{ بلى } إيجاب لما بعد لن ، أي بلى يكفيكم . ثم وعد لهم الزيادة على الصبر والتقوى حثا عليهما وتقوية لقلوبهم فقال : { إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم } أي المشركون . { من فورهم هذا } من ساعتهم هذه ، وهو في الأصل مصدر من فارت القدر إذ غلت ، فاستعير للسرعة ثم أطلق للحال التي لا ريث فيها ولا تراخي ، والمعنى إن يأتوكم في الحال . { يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة } في حال إتيانهم بلا تراخ ولا تأخير . { مسومين } معلمين من التسويم الذي هو إظهار سيما الشيء لقوله عليه الصلاة والسلام لأصحابه . " تسوموا فإن الملائكة قد تسومت " . أو مرسلين من التسويم بمعنى الأسامة . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ويعقوب بكسر الواو .
و { بلى } - جواب للنفي الذي في { ألن } وقد تقدم معناه ، ثم ذكر تعالى الشرط الذي معه يقع الإمداد وهو الصبر ، والتقى . و «الفور » : النهوض المسرع إلى الشيء مأخوذ من فور القدر والماء ونحوه ، ومنه قوله تعالى : { وفار التنور }{[3507]} فالمعنى ويأتوكم في نهضتكم هذه ، قال ابن عباس : { من فورهم هذا } : معناه من سفرهم هذا ، قال الحسن والسدي : معناه ، من وجههم هذا ، وقاله قتادة ، وقال مجاهد وعكرمة وأبو صالح مولى أم هاني{[3508]} : من غضبهم هذا .
قال القاضي : وهذا تفسير لا يخص اللفظة قد يكون «الفور » لغضب ولطمع ولرغبة في أجر ، ومنه الفور في الحج والوضوء ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم : «مسوِّمين » ، بكسر الواو ، وقرأ الباقون : «مسوَّمين » بفتح الواو ، فأما من قرأ بفتح الواو فمعناه : معلمين بعلامات ، قال أبو زيد الأنصاري{[3509]} : «السومة » العلامة تكون على الشاة وغيرها يجعل عليها لون يخالف لونها لتعرف ، وروي أن الملائكة أعلمت يومئذ بعمائم بيض ، حكاه المهدوي عن الزجّاج ، إلا جبريل عليه السلام فإنه كان بعمامة صفراء على مثال عمامة الزبير بن العوام ، وقاله ابن إسحاق ، وقال مجاهد : كانت خيلهم مجزوزة الأذناب والأعراف معلمة النواصي والأذناب بالصوف والعهن ، وقال الربيع : كانت سيماهم أنهم كانوا على خيل بلق ، وقال عباد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير{[3510]} : نزلت الملائكة في سيما الزبير عليهم عمائم صفر ، وقال ذلك عروة وعبد الله ابنا الزبير : وقال عبد الله : كانت ملاءة صفر فاعتم الزبير بها ، ومن قرأ : «مسوِّمين » بكسر الواو ، فيحتمل من المعنى مثل ما تقدم ، أي هم قد أعلموا أنفسهم بعلامة وأعلموا خيلهم ، ورجح الطبري وغيره هذه القراءة ، بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسلمين يوم بدر : «سوِّموا فإن الملائكة قد سوَّمت{[3511]} ، فهم على هذا مسومون » ، وقال كثير من أهل التفسير : إن معنى «مسوِّمين » ، بكسر الواو أي هم قد سوموا خيلهم : أي أعطوها سومها من الجري والقتال والإحضار فهي سائمة ، ومنه سائمة الماشية ، لأنها تركت وسومها من الرعي ، وذكر المهدوي هذا المعنى في «مسوَّمين » بفتح الواو أي أرسلوا وسومهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في حضور الملائكة يوم بدر حربهم، في أيّ يوم وعدوا ذلك؟
فقال بعضهم: إن الله عزّ وجلّ كان وعد المؤمنين يوم بدر أن يمدّهم بملائكته إن أتاهم العدوّ من فورهم، فلم يأتوهم، ولم يمدّوا...
وقال آخرون: كان هذا الوعد من الله لهم يوم بدر، فصبر المؤمنون واتقوا الله، فأمدّهم بملائكته على ما وعدهم...
وقال آخرون: إن الله عزّ وجلّ إنما وعدهم يوم بدر أن يمدّهم إن صبروا عند طاعته، وجهاد أعدائه واتقوه باجتناب محارمه، أن يمدْهم في حروبهم كلها، فلم يصبروا ولم يتقوا إلا في يوم الأحزاب، فأمدّهم حين حاصروا قريظة... وقال آخرون بنحو هذا المعنى، غير أنهم قالوا: لم يصبر القوم، ولم يتقوا، ولم يمدّوا بشيء في أُحُد...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال للمؤمنين: {ألَنْ يَكْفِيَكُمْ أنْ يُمِدّكُمْ رَبّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ المَلائكَةِ}؟ فوعدهم الله بثلاثة آلاف من الملائكة مددا لهم، ثم وعدهم بعد الثلاثة الاَلاف، خمسة آلاف إن صبروا لأعدائهم، واتقوا الله. ولا دلالة في الآية على أنهم أمدّوا بالثلاثة آلاف، ولا بالخمسة آلاف، ولا على أنهم لم يمدّوا بهم. وقد يجوز أن يكون الله عزّ وجلّ أمدّهم على نحو ما رواه الذين أثبتوا أنه أمدّهم. وقد يجوز أن يكون لم يمدّهم على نحو الذي ذكره من أنكر ذلك، ولا خبر عندنا صحّ من الوجه الذي يثبت أنهم أمدّوا بالثلاثة الاَلاف ولا بالخمسة الاَلاف. وغير جائز أن يقال في ذلك قول إلا بخبر تقوم الحجة به، ولا خبر به كذلك فنسلم لأحد الفريقين قوله، غير أن في القرآن دلالة على أنهم قد أمدّوا يوم بدر بألف من الملائكة وذلك قوله: {إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبّكُمْ فاسْتَجابَ لَكُمْ أنّي مُمِدّكُمْ بألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} فأما في يوم أُحد، فالدلالة على أنهم لم يمدّوا أبين منها في أنهم أمدّوا، وذلك أنهم لو أمدّوا لم يهزموا وينال منهم ما نيل منهم. فالصواب فيه من القول أن يقال كما قال تعالى ذكره. وقد بينا معنى الإمداد فيما مضى، والمدد، ومعنى الصبر والتقوى.
وأما قوله: {ويَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} فإن أهل التأويل اختلفوا فيه، فقال بعضهم: معنى قوله: {مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا}: من وجههم هذا... وقال آخرون: معنى ذلك: من غضبهم هذا... وأصل الفور: ابتداء الأمر يؤخذ فيه، ثم يوصل بآخر، يقال منه: فارت القدر فهي تفور فورا وفورانا: إذا ما ابتدأ ما فيها بالغليان ثم اتصل ومضيت إلى فلان من فوري ذلك، يراد به: من وجهي الذي ابتدأت فيه. فالذي قال في هذه الآية: معنى قوله: {مِنْ فَوْرِهِم هَذَا}: من وجههم هذا، قصد إلى أن تأويله: ويأتيكم كرز بن جابر وأصحابه يوم بدر، من ابتداء مخرجهم الذي خرجوا منه لنصرة أصحابهم من المشركين. وأما الذين قالوا: معنى ذلك: من غضبهم هذا، فإنما عنوا أن تأويل ذلك: ويأتيكم كفار قريش وتُبّاعهم يوم أُحد من ابتداء غضبهم الذي غضبوه لقتلاهم الذين قتلوا يوم بدر بها {يُمْدِدْكُمْ رَبّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ}. كذلك من اختلاف تأويلهم في معنى قوله {ويَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} اختلف أهل التأويل في إمداد الله المؤمنين بأحد بملائكته، فقال بعضهم: لم يمدّوا بهم، لأن المؤمنين لم يصبروا لأعدائهم، ولم يتقوا الله عزّ وجلّ بترك من ترك من الرماة طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوته في الموضع الذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثبوت فيه، ولكنهم أخلوا به طلبا للغنائم، فقتل من المسلمين، ونال المشركون منهم ما نالوا. وإنما كان الله عزّ وجلّ وعد نبيه صلى الله عليه وسلم إمدادهم بهم إن صبروا واتقوا الله. وأما الذين قالوا: كان ذلك يوم بدر بسبب كرز بن جابر، فإن بعضهم قالوا: لم يأت كرز وأصحابه إخوانهم من المشركين مددا لهم ببدر، ولم يمدّ الله المؤمنين بملائكته، لأن الله عزّ وجلّ إنما وعدهم أن يمدّهم بملائكته إن أتاهم كرز ومدد المشركين من فورهم، ولم يأتهم المدد. وأما الذين قالوا: إن الله تعالى ذكره أمدّ المسلمين بالملائكة يوم بدر، فإنهم اعتلوا بقول الله عزّ وجلّ: {إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبّكُمْ فاسْتَجابَ لَكُمْ أنّي مُمِدّكُمْ بألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ}، قال: فالألف منهم قد أتاهم مددا، وإنما الوعد الذي كانت فيه الشروط فيما زاد على الألف، فأما الألف فقد كانوا أمدّوا به، لأن الله عزّ وجلّ كان قد وعدهم ذلك، ولن يخلف الله وعده. واختلف القراء في قراءة قوله: {مُسَوّمِينَ} فقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة والكوفة: «مُسَوّمِينَ» بفتح الواو، بمعنى أن الله سوّمها. وقرأ ذلك بعض قراء أهل الكوفة والبصرة: {مُسَوّمِينَ} بكسر الواو، بمعنى أن الملائكة سوّمت لنفسها. وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأ بكسر الواو، لتظاهر الأخبار عن (أصحاب) رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل التأويل منهم ومن التابعين بعدهم، بأن الملائكة هي التي سوّمت أنفسها من غير إضافة تسويمها إلى الله عزّ وجلّ أو إلى غيره من خلقه. ولا معنى لقول من قال: إنما كان يختار الكسر في قوله: {مُسَوّمِينَ} لو كان في البشر، فأما الملائكة فوصفهم غير ذلك ظنا منه بأن الملائكة غير ممكن فيها تسويم أنفسها إن كانوا ذلك في البشر وذلك أن غير مستحيل أن يكون الله عز وجل مكنها من تسويم أنفسها بحقّ تمكينه البشر من تسويم أنفسهم، فسوموا أنفسهم بحقّ الذي سوّم البشر طلبا منها بذلك طاعة ربها، عن فأضيف تسويمها أنفسها إليها، وإن كان ذلك عن تسبيب الله لهم أسبابه، وهي إذا كانت موصوفة بتسويمها أنفسها تقرّبا منها إلى ربها، كان أبلغ في مدحها لاختيارها طاعة الله من أن تكون موصوفة بأن ذلك مفعول بها...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {مسومين} قيل: {منزلين} و {مسومين} سواء، وهو من الإرسال والتسويم، وقيل: معلمين بعلامة، وذلك، والله أعلم، ليعلم المؤمنون حاجتهم إلى العلامة، لا أن الملائكة يحتاجون إلى العلامة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 124]
كان تسكينُ الحقِّ سبحانه لقلبِ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بلا واسطة من الله -سبحانه، والربطُ على قلوب المؤمنين بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم- فلولا بقية بقيت عليهم ما ردَّهم في حديث النصرة إلى إنزال المَلَك، وأنَّى بحديث المَلَك -والأمرُ كلُّه بِيَدِ المَلِك؟!...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{بلى} إيجاب لما بعد لن، بمعنى: بل يكفيكم الإمداد بهم، فأوجب الكفاية ثم قال: {وإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ} يمددكم بأكثر من ذلك العدد مسوّمين للقتال {وَيَأْتُوكُمْ} يعني المشركين {مّن فَوْرِهِمْ هذا} من قولك: قفل من غزوته وخرج من فوره إلى غزوة أخرى، وجاء فلان ورجع من فوره. ومنه قول أبي حنيفة رحمه الله: الأمر على الفور لا على التراخي، وهو مصدر من: فارت القدر، إذا غلت، فاستعير للسرعة، ثم سميت به الحالة التي لا ريث فيها ولا تعريج على شيء من صاحبها؛ فقيل: خرج من فوره، كما تقول: خرج من ساعته، لم يلبث. والمعنى: أنهم إن يأتوكم من ساعتهم هذه {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ} بالملائكة في حال إتيانهم لا يتأخر نزولهم عن إتيانهم، يريد: أنّ الله يعجل نصرتكم وييسر فتحكم إن صبرتم واتقيتم...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
المسألة الأولى: قيل نزلت يوم أُحد، وقيل يوم بدر، والصحيح يوم بدر، وعليه يدل ظاهر الآية.
المسألة الثانية: قال علماؤنا: أول أمر الصّوف يوم بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تسوّموا فإنَّ الملائكةَ قد تسوّمت»، وكان على الزبير ذلك اليوم عمامة صفْراء، فنزلت الملائكةُ ذلك اليوم على صِفَته؛ نزلوا عليهم عمائم صُفْر، وقد طرحوها بين أكتافهم.
وقال ابنُ عباس: نزلت الملائكة مسوّمين بالصوف؛ فأمر محمدٌ صلى الله عليه وسلم أصحابَه فسوَّمُوا أنفسهم وخيْلَهم بالصوف.
وقال مجاهد: جاءت الملائكةُ مجزوزة أذنابُ خَيْلهم ونواصيها.
المسألة الثالثة: الاشتهار بالعلامة في الحرب سنَّة ماضية، وهي هيئة باهِيَة قُصد بها الهيبة على العدوّ، والإغلاظ على الكفار، والتحريض للمؤمنين. والأعمال بالنيات. وهذا من باب الجليات لا يفتقر إلى برهان.
المسألة الرابعة: هذا يدلُّ على لباسِ الثوب الأصفر وحُسْنِه، ولولا ذلك لما نزلت الملائكةُ به ...
المسألة الخامسة: أما قول مجاهد في جَزّ النواصي والأذناب فضعيف لم يصحّ؛ كيف وقد قال النبيّ عليه السلام في الخبر الصحيح: «الخيل معقودٌ بنواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم». وهذا إنْ صح تعضُده المشاهدةُ فيها. والله أعلم.
الفور: مصدر من: فارت القدر إذا غلت، قال تعالى: {حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور} [هود: 40] قيل إنه أول ارتفاع الماء منه ثم جعلوا هذه اللفظة استعارة في السرعة، يقال جاء فلان ورجع من فوره، ومنه قول الأصوليين الأمر للفور أو التراخي، والمعنى حدة مجيء العدو وحرارته وسرعته...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 124]
نزول الملائكة سبب من أسباب النصر لا يحتاج إليه الرب تعالى، وإنما يحتاج إليه المخلوق فليعلق القلب بالله وليثق به، فهو الناصر بسبب وبغير سبب...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
... نظمُ إتيانِهم بسرعة في سلك شرطَي الإمداد المستتبِعَيْن له وجوداً وعدماً -أعني الصبرَ والتقوى مع تحقق الإمدادِ لا محالةَ سواءٌ أسرعوا أو أبطأوا- لتحقيق أصلِه أو لبيانِ تحقّقِه على أي حال فُرِضَ، على أبلغ وجهٍ وآكَدِه بتعليقه بأبعدِ التقاديرِ ليُعلم تحقُّقُه على سائرها بالطريق الأوْلى، فإن هجومَ الأعداءِ وإتيانَهم بسرعة من مظانّ عدمِ لُحوق المددِ عادةً، فعُلِّق به تحققُ الإمدادِ إيذاناً بأنه حيث تحقق مع ما ينافيه عادةً فلأَنْ يتحقَّقَ بدونه أولى وأحرى كما إذا أردتَ وصفَ درعٍ بغاية الحَصانة تقول: إن لبستَها وبارزتَ بها الأعداءَ فضربوك بأيدٍ شدادٍ وسيوفٍ حِدادٍ لم تتأثرْ منها قطعاً...
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
... ذلك تأنيس وإذن في وجه من القتال مخصوص، وإلا فالملك الواحد بقتلهم جميعاً بمرة، أو يقلع الأرض من أسفلها، والله قادر أن يقتلهم في أقل من لحظة بلا قاتل، ولكنه يجرى الأمر على ما يشاء وبصورة الأسباب، وكانوا يقولون للمؤمنين، عدوكم قليل والله معكم ويظهرون للناس، وربما عرفهم المسلمون، وهذه حكمته...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
أما معنى هذا الإمداد بالملائكة فهو من قبيل إمداد العسكر بما يزيد عددهم أو عدتهم وقوتهم ولو النفسية وهذا هو الظاهر، وهاك بيانه. الإمداد من المد، والمد في الأصل عبارة عن بسط الشيء كمد اليد والحبل أو عن الزيادة في مادته كمد النهر بنهر أو سيل آخر. قال تعالى: {أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات} [المؤمنون: 55- 56]؟ فالإمداد يكون بالمال وهو ما يتمول وينتفع به ويكون بالأشخاص. والإمداد بالملائكة يصح أن يكون من قبيل الإمداد بالمال الذي يزيد في قوة القوم وأن يكون من الإمداد بالأشخاص الذين ينتفع بهم ولو نفعا معنويا وذلك أن الملائكة أرواح تلابس النفوس فتمدها بالإلهامات الصالحة التي تثبتها وتقوي عزيمتها، ولذلك قال عز وجل: {وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم}...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
شرط الله لإمدادهم ثلاثة شروط: الصبر، والتقوى، وإتيان المشركين من فورهم هذا، فهذا الوعد بإنزال الملائكة المذكورين وإمدادهم بهم، وأما وعد النصر وقمع كيد الأعداء فشرط الله له الشرطين الأولين كما تقدم في قوله: {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
أبلغهم كذلك شرط هذا المدد.. إنه الصبر والتقوى؛ الصبر على تلقي صدمة الهجوم، والتقوى التي تربط القلب بالله في النصر والهزيمة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لأجل كون الاستفهام غير حقيقي كان جوابه من قِبَل السائل بقوله: {بلى} لأنّه ممَّا لا تسع المماراة فيه كما سيأتي في قوله تعالى: {قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم} في سورة [الأنعام: 19]، فكان (بلى) إبطالاً للنفي، وإثباتاً لكون ذلك العدد كافياً، وهو من تمام مقالة النَّبيء للمؤمنين. وقد جاء في سورة الأنفال [9] عند ذكره وقعة بدر أن الله وعدهم بمدد من الملائكة عدده ألف بقوله: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنِّي ممدّكم بألف من الملائكة مردفين}. وذكر هنا أنّ الله وعدهم بثلاثة آلاف ثُمّ صيّرهم إلى خمسة آلاف. ووجه الجمع بين الآيتين أنّ الله وعدهم بثلاثة آلاف ثُمّ صيّرهم إلى خمسة آلاف. ووجه الجمع بين الآيتين أنّ الله وعدهم بألف من الملائكة وأطمعهم بالزّيادة بقوله: {مردفين} [الأنفال: 9] أي مردَفيْن بعدد آخر، ودلّ كلامه هنا على أنَّهم لم يزالوا وجلين من كثرة عدد العدوّ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم « ألن يكفيكم أن يمدّكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين» أراد الله بذلك زيادة تثبيتهم ثمّ زادهم ألفين إن صبروا واتَّقوا. وبهذا الوجه فسّر الجمهور، وهو الذي يقتضيه السياق. وقد ثبت أنّ الملائكة نزلوا يوم بدر لنصرة المؤمنين، وشاهد بعض الصّحابة طائفة منهم، وبعضهم شهد آثار قتلهم رجالاً من المشركين. ووصف الملائكة بمُنْزَلين للدلالة على أنَّهم يَنزلون إلى الارض في موقع القتال عناية بالمسلمين قال تعالى: {ما تَنَزَّل الملائكة إلاّ بالحق} [الحجر: 8].
وقرأ الجمهور: مُنْزلين بسكون النُّون وتخفيف الزاي وقرأه ابن عامر بفتح النُّون وتشديد الزاي. وأنزل ونزّل بمعنى واحد. فالضميران: المرفوعُ والمجرور، في قوله: {ويأتوكم من فورهم} عائدان إلى الملائكة الَّذين جرى الكلام عليهم، كما هو الظاهر، وعلى هذا حمله جمع من المفسّرين. وعليه فموقع قوله: {ويأتوكم} موقع وعد، فهو المعنى معطوف على {يمددكم ربكم} وكان حقّه أن يرِد بعده، ولكنَّه قدّم على المعطوف عليه، تعجيلاً للطمأنينة إلى نفوس المؤمنين، فيكون تقديمه من تقديم المعطوف على المعطوف عليه...
{ومسوّمين}... مشتقّ من السُّومة بضم السين وهي العلامة مقلوب سمة لأنّ أصل سمة وسمة. وتطلق السومة على علامة يجعلها البطل لنفسه في الحرب من صوف أو ريش ملوّن، يجعلها على رأسه أو على رأس فرسه، يرمز بها إلى أنَّه لا يتّقي أن يعرفه أعداؤه، فيسدّدوا إليه سهامهم، أو يحملون عليه بسيوفهم، فهو يرمز بها إلى أنَّه واثق بحمايته نفسه بشجاعته، وصِدقِ لقائه، وأنَّه لا يعبأ بغيره من العدوّ.
يبين سبحانه وتعالى كيفية إصلاح جهاز الاستقبال لتلقي مدد الله فيقول: {بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا...} إن الحق سبحانه وتعالى ضرب المثل بالصبر والتقوى في بدر مع القلة فكان النصر، وهنا في أُحد لم تصبروا؛ فساعة أن رأيتم الغنائم سال لعابكم فلم تصبروا عنها، ولم تتقوا أمر الله المبلغ على لسان رسوله في التزام أماكنكم.. فكيف تكونون أهلاً للمدد؟ إذن من الذي يحدد المدد؟ إن الله هو الذي يعطي المدد، ولكن من الذي يستقبل المدد لينتفع به؟ إنه القادر على الصبر والتقوى. إذن فالصبر والتقوى هما العُدّة في الحرب. لا تقل عدداً ولا عدة. لذلك قال ربنا لنا: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ} ولم يقل: أعدوا لهم ما تظنون أنه يغلبهم، لا. أنتم تعدون ما في استطاعتكم، وساعة تعدون ما في استطاعتكم وأسبابكم قد انتهت.. فالله هو الذي يكملكم بالنصر...