يقول تعالى مذكرًا بني إسرائيل ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق بالإيمان به وحده لا شريك له واتباع رسله ، وأخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق رفع الجبل على رؤوسهم ليقروا بما عوهدوا عليه ، ويأخذوه{[1927]} بقوة وحزم وهمة وامتثال{[1928]} كما قال تعالى : { وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ الأعراف : 171 ] الطور هو الجبل ، كما فسره بآية{[1929]} الأعراف ، ونص على ذلك ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء وعكرمة والحسن والضحاك والربيع بن أنس ، وغير واحد ، وهذا ظاهر{[1930]} .
وفي رواية عن ابن عباس : الطور ما أنبت من الجبال ، وما لم ينبت فليس بطور .
وفي حديث الفتون : عن ابن عباس : أنهم لما امتنعوا عن الطاعة رفع عليهم الجبل ليسمعوا [ فسجدوا ]{[1931]} .
وقال السدي : فلما أبوا أن يسجدوا أمر الله الجبل أن يقع عليهم ، فنظروا إليه وقد غشيهم ، فسقطوا سجدًا [ فسجدوا ]{[1932]} على شق ، ونظروا بالشق الآخر ، فرحمهم الله فكشفه عنهم ، فقالوا{[1933]} والله ما سجدة أحب إلى الله من سجدة كشف بها العذاب عنهم ، فهم يسجدون كذلك ، وذلك قوله تعالى : { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ{[1934]} الطُّورَ } .
وقال الحسن في قوله : { خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ } يعني التوراة .
وقال أبو العالية ، والربيع بن أنس : { بِقُوَّةٍ } أي بطاعة . وقال مجاهد : بقوة : بعمل بما فيه . وقال قتادة { خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ } القوة : الجد وإلا قذفته{[1935]} عليكم .
قال : فأقروا بذلك : أنهم يأخذون ما أوتوا بقوة . ومعنى قوله : وإلا قذفته عليكم ، أي{[1936]} أسقطه عليكم ، يعني الجبل .
وقال أبو العالية والربيع : { وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ } يقول : اقرؤوا ما في التوراة واعملوا به .
تذكير بقصة أخرى أرى الله تعالى أسلافهم فيها بطشه ورحمته فلم يرتدعوا ولم يشكروا وهي أن أخذ الميثاق عليهم بواسطة موسى عليه السلام أن يعملوا بالشريعة وذلك حينما تجلى الله لموسى عليه السلام في الطور تجلياً خاصاً للجبل فتزعزع الجبل وتزلزل وارتجف وأحاط به دخان وضباب ورعود وبرق كما ورد في صفة ذلك في الفصل التاسع عشر من سفر الخروج وفي الفصل الخامس من سفر التثنية فلعل الجبل من شدة الزلازل وما ظهر حوله من الأسحبة والدخان والرعود صار يلوح كأنه سحابة ، ولذلك وصف في آية الأعراف ( 171 ) بقوله : { وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة } [ نتقه : زعزعه ونقضه ] حتى يخيل إليهم أنه يهتز وهذا نظير قولهم استطاره إذا أزعجه فاضطرب فأعطوا العهد وامتثلوا لجميع ما أمرهم الله تعالى وقالوا : « كل ما تكلم الله به نفعله فقال الله لموسى فليؤمنوا بك إلى الأبد » وليس في كتب بني إسرائيل ولا في الأحاديث الصحيحة ما يدل على أن الله قلع الطور من موضعه ورفعه فوقهم وإنما ورد ذلك في أخبار ضعاف فلذلك لم نعتمده في التفسير .
وضمائر الخطاب لتحميل الخلف تبعات السلف كيلا يقعوا في مثلها وليستغفروا لأسلافهم عنها .
والميثاق في هاته الآية كالعهد في الآيات المتقدمة مراد به الشريعة ووعدهم بالعمل بها وقد سمته كتبهم عهداً كما قدمنا وهو إلى الآن كذلك في كتبهم . وهذه معجزة علمية لرسولنا صلى الله عليه وسلم
والطُّور علم على جبل ببرية سينا ، ويقال إن الطور اسم جنس للجبال في لغة الكنعانيين نقل إلى العربية وأنشدوا قول العجاج :
دَانَى جَناحيه من الطورِ فمَرْ *** تَقَضِّيَ البازِي إذا البازِي كَسَر
فإذا صح ذلك فإطلاقه على هذا الجبل علم بالغلبة في العبرية لأنهم وجدوا الكنعانيين يذكرونه فيقولون الطور يعنون الجبل كلمة لم يسبق لهم أن عرفوها فحسبوها علماً له فسموه الطور .
وقوله : { خذوا ما آتيناكم بقوة } مقول قول ، محذوف تقديره قائلين لهم خذوا ، وذلك هو الذي أخذ الميثاق عليه . والأخذ مجاز عن التلقي والتفهم . والقوة مجاز في الإيعاء وإتقان التلقي والعزيمة على العمل به كقوله تعالى : { يا يحيى خُذ الكتاب بقوة } [ مريم : 12 ] .
ويجوز أن يكون الذكر مجازاً عن الامتثال أي اذكروه عند عزمكم على الأعمال حتى تكون أعمالكم جارية على وفق ما فيه ، أو المراد بالذكر التفهم بدليل حرف { في } المؤذن بالظرفية المجازية أي استنباط الفروع من الأصول .
والمراد بما آتاهم ما أوحاه إلى موسى وهو الكلمات العشر التي هي قواعد شريعة التوراة .
وجملة { لعلكم تتقون } علة للأمر بقوله : { خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه } ولذلك فصلت بدون عطف .
والرجاء الذي يقتضيه حرف { لعل } مستعمل في معنى تقريب سبب التقوى بحضهم على الأخذ بقوة ، وتعهد التذكر لما فيه ، فذلك التقريب والتبيين شبيهٌ برجاء الراجي .
ويجوز أن يكون { لعل } قرينة استعارة تمثيل شأن الله حين هيأ لهم أسباب الهداية بحال الراجي تقواهم وعلى هذا محمل موارد كلمة { لعل } في الكلام المسند إلى الله تعالى . وتقدم عند قوله تعالى : { يأيها الناس اعبدوا ربكم } [ البقرة : 21 ] الآية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.