91- هؤلاء الكفار لم يقدروا الله ورحمته وحكمته حق التقدير ، إذ أنكروا أن تنزل رسالته على أحد من البشر ! قل - أيها النبي - للمشركين ومن يشايعهم على ذلك من اليهود : من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً يضيء ، وهدى يرشد ؟ إنكم - أيها اليهود - تجعلون كتابته في أجزاء متفرقة تظهرون منها ما يتفق وأهواءكم ، وتخفون كثيراً مما يلجئكم إلى الإيمان والتصديق بالقرآن ، وعلمتم منه ما لم تكونوا تعلمونه أنتم ولا آباؤكم ! ! وتول أنت - أيها النبي - الجواب ، وقل لهم : الله هو الذي أنزل التوراة ، ثم اتركهم يمضون في الضلال عابثين كالصبيان .
يقول تعالى : وما عظموا الله حق تعظيمه ، إذ كذبوا رسله إليهم ، قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعبد الله بن كثير : نزلت في قريش . واختاره ابن جرير ، وقيل : نزلت في طائفة من اليهود ؛ وقيل : في فنحاص رجل منهم ، وقيل : في مالك بن الصيف .
{ قَالُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ } والأول هو الأظهر ؛ لأن الآية مكية ، واليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء ، وقريش - والعرب قاطبة - كانوا يبعدون إرسال رسول من البشر ، كما قال [ تعالى ]{[10957]} { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ]{[10958]} } [ يونس : 2 ] ، وقال تعالى : { وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنزلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا } [ الإسراء : 94 ، 95 ] ، وقال هاهنا : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ } قال الله تعالى : { قُلْ مَنْ أَنزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ } ؟ أي : قل يا محمد لهؤلاء المنكرين لإنزال شيء من الكتب من عند الله ، في جواب سلبهم العام بإثبات قضية جزئية موجبة : { مَنْ أَنزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى } يعني : التوراة التي قد علمتم - وكل أحد - أن الله قد أنزلها على موسى بن عمران نورًا وهدى للناس ، أي : ليستضاء بها في كشف المشكلات ، ويهتدى بها من ظلم الشبهات .
وقوله : { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا }{[10959]} أي : يجعلها حَمَلَتُهَا{[10960]} قراطيس ، أي : قِطَعًا يكتبونها من الكتاب الأصلي الذي بأيديهم ويحرفون فيها ما يحرفون ويبدلون ويتأولون ، ويقولون : { هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } [ البقرة : 79 ] ، أي : في كتابه المنزل ، وما هو من عند الله ؛ ولهذا قال : { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا }
وقوله : { وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ } أي : ومن أنزل القرآن الذي علمكم الله فيه من خبر ما سبق ، ونبأ ما يأتي ما لم تكونوا تعلمون ذلك أنتم ولا آباؤكم .
قال قتادة : هؤلاء مشركو العرب . وقال مجاهد : هذه للمسلمين .
وقوله : { قُلِ اللَّهُ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أي : قل : الله أنزله . وهذا الذي قاله ابن عباس هو المتعين في تفسير هذه الكلمة ، لا ما قاله بعض المتأخرين ، من أن معنى { قُلِ اللَّهُ } أي : لا يكون خطاب لهم إلا هذه الكلمة ، كلمة : " الله " .
وهذا الذي قاله هذا القائل يكون أمرًا بكلمة مفردة من غير تركيب ، والإتيان بكلمة مفردة لا يفيد{[10961]} في لغة العرب فائدة يحسن السكوت عليها .
وقوله : { ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } أي : ثم دعهم في جهلهم وضلالهم يلعبون ، حتى يأتيهم من الله اليقين فسوف يعلمون{[10962]} ألهم العاقبة ، أم لعباد الله المتقين ؟ .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللّهُ عَلَىَ بَشَرٍ مّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىَ نُوراً وَهُدًى لّلنّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلّمْتُمْ مّا لَمْ تَعْلَمُوَاْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : ومَا قَدَروا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ وما أجلوا الله حقّ إجلاله ، ولا عظموه حقّ تعظيمه . إذْ قَالُوا ما أنْزَلَ اللّه على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ يقول : حين قالوا : لم ينزل الله على آدمي كتابا ولا حيا .
واختلف أهل التأويل في المعنى بقوله : إذْ قَالُوا ما أنْزَلَ اللّه على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ وفي تأويل ذلك فقال بعضهم : كان قائل ذلك رجلاً من اليهود . ثم اختلفوا في اسم ذلك الرجل ، فقال بعضهم : كان اسمه مالك بن الصيف . وقال بعضهم : كان اسمه فَنْحاص . واختلفوا أيضا في السبب الذي من أجله قال ذلك . ذكر من قال : كان قائل ذلك مالك بن الصيف :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سيعد بن جبير ، قال : جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «أنْشُدكَ بالذِي أنْزَلَ التوْرَاةَ على مُوسَى ، أما تَجِد فِي التوْرَاةِ أنّ اللّهَ يُبْغِضُ الحَبْر السّمِينَ ؟ » وكان حبرا سمينا ، فغضب فقال : والله ما أنزل الله على بشر من شيء فقال له أصحابه الذين معه : ويحك ولا موسى ؟ فقال : والله ما أنزل الله على بشر من شيء فأنزل الله : ومَا قَدَروا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا ما أنْزَلَ اللّه على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أنْزَلَ الكِتَابَ الّذِي جاءَ بِهِ مُوسَى . . . الاَية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قوله : ومَا قَدَروا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا ما أنْزَلَ اللّه على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قال : نزلت في مالك بن الصيف كان من قريظة من أحبار اليهود قُلْ يا مُحَمّدُ مَنْ أنْزَلَ الكِتابِ الّذِي جاءَ بِهِ مُوسَى نُورا وَهُدًى للنّاسِ . . . الاَية .
ذكر من قال : نزلت في فنحاص اليهودي :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : ومَا قَدَروا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا ما أنْزَلَ اللّه على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قال : قال فنحاص اليهودي : ما أنزل الله على محمد من شيء .
وقال آخرون : بل عنى بذلك جماعة من اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم آيات مثل آيات موسى . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد ، قال : حدثنا يونس ، قال : حدثنا أبو معشر المدني ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : جاء ناس من يهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُحْتَبٍ ، فقالوا : يا أبا القاسم ، ألا تأتينا بكتاب من السماء كما جاء به موسى ألواحا يحملها من عند الله فأنزل الله : يَسألُكَ أهْلُ الكِتابِ أن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتابا مِنَ السّماءِ فَقَدْ سألُوا مُوسَى أكْبَرَ مِنَ ذَلِكَ فَقالُوا أرِنا اللّهَ جَهْرَةً . . . الاَية ، فجثا رجل من يهود ، فقال : ما أنزل الله عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئا فأنزل الله : ومَا قَدَروا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ قال محمد بن كعب : ما علموا كيف الله إذْ قَالُوا ما أنْزَلَ اللّه على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أنْزَلَ الكِتَابَ الّذِي جاءَ بِهِ مُوسَى نُورا فحلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حبوته ، وجعل يقول : «ولا عَلَى أَحَدٍ » .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ومَا قَدَروا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا ما أنْزَلَ اللّه على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ . . . إلى قوله : فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ هم اليهود والنصارى ، قوم آتاهم الله علما فلم يهتدوا به ولم يأخذوا به ولم يعلموا به ، فذمهم الله في عملهم ذلك ، ذكر لنا أن أبا الدرداء كان يقول : إنّ من أكثر ما أنا مخاصم به غدا أن يقال : يا أبا الدرداء قد علمت ، فماذا علمت فيما علمت ؟ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : ومَا قَدَروا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا ما أنْزَلَ اللّه على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ يعني : من بني إسرائيل . قالت اليهود : يا محمد أنزّل الله عليك كتابا ؟ قال : «نعم » قالوا : والله ما أنزل الله من السماء كتابا . فأنزل الله : قُلْ يا محمد مَنْ أنْزَلَ الكِتَابَ الّذِي جاءَ بِهِ مُوسَى نُورا وَهُدًى الناس . . . إلى قوله : وَلا آباؤكُمْ قال : الله أنزله .
وقال آخرون : هذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن مشركي قريش أنهم قالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قال عبد الله بن كثير : إنه سمع مجاهدا يقول : وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ إذْ قالُوا ما أنْزَلَ اللّهُ على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قالها مشركو قريش ، قال : وقوله : قُلْ مَنْ أنْزَلَ الكِتابَ الّذِي جاءَ بِهِ مُوسَى نُورا وهُدًى للنّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَها وتُخْفُونَ كَثِيرا قال : هم يهود الذين يبدونها ويخفون كثيرا . قال : وقوله : وَعُلّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أنْتُمْ وَلا آباؤكُمْ قال : هذه للمسلمين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَما قَدَرُوا اللّهُ حَقّ قَدْرِهِ قال : هم الكفار لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم ، فمن آمن أن الله على كلّ شيء قدير فقد قدر الله حقّ قدره ، ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حقّ قدره .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ومَا قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ يقول : مشركو قريش .
وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك قول من قال : عني بقوله : وما قَدَرُوا الله حَقّ قَدْرِهِ مشركو قريش . وذلك أن ذلك في سياق الخبر عنهم أوّلاً ، فأن يكون ذلك أيضا خبرا عنهم أشبه من أن يكون خبرا عن اليهود ولما يجر لهم ذكر يكون هذا به متصلاً ، مع ما في الخبر عمن أخبر الله عنه في هذه الاَية من إنكاره أن يكون الله أنزل على بشر شيئا من الكتب وليس ذلك مما تدين به اليهود ، بل المعروف من دين اليهود الإقرار بصحف إبراهيم وموسى وزبور داود . وإذا لم يكن بما روي من الخبر بأن قائل ذلك كان رجلاً من اليهود خبر صحيح متصل السند ، ولا كان على أن ذلك كان كذلك من أهل التأويل إجماع ، وكان الخبر من أوّل السورة ومبتدئَها إلى هذا الموضع خبرا عن المشركين من عبدة الأوثان ، وكان قوله : وَما قَدَرُوا حَقّ اللّهَ قَدْرِهِ موصولاً بذلك غير مفصول منه ، لم يجز لنا أن ندّعي أن ذلك مصروف عما هو به موصول إلاّ بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل ولكني أظنّ أن الذين تأوّلوا ذلك خبرا عن اليهود ، وجدوا قوله : «قُلْ مَنْ الكتابَ الّذِي بِهِ مُوسَى نُورا وَهُدًى للنّاسِ يَجْعَلُونَهُ قَرَاطيسَ يُبْدُونَها ويُخْفُونَ كَثِيرا وعُلّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أنْتُمْ وَلا آباؤكُمْ » فوجهوا تأويل ذلك إلى أنه لأهل التوراة ، فقرءوه على وجه الخطاب لهم : تجعلونه قراطِيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلّمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم فجعلوا ابتداء الاَية خبرا عنهم ، إذ كانت خاتمتها خطابا لهم عندهم . وغير ذلك من التأويل والقراءة أشبه بالتنزيل ، لما وصفت قبل من أن قوله : وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ في سياق الخبر عن مشركي العرب وعبدة الأوثان ، وهو به متصل ، فالأولى أن يكون ذلك خبرا عنهم .
والأصوب من القراءة في قوله : «يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَها ويُخْفُونَ كَثِيرا » أن يكون بالياء لا بالتاء ، على معنى أن اليهود يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا ، ويكن الخطاب بقوله : قُلْ منْ أنزلَ الكتابَ لمشركي قريش . وهذا هو المعنى الذي قصده مجاهد إن شاء الله في تأويل ذلك ، وكذلك كان يقرأ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن أيوب ، عن مجاهد أنه كان يقرأ هذا الحرف : «يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَها ويُخْفُونَ كَثِيرا » .
القول في تأويل قوله تعالى : «قُلْ مَنْ أنْزَلَ الكِتابَ الّذِي جاءَ بِهِ مُوسَى نُورا وَهُدًى للنّاسِ يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَها ويُخْفُونَ كَثِيرا » .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قُلْ يا محمد لمشركي قومك القائلين لك : ما أنزل على بشر من شيء ، قل مَنْ أنْزَلَ الكِتابَ الّذِي جاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا يعني : جلاء وضياء من ظلمة الضلالة وَهُدًى للنّاسِ يقول : بيانا للناس ، يبين لهم له الحقّ من الباطل فيما أشكل عليهم من أمر دينهم ، يجعلونه قراطيس يبدونها . فمن قرأ ذلك : تَجْعَلُونَهُ جعله خطابا لليهود على ما بيّنت من تأويل من تأوّل ذلك كذلك ، ومن قرأه بالياء : «يَجْعَلُونَهُ » فتأويله في قراءته : يجعله أهله قراطيس ، وجرى الكلام في «يبدونها » بذكر القراطيس ، والمراد منه : المكتوب في القراطيس ، يراد يبدون كثيرا مما يكتبون في القراطيس ، فيظهرونه للناس ويخفون كثيرا مما يثبتونه في القراطيس فيسرّونه ويكتمونه الناس . ومما كانوا يكتمونه إياهم ما فيها من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته . كالذي :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : «قَرَاطِيسَ يُبْدُونَها ويُخْفُونَ كَثِيرا » : اليهود .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة : قُلْ يا محمد «مَنْ أنْزَلَ الكِتابَ الّذِي بِهِ مُوسَى نُورًا وهُدًى للنّاسِ يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدونَها » يعني يهود لما أظهروا من التوراة . ويُخْفُونَ كَثِيرا مما أخفوا من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه قال ابن جريج : وقال عبد الله بن كثير : إنه سمع مجاهدا يقول : «يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونها ويُخْفُونَ كَثِيرا » قال : هم يهود الذين يبدونها ويخفون كثيرا .
القول في تأويل قوله تعالى : وَعُلّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أنْتُمْ ولا آباؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ .
يقول تعالى ذكره : وعلّمكم الله جلّ ثناؤه الكتاب الذي أنزله إليكم ما لم تعلموا أنتم من أخبار من قبلكم ومن أنباء من بعدكم وما هو كائن في معادكم يوم القيامة ، وَلا آباؤُكُمْ يقول : ولم يُعلمْه آباؤكم أيها المؤمنون بالله من العرب وبرسوله صلى الله عليه وسلم . كالذي :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن أيوب ، عن مجاهد : وَعُلّمْتُمْ معشر العرب ما لَمْ تَعْلَمُوا أنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عبد الله بن كثير : إنه سمع مجاهدا يقول في قوله : وَعُلّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قال : هذه للمسلمين .
وأما قوله : قُلِ اللّهُ فإنه أمر من الله جلّ ثناؤه نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجيب استفهامه هؤلاء المشركين عما أمره باستفهامهم عنه بقوله : «قُلْ مَنْ أنْزَلَ الكِتابَ الّذِي جاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى للنّاسِ يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونها ويُخْفُونَ كَثِيرا » بقيله : الله ، كأمره إياه في موضع آخر في هذه السورة بقوله : قُلْ مَنْ يُنَجّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ البَرّ والبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرّعا وَخُفْيَةً لِئنْ أنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ فأمره باستفهام المشركين عن ذلك ، كما أمره باستفهامهم إذْ قالُوا ما أنْزَلَ اللّهُ على بَشَر مِنْ شَيْء عمن أنزل الكتاب الذي به موسى نُورا وهدى للناس . ثم أمره بالإجابة عنه هنالك بقيله : قُلِ اللّهُ يُنَجّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلّ كَرْب ثُمّ أنْتُمْ تُشْرِكُونَ كما أمره بالإجابة ههنا عن ذلك بقيله : الله أنزله على موسى . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : قُلْ مَنْ أنْزَلَ الكِتابَ الّذِي جاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى للنّاسِ قال : الله أنزله .
ولو قيل : معناه : «قل هو الله » على وجه الأمر من الله له بالخبر عن ذلك لا على وجه الجواب إذ لم يكن قوله : قُلْ مَنْ أنْزَلَ الكِتابَ مسألة من المشركين لمحمد صلى الله عليه وسلم ، فيكون قوله : قُلِ اللّهُ جوابا لهم عن مسألتهم ، فإنما هو أمر من الله لمحمد بمسألة القوم : من أنزل الكتاب ، فيجب أن يكون الجواب منهم غير الذي قاله ابن عباس من تأويله كان جائزا من أجل أنه استفهام ، ولا يكون للاستفهام جواب وهو الذي اخترنا من القول في ذلك لما بينا .
وأما قوله : ثُمّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ فإنه يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ثم ذر هؤلاء المشركين العادلين بربهم الأوثان والأصنام بعد احتجاجك عليهم في قيلهم ما أنْزَلَ اللّهُ على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ بقولك مَنْ أنْزَلَ الكِتابَ الّذِي جاءَ بِهِ مُوسَى نُورا وَهُدًى للنّاسِ وإجابتك ذلك بأن الذي أنزله الله الذي أنزل عليك كتابه في خَوْضِهِمْ يعني : فيما يخوضون فيه من باطلهم وكفرهم بالله وآياته ، يقول : يستهزءون ويسخرون . وهذا من الله وعيد لهؤلاء المشركين وتهديد لهم يقول الله جلّ ثناؤه : ثم دعهم لاعبين يا محمد ، فإني من وراء ما هم فيه من استهزائهم بآياتي بالمرصاد وأذيفهم بأسي ، وأحلّ بهم إن تمادوا في غيّهم سخطي .
{ وما قدروا الله حق قدره } وما عرفوه حق معرفته في الرحمة والإنعام على العباد . { إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } حين أنكروا الوحي وبعثه الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وذلك من عظائم رحمته وجلائل نعمته أو في السخط على الكفار وشدة البطش بهم حين جسروا على هذه المقالة ، والقائلون هم اليهود قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن بدليل نقض كلامهم ، وإلزامهم بقوله : { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس } وقراءة الجمهور { تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا } بالتاء وإنما قرأ بالياء ابن كثير وأبو عمرو حملا على قالوا وما قدروا ، وتضمن ذلك توبيخهم على سوء جهلهم بالتوراة وذمهم على تجزئتها بإبداء بعض انتخبوه وكتبوه في ورقات متفرقة وإخفاء بعض لا يشتهونه . وروي ( أن مالك بن الصيف قاله لما أغضبه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيه أن الله يبغض الحبر السمين قال : نعم إن الله يبغض الحبر السمين ، قال عليه الصلاة والسلام فأنت الحبر السمين ) وقيل هم المشركون وإلزامهم بإنزال التوراة لأنه كان من المشهورات الذائعة عندهم ولذلك كانوا يقولون { لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدي منهم } { وعلمتم } على لسان محمد صلى الله عليه وسلم . { ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } زيادة على ما في التوراة وبيانا لما التبس عليكم وعلى آبائكم الذين كانوا أعلم منكم ونظيره { إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون } . وقيل الخطاب لمن آمن من قريش { قل الله } أي أنزله الله ، أو الله أنزله . أمره بأن يجيب عنهم إشعارا بأن الجواب متعين لا يمكن غيره ، وتنبيها على أنهم بهتوا بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب . { ثم ذرهم في خوضهم } في أباطيلهم فلا عليك بعد التبليغ وإلزام الحجة . { يلعبون } حال من هم الأول ، والظرف صلة ذرهم أو يلعبون أو حال منهم الأول ، والظرف صلة ذرهم أو يلعبون أو حال من مفعوله ، أو فاعل يلعبون أو من هم الثاني والظرف متصل بالأول .