لما ظن{[15186]} يوسف ، عليه السلام ، نجاة أحِدهما - وهو الساقي - قال له يوسف خفية عن الآخر والله أعلم ، لئلا يشعره أنه المصلوب قال له : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } يقول : اذكر قصتي عند ربك{[15187]} - وهو الملك - فنسى ذلك الموصَى أن يُذَكِّر مولاه بذلك ، وكان من جملة مكايد الشيطان ، لئلا يطلع نبي الله من السجن .
هذا هو الصواب أن الضمير في قوله : { فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } عائد على الناجي ، كما قال مجاهد ، ومحمد بن إسحاق وغير واحد . ويقال : إن الضمير عائد على يوسف ، عليه السلام ، رواه ابن جرير ، عن ابن عباس ، ومجاهد أيضا ، وعِكْرِمة ، وغيرهم . وأسند ابن جرير هاهنا حديثا فقال :
حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا عَمْرو بن محمد ، عن إبراهيم بن يزيد{[15188]} عن عمرو بن دينار ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لو لم يقل - يعني : يوسف - الكلمة التي قال : ما لبث في السجن طول ما لبث . حيث يبتغي الفرج من عند غير الله " {[15189]} .
وهذا الحديث ضعيف جدا ؛ لأن سفيان بن وَكِيع ضعيف ، وإبراهيم بن يزيد - هو الخُوزي - أضعف منه أيضا . وقد رُوي عن الحسن وقتادة مرسلا عن كل منهما ، وهذه المرسَلات هاهنا لا تقبل لو قبل المرسل من حيث هو في غير هذا الموطن ، والله أعلم .
وأما " البضع " ، فقال مجاهد وقتادة : هو ما بين الثلاث إلى التسع . وقال وهب بن مُنَبَّه : مكث أيوب في البلاء سبعًا ويوسف في السجن سبعًا ، وعذاب{[15190]} بختنصر سبعا .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما : فلبث في السجن بضع سنين قال : ثنتا{[15191]} عشرة سنة . وقال الضحاك : أربع عشرة سنة .
وقوله : { وقال للذي ظن أنه ناج } الآية . «الظن » هاهنا - بمعنى اليقين ، لأن ما تقدم من قوله : { قضي الأمر } يلزم ذلك ، وهو يقين فيما لم يخرج بعد إلى الوجود : وقال قتادة : «الظن » - هنا - على بابه لأن عبارة الرؤيا ظن .
قال القاضي أبو محمد : وقول يوسف عليه السلام : { قضي الأمر } دل على وحي ولا يترتب قول قتادة إلا بأن يكون معنى قوله { قضي الأمر } أي قضي كلامي وقلت ما عندي وتم ، والله أعلم بما يكون بعد .
وفي الآية تأويل آخر ، وهو : أن يكون { ظن } مسنداً إلى الذي قيل له : إنه يسقي ربه خمراً ، لأنه دخلته أبهة السرور بما بشر به وصار في رتبة من يؤمل حين ظن وغلب على معتقده أنه ناج : وذلك بخلاف ما نزل بالآخر المعرف بالصلب .
ومعنى الآية : قال يوسف لساقي الملك حين علم أنه سيعود إلى حالته الأولى مع الملك : { اذكرني } عند الملك ، فيحتمل أن يريد أن يذكره بعلمه ومكانته ، ويحتمل أن يذكره بمظلمته وما امتحن به بغير حق ، أو يذكره بهما .
والضمير في { أنساه } قيل : هو عائد على يوسف عليه السلام{[6690]} ، أي نسي في ذلك الوقت أن يشتكي إلى الله ، وجنح إلى الاعتصام بمخلوق ، فروي أن جبريل عليه السلام جاءه فعاتبه عن الله عز وجل في ذلك ، وطول سجنه عقوبة على ذلك ، وقيل : أوحي إليه : يا يوسف اتخذت من دوني وكيلاً لأطيلن حبسك ، وقيل : إن الضمير في { أنساه } عائد على الساقي - قاله ابن إسحاق - أي نسي ذكر يوسف عند ربه ، فأضاف الذكر إلى ربه إذ هو عنده ، و «الرب » على هذا التأويل - الملك{[6691]} .
و { بضع } في كلام العرب اختلف فيه ، فالأكثر على أنه من الثلاثة إلى العشرة ، قاله ابن عباس ، وعلى هذا هو فقه مذهب مالك رحمه الله في الدعاوى والأيمان ؛ وقال أبو عبيدة : «البضع » لا يبلغ العقد ولا نصف العقد ، وإنما هو من الواحد إلى الأربعة ، وقال الأخفش «البضع » من الواحد إلى العشرة ، وقال قتادة : «البضع » من الثلاثة إلى التسعة ، ويقوي هذا ما روي من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر الصديق في قصة خطره{[6692]} مع قريش في غلبة الروم لفارس
ث«أما علمت أن البضع من الثلاث إلى التسع »{[6693]} وقال مجاهد : من الثلاثة إلى السبعة ، قال الفراء : ولا يذكر البضع إلا مع العشرات ، لا يذكر مع مائة ولا مع ألف ، والذي روي في هذه الآية أن يوسف عليه السلام سجن خمس سنين ثم نزلت له قصة الفتيين وعوقب على قوله { اذكرني عند ربك } بالبقاء في السجن سبع سنين ، فكانت مدة سجنه اثنتي عشرة سنة ، وقيل : عوقب ببقاء سنتين ، وقال الحسن : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لولا كلمته ما لبث في السجن طول ما لبث » ، ثم بكى الحسن وقال : نحن إذا نزل بنا أمر فزعنا إلى الناس{[6694]} .
قال يوسف عليه السّلام للذي ظن نجاته من الفتيين وهو الساقي . والظن هنا مستعمل في القريب من القطع لأنه لا يشك في صحة تعبيره الرؤيا . وأراد بذكره ذكر قضيته ومظلمته ، أي اذكرني لربك ، أي سيدك . وأراد بربه ملك مصر .
وضميرا { فأنساه } و { ربه } يحتملان العود إلى { الذي } ، أي أنسى الشيطان الذي نجا أن يَذكره لربه ، فالذكر الثاني هو الذكر الأول . ويحتمل أن يعود الضميران إلى ما عاد إليه ضمير { وقال } أي يوسف عليه السّلام أنساه الشيطان ذكر الله ، فالذكر الثاني غير الذكر الأول . ولعل كلا الاحتمالين مراد ، وهو من بديع الإيجاز . وذلك أن نسيان يوسف عليه السّلام أن يَسأل الله إلهام الملِك تذكر شأنه كان من إلقاء الشيطان في أمنيته ، وكان ذلك سبباً إلهياً في نسيان الساقي تذكير الملك ، وكان ذلك عتاباً إلهياً ليوسف عليه السّلام على اشتغاله بعَون العباد دون استعانة ربه على خلاصه .
ولعل في إيراد هذا الكلام على هذا التوْجيه تلطفاً في الخبر عن يوسف عليه السّلام ، لأن الكلام الموجه في المعاني الموجهة ألطف من الصريح .
والبضع : من الثلاث إلى التسع .
وفيما حكاه القرآن عن حال سجنهم ما يُنبىء على أن السجن لم يكن مضبوطاً بسجل يذكر فيه أسماء المساجين ، وأسبابُ سجنهم ، والمدةُ المسجون إليها ، ولا كان من وزعة السجون ولا ممن فوقهم من يتعهّد أسباب السجن ويفتقد أمر المساجين ويرفع إلى الملك في يوم من الأسبوع أو من العام . وهذا من الإهمال والتهاون بحقوق الناس وقد أبطله الإسلام ، فإن من الشريعة أن ينظر القاضي أول ما ينظر فيه كلّ يوم أمرَ المساجين .