حاجة فالتمس غيري ، فيقول : اتق الله فإنك قد أمرت أن تكتب لي . فهذه المضارة¹ ويقول : دعه والتمس غيره ، والشاهد بتلك المنزلة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : { وَلاَ يُضَارّ كاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } يقول : يدعو الرجل الكاتب أو الشهيد ، فيقول الكاتب أو الشاهد : إن لنا حاجة ! فيقول الذي يدعوهما : إن الله عزّ وجلّ أمركما أن تجيبا في الكتابة والشهادة ! يقول الله عزّ وجلّ لا يضارّهما .
حدثت عن الحسن ، قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك في قوله : { وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } هو الرجل يدعو الكاتب أو الشاهد وهما على حاجة مهمة ، فيقولان : إنا على حاجة مهمة ، فاطلب غيرنا ! فيقول : الله أمركما أن تجيبا ، فأمره أن يطلب غيرهما ولا يضارّهما ، يعني لا يشغلهما عن حاجتهما المهمة وهو يجد غيرهما .
حدثني موسى قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : { وَلاَ يُضارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } يقول : ليس ينبغي أن تعترض رجلاً له حاجة فتضارّه فتقول له : اكتب لي ! فلا تتركه حتى يكتب لك وتفوته حاجته . ولا شاهدا من شهودك وهو مشغول ، فتقول : اذهب فاشهد لي تحبسه عن حاجته ، وأنت تجد غيره .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : { وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ } قال : لما نزلت هذه الآية : { وَلا يأْبَ كَاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلّمَهُ اللّهُ } كان أحدهم يجيء إلى الكاتب فيقول : اكتب لي ! فيقول : إني مشغول أو لي حاجة ، فانطلق إلى غيري ! فيلزمه ويقول : إنك قد أمرت أن تكتب لي . فلا يدعه ويضارّه بذلك وهو يجد غيره . ويأتي الرجل فيقول : انطلق معي ! فيقول : اذهب إلى غيري فإني مشغول أو لي حاجة ، فيلزمه ويقول : قد أمرت أن تتبعني . فيضارّه بذلك ، وهو يجد غيره ، فأنزل الله عزّ وجلّ { وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : { وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } يقول : إن لي حاجة فدعني ! فيقول : اكتب لي . «ولا شَهِيدٌ » كذلك .
( وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : ولا يضارّ كاتب ولا شهيد ، بمعنى : ولا يضارّهما من استكتب هذا أو استشهد هذا بأن يأبى على هذا إلا أن يكتب له وهو مشغول بأمر نفسه ، ويأبى على هذا إلا أن يجيب إلى الشهادة وهو غير فارغ ، على ما قاله قائلو ذلك من القول الذي ذكرنا قبل .
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب من غيره ، لأن الخطاب من الله عزّ وجلّ في هذه الآية من مبتدئها إلى انقضائها على وجه افعلوا أو لا تفعلوا ، إنما هو خطاب لأهل الحقوق والمكتوب بينهم الكتاب والمشهود لهم أو عليهم بالذي تداينوه بينهم من الديون . فأما ما كان من أمر أو نهي فيها لغيرهم ، فإنما هو على وجه الأمر والنهي للغائب غير المخاطب كقوله : { وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ } وكقوله : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } وما أشبه ذلك ، فالواجب إذا كان المأمورون فيها مخاطبين بقوله : { وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } أشبه منه بأن يكون مردودا على الكاتب والشهيد ، ومع ذلك إن الكاتب والشهيد لو كانا هما المنهيين عن الضرار لقيل : وإن يفعلا فإنه فسوق بهما ، لأنهما اثنان ، وإنما غير مخاطبيين بقوله : { وَلاَ يُضَارّ } بل النهي بقوله : { وَلاَ يُضَارّ } نهي للغائب غير المخاطب . فتوجيه الكلام إلى ما كان نظيرا لما فِي سياق الآية ، أولى من توجيهه إلى ما كان منعدلاً عنه . )
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } .
( يعني بذلك جلّ ثناؤه : وإن تضارّوا الكاتب أو الشاهد وما نهيتم عنه من ذلك ، فإنه فسوق بكم ، يعني إثم بكم ومعصية . )
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم بنحو الذي قلنا . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { وإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } يقول : إن تفعلوا غير الذي آمركم به ، فإنه فسوق بكم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : { وِإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } الفسوق : المعصية .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } الفسوق : العصيان .
وقال آخرون : معنى ذلك : وإن يضار كاتب فيكتب غير الذي أملى المملي ، ويضارّ شهيد فيحوّل شهادته ويغيرها ، فإنه فسوق بكم ، يعني فإنه كذب . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } الفسوق : الكذب . قال : هذا فسوق لأنه كذب الكاتب فحوّل كتابه فكذب ، وكذب الشاهد فحوّل شهادته ، فأخبرهم الله أنه كذب .
وقد دللنا فيما مضى على أن المعنيّ بقوله : { وَلاَ يُضَارّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ } إنما معناه : لا يضارّهما المستكتب والمستشهد ، بما فيه الكفاية . فقوله : { وَإِنْ تَفْعَلُوا } إنما هو إخبار من يضارّهما بحكمه فيهما ، وأن من يضارّهما فقد عصى ربه وأثم به ، وركب ما لا يحلّ له ، وخرج عن طاعة ربه في ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتّقُوا اللّهَ وَيُعَلّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
يعني بقوله جل ثناؤه : { وَاتّقُوا اللّهَ } وخافوا الله أيها المتداينون في الكتاب والشهود أن تضاروهم ، وفي غير ذلك من حدود الله أن تضيعوه . ويعني بقوله : { وَيُعَلّمُكُمْ اللّهُ } ويبين لكم الواجب لكم وعليكم ، فاعملوا به . { وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } يعني من أعمالكم وغيرها ، يحصيها عليكم ليجازيكم بها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قوله : { وَيُعَلّمُكُمُ اللّهُ } قال : هذا تعليم علمكموه فخذوا به .
{ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين } أي إذا داين بعضكم بعضا ، تقول : داينته إذا عاملته نسيئة معطيا أو آخذا . وفائدة ذكر الدين أن لا يتوهم من التداين المجازاة ويعلم تنوعه إلى المؤجل والحال ، وأنه الباعث على الكتبة ويكون مرجع ضمير فاكتبوه { إلى أجل مسمى } معلوم الأيام والأشهر لا بالحصاد وقدوم الحاج . { فاكتبوه } لأنه أوثق وأدفع للنزاع ، والجمهور على أنه استحباب . وعن ابن عباس رضي الله عنهما ( أن المراد به السلم وقال لما حرم الله الربا أباح السلم ) . { وليكتب بينكم كاتب بالعدل } من يكتب السوية لا يزيد ولا ينقص ، وهو في الحقيقة أمر للمتداينين باختيار كاتب فقيه دين حتى يجيء مكتوبه موثوقا به معدلا بالشرع . { ولا يأب كاتب } ولا يمتنع أحد من الكتاب . { أن يكتب كما علمه الله } مثل ما علمه الله من كتبة الوثائق ، أو لا يأب أن ينفع الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها كقوله : { وأحسن كما أحسن الله إليك } . { فليكتب } تلك الكتابة المعلمة . أمر بها بعد النهي عن الإباء عنها تأكيدا ، ويجوز أن تتعلق الكاف بالأمر فيكون النهي عن الامتناع منها مطلقة ثم الأمر بها مقيدة . { وليملل الذي عليه الحق } وليكن المملي من عليه الحق لأنه المقر المشهود عليه ، والإملال والإملاء واحد . { وليتق الله ربه } أي المملي . أو الكاتب . { ولا يبخس } ولا ينقص . { منه شيئا } أي من الحق ، أو مما أملى عليه . { فإن كان الذي عليه الحق سفيها } ناقص العقل مبذرا . { أو ضعيفا } صبيا أو شيخا مختلا . { أو لا يستطيع أن يمل هو } أو غير مستطيع للإملال بنفسه لخرس أو جهل باللغة . { فليملل وليه بالعدل } أي الذي يلي أمره ويقوم مقامه من قيم إن كان صبيا أو مختل العقل ، أو وكيل أو مترجم إن كان غير مستطيع . وهو دليل جريان النيابة في الإقرار ولعله مخصوص بما تعاطاه القيم أو الوكيل . { واستشهدوا شهيدين } واطلبوا أن يشهد على الدين شاهدان . { من رجالكم } من رجال المسلمين ، وهو دليل اشتراط إسلام الشهود وإليه ذهب عامة العلماء وقال أبو حنيفة : تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعض { فإن لم يكونا رجلين } فإن لم يكن الشاهدان رجلين . { فرجل وامرأتان } فليشهد أو فليستشهد رجل وامرأتان ، وهذا مخصوص بالأموال عندنا وبما عدا الحدود والقصاص عند أبي حنيفة . { ممن ترضون من الشهداء } لعلمكم بعدالتهم . { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } علة اعتبار العدد أي لأجل أن إحداهما إن ضلت الشهادة بأن نسيتها ذكرتها الأخرى ، والعلة في الحقيقة التذكير ولكن لما كان الضلال سببا له نزل منزلته كقولهم : أعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه ، وكأنه قيل : إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت ، وفيه إشعار بنقصان عقلهن وقلة ضبطهن . وقرأ حمزة { أن تضل } على الشرط فتذكر بالرفع . وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب { فتذكر } من الإذكار . { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } لأداء الشهادة أو التحمل . وسموا شهداء قبل التحمل تنزيلا لما يشارف منزلة الواقع و{ ما } مزيدة . { ولا تسأموا أن تكتبوه } ولا تملوا من كثرة مدايناتكم أن تكتبوا الدين أو الحق أو الكتاب . وقيل كنى بالسأم عن الكسل لأنه صفة المنافق ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام " لا يقول المؤمن كسلت " { صغيرا أو كبيرا } صغيرا كان الحق أو كبيرا ، أو مختصرا كان الكتاب أو مشبعا . { إلى أجله } إلى وقت حلوله الذي أقر به المديون . { ذلكم } إشارة إلى أن تكتبوه . { أقسط عند الله } أكثر قسطا . { وأقوم للشهادة } وأثبت لها وأعون على إقامتها ، وهما مبنيان من أقسط وأقام على غير قياس ، أو من قاسط بمعنى ذي قسط وقويم ، وإنما صحت الواو في { أقوم } كما صحت في التعجب لجموده . { وأدنى ألا ترتابوا } وأقرب في أن لا تشكوا في جنس الدين وقدره وأجله والشهود ونحو ذلك . { إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها } استثناء من الأمر بالكتابة والتجارة الحاضرة تعم المبايعة بدين أو عين ، وإدارتها بينهم تعاطيهم إياها يدا بيد أي : إلا أن تتبايعوا يدا بيد فلا بأس أن لا تكتبوا ، لبعده عن التنازع والنسيان . ونصب عاصم { تجارة } على أنه الخبر والاسم مضمر تقديره إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة كقوله :
بني أسد هل تعلمون بلاءنا *** إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا
ورفعها الباقون على أنها الاسم والخبر تديرونها أو على كان التامة . { وأشهدوا إذا تبايعتم } هذا التبايع ، أو مطلقا لأنه أحوط . والأوامر التي في هذه الآية للاستحباب عند أكثر الأئمة . وقيل : إنها للوجوب ثم اختلف في إحكامها ونسخها . { ولا يضار كاتب ولا شهيد } يحتمل البناءين ، ويدل عليه أنه قرئ { ولا يضار } بالكسر والفتح . وهو نهيهما عن ترك الإجابة والتحريف والتغيير في الكتب والشهادة ، أو النهي عن الضرار بهما مثل أن يعجلا عن مهم ويكلفا الخروج عما حد لهما ، ولا يعطى الكاتب جعله ، والشهيد مؤنة مجيئه حيث كان . { وإن تفعلوا } الضرار أو ما نهيتم عنه . { فإنه فسوق بكم } خروج عن الطاعة لا حق بكم { واتقوا الله } في مخالفة أمره ونهيه . { ويعلمكم الله } أحكامه المتضمنة لمصالحكم . { والله بكل شيء عليم } كرر لفظه الله في الجمل الثلاث لاستقلالها ، فإن الأولى حث على التقوى ، والثانية وعد بإنعامه ، والثالثة تعظيم لشأنه . ولأنه أدخل في التعظيم من الكناية .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ } قال ابن عباس رضي الله عنه نزلت هذه الآية في السلم خاصة .
قال القاضي أبو محمد : معناه أن سلم أهل المدينة كان بسبب هذه الآية ، ثم هي تتناول جميع المداينات إجماعاً( {[2759]} ) ، وبين تعالى بقوله : { بدين } ما في قوله : { تداينتم } من الاشتراك ، إذ قد يقال في كلام العرب : تداينوا بمعنى جازى بعضهم بعضاً( {[2760]} ) . ووصفه الأجل بمسمى دليل على أن المجهلة لا تجوز ، فكأن الآية رفضتها ، وإذا لم تكن تسمية وحد فليس أجل ، وذهب بعض الناس إلى أن كتب الديون واجب على أربابها فرض بهذه الآية ، وذهب الربيع إلى أن ذلك وجب بهذه الألفاظ ، ثم خففه الله تعالى بقوله : { فإن أمن بعضكم بعضاً } [ البقرة : 283 ] وقال الشعبي : كانوا يرون أن قوله : { فإن أمن } ناسخ لأمره بالكتب ، وحكى نحوه ابن جريج ، وقاله ابن زيد ، وروي عن أبي سعيد الخدري ، وقال جمهور العلماء : الأمر بالكتب ندب إلى حفظ الأموال وإزالة الريب( {[2761]} ) ، وإذا كان الغريم تقياً فما يضره الكتاب وإن كان غير ذلك فالكتب ثقاف( {[2762]} ) في دينه وحاجة صاحب الحق ، وقال بعضهم : إن أشهدت فحزم ، وإن ائتمنت ففي حل وسعة ، وهذا هو القول الصحيح ، ولا يترتب نسخ في هذا لأن الله تعالى ندب إلى الكتب فيما للمرء أن يهبه ويتركه بإجماع ، فندبه إنما هو على جهة الحيطة للناس ، ثم علم تعالى أنه سيقع الائتمان فقال إن وقع ذلك { فليؤد } [ البقرة : 283 ] الآية ، فهذه وصية للذين عليهم الديون ، ولم يجزم تعالى الأمر نصاً بأن لا يكتب إذا وقع الائتمان ، وأما الطبري رحمه الله فذهب إلى أن الأمر بالكتب فرض واجب وطول في الاحتجاج ، وظاهر قوله أنه يعتقد الأوامر على الوجوب حتى يقوم دليل على غير ذلك .
واختلف الناس في قوله تعالى : { وليكتب بينكم } فقال عطاء وغيره : واجب على الكاتب أن يكتب ، وقال الشعبي وعطاء أيضاً : إذا لم يوجد كاتب سواه فواجب عليه أن يكتب ، وقال السدي : هو واجب مع الفراغ ، وقوله تعالى : { بالعدل } معناه بالحق والمعدلة( {[2763]} ) ، والباء متعلقة بقوله تعالى : { وليكتب } ، وليست متعلقة ب { كاتب } لأنه كان يلزم أن لا كتب وثيقة إلا العدل في نفسه ، وقد يكتبها الصبي والعبد والمسخوط إذا أقاموا فقهها ، أما أن المنتصبين لكتبها لا يتجوز للولاة ما أن يتركوهم إلا عدولاً مرضيين ، وقال مالك رحمه الله : لا يكتب الوثائق من الناس إلا عارف بها عدل في نفسه مأمون ، لقوله تعالى { وليكتب بينكم كاتب بالعدل } ثم نهى الله تعالى الكتاب عن الإباية ، وأبى يأبى شاذ لم يجىء إلا قلى يقلى( {[2764]} ) وأبى يأبى ، ولا يجيء فعل يفعل بفتح العين في المضارع إلا إذا رده حرف حلق ، قال الزجّاج والقول في أبى أن الألف فيه أشبهت( {[2765]} ) الهمزة فلذلك جاء مضارعه يفعل بفتح العين ، وحكى المهدوي عن الربيع والضحاك أن قوله { ولا يأب } منسوخ بقوله
{ لا يضار كاتب ولا شهيد }( {[2766]} ) [ البقرة : 282 ] والكاف في قوله { كما علمه الله } متعلقة بقوله : { أن يكتب } المعنى كتباً كما علمه الله ، هذا قول بعضهم ، ويحتمل أن تكون { كما } متعلقة بما في قوله { ولا يأب } من المعنى أي كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة فلا يأب هو ، وليفضل كما أفضل الله عليه( {[2767]} ) ، ويحتمل أن يكون الكلام على هذا المعنى تاماً عند قوله : { أن يكتب } ، ثم يكون قوله : { كما علمه الله } ابتداء كلام ، وتكون الكاف متعلقة بقوله { فليكتب }( {[2768]} ) .
قال القاضي أبو محمد : وأما إذا أمكن الكتاب فليس يجب الكتب على معين ، ولا وجوب الندب ، بل له الامتناع إلا إن استأجره( {[2769]} ) ، وأما إذا عدم الكاتب فيتوجه وجوب الندب حينئذ على الحاضر( {[2770]} ) ، وأما الكتب في الجملة فندب كقوله تعالى : { وافعلوا الخير }( {[2771]} ) [ الحج : 77 ] وهو من باب عون الضائع .
{ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ }
أمر الله تعالى الذي عليه الحق بالإملاء( {[2772]} ) ، لأن الشهادة إنما تكون بحسب إقراره ، وإذا كتبت الوثيقة وأقرّ بها فهو كإملاء له . وأمره الله بالتقوى فيما يملي ونهي عن أن { يبخس } شيئاً من الحق ، والبخس النقص بنوع من المخادعة والمدافعة ، وهؤلاء الذين أمروا بالإملاء هم المالكون لأنفسهم إذا حضروا ، ثم ذكر الله تعالى ثلاثة أنواع تقع نوازلهم في كل زمن .
فقال { فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً } وكون الحق يترتب في جهات سوى المعاملات كالمواريث إذا قسمت وغير ذلك( {[2773]} ) ، والسفيه المهلهل الرأي في المال الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء منها ، مشبه بالثوب السفيه وهو الخفيف النسج ، والسفه الخفة ، ومنه قول الشاعر وهو ذو الرمة : [ الطويل ] .
مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ . . . أعالِيهَا مَرُّ الرِّيَاحِ النَّواسِمِ( {[2774]} )
وهذه الصفة في الشريعة لا تخلو من حجر أب أو وصي ، وذلك هو وليه ، ثم قال : { أو ضعيفاً } والضعيف هو المدخول في عقله الناقص الفطرة ، وهذا أيضاً قد يكون وليه أباً أو وصياً ، الذي لا يستطيع أن يمل هو الصغير ، و { وليه } وصيه أو أبوه والغائب عن موضع الإشهاد إما لمرض أو لغير ذلك من العذر ، و { وليه } وكيله ، وأما الأخرس فيسوغ أن يكون من الضعفاء ، والأوْلى أنه ممن لا يستطيع ، فهذه أصناف تتميز ، ونجد من ينفرد بواحد واحد منها ، وقد يجتمع منها اثنان في شخص واحد ، وربما اجتمعت كلها في شخص ، وهذا الترتيب ينتزع من قول مالك وغيره من العلماء الحذاق ، وقال بعض الناس : السفيه الصبي الصغير ، وهذا خطأ ، وقال قوم الضعيف هو الكبير الأحمق ، وهذا قول الحسن ، وجاء الفعل مضاعفاً في قوله : { أن يمل } لأنه لو فك لتوالت حركات كثيرة ، والفك في هذا الفعل لغة قريش .
و { بالعدل } معناه بالحق وقصد الصواب ، وذهب الطبري إلى أن الضمير في { وليه } عائد على { الحق } ، وأسند في ذلك عن الربيع وعن ابن عباس .
قال القاضي أبو محمد : وهذا عندي شيء لا يصح عن ابن عباس ، وكيف تشهد على البينة على شيء وتدخل مالاً في ذمة السفيه بإملاء الذي له الدين ؟ هذا شيء ليس في الشريعة ، والقول ضعيف إلا أن يريد قائله أن الذي لا يستطيع { أن يمل } بمرضه إذا كان عاجزاً عن الإملاء فليمل صاحب الحق بالعدل ويسمع الذي عجز ، فإذا كمل الإملاء أقر به ، هذا معنى لم تعن( {[2775]} ) الآية إليه ، ولا يصح هذا إلا فيمن لا يستطيع أن يمل بمرض .
{ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى }
الاستشهاد : طلب الشهادة( {[2776]} ) وعبر ببناء( {[2777]} ) مبالغة في { شهيدين } دلالة على من قد شهد وتكرر ذلك منه ، فكأنها إشارة إلى العدالة : وقوله تعالى : { من رجالكم } نص في رفض الكفار والصبيان والنساء ، وأما العبيد فاللفظ يتناولهم . واختلف العلماء فيهم فقال شريح وإسحاق بن راهويه( {[2778]} ) وأحمد بن حنبل : شهادة العبد جائزة إذا كان عدلاً ، وغلبوا لفظ الآية . وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور العلماء : لا تجوز شهادة العبد ، وغلبوا نقص الرق( {[2779]} ) ، واسم كان الضمير الذي في قوله { يكونا } .
والمعنى في قول الجمهور ، فإن لم يكن المستشهد رجلين أي إن أغفل ذلك صاحب الحق أو قصده لعذر ما ، وقال قوم : بل المعنى فإن لم يوجد رجلان ، ولا يجوز استشهاد المرأتين إلا مع عدم الرجال ، وهذا قول ضعيف ، ولفظ الآية لا يعطيه بل الظاهر منه قول الجمهور( {[2780]} ) ، وقوله : { فرجل وامرأتان } مرتفع بأحد ثلاثة أشياء ، إما أن يقدر( {[2781]} ) فليستشهد رجل وامرأتان ، وإما فليكن رجل وامرأتان ويصح أن تكون { يكونا } هذه التامة والناقصة ، ولكن التامة أشبه ، لأنه يقل الإضمار ، وإما فرجل وامرأتان يشهدون ، وعلى كل وجه فالمقدر هو العامل في قوله : { أن تضل إحداهما } وروى حميد بن عبد الرحمن عن بعض أهل مكة أنهم قرؤوا «وامرأْتان » بهمز الألف ساكنة .
قال ابن جني : لا نظير لتسكين الهمزة المتحركة على غير قياس وإنما خففوا الهمزة( {[2782]} ) فقرب من الساكن ، ثم بالغوا في ذلك فصارت الهمزة ألفاً ساكنة كما قال الشاعر : [ الطويل ] .
يقولون جهلاً لَيْسَ للشَّيخَ عَيِّلٌ . . . لَعَمْري لَقَدْ أعْيَلْتَ وَأن رَقُوب( {[2783]} )
يريد «وأنا » ، ثم بعد ذلك يدخلون الهمزة على هذه الألف كما هي . وهي ساكنة وهي هذا نظر ، ومنه قراءة ابن كثير «عن ساقيها »( {[2784]} ) وقولهم يا ذو خاتم قال أبو الفتح : فإن قيل شبهت الهمزة بالألف في أنها ساوتها في الجهر والزيادة والبدل والحذف وقرب المخرج وفي الخفاء فقول مخشوب( {[2785]} ) لا صنعة فيه ، ولا يكاد يقنع بمثله ، وقوله تعالى : { ممن ترضون من الشهداء } رفع في موضع الصفة لقوله عز وجل : { فرجل وامرأتان }( {[2786]} ) .
قال أبو علي : ولا دخل في هذه الصفة قوله : { شهيدين } اختلاف الإعراب .
قال القاضي أبو محمد : وهذا حكم لفظي ، وأما المعنى فالرضى شرط في الشهيدين كما هو في الرجل والمرأتين .
قال ابن بكير وغيره : قوله { ممن ترضون } مخاطبة للحكام .
قال القاضي أبو محمد : وهذا غير نبيل ، إنما الخطاب لجميع الناس ، لكن المتلبس بهذه القضية إنما هم الحكام ، وهذا( {[2787]} ) كثير في كتاب الله يعم الخطاب فيما يتلبس به البعض ، وفي قوله : { ممن ترضون } دليل على أن في الشهود من لا يرضى ، فيجيء من ذلك أن الناس ليسوا بمحمولين على العدالة حتى تثبت لهم . وقرأ حمزة وحده : «إن تَضِل » بكسر الألف وفتح التاء وكسر الضاد «فتذَكَرُ » بفتح الذال ورفع الراء وهي قراءة الأعمش ، وقراها الباقون «أن تضل » بفتح الألف «فتذكرَ » بنصب الراء . غير أن ابن كثير وأبا عمرو خففا الذال والكاف ، وشددها الباقون( {[2788]} ) ، وقد تقدم القول فيما هو العامل في قوله : { أن تضل }( {[2789]} ) ، و { أن } مفعول من أجله( {[2790]} ) والشهادة لم تقع لأن تضل إحداهما . وإنما وقع إشهاد امرأتين لأن تذكر إحداهما إن ضلت الأخرى . قال سيبويه : وهذا كما تقول : أعددت هذه الخشبة أن يميل هذا الحائط فأدعمه( {[2791]} ) .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ولما كانت النفوس مستشرقة إلى معرفة أسباب الحوادث ، قدم في هذه العبارة ذكر سبب الأمر المقصود أن يخبر به( {[2792]} ) ، وفي ذلك سبق النفوس إلى الإعلام بمرادها ، وهذا من أبرع أنواع الفصاحة ، إذ لو قال رجل لك : أعددت هذه الخشبة أن أدعم بها الحائط ، لقال السامع : ولم تدعم حائطاً قائماً ؟ فيجب ذكر السبب فيقال : إذا مال . فجاء في كلامهم تقديم السبب أخصر من هذه المحاورة . وقال أبو عبيد : معنى { تضل } تنسى .
قال القاضي أبو محمد : والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء . ويبقى المرء بين ذلك حيران ضالاً ، ومن نسي الشهادة جملة فليس يقال : ضل فيها( {[2793]} ) ، فأما قراءة حمزة فجعل { أن } الجزاء ، والفاء في قوله { فتذكر } جواب الجزاء ، وموضع الشرط وجوابه رفع بكونه صفة للمذكور ، وهما المرأتان ، وارتفع «تذكر » كما ارتفع قوله تعالى :
{ ومن عاد فينتقم الله منه }( {[2794]} ) [ المائدة : 95 ] هذا قول سيبويه .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر( {[2795]} ) ، وأما نصب قوله «فتذكرَ » على قراءة الجماعة فعلى العطف على الفعل المنصوب ب { أن } ، وتخفيف الكاف على قراءة أبي عمرو وابن كثير هو بمعنى تثقيله من الذكر ، يقال : ذكروأذكر ُتعديه بالتضعيف أو بالهمز ، وروي عن أبي عمرو بن العلاء وسفيان بن عيينة( {[2796]} ) أنهما قالا : معنى قوله : «فتذكر » بتخفيف الكاف أي تردها ذكراً في الشهادة ، لأن شهادة امرأة نصف شهادة ، فإذا شهدتا صار مجموعهما كشهادة ذكر ، وهذا تأويل بعيد ، غير فصيح ، ولا يحسن في مقابلة الضلال إلا الذكر ، وذكرت بشد الكاف يتعدى إلى مفعولين ، وأحدهما في الآية محذوف ، تقديره فتذكر إحداهما الأخرى «الشهادة » ، التي ضلت عنها ، وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر : «أن تُضَل » بضم التاء وفتح الضاد بمعنى تنسى ، هكذا حكى عنهما أبو عمرو الداني ، وحكى النقاش عن الجحدري ضم التاء وكسر الضاد بمعنى أن تضل الشهادة ، تقول : أضللت الفرس والبعير إذا تلفا لك وذهبا فلم تجدهما ، وقرأ حميد بن عبد الرحمن ومجاهد «فتذكِرُ » بتخفيف الكاف المكسورة ورفع الراء ، وتضمنت هذه الآية جواز شهادة امرأتين بشرط اقترانهما برجل( {[2797]} ) ، واختلف قول مالك في شهادتهما ، فروى عنه ابن وهب أن شهادة النساء لا تجوز إلا حيث ذكرها الله في الدين ، أو فيما يطلع عليه أحد إلا هن للضرورة إلى ذلك ، وروى عنه ابن القاسم أنها تجوز في الأموال والوكالات على الأموال وكل ما جر إلى مال ، وخالف في ذلك أشهب وغيره ، وكذلك إذا شهدن على ما يؤدي إلى غير مال ، ففيها قولان في المذهب .
{ وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ }
قال قتادة والربيع وغيرهما : معنى الآية : إذا دعوا أن يشهدوا فيتقيد حق بشهادتهم ، وفي هذا المعنى نزلت ، لأنه كان يطوف الرجل في القوم الكثير يطلب من يشهد له فيتحرجون هم عن الشهادة فلا يقوم معه أحد ، فنزلت الآية في ذلك ، وقال الحسن بن أبي الحسن : الآية جمعت أمرين : لا تأب إذا دعيت إلى تحصيل الشهادة ، ولا إذا دعيت إلى أدائها ، وقاله ابن عباس ، وقال مجاهد : معنى الآية ، لا تأب إذا دعيت إلى أداء شهادة قد حصلت عندك ، وأسند النقاش إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الآية بهذا ، قال مجاهد : فأما إذا دعيت لتشهد أولاً ، فإن شئت فاذهب ، وإن شئت فلا تذهب( {[2798]} ) ، وقاله لاحق بن حميد( {[2799]} ) وعطاء وإبراهيم وابن جبير والسدي وابن زيد وغيرهم .
قال القاضي أبو محمد : والآية كما قال الحسن جمعت أمرين على جهة الندب ، فالمسلمون مندوبون إلى معونة إخوانهم ، فإذا كانت الفسحة لكثرة الشهود والامن من تعطيل الحق فالمدعو مندوب ، وله أن يتخلف لأدنى عذر وإن تخلف لغير عذر فلا إثم عليه ولا ثواب له ، وإذا كانت الضرورة وخيف تعطل الحق أدنى خوف قوي الندب وقرب من الوجوب ، وإذا علم أن الحق يذهب ويتلف بتأخر الشاهد عن الشهادة فواجب عليه القيام بها ، لا سيما إن كانت محصلة ، وكان الدعاء إلى أدائها ، فإن هذا الظرف آكد لأنها قلادة في العنق وأمانة تقتضي الأداء ، { ولا تسأموا } معناه تملوا ، و { صغيراً أو كبيراً } حالان من الضمير في { تكتبوه } ، وقد الصغير اهتماماً به ، وهذا النهي الذي جاء عن السآمة إنما جاء لتردد المداينة عندهم( {[2800]} ) ، فخيف عليهم أن يملوا الكتب( {[2801]} ) و { أقسط } معناه أعدل ، وهذا أفعل من الرباعي وفيه شذوذ( {[2802]} ) ، فانظر هل هو من قسُط بضم السين ؟ كما تقول : «أكرم » من «كرُم » يقال : { أقسط } بمعنى عدل وقسط بمعنى جار ، ومنه قوله تعالى :
{ وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً }( {[2803]} ) [ الجن : 15 ] ومن قدر قوله تعالى : { وأقوم للشهادة } بمعنى وأشد إقامة فذلك أيضاً أفعل من الرباعي ، ومن قدرها من قام بمعنى اعتدل زال عن الشذوذ ، { وأدنى } معناه أقرب ، و { ترتابوا } معناه ، تشكوا وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «يسأموا » و «يكتبوا » و «يرتابوا » كلها بالياء على الحكاية عن الغائب .
{ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
لما علم الله تعالى مشقة الكتاب عليهم نص على ترك ذلك ورفع الجناح فيه في كل مبايعة بنقد( {[2804]} ) ، وذلك في الأغلب إنما هو في قليل كالمطعوم ونحوه في كثير كالأملاك ونحوها . وقال السدي والضحاك : هذا فيما كان يداً بيد تأخذ وتعطي ، وأن في موضع نصب على الاستثناء المنقطع ، وقول تعالى : { تديرونها بينكم } يقتضي التقابض والبينونة بالمقبوض ، ولما كانت الرباع والأرض وكثير من الحيوان لا تقوى( {[2805]} ) البينونة به ولا يعاب عليه حسن الكتب فيها ولحقت في ذلك بمبايعة الدين وقرأ عاصم وحده «تجارةً » نصباً ، وقرأ الباقون «تجارةٌ » رفعاً ، قال أبو علي وأشك في ابن عامر ، وإذا أتت بمعنى حدث ووقع غنيت عن خبر ، وإذا خلع منها معنى الحدوث لزمها الخبر المنصوب ، فحجة من رفع تجارة إن كان بمعنى حدث ووقع ، وأما من نصب فعلى خبر كان ، والاسم مقدر تقديره عند أبي علي إما المبايعة التي دلت الآيات المتقدمة عليها ، وإما { إلا أن تكون } التجارة { تجارة } ، ويكون ذلك مثل قول الشاعر : [ الطويل ] .
فدىً لبني ذُهْلِ بنِ شَيْبَانَ نَاقتي . . . إذا كَانَ يَوْماً ذَا كَوَاكِبَ أَشْنَعَا
قال القاضي أبو محمد : هكذا أنشد أبي علي البيت ، وكذلك أبو العباس المبرد ، وأنشده الطبري : [ الطويل ]
ولله قومي أيُّ قومٍ لحرّةٍ . . . إذَا كَان يوماً ذا كَوَاكِبَ أَشْنَعَا( {[2806]} )
وأنشده سيبويه بالرفع إذا كان يوم ذو كواكب .
وقوله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } قال الطبري معناه وأشهدوا على صغير ذلك وكبيره ، واختلف الناس هل ذلك على الوجوب أو على الندب ؟ فقال الحسن والشعبي وغيرهما : ذلك على الندب ، وقال ابن عمرو والضحاك : ذلك على الوجوب ، وكان ابن عمر يفعله في قليل الأشياء وكثيرها ، وقاله عطاء ورجح ذلك الطبري .
قال القاضي أبو محمد : والوجوب في ذلك قلق أما في الدقائق فصعب شاق وأما ما كثر فربما يقصد التاجر الاستيلاف بترك الإشهاد ، وقد يكون عادة في بعض البلاد ، وقد يستحيي من العالم والرجل والكبير الموقر فلا يشهد عليه ، فيدخل ذلك كله في الائتمان ، ويبقى الأمر بالإشهاد ندباً لما فيه من المصلحة في الأغلب ما لم يقع عذر يمنع منه كما ذكرنا .
وحكى المهدي عن قوم أنهم قالوا : { وأشهدوا إذا تبايعتم } منسوخ بقوله { فإن أمن } [ البقرة : 283 ] ، وذكره مكي عن أبي سعيد الخدري .
واختلف الناس في معنى قوله تعالى : { ولا يضار كاتب ولا شيهد } فقال الحسن وقتادة وطاوس وابن زيد وغيرهم . المعنى ولا يضار الكاتب بأن يكتب ما لم يمل عليه ولا يضار الشاهد بأن يزيد في الشهادة أو ينقص منها ، وقال مثله ابن عباس ومجاهد وعطاء إلا أنهم قالوا : لا يضار الكاتب والشاهد بأن يمتنعا .
قال القاضي أبو محمد : ولفظ الضرر يعم هذا والقول الأول ، والأصل في يضار على هذين القولين «يضارِر » بكسر الراء ثم وقع الإدغام وفتحت الراء في الجزم لخفة الفتحة ، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد والضحاك والسدي وطاوس وغيرهم : معنى الآية { ولا يضار كاتب ولا شهيد } بأن يؤذيه طالب الكتبة أو الشهادة فيقول اكتب لي أو اشهد لي في وقت عذر أو شغل للكتب أو الشاهد فإذا اعتذرا بعذرهما حرج وآذاهما ، وقال خالفت أمر الله ونحو هذا من القول ، ولفظ المضارة إذا هو من اثنين يقتضي هذه المعاني كلها( {[2807]} ) ، والكاتب والشهيد على القول الأول رفع بفعلهما وفي القول الثاني رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله ، وأصل { يضار } على القول الثاني «يضارَر » بفتح الراء ، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن ابن مسعود ومجاهد أنهم كانوا يقرؤون «ولا يضارَر » بالفك وتفح الراء الأولى ، وهذا على معنى ، أن يبدأهما بالضرر طالب الكتبة والشهادة ، وذكر ذلك الطبري عنهم في ترجمة هذا القول وفسر القراءة بهذا المعنى فدل ذلك على أن الراء الأولى مفتوحة كما ذكرنا ، وحكى أبو عمرو الداني عن عمر بن الخطاب وابن عباس وابن أبي إسحاق ومجاهد أن الراء الأولى مكسورة ، وحكى عنهم أيضاً فتحها ، وفك الفعل هي لغة أهل الحجاز والإدغام لغة تميم ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وعمرو بن عبيد «ولا يضارْ » بجزم الراء ، قال أبو الفتح : تسكين الراء مع التشديد فيه نظر ، ولكن طريقه أجرى الوصل مجرى الوقف ، وقرأ عكرمة «ولا يضارر » بكسر الراء الأولى «كاتباً ولا شهيداً » بالنصب أي لا يبدأهما صاحب الحق بضرر ، ووجوه المضارة لا تنحصر ، ورى مقسم( {[2808]} ) عن عكرمة أنه قرأ «ولا يضارُ » بالإدغام وكسر الراء للالتقاء ، وقرأ ابن محيصن «ولا يضارِ » برفع الراء مشددة ، قال ابن مجاهد( {[2809]} ) : ولا أدري ما هذه القراءة ؟
قال أبو الفتح هذا الذي أنكره ابن مجاهد معروف ، وذلك على أن تجعل { لا } نفياً أي ليس ينبغي أن يضار كما قال الشاعر : [ الطويل ]
على الْحَكَم الْمَأْتِيّ يوماً إذَا انْقَضَى . . . قَضيَّتَهُ أَنْ لاَ يَجُوزَ وَيَقْصِدُ( {[2810]} )
فرفع ويقصد على إرادة وينبغي أن يقصد فكذلك يرتفع «ولا يضارُّ » على معنى وينبغي أن لا يضار ، قال : وإن شئت كان لفظ خبر على معنى النهي .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قريب من النظر الأول .
وقوله تعالى : { وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم } من جعل المضارة المنهي عنها زيادة الكاتب والشاهد فيما أملي عليهما أو نقصهما منه فالفسوق على عرفه في الشرع وهو مواقعة الكبائر ، لأن هذا من الكذب المؤذي في الأموال والأبشار ، وفيه إبطال الحق ، ومن جعل المضارة المنهي عنها أذى الكتاب والشاهد بأن يقال لهما : أجيبا ولا تخالفا أمر الله أو جعلها امتناعهما إذا دعيا ، فالفسوق على أصله في اللغة الذي هو الخروج من شيء كما يقال فسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها ، وفسقت الرطبة( {[2811]} ) فكأن فاعل هذا فسق عن الصواب والحق في هذه النازلة ، ومن حيث خالف أمر الله في هذه الآية فيقرب الأمر من الفسوق العرفي في الشرع ، وقوله { بكم } تقديره فسوق حال بكم ، وباقي الآية موعظة وتعديد نعمه والله المستعان والمفضل لا رب غيره( {[2812]} ) ، وقيل إن معنى الآية الوعد بأن من اتقى علم الخير وألهمه( {[2813]} ) .