{ لتبلون } أي والله لتختبرن . { في أموالكم } بتكليف الإنفاق وما يصيبها من الآفات . { وأنفسكم } بالجهاد والقتل والأسر والجراح ، وما يرد عليها من المخاوف والأمراض والمتاعب . { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا } من هجاء الرسول صلى الله عليه وسلم ، والطعن في الدين وإغراء الكفرة على المسلمين . أخبرهم بذلك قبل وقوعها ليوطنوا أنفسهم على الصبر والاحتمال ، ويستعدوا للقائها حتى لا يرهقهم نزولها . { وإن تصبروا } على ذلك . { وتتقوا } مخالفة أمر الله . { فإن ذلك } يعني الصبر والتقوى . { من عزم الأمور } من معزومات الأمور التي يجب العزم عليها ، أو مما عزم الله عليه أي أمر به وبالغ فيه . والعزم في الأصل ثبات الرأي على الشيء نحو إمضائه .
هذا الخطاب للنبي عليه السلام وأمته ، والمعنى : لتختبرن ولتمتحنن في أموالكم بالمصائب والأرزاء ، وبالإنفاق في سبيل الله ، وفي سائر تكاليف الشرع ، والابتلاء في الأنفس بالموت والأمراض ، وفقد الأحبة بالموت ، واختلف المفسرون في سبب قوله تعالى : { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } فقال عكرمة وغيره : السبب في ذلك قول فنحاص : إن الله فقير ونحن إغنياء ، وقوله : يد الله مغلولة إلى غير ذلك ، وقال الزهري وغيره : نزلت هذه الآية بسبب كعب بن الأشرف ، فإنه كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه ويشبب بنساء المسلمين ، حتى بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتله القتلة المشهورة في السيرة{[3761]} ، و«الأذى » : اسم جامع في معنى الضرر وهو هنا يشمل أقوالهم فيما يخص النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من سبهم وأقوالهم في جهة الله تعالى وأنبيائه ، وندب الله تعالى عباده إلى الصبر والتقوى ، وأخبر أنه من عزم الأمور ، أي من أشدها وأحسنها ، و «العزم » : إمضاء الأمر المروي المنقح ، وليس ركوب الأمر دون روية عزماً إلا على مقطع المشيحين من فتاك العرب كما قال{[3762]} :
إذا هَمَّ ألقَى بَيْنَ عَيْنَيْهِ عزْمَهُ . . . وَنَكَّبَ عَنْ ذِكْرِ الْحَوَادِثِ جَانِبَا
وقال النقاش : العزم والحزم بمعنى واحد : الحاء مبدلة من العين .
قال القاضي : وهذا خطأ ، والحزم : جودة النظر في الأمور وتنقيحه والحذر من الخطأ فيه ، و «العزم » : قصد الإمضاء ، والله تعالى يقول : { وشاورهم في الأمر ، فإذا عزمت }{[3763]} فالمشاورة وما كان في معناها هو الحزم ، والعرب تقول : قد أحزم و لو أعزم{[3764]} .
استئناف لإيقاظ المؤمنين إلى ما يعترض أهل الحقّ وأنصار الرسل من البلوى ، وتنبيه لهم على أنّهم إن كانوا ممّن توهنهم الهزيمة فليسوا أحرياء بنصر الحقّ ، وأكّد الفعل بلام القسم وبنون التوكيد الشديدة لإفادة تحقيق الابتلاء ، إذ نون التوكيد الشديدة أقوى في الدلالة على التوكيد من الخفيفة .
فأصل { لتبلونّ } لتبلوونّ فلمّا توالى ثلاث نونات ثقل في النطق فحذفت نون الرفع فالتقى ساكنان : واو الرفع ونون التوكيد الشديدة ، فحذفت واو الرفع لأنّها ليست أصلاً في الكلمة فصار لتبْلَوُنّ . وكذلك القول في تصريف قوله تعالى : { ولتسمعنّ } وفي توكيده .
والابتلاء : الاختبار ، ويراد به هنا لازمه وهو المصيبة ، لأنّ في المصائب اختباراً لمقدار الثبات . والابتلاء في الأموال هو نفقات الجهاد ، وتلاشي أموالهم التي تركوها بمكّة . والابتلاء في الأنفس هو القتل والجراح . وجمع مع ذلك سماع المكروه من أهل الكتاب والمشركين في يوم أُحُد وبعده .
والأذى هو الضرّ بالقول كقوله تعالى : { لن يضروكم إلا أذى } [ آل عمران : 111 ] كما تقدّم آنفاً ، ولذلك وصفه هنا بالكثير ، أي الخارج عن الحدّ الذي تحتمله النفوس غالباً ، وكلّ ذلك ممّا يفضي إلى الفشل ، فأمَرَهم الله بالصبر على ذلك حتّى يحصل لهم النصر ، وأمرهم بالتقوى أي الدوام على أمور الإيمان والإقبال على بثّه وتأييده ، فأمّا الصبر على الابتلاء في الأموال والأنفس فيشمل الجهاد ، وأمّا الصبر على الأذى ففي وقتى الحرب والسلم ، فليست الآية مقتضية عدم الإذن بالقتال من حيث إنه أمرهم بالصبر على أذى الكفّار حتّى تكون منسوخة بآيات السيف ، لأنّ الظاهر أنّ الآية نزلت بعد وقعة أُحُد ، وهي بعد الأمر بالقتال . قاله القفّال .
وقوله : { فإن ذلك } الإشارة إلى ما تقدّم من الصبر والتقوى بتأويل : فإنّ المذكور .
و ( عزم الأمور ) من إضافة الصفة إلى الموصوف أي الأمور العَزم ، ووصفَ الأمور وهو جمع بعزم وهو مفرد لأنّ أصل عزم أنه مصدر فيلزم لفظه حالة واحدة ، وهو هنا مصدر بمعنى المفعول ، أي من الأمور المعزوم عليها . والعزم إمضاء الرأي وعدم التردّد بعد تبيين السداد . قال تعالى : { وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله } [ آل عمران : 159 ] والمراد هنا العزم في الخيرات ، قال تعالى : { فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل } [ الأحقاف : 35 ] وقال : { ولم نجد له عزما } [ طه : 115 ] .
ووقع قوله : { فإن ذلك من عزم الأمور } دليلاً على جواب الشرط ، والتقدير : وإن تصبروا وتتّقوا تنالوا ثواب أهل العزم فإنّ ذلك من عزم الأمور .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.