196- وأدوا الحج والعمرة لله على وجه التمام والكمال قاصدين بهما وجه الله ، ولا تقصدوا بهما إصابة عَرَض دنيوي من شهرة ونحوها . وإذا قصدتم الحج والعمرة وأحرمتم بهما فمنعكم عدو في الطريق فلكم أن تتحللوا من إحرامكم بحلق رءوسكم ، ولكن عليكم قبل ذلك ذبح ما تيسر لكم - من شاة أو بعير أو بقرة - والتصدق به على المساكين ، ولا تحلقوا رءوسكم حتى تقوموا بهذه النسك ، ومن كان مُحْرِماً وأذاه شعر رأسه لمرض أو هوام في رأسه فلا بأس أن يحلق رأسه ، وعليه حينئذٍ أن يفدى عن ذلك بصيام ثلاثة أيام ، أو التصدق على ستة مساكين بقوت يوم ، أو ذبح شاة والتصدق بها على الفقراء والمساكين . وإذا كنتم في دار الأمان والسلم ولم يعترض طريقكم عدو ، وقصدتم الحج والعمرة وتمتعتم أولا بالعمرة إلى أن يحين وقت الحج فتحرموا ، فعليكم ذبح شاة لمساكين الحرم وفقرائه ، فمن لم يجد شاة أو لم يقدر على ثمنها صام ثلاثة أيام في مكة وسبعة أيام إذا رجع إلى أهله ، وهذا على من لم يكن من أهل مكة ، فمن كان من أهلها فلا شيء عليه إذا تمتع .
{ وأتموا الحج والعمرة لله } أي ائتوا بهما تامين مستجمعي المناسك لوجه الله تعالى ، وهو على هذا يدل على وجوبهما ويؤيده قراءة من قرأ { وأقيموا الحج والعمرة لله } ، وما روى جابر رضي الله تعالى عنه " أنه قيل يارسول الله العمرة واجبة مثل الحج ، فقال : لا ولكن إن تعتمر خير لك " فمعارض بما روي " أن رجلا قال لعمر رضي الله تعالى عنه ، إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي أهللت بهما جميعا ، فقال : هديت لسنة نبيك " ولا يقال إنه فسر وجد أنهما مكتوبين بقوله أهللت بهما فجاز أن يكون الوجوب بسبب إهلاله بهما ، لأنه رتب الإهلال على الوجدان وذلك يدل على أنه سبب الإهلال دون العكس . وقيل إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك ، أو أن تفرد لكل منهما سفرا ، أو أن تجرده لهما لا تشوبهما بغرض دنيوي ، أو أن تكون النفقة حلالا . { فإن أحصرتم } منعتم ، يقال حصره العدو وأحصره إذا حبسه ومنعه عن المضي ، مثل صده وأصده ، والمراد حصر العدو عند مالك والشافعي رحمهما الله تعالى لقوله تعالى : { فإذا أمنتم } ولنزوله في الحديبية ، ولقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لا حصر إلا حصر العدو وكل منع من عدو أو مرض أو غيرهما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ، لما روي عنه عليه الصلاة والسلام " من كسر أو عرج فقد حل فعليه الحج من قابل " وهو ضعيف مؤول بما إذا شرط الإحلال به لقوله عليه الصلاة والسلام لضباعة بنت الزبير " حجي واشترطي وقولي : اللهم محلي حيث حبستني " { فما استيسر من الهدي } فعليكم ما استيسر ، أو فالواجب ما استيسر . أو فاهدوا ما استيسر . والمعنى إن أحصر المحرم وأراد أن يتحلل تحلل يذبح هدي تيسر عليه ، من بدنة أو بقرة أو شاة حيث أحصر عند الأكثر . لأنه عليه الصلاة والسلام ذبح عام الحديبية بها وهي من الحل ، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يبعث به ، ويجعل للمبعوث على يده يوم أمار فإذا جاء اليوم وظن أنه ذبح تحلل لقوله تعالى : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } أي لا تحلوا حتى تعلموا أن الهدي المبعوث إلى الحرم بلغ محله أي مكانه الذي يجب أن ينحر فيه ، وحمل الأولون بلوغ الهدي محله على ذبحه حيث يحل الذبح فيه حلا كان أو حرما ، واقتصاره على الهدي دليل على عدم القضاء . وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى يجب القضاء ، والمحل –بالكسر- يطلق على عدم القضاء . وقال أبو حنيفة رحمة الله تعالى يجب القضاء ، والمحل –بالكسر- يطلق على المكان والزمان . والهدي : جمع هدية كجدي وجدية ، وقرئ { من الهدى } جمع هدية كمطى في مطية { فمن كان منكم مريضا } مرضا يحوجه إلى الحلق . { أو به أذى من رأسه } كجراحة وقمل . { ففدية } فعليه فدية إن حلق . { من صيام أو صدقة أو نسك } بيان لجنس الفدية ، وأما قدرها فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قال لكعب بن عجرة " لعلك آذاك هوامك ، قال : نعم يا رسول الله قال : احلق وصم ثلاثة أيام أو تصدق بفرق على ستة مساكين أو انسك شاة " والفرق ثلاثة آصع { فإذا أمنتم } الإحصار . أو كنتم في حال سعة وأمن . { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } فمن استمتع وانتفع بالتقرب إلى الله بالعمرة قبل الانتفاع بتقربه بالحج في أشهره . وقيل : فمن استمتع بعد التحلل من عمرته باستباحة محظورات الإحرام إلى أن يحرم بالحج . { فما استيسر من الهدي } فعليه دم استيسره بسبب التمتع ، فهو دم جبر أن يذبحه إذا أحرم بالحج ولا يأكل منه . وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى ، إنه ندم نسك فهو كالأضحية { فمن لم يجد } أي الهدي . { فصيام ثلاثة أيام في الحج } في أيام الاشتغال به بعد الإحرام وقبل التحلل . قال أبو حنيفة رحمه الله في أشهره بين الإحرامين ، والأحب أن يصوم سابع ذي الحجة وثامنه وتاسعه . ولا يجوز صوم يوم النحر وأيام التشريق عند الأكثرين . { وسبعة إذا رجعتم } إلى أهليكم وهو أحد قولي الشافعي رضي الله تعالى عنه ، أو نفرتم وفرغتم من أعماله وهو قوله الثاني ومذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى . وقرئ { سبعة } بالنصب عطفا على محل { ثلاثة أيام } . { تلك عشرة } فذلكة الحساب ، وفائدتها أن لا يتوهم متوهم أن الواو بمعنى أو ، كقولك جالس الحسن وابن سيرين . وأن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلا فإن أكثر العرب لم يحسنوا الحساب ، وأن المراد بالسبعة هو العدد دون الكثرة فإنه يطلق لهما { كاملة } صفة مؤكدة تفيد المبالغة في محافظة العدد ، أو مبينة كمال العشرة فإنه أول عدد كامل إذ به تنتهي الآحاد وتتم مراتبها ، أو مقيدة تقيد كمال بدليتها من الهدي . { ذلك } إشارة إلى الحكم المذكور عندنا . والتمتع عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه لا متعة ولا قرآن لحاضري المسجد الحرام عنده ، فمن فعل ذلك أي التمتع منهم فعليه دم جناية . { لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } وهو من كان من الحرم على مسافة القصر عندنا ، فإن من كان على أقل فهو مقيم في الحرم ، أو في حكمه . ومن مسكنه وراء الميقات عنده وأهل الحل عند طاوس وغير المكي عند مالك . { واتقوا الله } في المحافظة على أوامره ونواهيه وخصوصا في الحج { واعلموا أن الله شديد العقاب } لمن لم يتقه كي يصدكم للعلم به عن العصيان .
وقوله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } ، قال ابن زيد والشعبي وغيرهما : إتمامهما أن لا تفسخ وأن تتمهما إذا بدأت بهما .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك( {[1813]} ) ، وفعله عمران بن حصين .
وقال سفيان الثوري : إتمامهما أن تخرج قاصداً لهما لا لتجارة ولا لغير ذلك ، ويؤيد هذا قوله : { لله } .
وقال قتادة والقاسم بن محمد : إتمامهما أن تحرم بالعمرة وتقضيها في غير أشهر الحج ، وأن تتم الحج دون نقص ولا جبر بدم ، وهذا مبني على أن الدم في الحج والعمرة جبر نقص ، وهو قول مالك وجماعة من العلماء . وأبو حنيفة وأصحابه يرون أن كثرة الدم كمال وزيادة ، وكلما كثر عندهم لزوم الدم فهو أفضل ، واحتجوا بأنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : ما أفضل الحج ؟ فقال : العج والثج( {[1814]} ) ، ومالك ومن قال بقوله يراه ثج التطوع .
وقالت فرقة : إتمامهما أن تفرد كل واحدة من حجة وعمرة ولا تقرن ، وهذا على أن الإفراد أفضل .
وقالت فرقة : القرآن أفضل ، وذلك هو الإتمام عندهم .
وقال ابن عباس وعلقمة وإبراهيم وغيرهم : إتمامهما أن تقضي مناسكهما كاملة بما كان فيها من دماء .
وفروض الحج : النية ، والإحرام ، والطواف المتصل بالسعي ، والسعي بين الصفا والمروة عندنا خلافاً لأبي حنيفة ، والوقوف بعرفة ، والجمرة على قول ابن الماجشون ، وأما أعمال العمرة فنية وإحرام ، وطواف ، وسعي .
واختلف في فرض العمرة فقال مالك رحمه الله : هي سنة واجبة( {[1815]} ) لا ينبغي أن تترك كالوتر ، وهي عندنا مرة واحدة في العام( {[1816]} ) ، وهذا قول جمهور أصحابه ، وحكى ابن المنذر( {[1817]} ) في الإشراف عن أصحاب الرأي أنها عندهم غير واجبة ، وحكى بعض القرويين والبغداديين عن أبي حنيفة أنه يوجبها كالحج ، وبأنها سنة .
قال ابن مسعود وجمهور من العلماء ، وأسند الطبري النص على ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر والشافعي وأحمد وإسحاق والشعبي وجماعة تابعين : أنها وجبة كالفرض( {[1818]} ) ، وقاله ابن الجهم من المالكيين .
وقال مسروق : «الحج والعمرة فرض ، نزلت العمرة من الحج منزلة الزكاة من الصلاة » ، وقرأ الشعبي وأبو حيوة «والعمرةُ لله » برفع العمرة على القطع والابتداء ، وقرأ ابن أبي إسحاق «الحجِ » بكسر الحاء ، وفي مصحف ابن مسعود «وأتموا الحج والعمرة إلى البيت لله » ، وروي عنه : «وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت » ، وروي غير هذا مما هو كالتفسير( {[1819]} ) .
وقوله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي }( {[1820]} ) ، قال علقمة وعروة بن الزبير وغيرهما : الآية فيمن أحصر بالمرض لا بالعدو .
وقال ابن عباس وغيره بعكس ذلك ، والمشهور من اللغة أحصر بالمرض وحصر بالعدو ، وفي المجمل لابن فارس حصر بالمرض وأحصر بالعدو .
وقال الفراء : «هما بمعنى واحد في المرض والعدو » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والصحيح أن حصر إنما هي فيما أحاط( {[1821]} ) وجاور فقد يحصر العدو والماء ونحوه ولا يحصر المرض ، وأحصر معناه جعل الشيء ذا حصر( {[1822]} ) كأقبر وأحمى( {[1823]} ) وغير ذلك ، فالمرض والماء والعدو وغير ذلك قد يكون محصراً لا حاصراً ، ألا ترى أن العدو كان محصراً في عام الحديبية ، وفي ذلك نزلت هذه الآية عند جمهور أهل التأويل ، وأجمع جمهور الناس على أن المحصر بالعدو يحل حيث أحصر ، وينحر هديه إن كان ثم هدي ويحلق رأسه .
وقال قتادة وإبراهيم : يبعث بهديه إن أمكنه فإذا بلغ محله صار حلالاً ولا قضاء عليه عند الجميع إلا أن يكون ضرورة فعليه حجة الإسلام .
وقال ابن الماجشون : «ليست عليه حجة الإسلام وقد قضاها حين أحصر » .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لا وجه له .
وقال أشهب : «يهدي المحصر بعدو هدياً من أجل الحصر » .
وقال ابن القاسم : «لا يهدي شيئاً إلا إن كان معه هدي فأراد نحره » ، ذكره ابن أبي زيد .
وقال عطاء وغيره : المحصر بالمرض كالمحصر بالعدو .
وقال مالك رحمه الله وجمهور من العلماء : المحصر بالمرض لا يحله إلا البيت ، ويقيم حتى يفيق ، وإن قام سنين ، فإذا وصل البيت بعد فوت الحج قطع التلبية في أوائل الحرم وحل بعمرة ، ثم تكون عليه حجة قضاء وفيها يكون الهدي ، وقيل : إن الهدي يجب في وقت الحصر أولاً( {[1824]} ) ، ولم ير ابن عباس من أحصره المرض داخلاً في هذه الآية ، وقال : إن المريض إن لم يكن معه هدي حل حيث حبس ، وإن كان معه هدي لم يحل حتى يبلغ الهدي محله ثم لا قضاء عليه ، قال : وإنما قال الله : { فإذا أمنتم } والأمن إنما هو من العدو فليس المريض في الآية .
و { ما } في موضع رفع ، أي فالجواب أو فعليكم ما استيسر ، ويحتمل أن تكون في موضع نصب أي فانحروا أو فاهدوا ، و { ما استيسر } عند جمهور أهل العلم : شاة .
وقال ابن عمر وعروة بن الزبير { ما استيسر } جمل دون جمل وبقرة دون بقرة .
وقال الحسن : أعلى الهدي بدنة وأوسطه بقرة واخسّه شاة ، و { الهدي } جمع هدية كجدية السرج وهي البراد جمعها جدى( {[1825]} ) ، ويحتمل أن يكون { الهدي } مصدراً سمي به كالرهن ونحوه فيقع للإفراد وللجمع .
وقال أبو عمرو بن العلاء : «لا أعرف لهذه اللفظة نظيراً » .
وقوله تعالى : { ولا تحلقوا رؤوسكم } الآية ، الخطاب لجميع الأمة محصر ومخلى( {[1826]} ) ، ومن العلماء من يراها للمحصرين خاصة ، ومحل الهدي حيث يحل نحره ، وذلك لمن لم يحصر بمنى ولمن أحصر بعد وحيث أحصر إذا لم يمكن إرساله ، وأما المريض فإن كان له هدي فيرسله إلى محله .
والترتيب( {[1827]} ) أن يرمي الحاج الجمرة ثم ينحر ثم يحلق ثم يطوف طواف الإفاضة ، فإن نحر رجل قبل الرمي أو حلق قبل النحر فلا حرج حسب الحديث ولا دم .
وقال( {[1828]} ) قوم : لا حرج في الحج ولكن يهرق دماً .
وقال عبد الملك بن الماجشون من أصحابنا : «إذا حلق قبل أن ينحر فليهد ، وإن حلق رجل قبل أن يرمي فعليه دم قولاً واحداً في المذهب »( {[1829]} ) .
قال ابن المواز ( {[1830]} )عن مالك : ويمر الموسى على رأسه بعد الرمي ، ولا دم في ذلك عند أبي حنيفة وجماعة معه .
وقرأ الزهري والأعرج وأبو حيوة «الهدِيّ » بكسر الدال وشد الياء في الموضعين واحدته هدية ، ورويت هذه القراءة عن عاصم .
وقوله تعالى : { فمن كان منكم مريضاً } الآية ، المعنى فحلق لإزالة الأذى { ففدية } ، وهذا هو فحوى الخطاب عند أكثر الأصوليين ، ونزلت هذه الآية في كعب بن عجرة( {[1831]} ) حين رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه يتناثر قملاً ، فأمره بالحلاق ونزلت الرخصة . و { فدية } رفع على خبر الابتداء ، والصيام عند مالك وعطاء ومجاهد وإبراهيم وغيرهم وجميع أصحاب مالك : ثلاثة أيام ، والصدقة : ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع ، وذلك مدّان بمدّ النبي صلى الله عليه وسلم( {[1832]} ) ، والنسك : شاة بإجماع ، ومن ذبح أفضل منها فهو أفضل .
وقال الحسن بن أبي الحسن وعكرمة : الصيام عشرة أيام ، والإطعام عشرة مساكين .
وقرأ الزهري «أو نسْك » بسكون السين .
وقال سعيد بن جبير ومجاهد : النسْك شاة ، فإن لم يجدها فقيمتها يشترى بها طعام فيطعم منه مدّان لكل مسكين ، فإن لم يجد القيمة عرفها وعرف ما يشترى بها من الطعام وصام عن كل مدين يوماً .
قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه : ذلك كله حيث شاء( {[1833]} ) ، وقاله إبراهيم وهو مذهب مالك وأصحابه إلا ابن الجهم ، فإنه قال : لا يكون النسك إلا بمكة .
وقال عطاء في بعض ما روي عنه وأصحاب الرأي : النسك بمكة ، والصيام والإطعام حيث شاء .
وقال الحسن بن أبي الحسن وطاوس وعطاء أيضاً ومجاهد والشافعي : النسك والإطعام بمكة ، والصيام حيث شاء ، والمفتدي مخير في أي هذه الثلاثة شاء ، وكذلك قال مالك وغيره في كل ما في القرآن أو فإنه على التخيير .
وقوله تعالى : { فإذا أمنتم } ، قال علقمة وعروة : المعنى إذا برأتم من مرضكم . وقال ابن عباس وقتادة وغيرهما : إذا أمنتم من خوفكم من العدو المحصر ، وهذا أشبه باللفظ إلا أن يتخيل الخوف من المرض فيكون الأمن منه .
وقوله تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } الآية ، قال عبد الله بن الزبير وعلقمة وإبراهيم : الآية في المحصرين دون المخلى سبيلهم ، وصورة المتمتع عند ابن الزبير أن يحصر الرجل حتى يفوته الحج ثم يصل إلى البيت فيحل بعمرة ويقضي الحج من قابل ، فهذا قد تمتع بما بين العمرة إلى حج القضاء ، وصورة المتمتع المحصر عند غيره أن يحصر فيحل دون عمرة ويؤخرها حتى يأتي من قابل فيعتمر في أشهر الحج ويحج من عامه .
وقال ابن عباس وجماعة من العلماء : الآية في المحصرين وغيرهم ممن خلي سبيله ، وصورة المتمتع أن تجتمع فيه ستة شروط : أن يكون معتمراً في أشهر الحج ، وهو من غير حاضري المسجد الحرام ، ويحل( {[1834]} ) وينشىء الحج من عامه ذلك دون رجوع إلى وطنه أو ما ساواه بعداً . هذا قول مالك واصحابه ، واختلف لم سمي متمتعاً ، فقال ابن القاسم : لأنه تمتع بكل ما لا يجوز للمحرم فعله من وقت حله في العمرة إلى وقت إنشائه الحج( {[1835]} ) ، وقال غيره : سمي متمتعاً لأنه تمتع بإسقاط أحد السفرين ، وذلك أن حق العمرة أن تقصد بسفرة وحق الحج كذلك ، فلما تمتع بإسقاط أحدهما ألزمه الله هدياً كالقارن الذي يجمع الحج والعمرة في سفر واحد .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هذه شدة على القادم مكة من سائر الأقطار لما أسقط سفراً ، والمكي لا يقتضي حاله سفراً في عمرة ولا حج لأنه في بقعة الحج فلم يلزم شيئاً لأنه لم يسقط شيئاً ، ومن قال إن اسم التمتع وحكمه إنما هو من جهة التمتع بالنساء والطيب وغير ذلك فيرد عليه أنه يستغرق قوله : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } المكي وغيره على السواء في القياس ، فكيف يشتد مع ذلك على الغريب الذي هو أعذر ويلزم هدياً ، ولا يفعل ذلك بالمكي ، فيترجح بهذا النظر أن التمتع إنما هو من أجل إسقاط أحد السفرين ، إلا أن أبا عبيد قال في كتاب الناسخ والمنسوخ له : إن العمرة في أشهر الحج ممنوعة للمكي لا تجوز له ، ورخص الله تعالى للقادم لطول بقائه محرماً وقرن الرخصة بالهدي .
قال القاضي أبو محمد : فهذه شدة على أهل مكة ، وبهذا النظر يحسن أن يكون التمتع من جهة استباحة ما لا يجوز للمحرم ، لكنه قول شاذ لا يعول عليه ، وجل الأمة على جواز العمرة في أشهر الحج للمكي ولا دم عليه ، وذكر أبو عبيد القولين عن ابن عمر واستند إليه في الذي وافقه ، وقد حكاه الطبري عن ابن عباس وقال : إنه قال يا أهل مكة لا متعة لكم ، إن الله قد أحلها لأهل الآفاق وحرمها عليكم ، وإنما يقطع أحدكم وادياً ثم يحرم بعمرة .
قال القاضي أبو محمد : فمعنى هذا أنهم متى أحرموا داموا إلى الحج ، وقال السدي : المتمتع هو الذي يفسخ الحج في العمرة( {[1836]} ) ، وذلك لا يجوز عند مالك ، وفي صحيح مسلم حديث سراقة بن مالك قال : قلت يا رسول الله : فسخ الحج في العمرة ألنا خاصة أم للأبد ؟ فقال : «بل لأبد أبد ، بل لأبد أبد »( {[1837]} ) .
قال القاضي أبو محمد : وإنما شرط في المتمتع أن يحل في أشهر الحج لأنها مدة يملكها الحج فمن كان فيها محرماً فحقه أن يصل الإحرام إلى الحج ، وفي كتاب مسلم إيعاب الأحاديث في هذا المعنى ، ومذهب عمر وقول أبي ذر إن متعة النساء ومتعة الحج خاصتان لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال طاوس : «من اعتمر في غير أشهر الحج ثم أقام حتى حج من عامه فهو متمتع » .
وقال الحسن بن أبي الحسن البصري «من اعتمر بعد يوم النحر في بقية العام فو متمتع » ، وهذان قولان شاذان لم يوافقهما أحد من العلماء ، وتقدم القول فيما استيسر من الهدي( {[1838]} ) .
قوله : { لم يجد } إما بعدم المال وإما بعدم الحيوان( {[1839]} ) ، و { في الحج } قال عكرمة وعطاء : له أن يصومها في أشهر الحج وإن كان لم يحرم بالحج .
وقال ابن عباس ومالك بن أنس : له أن يصومها منذ يحرم بالحج .
وقال عطاء أيضاً ومجاهد : لا يصومها إلا في عشر ذي الحجة .
وقال ابن عمر والحسن الحكم : يصوم يوماً قبل يوم التروية ويوم التروية ويوم عرفة ، وكلهم يقول : لا يجوز تأخيرها عن عشر ذي الحجة لأن بانقضائه ينقضي الحج .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عمر ومالك بن أنس وجماعة من أهل العلم : من فاته صيامها قبل يوم النحر فله صيامها في أيام التشريق ، لأنها من أيام الحج .
وقال قوم : له ابتداء تأخيرها إلى يوم التشريق لأنه لا يجب عليه الصيام إلا بأن لا يجد يوم النحر .
وقوله تعالى : { وسبعة إذا رجعتم } قال مجاهد وعطاء وإبراهيم : المعنى إذا رجعتم من منى فمن بقي بمكة صامها ، ومن نهض إلى بلده صامها في الطريق .
وقال قتادة والربيع : هذه رخصة من الله تعالى ، والمعنى إذا رجعتم إلى أوطانكم فلا يجب على أحد صوم السبعة إلا إذا وطنه ، إلا أن يتشدد أحد كما يفعل من يصوم في السفر في رمضان ، وقرأ زيد بن علي «وسبعةً » بالنصب ، أي وصوموا سبعة( {[1840]} ) ، ولما جاز أن يتوهم متوهم التخيير( {[1841]} ) بين ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع أزيل ذلك بالجملة من قوله تعالى : { تلك عشرة كاملة }( {[1842]} ) قال الحسن بن أبي الحسن : المعنى كاملة في الثواب كمن أهدى ، وقيل كاملة في الثواب كمن لم يتمتع ، وهذا على أن الحج الذي لم تكثر( {[1843]} ) فيه الدماء أخلص وأفضل خلافاً لأبي حنيفة ، وقيل : { كاملة } توكيد كما تقول كتبت بيدي ، وكقوله تعالى : { فخر عليهم السقف من فوقهم }( {[1844]} ) [ النحل : 6 ] ، وقيل : لفظها الإخبار ومعناها الأمر أي أكملوها فذلك فرضها .
وقال الاستاذ الأجل أبو الحسن علي بن أحمد( {[1845]} ) : المعنى تلك كاملة ، وكرر الموصوف تأكيداً كما تقول زيد رجل عاقل( {[1846]} ) .
وقوله تعالى : { ذلك لمن لم يكن أهله } الآية ، الإشارة إلى التمتع وهديه وحكمه ، وهذا على قول من يرى أن المكي لا تجوز له المتعة في أشهر الحج ، فكان الكلام ذلك الترخيص ، ويتأيد هذا بقوله { لمن } ، لأن اللام أبداً إنما تجيء مع الرخص ، تقول لك أن تفعل كذا ، وأما مع الشدة فالوجه أن تقول عليك ، وأما من يرى أن المكي يعتمر ولا دم عليه لأنه لم يسقط سفراً فالإشارة بذلك -على قوله - هي إلى الهدي ، أي ذلك الاشتداد والإلزام .
واختلف الناس في { حاضري المسجد الحرام } بعد الإجماع على أهل مكة وما اتصل بها ، وقال الطبري : بعد الإجماع على أهل الحرم ، وليس كما قال : فقال بعض العلماء : من كان حيث تجب الجمعة عليه بمكة فهو حضري ، ومن كان أبعد من ذلك فهو بدوي .
قال القاضي أبو محمد : فجعل اللفظة من الحضارة والبداوة ، وقال بعضهم : من كان بحيث لا تقصر الصلاة إلى مكانه فهو حاضر أي شاهد ، ومن كان أبعد من ذلك فهو غائب ، وقال عطاء بن أبي رباح : مكة وضجنان( {[1847]} ) وذو طوى وما أشبهها حاضرو المسجد الحرام .
وقال ابن عباس ومجاهد : أهل الحرم كله حاضرو المسجد الحرام ، وقال مكحول( {[1848]} ) وعطاء : من كان دون المواقيت من كل جهة حاضروا المسجد الحرام .
وقال الزهري : من كان على يوم أو يومين فهو من حاضري المسجد الحرام( {[1849]} ) ، ثم أمر تعالى بتقواه على العموم ، وحذر من شديد عقابه .