{ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } أي : الذين وعدت إنجاءهم{[14627]} ؛ لأني{[14628]} إنما وعدتك{[14629]} بنجاة من آمن من أهلك ؛ ولهذا قال : { وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ } [ هود : 40 ] ، فكان هذا الولد ممن سَبَق عليه القول بالغرق لكفره ومخالفته أباه نبيّ الله نوحا ، عليه السلام .
وقد نص غير واحد من الأئمة على تخطئة من ذهب في تفسير هذا إلى أنه ليس بابنه ، وإنما كان ابن زِنْية{[14630]} ، ويحكى القول بأنه ليس بابنه ، وإنما كان ابن امرأته عن مجاهد ، والحسن ، وعُبَيد بن عُمَير ، وأبي جعفر الباقر ، وابن جُرَيج ، واحتج بعضهم بقوله : { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } وبقوله : { فَخَانَتَاهمُا } [ التحريم : 10 ] ، فممن قاله الحسن البصري ، احتج بهاتين الآيتين . وبعضهم يقول : كان ابن امرأته . وهذا يحتمل{[14631]} أن يكون أراد ما أراد الحسن ، أو أراد أنه نسب إليه مجازا ، لكونه كان ربيبًا عنده ، فالله أعلم .
وقال ابن عباس ، وغير واحد من السلف : ما زنت امرأة نبي قط ، قال : وقوله : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } أي : الذين وعدتك نجاتهم{[14632]} .
وقولُ ابن عباس في هذا هو الحق الذي لا محيد عنه ، فإن الله سبحانه{[14633]} أغير من أن يمكن{[14634]} امرأة نبي من الفاحشة{[14635]} ولهذا غضب الله على الذين رمَوا أم المؤمنين عائشة بنتَ الصدّيق زوج النبي صلى الله عليه وسلم{[14636]} ، وأنكر على المؤمنين الذين تكلموا بهذا وأشاعوه ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } إلى قوله { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } [ النور : 11 - 15 ] .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة وغيره ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : هو ابنه غير أنه خالفه في العمل والنية . قال عكرمة : في بعض الحروف : " إنه عَمِل عملا غير صالح " ، والخيانة تكون على غير باب .
وقد ورد في الحديث أن رسول الله قرأ بذلك ، فقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن أسماء بنت يزيد قالت ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ : " إِنَّهُ عَمِلَ غَيْرَ صَالِح " ، وسمعته يقول{[14637]} : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } ولا يبالي { إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ الزمر : 53 ]{[14638]} .
وقال أحمد أيضا : حدثنا وَكِيع ، حدثنا هارون النحوي ، عن ثابت البُنَاني ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن أم سلمة أن رسول الله قرأها : " إنه عَمِل غَيْرَ صَالِح " {[14639]} أعاده أحمد أيضا في مسنده{[14640]} .
أم سلمة هي{[14641]} أم المؤمنين والظاهر - والله أعلم - أنها أسماء{[14642]} بنت يزيد ، فإنها تكنى بذلك أيضا{[14643]} .
وقال عبد الرزاق أيضًا : أخبرنا الثوري وابن عيينة ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن سليمان بن قَتَّة قال : سمعت ابن عباس - سُئِل - وهو إلى جَنْب الكعبة - عن قول الله : { فَخَانَتَاهُمَا } [ التحريم : 10 ] ، قال : أما وإنه لم يكن بالزنا ، ولكن كانت هذه تخبر الناس أنه مجنون ، وكانت هذه تدل على الأضياف . ثم قرأ : { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } قال ابن عيينة : وأخبرني عمار الدُهْبِي{[14644]} أنه سأل سعيد بن جبير عن ذلك فقال : كان ابن نوح ، إن الله لا يكذب ! قال تعالى : { وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ } قال : وقال بعض العلماء : ما فجرت امرأة نبي قط{[14645]} .
وكذا روي عن مجاهد أيضًا ، وعكرمة ، والضحاك ، وميمون بن مِهْران وثابت بن الحجاج ، وهو اختيار أبي جعفر بن جرير ، وهو الصواب [ الذي ]{[14646]} لا شك فيه .
{ قال يا نوح انه ليس من أهلك } لقطع الولاية بين المؤمن والكافر وأشار إليه بقوله : { إنه عمل غير صالح } فإنه تعليل لنفي كونه من أهله ، وأصله إنه ذو عمل فاسد فجعل ذاته ذات العمل للمبالغة كقول الخنساء تصف ناقة :
ترتع ما رتعت حتى إذا ادْكّرتْ *** فإنما هي إقبالٌ وإدبارُ
ثم بدل الفاسد بغير الصالح تصريحا بالمناقضة بين وصفيها وانتفاء ما أوجب النجاة لمن نجا من أهله عنه . وقرأ الكسائي ويعقوب { إنه عمل غير صالح } أي عمل عملا غير صالح . { فلا تسألن ما ليس لك به علم } ما لا تعلم أصواب هو أم ليس كذلك ، وإنما سمي نداءه سؤالا لتضمن ذكر الوعد بنجاة أهله استنجازه في شأن ولده أو استفسار المانع للإنجاز في حقه ، وإنما سماه جهلا وزجر عنه بقوله : { إني أعظك أن تكون من الجاهلين } لأن استثناء من سبق عليه القول من أهله قد دله على الحال وأغناه عن السؤال ، لكن أشغله حب الولد عنه حتى اشتبه عليه الأمر . وقرأ ابن كثير بفتح اللام والنون الشديدة وكذلك نافع وابن عامر غير أنهما كسرا النون على أن أصله تسألنني فحذفت نون الوقاية لاجتماع النونات وكسرت الشديدة للياء ، ثم حذفت اكتفاء بالكسرة وعن نافع برواية رويس إثباتها في الوصل .
معنى قوله تعالى : { إنّه ليس من أهلك } نفي أن يكون من أهل دينه واعتقاده ، فليس ذلك إبطالاً لقول نوح عليه السّلام : { إن ابني من أهلي } ولكنّه إعلام بأنّ قرابة الدين بالنسبة لأهل الإيمان هي القرابة ، وهذا المعنى شائع في الاستعمال .
قال النابغة يخاطب عيينة بن حصن :
إذا حاولت في أسد فجوراً *** فإني لست منك ولست منّي
وقال تعالى : { ويحلفون بالله إنّهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قومٌ يفرقون } [ التوبة : 56 ] .
وتأكيد الخبر لتحقيقه لِغرابته .
وجملة { إنّه عَمل غير صالح } تعليل لمضمون جملة { إنه ليس من أهلك } ف ( إنّ ) فيه لمجرد الاهتمام .
و{ عَمَلٌ } في قراءة الجمهور بفتح الميم وتنوين اللام مصدر أخبر به للمبالغة وبرفع { غيرُ } على أنه صفة ( عمل ) . وقرأه الكسائي ، ويعقوب { عَمِلَ } بكسر الميم بصيغة الماضي وبنصب { غيرَ } على المفعولية لفعل ( عمل ) . ومعنى العمل غير الصالح الكفر ، وأطلق على الكفر ( عمل ) لأنه عمل القلب ، ولأنّه يظهر أثره في عمل صاحبه كامتناع ابن نوح من الركوب الدال على تكذيبه بوعيد الطوفان .
وتفرع على ذلك نهيه أن يَسأل ما ليس له به علم نهيَ عتاب ، لأنّه لما قيل له { إنّه ليس من أهلك } بسبب تعليله بأنه عمل غير صالح ، سقط ما مهد به لإجابة سؤاله ، فكان حقيقاً بأن لا يسأله وأن يتدبّر ما أرَاد أن يسأله من الله .
وقرأه نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر « فلا تسألنّي » بتشديد النون وهي نون التوكيد الخفيفة ونون الوقاية أدغمتا . وأثبتَ ياء المتكلم من عدا ابنَ كثير من هؤلاء . أما ابن كثير فقرأ « فلا تسألنّ » بنون مشددة مفتوحة . وقرأه أبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب ، وخلف « فلا تسألْنِ » بسكون اللام وكسر النون مخففة على أنّه غير مؤكد بنون التوكيد ومعدى إلى ياء المتكلم .
وأكثرهم حذف الياء في حالة الوصل ، وأثبتها في الوصل ورش عن نافع وأبو عمرو .
ثم إن كان نوح عليه السّلام لم يسبق له وحي من الله بأن الله لا يغفر للمشركين في الآخرة كان نهيه عن أن يسأل ما ليس له به علم ، نهيَ تنزيه لأمثاله لأن درجة النبوءة تقتضي أن لا يقدم على سؤال ربه سؤْلاً لا يعلم إجابته . وهذا كقوله تعالى : { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } [ سبأ : 23 ] وقوله : { لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً } [ النبإ : 38 ] ، وإن كان قد أوحي إليه بذلك من قبل ، كما دل عليه قوله : { وإنّ وعدكَ الحقُ } ، وكان سؤاله المغفرة لابنه طلباً تخصيصَه من العموم . وكان نهيه نهيَ لَوم وعتاب حيث لم يتبيّن من ربه جواز ذلك .
وكان قوله : { ما ليس لك به علم } محتملاً لظاهره ، ومحتملاً لأن يكون كناية عن العلم بضده ، أي فلا تسألني ما علمت أنه لا يقع .
ثم إن كان قول نوح عليه السّلام { إنّ ابني من أهلي } إلى آخره تعريضاً بالمسؤول كان النّهي في قوله : { فلا تسألنّي ما ليس لك به علم } نهياً عن الإلحاح أو العود إلى سؤاله ؛ وإن كان قول نوح عليه السّلام مجرد تمهيد للسؤال لاختبار حال إقبال الله على سؤاله كان قوله تعالى : { فلا تسألنّي } نهياً عن الإفضاء بالسؤال الذي مَهّد له بكلامه . والمقصود من النهي تنزيهه عن تَعريض سؤاله للردّ .
وعلى كل الوجوه فقوله : { إني أعظك أن تكون من الجاهلية } موعظة على ترك التثبّت قبل الإقدام .
والجهل فيه ضد العلم ، وهو المناسب لمقابلته بقوله : { ما ليس لك به علم } .