غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦٓ إِذۡ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٖ مِّن شَيۡءٖۗ قُلۡ مَنۡ أَنزَلَ ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِۦ مُوسَىٰ نُورٗا وَهُدٗى لِّلنَّاسِۖ تَجۡعَلُونَهُۥ قَرَاطِيسَ تُبۡدُونَهَا وَتُخۡفُونَ كَثِيرٗاۖ وَعُلِّمۡتُم مَّا لَمۡ تَعۡلَمُوٓاْ أَنتُمۡ وَلَآ ءَابَآؤُكُمۡۖ قُلِ ٱللَّهُۖ ثُمَّ ذَرۡهُمۡ فِي خَوۡضِهِمۡ يَلۡعَبُونَ} (91)

91

التفسير : اعلم أن مدار القرآن على إثبات التوحيد والنبوة والمعاد . فبعد ذكر دليل التوحيد وإبطال الشرك شرع في تقرير أمر النبوة فقال { وما قدروا الله حق قدره } قال ابن عباس : أي ما عظموا الله حق تعظيمه حيث أنكروا النبوة والرسالة . وقال أيضاً في رواية : ما آمنوا بأن الله على كل شيء قدير . وقال أبو العالية : ما وصفوه حق صفته . وقال الأخفش : ما عرفوه حق معرفته أي في اللطف بأوليائه أو في القهر لأعدائه . وقال الجوهري : قدر الشيء مبلغه وقدرت الشيء أقدره وأقدره قدراً من التقدير أي حرره وعرف مقداره . ثم بيّن سبب عدم عرفانه بقوله { إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } وإنما كان منكر البعث والرسالة غير عارف بالله تعالى ، لأنه إما أن يدعي أنه تعالى ما كلف أحداً من الخلائق تكليفاً أصلاً وهو باطل لأنه فتح باب المنكرات والقبائح بأسرها ، وإما أن يسلم أنه تعالى كلف الخلق بالأوامر والنواهي ولكن لا على ألسنة الرسل وهذا أيضاً جهل . فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون العقل كافياً في إيجاب الواجبات وحظر المنكرات ؟ فالجواب هب أن الأمر كذلك إلا أنه لا يمتنع تأكيد التصريف العقلي بل يجب تفصيل ذلك المجمل بالتعريفات المشروحة على ألسنة الرسل ، لأن أكثر العقول قاصرة عن إدراك مدارك الأحكام الشرعية كما أن نور البصر قاصر عن إدراك المبصرات إلا إذا أعين بنور من خارج كنور الشمس أو السراج . وأيضاً تفويض مصالح العباد إلى مقتضى عقولهم يؤدي إلى التنازع والتشاجر لتصادم الأهواء وتناقض الآراء فلا بد من أن يتفقوا على واحد يصدرون عن رأيه ، وتعيين ذلك الواحد من الخلق ترجيح بلا مرجح وإشراف على الضلال لاحتمال الخطأ في اجتهادهم ، فلعل الخير في نظرهم يكون شراً في نفس الأمر فلزم أن يكون التعيين من الله سبحانه بكونه أعرف بالبواطن كقوله { الله أعلم حيث يجعل رسالته } [ الأنعام : 124 ] وإنما يعرف ذلك المعين بظهور المعجزة على وفق دعواه تصديقاً له ، ومن أنكر ذلك ولم يجوّز خرق العادة فقد وصف الله تعالى بالعجز ونقصان القدرة . وقد طعن بعض الملحدة في الآية بأن هؤلاء القائلين إن كانوا كفار قريش أو البراهمة فهم ينكرون رسالة كل الأنبياء كما ينكرون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فكيف يمكن إبطال قولهم بقوله { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } على أن قوله { تجعلونه قراطيس } بتاء الخطاب إنما يليق باليهود وإن كانوا أهل الكتاب فهم لا يقولون ما أنزل الله على بشر من شيء ، بل يقرّون بنزول التوراة على موسى والإنجيل على عيسى . وأيضاً الأكثرون اتفقوا على أن السورة مكية وأنها نزلت دفعة واحدة ومناظرات اليهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله كانت مدنية ، فكيف يمكن حمل الآية على تلك المناظرة ؟ والجواب أنهم إن كانوا كفار قريش فإنهم كانوا مختلطين باليهود والنصارى وكانوا قد سمعوا من الفريقين على سبيل التواتر ظهور المعجزات على يد موسى كالعصا وفلق البحر وإظلال الجبل وغيرها وكان جارياً مجرى ما يوجب عليهم الاعتراف بنبوة موسى . وعلى هذا لا يبعد إيراد نبوة موسى إلزاماً لهم في قولهم { ما أنزل الله على بشر من شيء } ولما كان كفار قريش مع اليهود والنصارى متشاركين في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وآله لم يبعد أن يكون الكلام الواحد خطأ بالكفار قريش أوّلاً ولأهل الكتاب آخراً وأما إن كانوا أهل الكتاب - وهو المشهور عند الجمهور - فالوجه ما روي عن ابن عباس أن مالك بن الصيف من أحبار اليهود ورؤسائهم وكان رجلاً سميناً دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله : «أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين ؟ فأنت الحبر السمين قد سمنت من مالك الذي يطعمك اليهود » . فضحك القوم فغضب ثم التفت إلى عمر فقال : ما أنزل الله على بشر من شيء . فقال له قومه : ما هذا الذي بلغنا عنك ؟ فقال : إنه أغضبني : ثم إن اليهود لأجل هذا الكلام عزلوه وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف . فلعل مالك بن الصيف لما تأذى من الكلام المذكور طعن في نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم وإنه ما أنزل عليه من شيء البتة فأمر بأن يقول في جوابه { من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } أي لما سلمت أن الله تعالى أنزل الوحي والتنزيل على بشر وهو موسى فكيف يمكنك أن تقطع بأنه ما أنزل عليّ شيئاً غاية ما في الباب أن تطالبني بالمعجز . والحاصل أنهم قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فألزموا ما لا بد لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى ، وأدرج تحت الإلزام توبيخهم بالتحريف وإبداء بعض وإخفاء بعض . وقيل : اللفظ وإن كان مطلقاً بحسب اللغة إلا أنه مقيد بحسب العرف بتلك الواقعة ، فكأنه قال : ما أنزل الله على بشر من شيء في أنه يبغض الحبر السمين ، وهذا كما إذا أرادت المرأة أن تخرج من الدار فغضب الزوج وقال : إن خرجت من الدار فأنت طالق ، فإن كثيراً من الفقهاء قالوا : التعليق مقيد بتلك المرة حتى لو خرجت مرة أخرى لم تطلق . ويرد على هذا التوجيه أن قوله { من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } لا يكون مبطلاً لكلام الخصم . أما قوله «إن السورة مكية والمناظرات مدينة » فأجيب عنه بأن السورة مكية إلا هذه الآية فإنه نزلت بالمدينة في هذه الواقعة والله أعلم .

ومن الأحكام المستنبطة من الآية أن قوله { وما قدروا الله حق قدره } يفيد أن عقول الخلق قاصرة عن كنه معرفة الله تعالى وإن كانوا مقرين بالنبوة والرسالة لإطلاق قوله في موضع آخر { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته } [ الزمر : 67 ] ومنها أن النكرة في سياق النفي تعم وإلا لم يكن قوله { من أنزل } مبطلاً لقوله { ما أنزل الله على بشر من شيء } ومنها أن النقض يقدح في صحة الكلام وإلا لم يكن في قوله { من أنزل } حجة . ويعلم منه أن قول من يقول إبداء الفارق بين الصورتين يمنع من كون النقض مبطلاً ضعيف وإلا بطلت حجة الله تعالى في هذه الآية ، فإن لليهود حينئذ أن تقول : معجزات موسى كانت أظهر وأبهر من معجزاتك فلا يلزم نبوتك .

ومنها أن الغزالي رحمه الله تكلف وقال : حاصل الآية يرجع إلى أن موسى أنزل الله عليه شيئاً ، وأحد من البر ما أنزل الله عليه شيئاً فينتج من الشكل الثاني أن موسى ما كان من البشر وهذا خلف محال ، وليس هذه الاستحالة بحسب شكل القياس ولا بحسب صحة المقدمة الأولى فلم يبق إلا أنه لزم من فرض صحة المقدمة الثانية وهي قولهم { ما أنزل الله على بشر من شيء } فوجب القول بكونها كاذبة فثبت أن دلالة هذه الآية على المطلوب إنما تصح عند الاعتراف بصحة الشكل الثاني ، وعند الاعتراف بصحة قياس الخلف . ثم اعلم أنه سبحانه وصف كتاب موسى بكونه نوراً وهدى للناس والعطف يقتضي المغايرة . فالمراد بالنور ظهوره في نفسه . وبالهدى كونه سبباً لظهور غيره كقوله في وصف القرآن { ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا } [ الشورى : 52 ] قال أبو علي الفارسي { يجعلونه قراطيس } أي ذات قراطيس أي يودعونه إياها . فإن قيل : إذا كان جميع الكتب كذلك فلم ذكر في معرض الذم ؟ قلنا : لأنهم جعلوه قراطيس مفرقة مبعضة ليتوسلوا بذلك إلى إبداء بعض وإخفاء بعض مما فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم ، أو شيء من الأحكام التي لا توافق هواهم كالرجم وغيره { وعلمتم } أيها اليهود على لسان محمد صلى الله عليه وسلم { ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم أن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ، وقيل : كانوا يقرؤون الآيات المشتملة على نعت محمد صلى الله عليه وسلم وما كانوا يفقهون معانيها إلى أن بعث الله محمداً ، فظهر أن المراد منها هو البشارة بمقدمه ، وقيل : الخطاب لمن آمن من قريش كقوله

{ لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم } [ يس : 6 ] { قل الله } أي أنزله الله فإنهم لا يقدرون على أن ينكروا ذلك فإن العقل السليم والطبع المستقيم يشهد بأن الكتاب الموصوف المؤيد قول صاحبه بالمعجزات الباهرة لا يكون إلا من الله سبحانه . ونظره { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله } [ الأنعام : 19 ] والمقصود أنه بلغت هذه الدلالة إلى حيث يجب على كل عاقل أن يعترف بها ، فسواء أقر الخصم به أولم يقر فالغرض حاصل . { ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } يقال لمن كان في عمل لا يجدي عليه إنما أنت لاعب و{ يلعبون } حال من { ذرهم } أو من { خوضهم } ويحتمل أن يكون { في خوضهم } حالاً من { يلعبون } وأن يكون صلة له أو ل { ذرهم } . والمعنى أنك إذا أقمت الحجة عليهم وبلغت في الأعذار والإنذار هذا المبلغ العظيم فقد قضيت ما عليك كقوله { إن عليك إلا البلاغ } [ الشورى : 48 ] قيل : إنها منسوخة بآية السيف وفيه نظر لأنه مذكور لأجل التهديد فلم يكن نزول آية القتال رافعاً لشيء من مدلولات هذه الآية .

/خ100