هذه السورة مكية ، وآياتها مائة وإحدى عشرة آية : قص اله فيها قصة يوسف في ثمان وتسعين آية ، وقد لها بثلاث آيات ذكر فيها هذا الوحي الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم ، فسماه في الآية الأولى كتابا مبينا ، وفي الثانية قرآنا عربيا : إشارة إلى أن من حقه أن يحفظ في السطور والصدور معا . ثم ذكر في الآية الثالثة ما اشتمل عليه من أحسن القصص ، وذكر النبي بأنه لم يكن يعلمه قبل تنزل الوحي به عليه ، وذلك دليل على أنه من عند الله .
وقد ختمت القصة والسورة بتأكيد ما بدئت به ، فوجه الله نظر نبيه في عشر آيات إلى أن هذه القصة من أنباء الغيب ، لم يكن صلى الله عليه وسلم يعلمها ويعلم حقائقها ودقائقها ، قبل أن ينزل عليه الوحي بها ، ولم يكن عند إخوة يوسف حين أجمعوا أمرهم ودبروا الشر لأخيهم من أبيهم ، ثم أخبره بأن العناد والحسد يحمل أكثر الناس على الكفر ، وإن حرصه عليه السلام على إيمان أكثرهم لا يجديه . وعزاه عن ذلك بأنه لا يطلب أجرا ، وإنما يحمل إليهم القرآن هدى وذكرى للناس أجمعين . وأشار في ختام السورة إلى الرسل الذين ذكر له قصصهم ومواقف أقوامهم منهم ، وانتصارهم في النهاية على الكافرين المجرمين ، وأكد أن في قصص هؤلاء الأنبياء عبرا لأصحاب العقول ، وأن هذا القرآن الذي تحدث بهذه القصص وغيرها ما كان حديثا يختلق وينسب إلى الله كذبا . وإنما هو الحق والصدق ، والكتاب المصدق لما بين يديه من الكتب السماوية ، والهدى والرحمة لقوم يفكرون ويعتبرون ويؤمنون .
وأظهر خصائص هذه السورة أنها ذكرت قصة يوسف بتمامها ، وأظهرت شيوع الحسد في الأسرة إذ ظهرت المحبة لبعضهم ، فكان حسد أولاد يعقوب لأخيهم قد حملهم على إلقائه في غيابة الجب ، ولكن الله حفظه من مكرهم . كما حفظه من إغراء امرأة العزيز حين بلغ أشده في بيت العزيز ، ومكن له أرض مصر ، وجعله ملاذ الذين ائتمروا به . . . وكذلك شأنه سبحانه مع أنبيائه وأوليائه ينصرهم على أعدائهم ويمكن لهم في الأرض ، ما تمسكوا بالحق ، وآمنوا به ، واعتصموا بحبله .
1- ألف . لام . راء . تلك الحروف وأمثالها يتكون منها كلامكم - أيها العرب - هي التي تتكون منها آيات الكتاب المعجز بكل ما فيه . الواضح الموضح لمن يسترشد به ، ويستهديه . وفي هذه الحروف الصوتية تنبيه لهم ، فيستمعوا ولو اتفقوا على عدم السماع .
[ وهي مكية ]{[1]} روى الثعلبي وغيره ، من طريق سَلام بن سليم - ويقال : سليم - المدائني ، وهو متروك ، عن هارون بن كثير - وقد نصّ على جهالته أبو حاتم - عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن أبي أمامة ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " علموا أرقاءكم سورة يوسف ، فإنه أيما مسلم تلاها ، أو علمها أهله ، أو ما{[2]} ملكت يمينه ، هَوَّن الله عليه سكرات الموت ، وأعطاه من القوة ألا يحسد مسلما " {[3]} .
وهذا من هذا الوجه لا يصح ، لضعف إسناده بالكلية . وقد ساقه له{[4]} الحافظ ابن عساكر متابعا من طريق القاسم بن الحكم ، عن هارون بن كثير ، به - ومن طريق شَبَابة ، عن مخلد بن عبد الواحد البصري{[5]} عن علي بن زيد بن جدعان - وعن عطاء بن أبي ميمونة ، عن زر بن حُبَيش ، عن أُبي بن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم - فذكر نحوه{[6]} وهو منكر من سائر طرقه .
وروى البيهقي في " الدلائل " أن طائفة من اليهود حين سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو هذه السورة أسلموا لموافقتها ما عندهم . وهو من رواية الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس .
أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة " البقرة " .
وقوله : { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ } أي : هذه آيات الكتاب ، وهو القرآن ، { الْمُبِينِ } أي : الواضح الجلي ، الذي يفصح عن الأشياء المبهمة ويفسرها ويبينها{[15016]} .
{ إِنَّا أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها ، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس ؛ فلهذا أنزلَ أشرف الكتب بأشرف اللغات ، على أشرف الرسل ، بسفارة{[15017]} أشرف الملائكة ، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض ، وابتدئ إنزاله في أشرف شهور السنة وهو رمضان ، فكمل من كل الوجوه ؛ ولهذا قال تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ } بسبب إيحائنا إليك هذا القرآن .
وقد وَرَدَ في سبب نزول هذه الآيات ما رواه ابن جرير :
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأوْدِيّ{[15018]} . حدثنا حكام الرازي ، عن أيوب ، عن عمرو - هو ابن قيس الملائي - عن ابن عباس قال : قالوا : يا رسول الله ، لو قصصت علينا ؟ فنزلت : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } {[15019]} .
ورواه من وجه آخر ، عن عمرو بن قيس مرسلا .
وقال أيضا : حدثنا محمد بن سعيد{[15020]} العطار{[15021]} ، حدثنا عمرو بن محمد ، أنبأنا خَلاد الصفار ، عن عمرو بن قيس ، عن عمرو بن مُرَّة{[15022]} ، عن مصعب بن سعد عن سعد قال : أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ، قال : فتلا عليهم زمانا ، فقالوا : يا رسول الله ، لو قصصتَ علينا . فأنزل الله عز وجل : { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } إلى قوله : { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }{[15023]} . ثم تلا عليهم زمانا ، فقالوا : يا رسول الله ، لو حدثتنا . فأنزل الله عز وجل : { اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } الآية [ الزمر : 23 ] ، وذكر الحديث .
ورواه الحاكم من حديث إسحاق بن رَاهَويه ، عن عمرو بن محمد القرَشي العَنْقزي ، به{[15024]} .
وروى ابن جرير بسنده{[15025]} ، عن المسعودي ، عن عَوْن بن عبد الله قال : مَلّ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم مَلّةَ ، فقالوا : يا رسول الله ، حَدثنا . [ فأنزل الله : { اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } ثم مَلّوا ملة أخرى فقالوا : يا رسول الله ، حدثنا ]{[15026]} فوق الحديث ودون القرآن - يعنون القصص - فأنزل الله : { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } فأرادوا الحديث ، فدلَّهم على أحسن الحديث ، وأرادوا القصص فدلهم على أحسن القصص{[15027]} .
ومما يناسب ذكره عند هذه الآية الكريمة ، المشتملة على مدح القرآن ، وأنه كاف عن كل ما سواه من الكتب ما قال الإمام أحمد :
حدثنا سُرَيْج بن النعمان ، أخبرنا هُشَيْم ، أنبأنا مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر بن عبد الله ؛ أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب ، فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم فغضب وقال : " أمُتَهوكون فيها يا ابن الخطاب ؟ والذي نفسي بيده ، لقد جئتكم بها بيضاء نقية ، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذّبونه ، أو بباطل فتصدقونه ، والذي نفسي بيده ، لو أن موسى كان حيا ، لما{[15028]} وسعه إلا أن يتبعني " {[15029]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان ، عن جابر ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن ثابت قال : جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني مررت بأخ لي من قريظة ، فكتب لي جوامع من التوراة ، ألا أعرضها عليك ؟ قال : فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال عبد الله بن ثابت : فقلت له : ألا ترى ما بوجه{[15030]} رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا . قال : فسُرِّي عن النبي{[15031]} صلى الله عليه وسلم وقال : " والذي نفس محمد بيده ، لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ، إنكم حَظِّي من الأمم ، وأنا حظكم من النبيين " {[15032]} .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا عبد الغفار بن عبد الله بن الزبير ، حدثنا علي بن مُسْهِر ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن خليفة بن قيس ، عن خالد بن عُرْفَطة قال : كنت جالسا عند عمر ، إذ أتي برجل من عبد القيس مسكنه بالسوس ، فقال له عمر : أنت فلان بن فلان العبدي ؟ قال : نعم . قال : وأنت النازل بالسوس ، قال : نعم . فضربه بقناة معه ، قال : فقال الرجل : ما لي يا أمير المؤمنين ؟ فقال له عمر : اجلس . فجلس ، فقرأ عليه : { بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ [ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ] } {[15033]} إلى قوله : { لَمِنَ الْغَافِلِينَ } فقرأها{[15034]} ثلاثا ، وضربه ثلاثا ، فقال له الرجل : ما لي يا أمير المؤمنين ؟ فقال : أنت الذي نسخت كتاب دانيال ! قال : مرني بأمرك أتبعه . قال : انطلق فامحه بالحميم والصوف الأبيض ، ثم لا تقْرأه{[15035]} ولا تُقرئه أحدا من الناس ، فلئن بلغني عنك أنك قرأته أو أقرأته أحدا من الناس لأنهكنّك عقوبة ، ثم قال له : اجلس ، فجلس بين يديه ، فقال : انطلقت أنا فانتسخت كتابا من أهل الكتاب ، ثم جئت به في أديم ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما هذا في يدك يا عمر ؟ " . قال : قلت : يا رسول الله ، كتاب نسخته لنزداد{[15036]} به علما إلى علمنا . فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرّت وجنتاه ، ثم نودي بالصلاة جامعة ، فقالت الأنصار : أغضب نبيكم صلى الله عليه وسلم ؟ السلاح السلاح . فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " يا أيها الناس ، إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه ، واختُصِر لي اختصارا ، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا تَتهوَّكوا ، ولا يغرنكم المتهوِّكون " . قال عمر : فقمت فقلت : رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا ، وبك رسولا . ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم{[15037]} .
وقد رواه ابن أبي حاتم في تفسيره مختصرا ، من حديث عبد الرحمن بن إسحاق ، به . وهذا حديث غريب من هذا الوجه . وعبد الرحمن بن إسحاق هو أبو شَيبَة{[15038]} الواسطي ، وقد ضعفوه وشيخه . قال البخاري : لا يصح حديثه .
قلت : وقد روي له شاهد من وجه آخر ، فقال الحافظ أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي : أخبرني الحسن بن سفيان ، حدثنا يعقوب بن سفيان ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي ، حدثني عمرو بن الحارث ، حدثنا عبد الله بن سالم الأشعري ، عن الزبيدي ، حدثنا سليم بن عامر : أن جُبَير بن نُفَير حَدّثهم : أن رجلين كانا بحمص في خلافة عمر ، رضي الله عنه ، فأرسل إليهما فيمن أرسل من أهل حمص ، وكانا قد اكتتبا من اليهود صلاصفة{[15039]} فأخذاها معهما يستفتيان فيها أمير المؤمنين ويقولون : إن رضيها لنا أمير المؤمنين ازددنا فيها رغبة . وإن نهانا عنها رفضناها ، فلما قدما عليه قالا إنا بأرض أهل الكتابين ، وإنا نسمع منهم كلاما تقشعر منه جلودنا ، أفنأخذ منه أو نترك ؟ فقال : لعلكما كتبتما منه شيئا . قالا{[15040]} لا . قال : سأحدثكما ، انطلقت في حياة رسول الله{[15041]} صلى الله عليه وسلم حتى أتيت خيبر ، فوجدت يهوديا يقول قولا أعجبني ، فقلت : هل أنت مكتبي ما تقول ؟ قال : نعم . فأتيت بأديم ، فأخذ يملي علي ، حتى كتبت في الأكرُع . فلما رجعت قلت : يا نبي الله ، وأخبرته ، قال : " ائتني به " . فانطلقت أرغب عن المشي رجاء أن أكون أتيت{[15042]} رسول الله ببعض ما يحب ، فلما أتيت به قال : " اجلس اقرأ عليّ " . فقرأت ساعة ، ثم نظرت إلى وجهه فإذا هو يتلوّن ، فتحيرت من الفَرق ، فما استطعت أجيز{[15043]} منه حرفا ، فلما رأى الذي بي دَفَعه{[15044]} ثم جعل يتبعه رسما رسما فيمحوه بريقه ، وهو يقول : " لا تتبعوا هؤلاء ، فإنهم قد هَوكوا وتَهَوَّكوا " ، حتى محا آخره حرفًا حرفا . قال عمر ، رضي الله عنه : فلو علمت أنكما كتبتما منه شيئًا جعلتكما نكالا لهذه الأمة ! قالا والله ما نكتب منه شيئًا أبدا . فخرجا بصلاصفتهما{[15045]} فحفرا لها{[15046]} فلم يألُوا أن يعمِّقَا ، ودفناها فكان آخر العهد منها{[15047]} .
وكذا روى الثوري ، عن جابر بن يزيد الجُعْفي ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن ثابت الأنصاري ، عن عمر بن الخطاب ، بنحوه{[15048]} وروى أبو داود في المراسيل ، من حديث أبي قِلابة ، عن عمر نحوه{[15049]} . والله أعلم .
{ الَر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } .
قال أبو جعفر محمد بن جرير : قد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في تأويل قوله : { الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ المُبِينِ } ، والقول الذي نختاره في تأويل ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته ههنا .
وأما قوله : { تِلْكَ آياتُ الكِتابِ المُبِينِ } ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : تلك آيات الكتاب المبين : بين حلاله وحرامه ، ورشده وهداه . ذكر من قال ذلك :
حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا الوليد بن سلمة الفلسطيني ، قال : أخبرني عبد الوهاب بن مجاهد ، عن أبيه ، في قول الله تعالى : { الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ المُبِينِ } ، قال : بين حلاله وحرامه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ المُبِينِ } ، أي : والله لمبين تركيبه هداه ورشده .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ المُبِينِ } ، قال : بين الله رشده وهداه .
حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا الوليد بن سلمة ، قال : حدثنا ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن معاذ ، أنه قال في قول الله عزّ وجلّ : { الكِتابِ المُبِينِ } ، قال بين الحروف التي سقطت عن ألسن الأعاجم ؛ وهي : ستة أحرف .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : معناه : هذه آيات الكتاب المبين ، لمن تلاه وتدبر ما فيه من حلاله وحرامه ونهيه وسائر ما حواه من صنوف معانيه ، لأن الله جلّ ثناؤه أخبر أنه مبين ، ولم يخصّ إبانته عن بعض ما فيه دون جميعه ، فذلك على جميعه ، إذ كان جميعه مبينا عما فيه .
بسم الله الرحمن الرحيم سورة يوسف . هذه السورة مكية{[1]} ويروى أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف فنزلت السورة بسبب ذلك ، ويروى أن اليهود أمروا كفار مكة أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السبب الذي أحل بني إسرائيل بمصر فنزلت السورة . وقيل سبب نزولها تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يفعله به قومه بما فعل إخوة يوسف بيوسف . وسورة يوسف لم يتكرر من معناها في القرآن شيء كما تكررت قصص الأنبياء{[2]} ففيها حجة على من اعترض بأن الفصاحة تمكنت بترداد القول ، وفي تلك القصص حجة على من قال في هذه لو كررت لفترت فصاحتها .
تقدم القول في فواتح السور ، و { الكتاب } القرآن ، ووصفه ب { المبين } قيل : من جهة أحكامه وحلاله وحرامه ، وقيل : من جهة مواعظه وهداه ونوره ، وقيل : من جهة بيان اللسان العربي وجودته إذ فيه ستة أحرف لم تجتمع في لسان{[6551]} - روي هذا القول عن معاذ بن جبل - ويحتمل أن يكون مبيناً لنبوة محمد بإعجازه .
الاسم الوحيد لهذه السورة اسم سورة يوسف ، فقد ذكر ابن حجر في كتاب الإصابة في ترجمة رافع بن مالك الزرقي عن ابن إسحاق أن أبا رافع بن مالك أول من قدم المدينة بسورة يوسف ، يعني بعد أن بايع النبي صلى الله عليه وسلم يوم العقبة .
ووجه تسميتها ظاهر لأنها قصت قصة يوسف عليه السلام كلها ، ولم تذكر قصته في غيرها . ولم يذكر اسمه في غيرها إلا في سورة الأنعام وغافر .
وفي هذا الاسم تميز لها من بين السور المفتتحة بحروف ألر ، كما ذكرناه في سورة يونس .
وهي مكية على القول الذي لا ينبغي الالتفات إلى غيره . وقد قيل : إن الآيات الثلاث من أولها مدنية . قال في الإتقان : وهو واه لا يلتفت إليه .
نزلت بعد سورة هود ، وقبل سورة الحجر .
وهي السورة الثالثة والخمسون في ترتيب نزول السور على قول الجمهور .
ولم تذكر قصة نبي في القرآن بمثل ما ذكرت قصة يوسف عليه السلام هذه السورة من الإطناب .
وعدد آيها مائة وإحدى عشرة آية باتفاق أصحاب العدد في الأمصار .
روى الواحدي والطبري يزيد أحدهما على الآخر عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : أنزل القرآن فتلاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه زمانا ، فقالوا أي المسلمون بمكة : يا رسول الله لو قصصت علينا ، فأنزل الله { ألر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون } الآيات الثلاث .
فأهم أغراضها : بيان قصة يوسف عليه السلام مع إخوته ، وما لقيه في حياته ، وما في ذلك من العبر من نواح مختلفة .
وفيها إثبات أن بعض المرائي قد يكون إنباء بأمر مغيب ، وذلك من أصول النبوءات وهو من أصول الحكمة المشرقية كما سيأتي عند قوله تعالى { إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا } الآيات .
وأن تعبير الرؤيا علم يهبه الله لمن يشاء من صالحي عباده .
ولطف الله بمن يصطفيه من عباده .
والعبرة بحسن العواقب ، والوفاء ، والأمانة ، والصدق ، والتوبة .
وسكنى إسرائيل وبنيه بأرض مصر .
وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم بما لقيه يعقوب ويوسف عليهما السلام من آلهم من الأذى . وقد لقي النبي صلى الله عليه وسلم من آله أشد ما لقيه من بعداء كفار قومه ، مثل عمه أبي لهب ، والنضر بن الحارث ، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وإن كان هذا قد أسلم بعد وحسن إسلامه ، فإن وقع أذى الأقارب في النفوس أشد من وقع أذى البعداء ، كما قال طرفة :
وظلم ذوي القربى أشد مضـاضة *** على المرء من وقع الحسام المهند
قال تعالى { لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين } .
وفيها العبرة بصبر الأنبياء مثل يعقوب ويوسف عليهم السلام على البلوى . وكيف تكون لهم العاقبة .
وفيها العبرة بهجرة قوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى البلد الذي حل به كما فعل يعقوب عليه السلام وآله ، وذلك إيماء إلى أن قريشا ينتقلون إلى المدينة مهاجرين تبعا لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم .
وفيها من عبر تاريخ الأمم والحضارة القديمة وقوانينها ونظام حكوماتها وعقوباتها وتجارتها . واسترقاق الصبي اللقيط . واسترقاق السارق ، وأحوال المساجين . ومراقبة المكاييل .
وإن في هذه السورة أسلوبا خاصا من أساليب إعجاز القرآن وهو الإعجاز في أسلوب القصص الذي كان خاصة أهل مكة يعجبون مما يتلقونه منه من بين أقاصيص العجم والروم ، فقد كان النضر بن الحارث وغيره يفتنون قريشا بأن ما يقوله القرآن في شأن الأمم هو أساطير الأولين اكتتبها محمد صلى الله عليه وسلم .
وكان النضر يتردد على الحيرة فتعلم أحاديث رستم و اسفنديار من أبطال فارس ، فكان يحدث قريشا بذلك ويقول لهم : أنا والله أحسن حديثا من محمد فهلم أحدثكم أحسن من حديثه ، ثم يحدثهم بأخبار الفرس ، فكان ما بعضها من التطويل على عادة أهل الأخبار من الفرس يموه به عليهم بأنه أشبع للسامع ، فجاءت هذه السورة على أسلوب استيعاب القصة تحديا لهم بالمعارضة .
على أنها مع ذلك قد طوت كثيرا من القصة من كل ما ليس له كبير أثر في العبرة . ولذلك ترى في خلال السورة { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض } مرتين { كذلك كدنا ليوسف } فتلك عبر من أجزاء القصة .
وما تخلل ذلك من الحكمة في أقوال الصالحين كقوله { عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون } ، وقوله { إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } .
تقدم الكلام على نظاير { الر } ونحوها في أوّل سورة البقرة .
الكلام على { تلك آيات الكتاب } مضى في سورة يونس . ووُصف الكتاب هنا ب { المبين } ووصف به في طالعة سورة يونس ب { الحكيم } لأنّ ذكر وصف إبانته هنا أنسب ، إذ كانت القصّة التي تضمّنتها هذه السّورة مفصّلة مبيّنة لأهمّ مَا جرى في مدة يوسف عليه السّلام بمصر . فقصّة يوسف عليه السّلام لم تكن معروفة للعرب قبل نزول القرآن إجمالاً ولا تفصيلاً ، بخلاف قصص الأنبياء : هود ، وصالح ، وإبراهيم ، ولوط ، وشعيب عليهم السّلام أجمعين ، إذ كانت معروفة لديهم إجمالاً ، فلذلك كان القرآن مبيّناً إيّاها ومفصّلاً .
ونزولها قبل اختلاط النبي صلى الله عليه وسلم باليهود في المدينة معجزة عظيمة من إعلام الله تعالى إيّاه بعلوم الأوّلين ، وبذلك ساوى الصحابةُ علماءَ بني إسرائيل في علم تاريخ الأديان والأنبياء وذلك من أهم ما يعلمه المشرعون .
فالمبين : اسم فاعل من أبان المتعدي . والمراد : الإبانة التامّة باللفظ والمعنى .