الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦٓ إِذۡ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٖ مِّن شَيۡءٖۗ قُلۡ مَنۡ أَنزَلَ ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِۦ مُوسَىٰ نُورٗا وَهُدٗى لِّلنَّاسِۖ تَجۡعَلُونَهُۥ قَرَاطِيسَ تُبۡدُونَهَا وَتُخۡفُونَ كَثِيرٗاۖ وَعُلِّمۡتُم مَّا لَمۡ تَعۡلَمُوٓاْ أَنتُمۡ وَلَآ ءَابَآؤُكُمۡۖ قُلِ ٱللَّهُۖ ثُمَّ ذَرۡهُمۡ فِي خَوۡضِهِمۡ يَلۡعَبُونَ} (91)

قوله سبحانه : { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ . . . } [ الأنعام :91 ] .

قال ابنُ عبَّاس : هذه الآيةُ نزلَتْ في بني إسرائيل ، قال النَّقَّاش : وهي آية مدنية ، وقيل : المراد رجُلٌ مخصوص منهم ، يقال له مالكُ بْنُ الضيْفِ ، قاله ابن جُبَيْر ، وقيل : فنْحَاص ، قاله السُّدِّيُّ : و{ قَدَرُواْ } : هو من توفيَةِ القَدْرِ والمنزلةِ ، وتعليلُه بقولهم : { مَا أَنزَلَ الله } يقضي بأنهم جَهِلُوا ، ولم يعرفوا اللَّه حقَّ معرفتِهِ ، إذ أحالوا عليه بعثةَ الرُّسُل ، قال الفَخْر : قال ابن عباس : { مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } ، أيْ : ما عظَّموا اللَّه حقَّ تعظيمه ، وقال الأخفشُ : ما عَرَفُوه حقَّ معرفته ، وقال أبو العالية : ما وصفوه حقَّ قُدْرته وعَظَمته ، وهذه المعانِي كلُّها صحيحةٌ ، انتهى .

وروي أنَّ مالك بن الصَّيْفِ كان سَمِيناً ، فجاء يخاصم النبيَّ صلى الله عليه وسلم بزعمه : فقال له رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم : ( أَنْشُدُكَ اللَّه ، أَلَسْتَ تَقْرَأُ فِيمَا أُنْزِلَ على موسى : إنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الْحِبْرَ السَّمِينَ ) ، فَغَضِبَ ، وقال : ( واللَّهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ) ، قال الفَخْر : وهذه الآية تدلُّ على أن النكرة في سياقِ النفْي تعمُّ ، ولو لم تفد العمومَ ، لما كان قوله تعالى : { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَاء بِهِ موسى نُوراً } إبطالاً لقولهم ، ونقْضاً عليهم ، انتهى .

وقوله تعالى : { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب } يعني : التوراةَ ، و{ قراطيس } : جمع قِرْطَاس ، أي : بطائق وأوراقاً ، وتوبيخهم بالإبداء والإِخفاء هو على إخفائهم أمر محمَّد صلى الله عليه وسلم ، وجَميعَ ما عليهم فيه حُجَّة .

وقوله سبحانه : { وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ } يحتمل وجهين :

أحدهما : أنْ يقصد به الامتنانَ عليهم ، وعلى آبائهم .

والوجه الثاني : أنْ يكون المقصود ذمَّهم ، أي : وعلِّمتم أنتم وآباؤكم ما لم تعلموه ، فما انتفعتم به ، لإعراضكم وضلالكم .