{ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ } قال قتادة ، ومحمد بن إسحاق : كان أكبرهم واسمه روبيل . وقال السدي : الذي قال ذلك يهوذا . وقال مجاهد : هو شمعون { لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ } أي : لا تَصِلوا{[15070]} في عداوته وبغضه إلى قتله ، ولم يكن لهم{[15071]} سبيلٌ إلى قتله ؛ لأن الله تعالى كان يريد منه أمرًا لا بدّ من إمضائه وإتمامه ، من الإيحاء إليه بالنبوة ، ومن التمكين له ببلاد مصر والحكم بها ، فصرفهم الله عنه بمقالة روبيل فيه وإشارته عليهم بأن يلقوه في غيابة الجب ، وهو أسفله .
قال قتادة : وهي بئر بيت المقدس .
{ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ } أي : المارة من المسافرين ، فتستريحوا بهذا ، ولا حاجة إلى قتله .
{ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } أي : إن كنتم عازمين على ما تقولون .
قال محمد بن إسحاق بن يسار : لقد اجتمعوا على أمر عظيم ، من قطيعة الرحم ، وعقوق الوالد ، وقلة الرأفة بالصغير الضَّرَع الذي لا ذنب له ، وبالكبير الفاني ذي الحق والحرمة والفضل ، وخطره عند الله ، مع حق الوالد على ولده ، ليفرقوا بينه وبين ابنه{[15072]} وحبيبه ، على كبر سنه ، ورِقَّة عظمه ، مع مكانه من الله فيمن أحبه طفلا صغيرا ، وبين أبيه على ضعف قوته وصغر سنه ، وحاجته إلى لطف والده وسكونه إليه ، يغفر الله لهم وهو أرحم الراحمين ، فقد احتملوا أمرا عظيما .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ قَآئِلٌ مّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السّيّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ } .
يقول تعالى ذكره : قال قائل من إخوة يوسف : { لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ } ، وقيل : إن قائل ذلك : روبيل ، كان ابن خالة يوسف . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ } ، ذكر لنا أنه روبيل ، كان أكبر القوم ، وهو ابن خالة يوسف ، فنهاهم عن قتله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { اقْتُلُوا يُوسُفَ . . . } ، إلى قوله : { إنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ } ، قال : ذكر لي ، والله أعلم ، أن الذي قال ذلك منهم : روبيل ، الأكبر من بني يعقوب ، وكان أقصدهم فيه رأيا .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله : { لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ } ، قال : كان أكبر إخوته ، وكان ابن خالة يوسف ، فنهاهم عن قتله .
وقيل : كان قائل ذلك منهم : شمعون . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، في قوله : { قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ } ، قال : هو شمعون .
وقوله : { وألْقُوهُ فِي غَيابَتِ الجُبّ } ، يقول : وألقوه في قعر الجبّ حيث يغيب خبره .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامّة قرأة أهل المدينة : { غَياباتِ الجُبّ } ، على الجماع . وقرأ ذلك عامة قرّاء سائر الأمصار : { غَيابَةِ الجُبّ } ، بتوحيد الغيابة . وقراءة ذلك بالتوحيد أحبّ إليّ .
والجبّ : بئر . وقيل : إنه اسم بئر ببيت المقدس . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { فِي غَيابَةِ الُجْبّ } ، قال : بئر ببيت المقدس .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { غَيابَةِ الجُبّ } ، قال : بئر ببيت المقدس .
والغيابة : كل شيء غيب شيئا فهو غيابة ، والجبّ : البئر غير المطوية .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : { فِي غَيابَةِ الجُبّ } ، في بعض نواحيها : في أسفلها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وألْقُوهُ فِي غَيابَةِ الجُبّ } ، يقول : في بعض نواحيها .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : { وألْقُوهُ فِي غَيابَةِ الجُبّ } ، قال : قالها كبيرهم الذي تخلف . قال : والجبّ : بئر بالشام .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { ألْقُوهُ فِي غَيابَةِ الجُبّ } ، يعني : الركية .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : الجبّ : البئر .
وقوله : { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السّيّارَةِ } ، يقول : يأخذه بعض مارّة الطريق من المسافرين . { إنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ } ، يقول : إن كنتم فاعلين ما أقول لكم . فذكر أنه التقطه بعض الأعراب .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السّيّارَةِ } ، قال : التقطه ناس من الأعراب .
وذُكر عن الحسن البصري أنه قرأ : { تَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السّيّارَةِ } ، بالتاء .
حدثني بذلك أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : ثني حجاج ، عن هارون ، عن مطر الورّاق ، عن الحسن .
وكأن الحسن ذهب في تأنيثه بعض السيارة إلى أن فعل بعضها فعلها ، والعرب تفعل ذلك في خبر كان عن المضاف إلى مؤنث يكون الخبر عن بعضه خبرا عن جميعه ، وذلك كقول الشاعر :
أرَى مَرّ السّنِينَ أخَذْنَ مِنّي *** كمَا أخَذَ السّرَارُ مِنَ الهِلالِ
فقال : «أخذن مني » ، وقد ابتدأ الخبر عن المراد ، إذ كان الخبر عن المرّ خبرا عن السنين ، وكما قال الاَخر :
إذا ماتَ مِنْهُمْ سَيّدٌ قامَ سَيّدٌ *** فَدَانَتْ لهُ أهْلُ القُرَى والكَنائِسِ
فقال : «دانت له » ، والخبر عن أهل القرى ، لأن الخبر عنهم كالخبر عن القرى . ومن قال ذلك ، لم يقل : فدانت له غلام هند ، لأن الغلام لو ألقى من الكلام لم تدلّ هند عليه ، كما يدل الخبر عن القرية على أهلها . وذلك أنه لو قيل : فدانت له القرى ، كان معلوما أنه خبر عن أهلها ، وكذلك بعض السيارة ، لو ألقى البعض ، فقيل : تلتقطه السيارة ، علم أنه خبر عن البعض أو الكلّ ، ودلّ عليه الخبر عن السيارة .
فصْل جملة { قال قائل } جار على طريقة المقاولات والمحاورات ، كما تقدّم في قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } في سورة البقرة ( 30 ) .
وهذا القائل أحد الإخوة ولذلك وصف بأنّه منهم .
والعدول عن اسمه العَلَم إلى التنكير والوصفيّة لعدم الجدوى في معرفة شخصه وإنّما المهمّ أنّه من جماعتهم . وتجنّباً لما في اسمه العلم من الثقل اللفظي الذي لا داعي إلى ارتكابه . قيل : إنّه ( يهوذا ) وقيل : ( شمعون ) وقيل ( روبين ) ، والذي في سفر التّكوين من التّوراة أنه ( راوبين ) صدّهم عن قتله وأن يهوذا دل عليه السيارة كما في الإصحاح37 . وعادة القرآن أن لا يذكر إلاّ اسم المقصود من القصّة دون أسماء الذين شملتهم ، مثل قوله : { وقال رجلٌ مؤمنٌ من آل فرعون } [ سورة غافر : 28 ] .
والغيابات : جمع غيابة ، وهي ما غاب عن البصر من شيء . فيقال : غيابة الجبّ وغيابة القبر والمراد قعر الجبّ .
والجبّ : البئر التي تحفر ولا تطوى .
وقرأ نافع ، وأبو جعفر غيابات بالجمع . ومعناه جهات تلك الغيابة ، أو يجعل الجمع للمبالغة في ماهية الاسم ، كقوله تعالى : { أوْ كظلماتتٍ في بحرٍ لجّيّ } [ سورة النور : 40 ] وقرأ الباقون { في غيابة الجبّ } بالإفراد .
والتّعريف في { الجبّ } تعريف العهد الذهني ، أي في غيابة جب من الجباب مثل قولهم : ادخل السوق . وهو في المعنى كالنكرة .
فلعلّهم كانوا قد عهدوا جباباً كائنة على أبعاد متناسبة في طرق أسفارهم يأوون إلى قربها في مراحلهم لسقي رواحلهم وشربهم ، وقد توخوا أنْ تكون طرائقهم عليها ، وأحسب أنّها كانت ينصب إليها ماء السيول ، وأنّها لم تكن بعيدة القعر حيث علموا أنّ إلقاءه في الجبّ لا يهشّم عظامه ولا ماء فيه فيغرقه .
و { يلتقطه } جواب الأمر في قوله : { وألقوه } . والتّقدير : إن تلقوه يلتقطه . والمقصود من التسبب الذي يفيده جواب الأمر إظهار أنّ ما أشار به القائل من إلقاء يوسف عليه السّلام في غيابة جبّ هو أمثل ممّا أشار به الآخرون من قتله أو تركه بفيفاء مهلكة لأنّه يحصل به إبعاد يوسف عليه السّلام عن أبيه إبعاداً لا يرجى بعدَه تلاقيهما دون إلحاق ضرّ الإعدام بيوسف عليه السّلام ؛ فإنّ التقاط السيّارة إياه أبقى له وأدخل في الغرض من المقصود لهم وهو إبعاده ، لأنّه إذا التقطه السيّارة أخذوه عندهم أو باعوه فزاد بعداً على بعد .
والالتقاط : تناول شيء من الأرض أو الطريق ، واستعير لأخذ شيء مضاع .
والسيّارة : الجماعة الموصوفة بحالة السّير وكثرته ، فتأنيثه لتأويله بالجماعة التي تسير مثل الفلاّحة والبَحّارة .
والتعريف فيه تعريف العهد الذهني لأنّهم علموا أنّ الطريق لا تخلو من قوافل بين الشام ومصر للتّجارة والميرة .
وجملة { إن كنتم فاعلين } شرط حذف جوابه لدلالة { وألقوه } ، أي إن كنتم فاعلين إبعاده عن أبيه فألْقوه في غيابات الجبّ ولا تقتلوه .
وفيه تعريض بزيادة التريّث فيما أضمروه لعلّهم يرون الرجوع عنه أولى من تنفيذه ، ولذلك جاء في شرطه بحرف الشرط وهو { إنْ } إيماء إلى أنّه لا ينبغي الجزم به ، فكَانَ هذا القائل أمثل الإخوة رأياً وأقربهم إلى التّقوى ، وقد علموا أنّ السيّارة يقصدون إلى جميع الجباب للاستقاء ، لأنّها كانت محتفرة على مسافات مراحل السفر . وفي هذا الرأي عبرة في الاقتصاد من الانتقام والاكتفاء بما يحصل به الغرض دون إفراط .