53- يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا في حال إذنه لكم لتناول الطعام غير منتظرين وقت إدراكه ، ولكن إذا دعاكم الرسول فادخلوا ، فإذا طعمتم فانصرفوا ، ولا تمكثوا بعد ذلك مستأنسين لحديث بعضكم بعضا . لأن الدخول بدون إذنه وإطالة المكث بعد الطعام كان يؤذى النبي فيستحيي أن يطلب إليكم الخروج ، ولكن الله - تعالى - لا يمنعه من الجهر بالحق ما يمنع المخلوقين ، وإذا سألتم إحدى زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - حاجة فاسألوهن من وراء حجاب ، ذلك أعظم طهارة لقلوبكم وقلوبهن من وساوس الشيطان ، وما صح لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تتزوجوا نساءه من بعده أبدا . احتراما له ولهن . إن ذلكم كان عند الله ذنباً عظيما{[179]} .
قوله تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم } الآية . قال أكثر المفسرين : نزلت هذه الآية في شأن وليمة زينب بنت جحش حين بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا يحيى بن بكير ، أنبأنا الليث عن عقيل ، عن ابن شهاب ، أخبرني أنس بن مالك أنه كان ابن عشر سنين مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، قال : وكانت أم هانئ تواظبني على خدمة النبي صلى الله عليه وسلم ، فخدمته عشر سنين ، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشرين سنة ، فكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل ، فكان أول ما أنزل في مبتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش ، أصبح النبي صلى الله عليه وسلم بها عروساً فدعا القوم فأصابوا من الطعام ثم خرجوا ، وبقي رهط منهم عند النبي صلى الله عليه وسلم فأطالوا المكث ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فخرج وخرجت معه لكي يخرجوا ، فمشى النبي صلى الله عليه وسلم ومشيت حتى جاء حجرة عائشة ، ثم ظن أنهم قد خرجوا فرجع ورجعت معه ، حتى إذا دخل على زينب فإذا هم جلوس لم يقوموا ، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم ، ورجعت معه حتى إذا بلغ عتبة حجرة عائشة وظن أنهم قد خرجوا فرجع ورجعت معه فإذا هم قد خرجوا ، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينه الستر ، وأنزل الحجاب . وقال أبو عثمان واسمه الجعد عن أنس قال : فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت وأرخى الستر وإني لفي الحجرة ، وهو يقول : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم } إلى قوله : { والله لا يستحيي من الحق } . وروي عن ابن عباس أنها نزلت في ناس من المسلمين كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك ثم يأكلون ولا يخرجون ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأذى بهم ، فنزلت : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم } يقول : إلا أن تدعوا ، { إلى طعام } فيؤذن لكم فتأكلونه ، { غير ناظرين إناه } غير منتظرين إدراكه ووقت نضجه ، يقال : أنى الحميم : إذا انتهى حره ، وإني أن يفعل ذلك : إذا حان ، إنى بكسر الهمزة مقصورة ، فإذا فتحتها مددت فقلت الإناء ، وفيه لغتان إني يأني ، وآن يئين ، مثل : حان يحين . { ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم } أكلتم الطعام ، { فانتشروا } تفرقوا واخرجوا من منزله ، { ولا مستأنسين لحديث } ولا طالبين الأنس للحديث ، وكانوا يجلسون بعد الطعام يتحدثون طويلاً فنهواً عن ذلك . { إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق } أي : لا يترك تأديبكم وبيان الحق حياءً . { وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب } أي : من وراء ستر ، فبعد آية الحجاب لم يكن لأحد أن ينظر إلى امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم متنقبة كانت أو غير متنقبة ، { ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } من الريب . وقد صح في سبب نزول آية الحجاب ما أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا يحيى بن بكير ، أنبأنا الليث ، حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة : " أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع ، وهو صعيد أفيح ، وكان عمر يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : احجب نساءك ، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي عشاء ، وكانت امرأة طويلة ، فناداها عمر : ألا قد عرفناك يا سودة حرصاً على أن ينزل الحجاب فأنزل الحجاب " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أنبأنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أنبأنا عبد الرحيم بن منيب ، أنبأنا يزيد بن هارون ، أنبأنا حميد ، عن أنس قال : قال عمر : " وافقني ربي في ثلاث ، قلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ؟ فأنزل الله : { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } وقلت : يا رسول الله إنه يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ؟ فأنزل الله آية الحجاب ، قال : وبلغني بعض ما آذى به رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه ، قال : فدخلت عليهن فجعلت استقريهن واحدة واحدة ، قلت : والله لتنتهن أو ليبدلنه الله أزواجاً خيراً منكن ، حتى أتيت على زينب فقالت : يا عمر ما كان في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت ، قال : فخرجت فأنزل الله عز وجل : { عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن } إلى آخر الآية . قوله عز وجل : { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } ليس لكم أذاه في شيء من الأشياء ، { ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا } نزلت في رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لئن قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنكحن عائشة . قال مقاتل بن سليمان : هو طلحة بن عبيد الله ، فأخبره الله عز وجل أن ذلك محرم ، وقال : { إن ذلكم كان عند الله عظيماً } أي : ذنباً عظيماً . وروى معمر عن الزهري ، أن العالية بنت ظبيان التي طلقها النبي صلى الله عليه وسلم تزوجت رجلاً وولدت له ، وذلك قبل تحريم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على الناس .
ثم ساقت السورة الكريمة بعد لك ألوانا من التشريعات الحكيمة ، والأداب القويمة ، التى تتعلق بدخول بيوت النبى صلى الله عليه وسلم ، وبحقوق أزواجه صلى الله عليه وسلم فى حياته وبعد مماته ، وبوجوب احترامه وتوقيره صلى الله عليه وسلم فقال - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ . . . . بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } .
ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي . . . } روايات متعددة منها ، ما ثبت فى الصحيحين عن عمر بن الخطاب أنه قال : وافقت ربى فى ثلاث . فقلت : يا رسول الله ، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فأنزل الله - تعالى - : { واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } وقلت : يا رسول الله ، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر ، فلو حجبتهن ، فأنزل الله آية الحجاب . وقلت لأزواج النبى صلى الله عليه وسلم ما تمالأن عليه فى الغيرة { عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ } فنزل كذلك .
وروى البخارى عن أنس بن مالك - رضى الله عنه - قال : لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب جحش ، دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون ، فإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا . فلما رأى ذلك قام ، فلما قام صلى الله عليه وسلم قام معه من قام ، وقعد ثلاثة نفر . فجاء النبى صلى الله عليه وسلم ليدخل ، فإذا القوم جلوس ، ثم إنهم قاموا ، فانطلقت فجئت فأخبرت النبى صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا . فجاء حتى دخل ، فذهبت أدخل ، فألقى الحجاب بينى وبينه ، فأنزل الله - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي . . . } الآية .
قال ابن كثير : وكان وقت نزولها فى صبيحة عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش : التى تولى الله - تعالى - تزويجها بنفسه ، وكان ذلك فى ذى القعدة من السنة الخامسة ، فى قول قتادة والواقدى وغيرهما .
والمراد ببيوت النبى : المساكن التى اعدها صلى الله عليه وسلم لسكنى أزواجه .
والاستثناء فى قوله - تعالى - : { إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } استثناء مفرغ من أعم الأحوال .
وقوله : { غَيْرَ نَاظِرِينَ } حال من ضمير { تَدْخُلُواْ } و { إِنَاهُ } أى : نضجه وبلوغه الحد الذى يؤكل معه . يقال : أنَى الطعام يأنَى أنْياً وإِنى - كقلى يقلى - إذا نضج وكان معدا للأكل .
والمعنى : يامن آمنتم بالله - تعالى - حق الإِيمان ، لا تدخلوا بيوت النبى صلى الله عليه وسلم فى حال من الأحوال ، إلا فى حال الإِذن لكم بدخولها من أجل حضور طعام تدعون إلى تناوله ، وليكن حضوركم فى الوقت المناسب لتناوله ، لا قبل ذلك بأن تدخلوا البيوت بدون استئذان ، فإذا وجدوا طعاما يعد ، انتظروا حتى ينضج ليأكلوا منه .
فالنهى فى الآية الكريمة مخصوص بمن دخل من غير دعوة ، وبمن دخل بدعوة ولكنه مكث منتظرا للطعام حتى ينضج ، دون أن تكون هناك حاجة لهذا الانتظار . أما إذا كان الدخول بدعوة أو لحضور طعام بدون انتظار مقصود لوقت نضجه ، فلا يتناوله النهى .
قال الآلوسى : والآية على ما ذهب إليه جمع من المفسرين ، خطاب لقوم كانوا يتحينون طعام النبى صلى الله عليه وسلم فيدخلون وقعدون منتظرين لإِدراكه ، فهى مخصوصة بهم وبأمثالهم ممن يفعل مثل فعلهم فى المستقبل . فالنهى مخصوص بمن دخل بغير دعوة ، وجلس منتظرا للطعام من غير حاجة فى تفيد النهى عن الدخول بإذن لغير طعام ، ولا من الجلوس واللبث بعد الطعام لمهم آخر .
وقوله - سبحانه - { وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا } استدراك على ما فهم من النهى عن الدخول بغير إذن ، وفيه إشعار بأن الإِذن متضمن معنى الدعوة .
أى : لا تدخلوا بدون إذن ، فإذا أذن لكم ودعيتم إلى الطعام فادخلوا لتناوله وقوله - تعالى - { فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } بيان للون آخر من ألوان الآداب الحكيمة التى شرعها الإِسلام فى تناول الطعام عند الغير .
أى : إذا دعيتم لحضور طعام فى بيت النبى صلى الله عليه وسلم فادخلوا ، فإذا ما انتهيتم من طعامكم عنده ، فتفرقوا ولا تمكثوا فى البيت مستأنسين لحديث بعضكم مع بعض ، أو لحديثكم مع أهل البيت .
فقوله { مُسْتَأْنِسِينَ } مأخوذ من الأنس بمعنى السرور والارتياح للشئ . تقول : أنست لحديث فلان ، فإذا سررت له ، وفرحت به .
وأطلق - سبحانه - نفى الاستئناس للحديث ، من غير بيان صاحب الحديث ، للإِشعار بأن المكث بعد الطعام غير مرغوب فيه على الإِطلاق ، ما دام ليس هناك من حاجة إلى هذا المكث . وهذا أدب عام لجميع المسلمين .
واسم الإِشارة فى قوله : { إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النبي فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ } يعود إلى الانتظار والاستئناس للحديث ، والدخول بغير إذن . والجملة بمثابة التعليل لما قبلها .
أى : إن ذلكم المذكور كان يؤذى النبى صلى الله عليه وسلم كان يستحيى أن يصرح لكم بذلك ، لسمو خلقه ، وكما أدبه ، كما أنه صلى الله عليه وسلم كان يستحيى أن يقول لكم كلاما تدركون منه أنه يريد انصرافكم .
وقوله - تعالى - : { والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق } أى : والله - تعالى - لا يستحيى من إظهار الحق ومن بيانه ، بل من شأنه - سبحانه - أن يقول الحق ، ولا يسكت عن ذلك .
وإذا كان الرسول صلى الله عليه سولم قد منعه حياؤه من أن يقول قولا تفهمون منه ضجره من بقائكم فى بيته بعد تناول طعامكم عنده . . . فإن الله - تعالى - وهو خالقكم لا يمتنع عن بيان الحق فى هذه الأمور وفى غيرها ، حتى تتأدبوا بأدب القويم . ثم ذكر - سبحانه - بعض الآداب التى يجب عليهم أن يلتزموها مع نساء نبيهم صلى الله عليه وسلم فقال : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ . . } .
أى : وإذا طلبتم - أيها المؤمنون - من أزواج النبى صلى الله عليه وسلم شيئا يتمتع به سواء أكان هذا الشئ حسيا كالطعام أم معنويا كمعرفة بعض الأحكام الشرعية .
. إذا سألتموهن شيئا من ذلك فليكن سؤالكم لهن من وراء حجاب ساتر بينكم وبينهن . .
لأن سؤالكم إياهن بهذه الطريقة ، أظهر لقلوبكم وقلوبهن ، وأبعد عن الوقوع فى الهواجس الشيطانية التى قد تتولد عن مشاهدتكم لهن ، ومشاهدتهن لكم . .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً } .
أى : وما صح وما استقام لكم - أيها المؤمنون - أن تؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأى لون من ألوان الأذى ، سواء أكان بدخول بيوته بغير إذنه ، أم بحضوركم إليها انتظارا لنضج الطعام بجلوسكم بعد الأكل بدون مقتض لذلك ، أم بغير ذلك مما يتأذى به صلى الله عليه وسلم .
كما أنه لا يصح لكم بحال من الأحوال أن تنكحوا أزواجه من بعده ، أى : من بعد وفاته .
{ إِنَّ ذلكم } أى : إيذاءه ونكاح أزواجه من بعده { كَانَ عِندَ الله } - تعالى - ذنبا { عَظِيماً } وإثما جسيما ، لا يقادر قدره .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النّبِيّ إِلاّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىَ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النّبِيّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوَاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللّهِ عَظِيماً } .
يقول تعالى ذكره لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أيها الذين أمنوا بالله ورسوله ، لا تدخلوا بيوت نبيّ الله إلا أن تُدْعَوا إلى طعام تطعمونه غَيرَ ناظِرِينَ إناهُ يعني : غير منتظرين إدراكه وبلوغه وهو مصدر من قولهم : قد أنى هذا الشيء يَأنِي إنىً وأنْيا وإنَاءً قال الحُطَيئة :
وآنَيْتُ العَشاءَ إلى سُهَيْلٍ *** أوِ الشّعْرَى فَطالَ بيَ الأَناءُ
وفيه لغة أخرى ، يقال : قد إن لك : أي تبين لك إينا ، ونال لك ، وأنال لك ومنه قول رُؤبة بن العَجاج :
هاجَتْ وَمِثْلِي نَوْلُه أنْ يَرْبَعا *** حَمامَةٌ ناخَتْ حَماما سُجّعا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : إلى طَعامٍ غيرَ ناظِرِينَ إناهُ قال : مُتَحَيّنين نُضْجَه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، غيرَ ناظِرِينَ إناهُ يقول : غير ناظرين الطعامَ أن يُصْنَع .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة غيرَ ناظِرِينَ إناهُ قال : غير متحينين طعامه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله .
ونصب غيرَ في قوله : غَيرَ ناظِرِينَ إناهُ على الحال من الكاف والميم في قوله : إلاّ أنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ لأن الكاف والميم معرفة وغير نكرة ، وهي من صفة الكاف والميم . وكان بعض نحويّي البصرة يقول : لا يجوز في «غير » الجرّ على الطعام ، إلا أن تقول : أنتم ، ويقول : ألا ترى أنك لو قلت : أبدى لعبد الله عليّ امرأة مبغضا لها ، لم يكن فيه إلا النصب ، إلا أن تقول : مبغض لها هو ، لأنك إذا أجريت صفته عليها ، ولم تظهر الضمير الذي يدلّ على أن الصفة له لم يكن كلاما ، لو قلت : هذا رجل مع امرأةٍ مُلازِمِها ، كان لحنا ، حتى ترفع ، فتقول ملازمُها ، أو تقول مُلازمِهَا هُو ، فتجرّ .
وكان بعض نحويي الكوفة يقول : لو جعلت «غير » في قوله : غَيرَ ناظِرِينَ إناهُ خفضا كان صوابا ، لأن قبلها الطعام وهو نكرة ، فيجعل فعلهم تابعا للطعام ، لرجوع ذكر الطعام في إناه ، كما تقول العرب : رأيت زيدا مع امرأةٍ محسنا إليها ومحسنٍ إليها ، فمن قال محسنا جعله من صفة زيد ، ومن خفضه فكأنه قال : رأيته مع التي يحسن إليها فإذا صارت الصلة للنكرة أتبعتها وإن كانت فعلاً لغير النكرة ، كما قال الأعشى :
فَقُلْتُ لَهُ هَذِهِ هاتِها *** إلَيْنا بِأَدْماءَ مُقْتادِها
فجعل المقتاد تابعا لإعراب بأدماء ، لأنه بمنزلة قولك : بأدماء تقتادها ، فخفضه ، لأنه صلة لها ، قال : ويُنْشَد : «بأدماءِ مقتادِها » بخفض الأدماء لإضافتها إلى المقتاد ، قال : ومعناه : هاتها على يدي من اقتادها . وأنشد أيضا :
وَإنّ امْرَأً أهْدَى إلَيْكِ ودُونَهُ *** مِن الأرْضِ مَوْماةٌ وَبَيْداءُ فَيْهَقُ
لَمَحْقُوقَةٌ أنْ تَسْتَجِيبي لِصَوْتِهِ *** وأنْ تعْلَمي أنّ المُعانَ مُوَفّقُ
وحُكِي عن بعض العرب سَمَاعا يُنْشِد :
أرأيْتِ إذْ أعْطَيْتُكِ الوُدّ كُلّه *** ولمْ يَكُ عِنْدي إنْ أَبَيْتِ إباءُ
أمُسْلِمَتِي للْمَوْتِ أنْتِ فَمَيّتٌ *** وَهَلْ للنّفُوسِ المُسْلِماتِ بَقاءُ
ولم يقل : فميت أنا ، وقال الكسائي : سمعت العرب تقول : يدك باسطها ، يريدون أنت ، وهو كثير في الكلام ، قال : فعلى هذا يجوز خفض «غير » .
والصواب من القول في ذلك عندنا ، القول بأجازة جرّ «غير » في «غير ناظرين » في الكلام ، لا في القراءة ، لما ذكرنا من الأبيات التي حكيناها فأما في القراءة فغير جائز في «غير » غير النصب ، لإجماع الحجة من القرّاء على نصبها .
وقوله : وَلَكِنْ إذا دُعِيتُمْ فادْخُلُوا يقول : ولكن إذا دعاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فادخلوا البيت الذي أذن لكم بدخوله فإذَا طَعِمْتُمْ فانْتَشِرُوا يقول : فإذا أكلتم الطعام الذي دعيتم لأكله فانتشروا ، يعني فتفرّقوا واخرجوا من منزله . وَلا مُسْتأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ فقوله : وَلا مُسْتأْنِسينَ لِحَديثٍ في موضع خفض عطفا به على ناظرين ، كما يقال في الكلام : أنت غير ساكت ولا ناطق . وقد يحتمل أن يقال : «مستأنسين » في موضع نصب عطفا على معنى ناظرين ، لأن معناه : إلا أن يؤذن لكم إلى طعام لا ناظرين إناه ، فيكون قوله : وَلا مُسْتأْنِسِينَ نصبا حينئذ ، والعرب تفعل ذلك إذا حالت بين الأوّل والثاني ، فتردّ أحيانا على لفظ الأوّل ، وأحيانا على معناه ، وقد ذكر الفراء أن أبا القمقام أنشده :
أجِدّك لَسْتَ الدّهْرَ رَائيَ رَامَةٍ *** وَلا عاقِلٍ إلاّ وأنْتَ جَنِيبُ
وَلا مُصْعِدٍ فِي المُصْعِدِينَ لَمِنْعِجٍ *** وَلا هابِطا ما عِشْتُ هَضْبَ شَطِيبِ
فردّ «مصعد » على أن «رائي » فيه باء خافضة ، إذ حال بينه وبين المصعد مما حال بينهما من الكلام .
ومعنى قوله : وَلا مُسْتأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ : ولا متحدّثين بعد فراغكم من أكل الطعام إيناسا من بعضكم لبعض به ، كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَلا مُسْتأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ بعد أن تأكلوا .
واختلف أهل العلم في السبب الذي نزلت هذه الاَية فيه ، فقال بعضهم : نزلت بسبب قوم طعموا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وليمة زينب بنت جحش ، ثم جلسوا يتحدّثون في منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حاجة ، فمنعه الحياء من أمرهم بالخروج من منزله . ذكر من قال ذلك :
حدثني عمران بن موسى القزاز ، قال : حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا عبد العزيز بن صُهَيب ، عن أنس بن مالك ، قال : بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش ، فبعثت داعيا إلى العطام ، فدعوت ، فيجيء القوم يأكلون ويخرجون ثم يجيء القوم يأكلون ويخرجون ، فقلت : يا نبيّ الله قد دعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه ، قال : «ارفعوا طعامكم » ، وإن زينب لجالسة في ناحية البيت ، وكانت قد أعطيت جمالاً ، وبقي ثلاثة نفر يتحدّثون في البيت ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم منطلقا نحو حجرة عائشة ، فقال : «السّلامُ عَلَيْكُمْ أهْلَ البَيْتِ » فقالوا : وعليك السلام يا رسول الله ، كيف وجدت أهلك ؟ قال : فأتى حجر نسائه ، فقالوا مثل ما قالت عائشة ، فرجع النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإذا الثلاثة يتحدّثون في البيت ، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم شديد الحياء ، فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم منطلقا نحو حجرة عائشة ، فلا أدري أَخبرَتْه ، أو أُخبر أن الرهط قد خرجوا ، فرجع حتى وضع رجله في أُسكفّة داخل البيت ، والأخرى خارجه ، إذ أرخى الستر بيني وبينه ، وأُنزلت آية الحجاب .
حدثني أبو معاوية بشر بن دحية ، قال : حدثنا سفيان ، عن الزهريّ ، عن أنس بن مالك ، قال : سألني أبيّ بن كعب عن الحجاب ، فقلت : أنا أعلم الناس به ، نزلت في شأن زينب أولم النبيّ صلى الله عليه وسلم عليها بتمر وسويق ، فنزلت : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النّبِيّ إلاّ أنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى قوله : ذَلِكُمْ أطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ .
حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : ثني عمي ، قال : أخبرني يونس ، عن الزهريّ ، قال : أخبرني أنس بن مالك أنه كان ابن عشر سنين مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل في مبتني رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بها عروسا ، فدعا القوم فأصابوا من الطعام حتى خرجوا ، وبقي منهم رهط عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطالوا المكث ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج ، وخرجت معه لكي يخرجوا ، فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشيت معه ، حتى جاء عتبة حجرة عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ثم ظنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قد خرجوا ، فرجع ورجعت معه ، حتى دخل على زينب ، فإذا هم جلوس لم يقوموا ، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجعت معه ، فإذا هم قد خرجوا ، فضرب بيني وبينه سترا ، وأنزل الحجاب .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن حميد ، عن أنس ، قال : دعوت المسلمين إلى وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، صبيحة بنى بزينب بنت جحش ، فأوسعهم خبزا ولحما ، ثم رجع كما كان يصنع ، فأتى حجر نسائه فسلم عليهنّ ، فدعون له ، ورجع إلى بيته وأنا معه فلما انتهينا إلى الباب إذا رجلان قد جرى بهما الحديث في ناحية البيت ، فلما أبصرهما ولى راجعا فلما رأيا النبيّ صلى الله عليه وسلم ولّى عن بيته ، ولّيا مُسْرِعين ، فلا أدري أنا أخبرته ، أو أُخبر فرجع إلى بيته ، فأرخى الستر بيني وبينه ، ونزلت آية الحجاب .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن حميد ، عن أنس بن مالك ، قال : قال عمر بن الخطاب : قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو حجبت عن أمهات المؤمنين ، فإنه يدخل عليك البرّ والفاجر ، فنزلت آية الحجاب .
حدثني القاسم بن بشر بن معروف ، قال : حدثنا سليمان بن حرب ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أنس بن مالك ، قال : أنا أعلم الناس بهذه الاَية ، آية الحجاب لما أُهديت زينب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع طعاما ، ودعا القوم ، فجاؤوا فدخلوا وزينب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت ، وجعلوا يتحدّثون ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج ثم يدخل وهم قعود ، قال : فنزلت هذه الاَية : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النّبِيّ . . . . إلى : فاسأَلُوهُنّ مِنْ وَرَاءِ حِجابٍ قال : فقام القوم وضرب الحجاب .
حدثني عمر بن إسماعيل بن مجالد ، قال : حدثنا أبي ، عن بيان ، عن أنس بن مالك ، قال : بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من نسائه ، فأرسلني ، فدعوت قوما إلى الطعام فلما أكلوا وخرجوا ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم منطلقا قِبَلَ بيت عائشة ، فرأى رجلين جالسين ، فانصرف راجعا ، فأنزل الله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النّبِيّ إلاّ أنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا المسعودي ، قال : حدثنا ابن نهشل ، عن أبي وائل ، عن عبد الله ، قال : أمر عمر نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم بالحجاب ، فقالت زينب : يا بن الخطاب ، إنك لتغار علينا ، والوحي ينزل في بيوتنا ، فأنزل الله : وَإذَا سألْتُمُوهُنّ مَتاعا فاسأَلُوهُنّ مِنْ وَرَاءِ حِجابٍ .
حدثني محمد بن مرزوق ، قال : حدثنا أشهل بن حاتم ، قال : حدثنا ابن عون ، عن عمرو بن سعد ، عن أنس ، قال : وكنت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وكان يمرّ على نسائه ، قال : فأتى بامرأة عروس ، ثم جاء وعندها قوم ، فانطلق فقضى حاجته ، واحتبس وعاد وقد خرجوا قال : فدخل فأرخى بيني وبينه سترا ، قال : فحدثت أبا طلحة ، فقال : إن كان كما تقول : لينزلنّ في هذا شيء ، قال : ونزلت آية الحجاب .
وقال آخرون : كان ذلك في بيت أمّ سلمة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَلَكِنْ إذَا دُعِيُتمْ فادْخُلُوا فإذَا طَعِمْتُمْ فانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسينَ لِحَدِيثٍ قال : كان هذا في بيت أمّ سلمة ، قال : أكلوا ، ثم أطالوا الحديث ، فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يدخل ويخرج ويستحي منهم ، والله لا يستحي من الحق .
قال : ثنا سعيد ، عن قتادة : وَإذَا سألْتُمُوهُنّ مَتاعا فاسأَلُوهُنّ مِنْ وَرَاءِ حِجابٍ قال : بلغنا أنهنّ أُمرن بالحجاب عند ذلك .
وقوله : إنّ ذَلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النّبِيّ . يقول : إن دخولكم بيوت النبيّ من غير أن يؤذن لكم ، وجلوسكم فيها مستأنسين للحديث بعد فراغكم من أكل الطعام الذي دعيتم له ، كان يؤذي النبيّ ، فيستحي منكم أن يخرجكم منها إذا قعدتم فيها للحديث بعد الفراغ من الطعام ، أو يمنعكم من الدخول إذا دخلتم بغير إذن مع كراهيته لذلك منكم وَاللّهُ لا يَسْتحْيِ مِنَ الحَقّ أن يتبين لكم ، وإن استحيا نبيكم فلم يبين لكم كراهية ذلك حياء منكم وَإذَا سألْتَمُوهُنّ مَتاعا فاسأَلُوهُنّ مِنْ وَرَاءِ حِجابٍ يقول : وإذا سألتم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج متاعا فاسأَلُوهُنّ مِنْ وَرَاءِ حِجاب يقول : من وراء ستر بينكم وبينهنّ ، ولا تدخلوا عليهنّ بيوتهنّ ذَلِكُمْ أطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ يقول تعالى ذكره : سؤالكم إياهنّ المتاع إذا سألتموهنّ ذلك من وراء حجاب أطهر لقلوبكم وقلوبهنّ من عوارض العين فيها التي تعرض في صدور الرجال من أمر النساء ، وفي صدور النساء من أمر الرجال ، وأحرى من أن لا يكون للشيطان عليكم وعليهنّ سبيل .
وقد قيل : إن سبب أمر الله النساء بالحجاب ، إنما كان من أجل أن رجلاً كان يأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة معهما ، فأصابت يدها يد الرجل ، فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن ليث ، عن مجاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطعم ومعه بعض أصحابه ، فأصابت يد رجل منهم يد عائشة ، فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت آية الحجاب .
وقيل : نزلت من أجل مسألة عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ويعقوب ، قالا : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا حميد الطويل ، عن أنس ، قال : قال عمر بن الخطاب : قلت : يا رسول الله ، إن نساءك يدخل عليهنّ البرّ والفاجر ، فلو أمرتهن أن يحتجبن ؟ قال : فنزلت آية الحجاب .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا حميد ، عن أنس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه .
حدثني أحمد بن عبد الرحمن ، قال : ثني عمرو بن عبد الله بن وهب ، قال : ثني يونس ، عن الزهريّ ، عن عروة ، عن عائشة قالت : إن أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم كنّ يخرجن بالليل إذا تبرّزن إلى «المناصع » وهو صعيد أفيح ، وكان عمر يقول : يا رسول الله ، احجب نساءك ، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ، فخرجت سودة بنت زمعة ، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وكانت امرأة طويلة ، فناداها عمر بصوته الأعلى : قد عرفناك يا سودة ، حرصا أن ينزل الحجاب ، قال : فأنزل الله الحجاب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : خرجت سودة لحاجتها بعد ما ضرب علينا الحجاب ، وكانت امرأة تفرع النساء طولاً ، فأبصرها عمر ، فناداها : يا سودة ، إنك والله ما تخفين علينا ، فانظري كيف تخرجين ، أو كيف تصنعين ؟ فانكفأت فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه ليتعشى ، فأخبرته بما كان ، وما قال لها ، وإن في يده لعَرْقا ، فأوحي إليه ، ثم رفع عنه ، وإن العَرْق لفي يده ، فقال : «لقد أُذن لكنّ أن تخرجن لحاجتكنّ » .
حدثني أحمد بن محمدالطوسي ، قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : حدثنا همام ، قال : حدثنا عطاء بن السائب ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود ، قال : أمر عمر نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم بالحجاب فقالت زينب : يا ابن الخطاب ، إنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا ؟ فأنزل الله : وَإذَا سألْتُمُوهُنّ مَتاعا فاسأَلُوهُنّ مِنْ وَرَاءِ حِجابٍ .
حدثني أبو أيوب النهراني سليمان بن عبد الحميد ، قال : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، قال : ثني ابن حرب ، عن الزبيدي ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة أن أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، كنّ يخرجن بالليل إذا تبرّزن إلى «المناصع » وهو صعيد أفيح وكان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : احجب نساءك ، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي عشاء ، وكانت امرأة طويلة ، فناداها عمر بصوته الأعلى : قد عرفناك يا سودة ، حرصا على أن ينزل الحجاب ، قالت عائشة : فأنزل الله الحجاب ، قال الله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا . . . الاَية .
وقوله : وَما كانَ لَكُمْ أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّهِ يقول تعالى ذكره : وما ينبغي لكم أن تؤذوا رسول الله ، وما يصلح ذلك لكم وَلا أنْ تَنْكِحُوا أزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أبَدا يقول : وما ينبغي لكم أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا لأنهنّ أمهاتكم ، ولا يحلّ للرجل أن يتزوّج أمه .
وذُكر أن ذلك نزل في رجل كان يدخل قبل الحجاب ، قال : لئن مات محمد لأتزوجنّ امرأة من نسائه سماها ، فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك : وَما كانَ لَكُمْ أن تُؤْذُوا رَسُولَ اللّهِ وَلا أنْ تَنْكِحُوا أزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أبَدا . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَما كانَ لَكُمْ أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّهِ وَلا أنْ تَنْكِحُوا أزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أبَدا إنّ ذَلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللّهِ عَظِيما قال : ربما بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم أن الرجل يقول : لو أن النبيّ صلى الله عليه وسلم توفي تزوّجت فلانة من بعده ، قال : فكان ذلك يؤذي النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فنزل القرآن : وَما كانَ لَكُمْ أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّهِ . . . . الاَية .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن عامر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مات ، وقد ملك قيلة بنت الأشعث ، فتزوّجها عكرمة بن أبي جهل بعد ذلك ، فشقّ على أبي بكر مشقة شديدة ، فقال له عمر : يا خليفة رسول الله إنها ليست من نسائه إنها لم يخيرّها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يحجبها ، وقد برأها منه بالردّة التي ارتدّت مع قومها ، فاطمأنّ أبو بكر وسكن .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وقد ملك بنت الأشعث بن قيس ، ولم يجامعها ، ذكر نحوه .
وقوله : إنّ ذَلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللّهِ عَظِيما يقول : إن أذاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكاحكم أزواجه من بعده عند الله عظيم من الإثم .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم } إلا وقت أن يؤذن لكم أو إلا مأذونا لكم . { إلى طعام } متعلق ب { يؤذن } لأنه متضمن معنى يدعى للإشعار بأنه لا يحسن الدخول على الطعام من غير دعوة وإن أذن كما أشعر به قوله : { غير ناظرين إناه } غير منتظرين وقته ، أو إدراكه حال من فاعل { لا تدخلوا } أو المجرور في { لكم } . وقرئ بالجر صفة لطعام فيكون جاريا على غير من هو له بلا إبراز الضمير ، وهو غير جائز عند البصريين وقد أمال حمزة والكسائي إناه لأنه مصدر أنى الطعام إذا أدرك . { ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا } تفرقوا ولا تمكثوا ، ولأنه خطاب لقوم كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه مخصوصة بهم وبأمثالهم وإلا لما جاز أحد أن يدخل بيوته بالإذن لغير الطعام ولا اللبث بعد الطعام لهم . { ولا مستأنسين لحديث } لحديث بعضكم بعضا ، أو لحديث أهل البيت بالتسمع له عطف على { ناظرين } أو مقدر بفعل أي : ولا تدخلوا أو ولا تمكثوا مستأنسين . { إن ذلكم } اللبث . { كان يؤذي النبي } لتضييق المنزل عليه وعلى أهله وإشغاله بما لا يعنيه . { فيستحي منكم } من إخراجكم بقوله : { والله لا يستحيي من الحق } يعني أن إخراجكم حق فينبغي أن لا يترك حياء كما لم يتركه الله ترك الحيي فأمركم بالخروج ، وقرئ " لا يستحي " بحذف الياء الأولى وإلقاء حركتها على الحاء . { وإذا سألتموهن متاعا } شيئا ينتفع به . { فاسألوهن } المتاع . { من وراء حجاب } ستر . روي " أن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فنزلت " . وقيل أنه عليه الصلاة والسلام كان يطعم ومعه بعض أصحابه ، فأصابت يد رجل عائشة رضي الله عنها فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فنزلت . { ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } من الخواطر النفسانية الشيطانية . { وما كان لكم } وما صح لكم . { أن تؤذوا رسول الله } أن تفعلوا ما يكرهه . { ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا } من بعد وفاته أو فراقه ، وخص التي لم يدخل بها ، لما روي أن أشعث بن قيس تزوج المستعيذة في أيام عمر رضي الله عنه فهم برجمها ، فأخبر بأنه عليه الصلاة والسلام فارقها قبل أن يمسها فتركها من غير نكير . { إن ذلكم } يعني إيذاءه ونكاح نسائه . { كان عند الله عظيما } ذنبا عظيما ، وفيه تعظيم من الله لرسوله وإيجاب لحرمته حيا وميتا ولذلك بالغ في الوعيد عليه فقال : { إن تبدوا شيئا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا }
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه} نضجه وبلاغه.
{ولكن إذا دعيتم فادخلوا} على النبي صلى الله عليه وسلم في بيته {فإذا طعمتم} الطعام {فانتشروا} فقوموا من عنده وتفرقوا.
{ولا مستأنسين لحديث} وذلك أنهم كانوا يجلسون عند النبي صلى الله عليه وسلم قبل الطعام وبعد الطعام، وكان ذلك في بيت أم سلمة بنت أبي أمية أم المؤمنين، فيتحدثون عنده طويلا، فكان ذلك يؤذيه ويستحيي أن يقول لهم قوموا، وربما أحرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيته يتحدثون، فذلك قوله عز وجل: {ولا مستأنسين لحديث}.
ثم أمر الله تبارك وتعالى نبيه بالحجاب على نسائه... فأمر الله تعالى المؤمنين ألا يكلموا نساء النبي إلا من وراء حجاب، فذلك قوله: {وإذا سألتموهن متاعا فسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم} من الريبة.
{وقلوبهن} وأطهر لقلوبهن من الريبة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الذين أمنوا بالله ورسوله، لا تدخلوا بيوت نبيّ الله إلا أن تُدْعَوا إلى طعام تطعمونه "غَيرَ ناظِرِينَ إناهُ "يعني: غير منتظرين إدراكه وبلوغه...
وقوله: "وَلَكِنْ إذا دُعِيتُمْ فادْخُلُوا" يقول: ولكن إذا دعاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فادخلوا البيت الذي أذن لكم بدخوله.
"فإذَا طَعِمْتُمْ فانْتَشِرُوا" يقول: فإذا أكلتم الطعام الذي دعيتم لأكله فانتشروا، يعني فتفرّقوا واخرجوا من منزله.
"وَلا مُسْتأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ":... ولا متحدّثين بعد فراغكم من أكل الطعام إيناسا من بعضكم لبعض به...
وقوله: "إنّ ذَلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النّبِيّ". يقول: إن دخولكم بيوت النبيّ من غير أن يؤذن لكم، وجلوسكم فيها مستأنسين للحديث بعد فراغكم من أكل الطعام الذي دعيتم له، كان يؤذي النبيّ، فيستحي منكم أن يخرجكم منها إذا قعدتم فيها للحديث بعد الفراغ من الطعام، أو يمنعكم من الدخول إذا دخلتم بغير إذن مع كراهيته لذلك منكم. "وَاللّهُ لا يَسْتحْيِ مِنَ الحَقّ" أن يتبين لكم، وإن استحيا نبيكم فلم يبين لكم كراهية ذلك حياء منكم.
"وَإذَا سألْتَمُوهُنّ مَتاعا فاسأَلُوهُنّ مِنْ وَرَاءِ حِجابٍ" يقول: وإذا سألتم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج متاعا "فاسأَلُوهُنّ مِنْ وَرَاءِ حِجاب" يقول: من وراء ستر بينكم وبينهنّ، ولا تدخلوا عليهنّ بيوتهنّ. "ذَلِكُمْ أطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ" يقول تعالى ذكره: سؤالكم إياهنّ المتاع إذا سألتموهنّ ذلك من وراء حجاب أطهر لقلوبكم وقلوبهنّ من عوارض العين فيها التي تعرض في صدور الرجال من أمر النساء، وفي صدور النساء من أمر الرجال، وأحرى من أن لا يكون للشيطان عليكم وعليهنّ سبيل...
وقوله: "وَما كانَ لَكُمْ أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّهِ" يقول تعالى ذكره: وما ينبغي لكم أن تؤذوا رسول الله، وما يصلح ذلك لكم، "وَلا أنْ تَنْكِحُوا أزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أبَدا" يقول: وما ينبغي لكم أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا لأنهنّ أمهاتكم، ولا يحلّ للرجل أن يتزوّج أمه...
وقوله: "إنّ ذَلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللّهِ عَظِيما" يقول: إن أذاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكاحكم أزواجه من بعده عند الله عظيم من الإثم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... جائز أن يكون الأمر بالانتشار والخروج من عنده لما كان لرسول الله أمور وعبادات يحتاج إلى القيام بها، إما بينه وبين الله، وإما بينه وبين غيرهم من الناس، فكانوا يشغلونه عن ذلك، فنهوا عن ذلك لذلك.
{فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق} ورسول الله أيضا كان لا يستحيي من الحق، لكنه يستحيي أن يقول لهم: اخرجوا من منزلي ولا تدخلوا علي، ونحوه...
{والله لا يستحيي من الحق} أي لا يدع ولا يترك أن يعلمهم الحق والأدب.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقَلُوبِهِنَّ}: نَقَلَهم عن مألوفِ العادة إلى معروف الشريعة ومفروض العبادة، وبَيَّنَ أن البَشَرَ بَشَرٌ- وإن كانوا من الصحابة، فقال: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقَلَوبِهِنَّ} فلا ينبغي لأحدٍ أن يأمن نفسه -ولهذا يُشَدَّدُ الأمرُ في الشريعة بألا يخلوَ رجلٌ بامرأة ليس بينهما مَحْرَمَة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {وَمَا كَانَ لَكُمْ}: وما صحّ لكم إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نكاح أزواجه من بعده، وسمى نكاحهن من بعده عظيماً عنده، وهو من أعلام تعظيم الله [تعالى] لرسوله وإيجاب حرمته حياً وميتاً، وإعلامه بذلك مما طيب به [تعالى] نفسه وسر قلبه واستغزر شكره...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَفِي ذَلِكَ سِتَّةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: رُوِيَ عن أَنَسٍ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ: كِتَابِ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ وَاللَّفْظُ لَهُ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ:"تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ بِأَهْلِهِ، فَصَنَعَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ أُمِّي حَيْسًا، فَجَعَلَتْهُ فِي تَوْرٍ، وَقَالَتْ لِي: يَا أَنَسُ اذْهَبْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْ: بَعَثَتْ بِهِ إلَيْك أُمِّي، وَهِيَ تُقْرِئُك السَّلَامَ، وَتَقُولُ لَك: إنَّ هَذَا لَك مِنَّا قَلِيلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَذَهَبْت بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُلْت: إنَّ أُمِّي تُقْرِئُك السَّلَامَ وَتَقُولُ لَك: إنَّ هَذَا لَك مِنَّا قَلِيلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: (ضَعْهُ ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَادْعُ لِي فُلَانًا وَفُلَانًا، وَمَنْ لَقِيت -وَسَمَّى رِجَالًا- فَدَعَوْت مَنْ سَمَّى، وَمَنْ لَقِيت. قَالَ: قُلْت لِأَنَسٍ: عَدَدُكُمْ كَمْ كَانُوا؟ قَالَ: زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ. فَقَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَنَسُ هَاتِ التَّوْرَ قَالَ: فَدَخَلُوا حَتَّى امْتَلَأَتْ الصُّفَّةُ وَالْحُجْرَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِيَتَحَلَّقْ عَشْرَةٌ عَشْرَةٌ، وَلْيَأْكُلْ كُلُّ إنْسَانٍ مِمَّا يَلِيهِ قَالَ: فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا قَالَ: فَخَرَجَتْ طَائِفَةٌ وَدَخَلَتْ طَائِفَةٌ، حَتَّى أَكَلُوا كُلُّهُمْ قَالَ: قَالَ لِي: يَا أَنَسُ، ارْفَعْ قَالَ: فَرَفَعْت، فَمَا أَدْرِي حِينَ وَضَعْت كَانَ أَكْثَرَ أَمْ حِينَ رَفَعْت، قَالَ: وَجَلَسَ مِنْهُمْ طَوَائِفُ يَتَحَدَّثُونَ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وَزَوْجَتُهُ مُوَلِّيَةٌ وَجْهَهَا إلَى الْحَائِطِ، فَثَقُلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ عَلَى نِسَائِهِ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَمَّا رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَجَعَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ ثَقُلُوا عَلَيْهِ، فَابْتَدَرُوا الْبَابَ، وَخَرَجُوا كُلُّهُمْ، وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَرْخَى السِّتْرَ، وَدَخَلَ، وَأَنَا جَالِسٌ فِي الْحُجْرَةِ، فَلَمْ يَلْبَثْ إلَّا يَسِيرًا حَتَّى خَرَجَ عَلَيَّ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَهَا عَلَى النَّاسِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إنَاهُ} إلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَالَ أَنَسٌ: أَنَا أَحْدَثُ النَّاسِ عَهْدًا بِهَذِهِ الْآيَاتِ، وَحُجِبَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)".
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: {فَانْتَشِرُوا}: الْمُرَادُ: تَفَرَّقُوا. من النَّشْرِ، وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُفْتَرَقُ. وَالْمُرَادُ إلْزَامُ الْخُرُوجِ من الْمَنْزِلِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمَقْصُودِ من الْأَكْلِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الدُّخُولَ حَرَامٌ، وَإِنَّمَا جَازَ لِأَجْلِ الْأَكْلِ، فَإِذَا انْقَضَى الْأَكْلُ زَالَ السَّبَبُ الْمُبِيحُ، وَعَادَ التَّحْرِيمُ إلَى أَصْلِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاَللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي من الْحَقِّ}:... وَمَعْنَاهُ هَاهُنَا فَيُمْسِكُ عن كَشْفِ مُرَادِهِ لَكُمْ، فَيَتَأَذَّى بِإِقَامَتِكُمْ، عَلَى مَعْنَى التَّعْبِيرِ عن الشَّيْءِ بِمُقَدِّمَتِهِ، وَهُوَ أَحَدُ وُجُوهِ الْمَجَازِ، أَوْ بِفَائِدَتِهِ وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي، أَوْ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ وَهُوَ الثَّالِثُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} وَهَذَا تَكْرَارٌ لِلْعِلَّةِ، وَتَأْكِيدٌ لِحُكْمِهَا؛ وَتَأْكِيدُ الْعِلَلِ أَقْوَى فِي الْأَحْكَامِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ من بَعْدِهِ أَبَدًا}... اُخْتُلِفَ فِي حَالِهِنَّ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: هَلْ بَقِينَ أَزْوَاجًا أَوْ زَالَ النِّكَاحُ بِالْمَوْتِ... وَمَعْنَى إبْقَاءِ النِّكَاحِ بَقَاءُ أَحْكَامِهِ من تَحْرِيمِ الزَّوْجِيَّةِ، وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى؛ إذْ جُعِلَ الْمَوْتُ فِي حَقِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَنْزِلَةِ الْمَغِيبِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، لِكَوْنِهِنَّ أَزْوَاجًا لَهُ قَطْعًا، بِخِلَافِ سَائِرِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَعَ أَهْلِهِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، فَرُبَّمَا كَانَ أَحَدُهُمْ فِي الْجَنَّةِ وَالْآخَرُ فِي النَّارِ، فَبِهَذَا الْوَجْهِ انْقَطَعَ السَّبَبُ فِي حَقِّ الْخَلْقِ، وَبَقِيَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ...
ثم إن حال الأمة مع النبي على وجهين:
أحدهما: في حال الخلوة، والواجب هناك عدم إزعاجه، وبين ذلك بقوله: {لا تدخلوا بيوت النبي}.
وثانيهما: في الملأ، والواجب هناك إظهار التعظيم، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}.
وقوله {ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن} يعني العين روزنة القلب، فإذا لم تر العين لا يشتهي القلب. أما إن رأت العين فقد يشتهي القلب وقد لا يشتهي، فالقلب عند عدم الرؤية أطهر، وعدم الفتنة حينئذ أظهر.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ متاعا} أي شيئاً يتمتع به، من الماعون وغيره... والمتاع يطلق على كل ما يتمتع به، فلا وجه لما قيل من أن المراد به العارية أو الفتوى أو المصحف.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
{فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ} أي من الإشارة إليكم بالانتشار {وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} يعني أن انتشاركم حق. فينبغي أن لا يترك حياء، كما لا يتركه الله ترك الحيي، فأمركم به ووضع الحق موضع الانتشار، لتعظيم جانبه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن).. فلا يقل أحد غير ما قال الله. لا يقل أحد إن الاختلاط، وإزالة الحجب، والترخص في الحديث واللقاء والجلوس والمشاركة بين الجنسين أطهر للقلوب، وأعف للضمائر، وأعون على تصريف الغريزة المكبوتة، وعلى إشعار الجنسين بالأدب وترقيق المشاعر والسلوك.. إلى آخر ما يقوله نفر من خلق الله الضعاف المهازيل الجهال المحجوبين.
لا يقل أحد شيئا من هذا والله يقول: (وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن).. يقول هذا عن نساء النبي الطاهرات، أمهات المؤمنين، وعن رجال الصدر الأول من صحابة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ممن لا تتطاول إليهن وإليهم الأعناق! وحين يقول الله قولا، ويقول خلق من خلقه قولا؛ فالقول لله -سبحانه- وكل قول آخر هراء، لا يردده إلا من يجرؤ على القول بأن العبيد الفانين أعلم بالنفس البشرية من الخالق الباقي الذي خلق هؤلاء العبيد، والواقع العملي الملموس يهتف بصدق الله وكذب المدعين غير ما يقوله الله، والتجارب المعروضة اليوم في العالم مصدقة لما نقول؛ وهي في البلاد التي بلغ الاختلاط الحر فيها أقصاه أظهر في هذا وأقطع من كل دليل (إن ذلكم كان عند الله عظيما).. وما أهول ما يكون عند الله عظيما!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... وقد أفاد قوله: {والله لا يستحيي من الحق} أن من واجبات دِين الله على الأمة أن لا يستحيي أحد من الحق الإِسلامي في إقامته، وفي معرفته إذا حل به ما يقتضي معرفته، وفي إبلاغه وهو تعليمه، وفي الأخذ به، إلا فيما يرجع إلى الحقوق الخاصة التي يرغب أصحابها في إسقاطها أو التسامح فيها مما لا يغمص حقاً راجعاً إلى غيره؛ لأن الناس مأمورون بالتخلق بصفات الله تعالى اللائقة بأمثالهم بقدر الإِمكان.
والمتاع: ما يحتاج إلى الانتفاع به مثل عارية الأواني ونحوها، ومثل سؤال العفاة، ويلحق بذلك ما هو أولى بالحكم من سؤالٍ عن الدِّين أو عن القرآن، وقد كانوا يسألون عائشة عن مسائل الدين.