44- إن السماوات السبع والأرض ومن فيهن من المخلوقات تنزهه وتقدسه ، وتدل بإتقان صنعها على تنزه الله - سبحانه - عن كل نقص وكمال ملكه ، وأنه لا شريك له ، وما من شيء من المخلوقات في ملكه الواسع إلا ينزهه كذلك مع الثناء عليه ، ولكن الكافرين لا يفهمون هذه الأدلة لاستيلاء الغفلة على قلوبهم ، وكان الله حليماً عليهم غفوراً لمن تاب فلم يعاجلهم بالعقوبة .
قوله تعالى : { تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن } ، قرأ أبو عمرو ، و حمزة ، والكسائي ، حفص ، و يعقوب : تسبح بالتاء وقرأ الآخرون بالياء للحائل بين الفعل والتأنيث . { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } ، روي عن ابن عباس أنه قال : وإن من شيء حي إلا يسبح بحمده . وقال قتادة : يعني الحيوانات والناميات . وقال عكرمة : الشجرة تسبح ، والأسطوانة لا تسبح . وعن المقدام بن معد يكرب قال : إن التراب يسبح ما لم يبتل ، فإذا ابتل ترك التسبيح ، وإن الخرزة تسبح ما لم ترفع من موضعها ، فإذا رفعت تركت التسبيح ، وإن الورقة لتسبح ما دامت على الشجرة فإذا سقطت تركت التسبيح ، وإن الثوب ليسبح ما دام جديداً فإذا وسخ ترك التسبيح ، وإن الماء يسبح مادام جارياً فإذا ركد ترك التسبيح ، وإن الوحش والطير تسبح إذا صاحت فإذا سكنت تركت التسبيح . وقال إبراهيم النخعي : وإن من شيء جماد وحي إلا يسبح بحمده حتى صرير الباب ونقيض السقف . وقال مجاهد : كل الأشياء تسبح ، حياً كان أو ميتاً أو جماداً ، وتسبيحها سبحان الله وبحمده .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن المثنى ، أنبأنا أبو أحمد الزبير ، أنبأنا إسرائيل ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : " كنا نعد الآيات بركة ، وأنتم تعدونها تخويفاً ، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقل الماء فقال : اطلبوا فضلة من ماء ، فجاؤوا بإناء فيه ماء قليل ، فأدخل يده في الإناء ثم قال : حي على الطهور المبارك ، والبركة من الله ، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل " . وقال بعض أهل المعاني : تسبح السماوات والأرض والجمادات وسائر الحيوانات سوى العقلاء ما دلت بلطيف تركيبها وعجيب هيئتها على خالقها ، فيصير ذلك بمنزلة التسبيح منها . والأول هو المنقول عن السلف . واعلم أن الله تعالى علماً في الجمادات لا يقف عليه غيره ، فينبغي أن يوكل علمه إليه . { ولكن لا تفقهون تسبيحهم } أي لا تعلمون تسبيح ما عدا من يسبح بلغاتكم وألسنتكم ، { إنه كان حليماً غفوراً } .
ثم بين - سبحانه - أن جميع الكائنات تسبح بحمده فقال - تعالى - : { تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } .
والتسبيح : مأخوذ من السبح ، وهو المر السريع فى الماء أو فى الهواء ، فالمسبح مسرع فى تنزيه الله وتبرئته من السوء ، ومن كل ما لا يليق به - سبحانه - .
أى تنزه الله - تعالى - وتمجده السموات السبع ، والأرض ، ومن فيهن من الإِنس والجن والملائكة وغير ذلك ، وما من شئ من مخلوقاته التى لا تحصى إلا ويسبح بحمد خالقه - تعالى - ، ولكن أنتم يا بنى آدم { ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } لأن تسبيحهم بخلاف لغتكم ، وفوق مستوى فهمكم ، وإنما الذى يعلم تسبيحهم هو خالقهم عز وجل ، وصدق - سبحانه - إذ يقول : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير } والمتدبر فى هذه الآية الكريمة ، يراها تبعث فى النفوس الخشية والرهبة من الخالق - عز وجل - ، لأنها تصرح تصريحا بليغا بأن كل جماد ، وكل حيوان ، وكل طير ، وكل حشرة . . بل كل كائن فى هذا الوجود يسبح بحمده - تعالى - .
وهذا التصريح يحمل كل إنسان عاقل على طاعة الله ، وإخلاص العبادة له ، ومداومة ذكره . . حتى لا يكون - وهو الذى كرمه ربه وفضله - أقل من غيره طاعة لله - تعالى - .
وقوله : { إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } تذييل قصد به بيان فضل الله - تعالى - ورحمته بعباده مع تقصيرهم فى تسبيحه وذكره .
أى : { إِنَّهُ كَانَ حَلِيماًً } لا يعاجل المقصر بالعقوبة ، بل يمهله لعله يرعوى وينزجر عن تقصيره ومعصيته ، { غفورا } لمن تاب وآمن وعمل صالحا واهتدى إلى صراطه المستقيم .
هذا ، ومن العلماء من يرى أن تسبيح هذه الكائنات بلسان الحال .
قال بعض العلماء تسبيح هذه الكائنات لله - تعالى - هو دلالتها - بإمكانها وحدوثها ، وتغير شئونها ، وبديع صنعها - على وجود مبدعها ، ووحدته وقدرته ، وتنزهه عن لوازم الإِمكان والحدوث ، كما يدل الأثر على المؤثر .
القول في تأويل قوله تعالى : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً * تُسَبّحُ لَهُ السّمَاوَاتُ السّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنّ وَإِن مّن شَيْءٍ إِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلََكِن لاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } .
وهذا تنزيه من الله تعالى ذكره نفسه عما وصفه به المشركون ، الجاعلون معه آلهة غيره ، المضيفون إليه البنات ، فقال : تنزيها لله وعلوّا له عما تقولون أيها القوم ، من الفرية والكذب ، فإن ما تضيفون إليه من هذه الأمور ليس من صفته ، ولا ينبغي أن يكون له صفة . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمّا يَقُولُونَ عُلُوّا كَبِيرا يسبح نفسه إذ قيل عليه البهتان . وقال تعالى : عَمّا يَقُولُونَ عُلُوّا ولم يقل : تعاليا ، كما قال : وَتَبَتّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلاً كما قال الشاعر :
أنْتَ الفِدَاءُ لكَعْبَةٍ هَدّمْتَها *** ونَقَرْتَها بيَدَيْكَ كُلّ مَنَقّرِ
مُنِعَ الحَمامُ مَقِيلَهُ مِنْ سَقْفِها *** ومِنَ الحَطِيمِ فَطارَ كُلّ مُطَيّرِ
وقوله : تُسَبّحُ لَهُ السّمَواتُ السّبْعُ والأرْضُ وَمَنْ فِيهِنّ يقول : تنزّه الله أيها المشركون عما وصفتموه به إعظاما له وإجلالاً ، السموات السبع والأرض ، ومن فيهنّ من المؤمنين به من الملائكة والإنس والجنّ ، وأنتم مع إنعامه عليكم ، وجميل أياديه عندكم ، تفترون عليه بما تَفْتَرون .
وقوله : وَإنْ مِنْ شَيْءٍ إلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ يقول جلّ ثناؤه : وما من شيء من خلقه إلا يسبح بحمده ، كما :
حدثني به نصر بن عبد الرحمن الأَوْدِيّ ، قال : حدثنا محمد بن يعلَى ، عن موسى بن عبيدة ، عن زيد بن أسلم ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا أُخْبِرُكُمْ بِشَيْءٍ أمَرَ بِهِ نُوحٌ ابْنَهُ ؟ إنّ نُوحا قالَ لاِبْنِهِ يا بُنَيّ آمُرُكَ أنْ تَقُولَ سُبْحانَ اللّهِ وبِحَمْدِهِ فإنّها صَلاةُ الخَلْقِ ، وَتَسْبِيحُ الخَلْقِ ، وبِها تُرْزَقُ الخَلْقُ ، قالَ اللّهُ وَإنْ مِنْ شَيْءٍ إلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عيسى بن عبيد ، قال : سمعت عكرمة يقول : لا يَعِيبنّ أحدكم دابته ولا ثوبه ، فإن كلّ شيء يسبح بحمده .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة وَإنْ مِنْ شَيْءٍ إلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ قال : الشجرة تسبح ، والأُسْطوانة تسبح .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح وزيد بن حباب ، قالا : حدثنا جرير أبو الخطاب ، قال : كنا مع يزيد الرقاشي ومعه الحسن في طعام ، فقدّموا الخوان ، فقال يزيد الرقاشي : يا أبا سعيد يسبح هذا الخوان : فقال : كان يسبح مرّة .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، ويونس ، عن الحسن أنهما قالا في قوله : وَإنْ مِنْ شَيْءٍ إلاّ يُسَبّح بِحَمْدِهِ قالا : كلّ شيء فيه الروح .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الكبير بن عبد المجيد ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : الطعام يسبح .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر عن قتادة وَإنْ مِنْ شَيْءٍ إلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ قال : كلّ شيء فيه الروح يسبح ، من شجر أو شيء فيه الروح .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عبد الله بن أبيَ ، عن عبد الله بن عمرو ، أن الرجل إذا قال : لا إله إلا الله ، فهي كلمة الإخلاص التي لا يقبل الله من أحد عملاً حتى يقولها ، فإذا قال الحمد لله ، فهي كلمة الشكر التي لم يشكر الله عبد قطّ حتى يقولها : فإذا قال الله أكبر ، فهي تملأ ما بين السماء والأرض ، فإذا قال سبحان الله ، فهي صلاة الخلائق التي لم يَدْعُ اللّهَ أحد من خلقه إلا نوّره بالصلاة والتسبيح ، فإذا قال لا حول ولا قوّة إلا بالله ، قال : أسلم عبدي واستسلم .
وقوله : ولَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ يقول تعالى ذكره : ولكن لا تفقهون تسبيح ما عدا تسبيح من كان يسبح بمثل ألسنتكم إنّهُ كانَ حَلِيما يقول : إن الله كان حليما لا يعجل على خلقه ، الذين يخالفون أمره ، ويكفرون به ، ولولا ذلك لعاجل هؤلاء المشركين الذين يدعون معه الاَلهة والأنداد بالعقوبة غَفُورا يقول : ساترا عليهم ذنوبهم ، إذا هم تابوا منها بالعفو منه لهم ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة إنّهُ كانَ حَلِيما عن خلقه ، فلا يعجل كعجلة بعضهم على بعض غَفُورا لهم إذا تابوا .