قوله تعالى : { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا } ، يعني : مشركي العرب .
قوله تعالى : { ولتجدن أقربهم مودةً للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } . لم يرد به جميع النصارى ، لأنهم في عدواتهم المسلمين كاليهود في قتلهم المسلمين ، وأسرهم ، وتخريب بلادهم ، وهدم مساجدهم ، وإحراق مصاحفهم ، لا ولاء ، ولا كرامة لهم ، بل الآية فيمن أسلم منهم ، مثل النجاشي وأصحابه ، وقيل : نزلت في جميع اليهود ، وجميع النصارى ، لأن اليهود أقسى قلباً ، والنصارى ألين قلباً منهم ، وكانوا أقل مظاهرة للمشركين من اليهود . قال أهل التفسير : ائتمرت قريش أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم ، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يؤذونهم ، ويعذبونهم ، فافتتن من افتتن ، وعصم الله منهم من شاء ، ومنع الله تعالى رسوله بعمه أبي طالب ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بأصحابه ، ولم يقدر على منعهم ، ولم يؤمر بعد بالجهاد ، أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة ، قال : ( إن بها ملكاً صالحاً لا يظلم ولا يظلم عنده أحد ، فاخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجاً ) وأراد به النجاشي ، واسمه أصحمة ، وهو بالحبشية عطية ، وإنما النجاشي اسم الملك ، كقولهم قيصر ، وكسرى ، فخرج إليها سراً ، أحد عشر رجلاً وأربع نسوة ، وهم عثمان بن عفان ، وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والزبير بن العوام ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد وعبد الرحمن ابن عوف ، وأبو حذيفة بن عتبة ، وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو ، ومصعب بن عمير وأبو سلمة بن عبد الأسد ، وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية ، وعثمان بن مظعون ، وعامر بن ربيعة ، وامرأته ليلى بنت أبي خيثمة ، وحاطب بن عمرو ، وسهيل بن بيضاء رضي الله عنهم ، فخرجوا إلى البحر ، وأخذوا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار ، وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذه الهجرة الأولى ، ثم خرج جعفر بن أبي طالب ، وتتابع المسلمون إليها ، وكان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلاً سوى النساء ، والصبيان ، فلما علمت قريش بذلك وجهوا عمرو بن العاص وصاحبه بالهدايا إلى النجاشي ، وبطارقته ، ليردوهم إليهم ، فعصمه الله ، وذكرت القصة في سورة آل عمران في قوله تعالى : { إن أولى الناس بإبراهيم } إلى آخر الآية ، فلما انصرفا خائبين ، أقام المسلمون هناك بخير دار ، وأحسن جوار ، إلى أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلا أمره ، وذلك في سنة ست من الهجرة ، كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي على يد عمرو بن أمية الضمري ليزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان ، وكانت قد هاجرت إليه مع زوجها ، فمات زوجها ويبعث إليه من عنده من المسلمين ، فأرسل النجاشي إلى أم حبيبة جارية يقال لها أبرهة تخبرها بخطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها ، فأعطتها أوضاحاً لها ، سروراً بذلك ، فأذنت لخالد بن سعيد بن العاص حتى أنكحها على صداق أربعمائة دينار ، وكان الخاطب لرسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي رحمه الله ، فأنفذ إليها النجاشي أربعمائة دينار على يد أبرهة ، فلما جاءتها بها أعطتها خمسين ديناراً ، فردته وقالت : أمرني الملك أن لا آخذ منك شيئاً ، وقالت : أنا صاحبة دهن الملك وثيابه ، وقد صدقت محمداً صلى الله عليه وسلم وآمنت به ، وحاجتي منك أن تقرئيه مني السلام ، قالت : نعم . قالت أبرهة : وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بما عندهن من عود وعنبر ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه عندها فلا ينكر ، قالت أم حبيبة : فخرجنا إلى المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ، فخرج من خرج إليه ، وأقمت بالمدينة حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم ، فدخلت عليه ، وكان يسألني عن النجاشي ، فقرأت عليه من أبرهة السلام ، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما السلام ، وأنزل الله عز وجل : { عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودةً } يعني : أبا سفيان ( مودة ) ، يعني : بتزويج أم حبيبة ، ولما جاء أبا سفيان تزوج أم حبيبة قال : ذلك الفحل لا يجدع أنفه ، وبعث النجاشي بعد قدوم جعفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ابنه أزهى بن أصحمة بن أبحر في ستين رجلاً من الحبشة ، وكتب إليه ، يا رسول الله ، أشهد أنك رسول الله صادقاً مصدقاً ، وقد بايعتك ، وبايعت ابن عمك ، وأسلمت لله رب العالمين ، وقد بعثت إليك ابني أزهى ، وإن شئت أن آتيك بنفسي فعلت ، والسلام عليك يا رسول الله . فركبوا سفينة في أثر جعفر وأصحابه ، حتى إذا كانوا في وسط البحر غرقوا ، ووافى جعفر وأصحابه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلاً ، عليهم ثياب الصوف ، منهم اثنان وستون من الحبشة ، وثمانية من أهل الشام ، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس إلى آخرها ، فبكوا حين سمعوا القرآن ، وقالوا : آمنا ، وقالوا : ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى عليه السلام ، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية : { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } ، يعني : وفد النجاشي الذين قدموا مع جعفر ، وهم السبعون ، وكانوا أصحاب الصوامع ، وقال مقاتل ، والكلبي : كانوا أربعين رجلاً ، اثنان وثلاثون من الحبشة ، وثمانية من أهل الشام . وقال عطاء : كانوا ثمانين رجلاً ، أربعون من أهل نجران من بني الحرث بن كعب ، واثنان وثلاثون من الحبشة ، وثمانية روميون من أهل الشام . وقال قتادة : نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى عليه السلام ، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم صدقوه ، وآمنوا به ، فأثنى الله عز وجل بذلك عليهم .
قوله تعالى : { ذلك بأن منهم قسيسين } ، أي علماء ، قال قطرب : القس والقسيس العالم بلغة الروم .
قوله تعالى : { ورهباناً } ، الرهبان : العباد أصحاب الصوامع ، واحدهم راهب ، مثل فارس وفرسان ، وراكب وركبان ، وقد يكون واحداً وجمعه رهابين ، مثل قربان وقرابين .
قوله تعالى : { وأنهم لا يستكبرون } ، لا يتعظمون عن الإيمان والإذعان للحق .
{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ . . . }
أخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال : بعث النجاشي وفدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا ، قال : فأنزل الله فيهم : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود } إلى آخر الآية . قال : فرجعوا إلى النجاشي فأخبروه فأسلم النجاشي فلم يزل مسلما حتى مات ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة والنجاشي بالحبشه .
ثم قال ابن جرير بعد أن ساق روايات أخرى في سبب نزول هذه الآيات : والصواب في ذلك من القول عندي ، أن الله - تعالى - وصف صفة قوم قالوا : إنا نصارى ، وأن نبي الله صلى الله عليه وسلم يجدهم أقرب الناس مودة لأهل الإِيمان بالله ورسوله ، ولم يسم لنا أسماءهم وقد يجوز أن يكون أريد بذلك أصحاب النجاشي ويجوز أن يكون أريد به قوم كانوا على شريعة عيسى فأدركهم الإِسلام فأسلموا ، لما سمعوا القرآن ، وعرفوا أنه الحق ، ولم يستكبروا عنه .
فقوله - تعالى - { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود والذين أَشْرَكُواْ } جملة مستأنفة لتقرير ما قبلها من آيات سجلت على اليهود كثيراً من الصفات القبيحة والمسالك الخبيثة .
وقد أكد - سبحانه - هذه الجملة بلا القسم اعتناء ببيان تحقق مضمونها ، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم ويصح أن يكون لكل من يصلح للخطاب للإِيذان بأن حالهم لا تخفى على أحد من الناس .
والمعنى : أقسم لك يا محمد بأنك عند مخالطتك للناس ودعوتهم إلى الدين الحق ، ستجد أشدهم عداوة لك ولأتباعك فريقين منهم : وهما اليهود والذين أشركوا ، لأن عداوتهم منشؤها الحقد والحسد والعناد والغرور . وهذه الرذائل متى تمكنت في النفس حالت بينها وبين الهداية والإِيمان بالحق .
وقوله { أَشَدَّ الناس } مفعول أول لقوله { لتجدن } ومفعول الثاني { اليهود } وقوله { عداوة } تمييز .
قال الآلوسي : والظاهر أن المراد من اليهود العموم ، أي من كان منهم بحضرة الرسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود المدنية وغيرهم ويؤيده ما أخرجه أبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما خلا يهودي بمسلم إلا هم بقتله " وقيل المراد بهم يهود المدينة وفيه بعد ، وكما اختلف في عموم اليهود اختلف في عموم الذين أشركوا . والمراد من { الناس } كما قال أبو حيان - الكفار : أي لتجدن أشد الكفار عداوة هؤلاء .
ووصفهم - سبحانه - بذلك لشدة كفرهم ، وانهماكهم في اتباع الهوى ، وقربهم إلى التقليد ، وبعدهم عن التحقيق ، وتمرنهم على التمرد والاستعصاء على الأنبياء ، وقد قيل : إن من مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر إلى من يخالفهم في الدين بأي طريق كان وفي تقديم اليهود على المشركين إشعار بتقدمهم عليهم في العداوة .
وقوله : { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى } معطوف على ما قبله لزيادة التوضيح والبيان .
أي : لتجدن يا محمد أشد الناس عداوة لك ولأتباعك - اليهود - والذين أشركوا . ولتجدن أقربهم مودة ومحبة لك ولأتباعك الذين قالوا إنا نصارى .
قال ابن كثير : أي الذين زعموا أنهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله فيهم مودة للإِسلام وأهله في الجملة : وما ذاك إلا لما في قلوبهم - من لين عريكة - إذ كانوا على دين المسيح من الرقة والرأفة ، كما قال - تعالى - { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً } وفي كتابهم : " من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر " وليس القتال مشروعا في ملتهم .
وقال الجمل : فإن قلت : كفر النصارى أشد من كفر اليهود لأن النصارى ينازعون في الألوهية فيدعون أن لله ولدا ، واليهود ينازعون في النبوة فينكرون نبوة بعض الأنبياء فلم ذم اليهود ومدح النصارى ؟
قلت : هذا مدح في مقابلة ذم وليس مدحاً على إطلاقه ، وإيضاً الكلام في عداوة المسلمين وقرب مودتهم لا في شدة الكفر وضعفه .
وقوله : { ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } تعليل لقرب مودة النصارى للمؤمنين .
والقسيسين : جمع قسيس . وأصله من قس إذا تتبع الشيء فطلبه ، وهم علماء النصارى والمرشدون لهم .
والرهبان : جمع رابه كركبان جمع راكب وتطلق كلمة رهبان على المفرد كما تطلق على الجمع ، والراهب هو الرجل العابد الزاهد المنصرف عن الدنيا ، مأخوذ من الرهبة بمعنى الخوف . يقال : رهب فلان ربه يرهبه ، أي : خافه .
والمعنى : ولتجدن يا محمد أقرب الناس مودة لك ولأتباعك الذين قالوا إنا نصارى ، وذلك لأن من القسيسين الذين يرغبون في طلب العلم ويرشدون غيرهم إليه ، ومنهم الرهبان الذين تفرغوا لعبادة الله وانصرفوا عن ملاذ الدنيا وشهواتهم وأيضاً فلأن هؤلاء الذين قالوا إنا نصارى من صفاتهم أنهم لا يستكبرون عن اتباع الحق والانقياد له إذا فهموه أو أنهم متواضعون وليسوا مغرورين أو متكبررين .
وفي ذلك تعريض باليهود والمشركين لأن غرورهم واتسكبارهم جعلهم ينصرفون عن الحق فاليهود يرون أنفسهم شعب الله المختار ، وأن النبوة يجب أن تكون فيهم والمشركون يرون أن النبوة يجب أن تكون في أغنيائهم وزعمائهم ، وقد حملهم هذا الغرور على الكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنهم وجدوا أكثر أتباعه من الفقراء .
قال الآلوسي : وفي الآية دليل على أن صفات التواضع والإِقبال على العلم والعمل والإِعراض عن الشهوات محمودة أينما كانت .