المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦٓ إِذۡ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٖ مِّن شَيۡءٖۗ قُلۡ مَنۡ أَنزَلَ ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِۦ مُوسَىٰ نُورٗا وَهُدٗى لِّلنَّاسِۖ تَجۡعَلُونَهُۥ قَرَاطِيسَ تُبۡدُونَهَا وَتُخۡفُونَ كَثِيرٗاۖ وَعُلِّمۡتُم مَّا لَمۡ تَعۡلَمُوٓاْ أَنتُمۡ وَلَآ ءَابَآؤُكُمۡۖ قُلِ ٱللَّهُۖ ثُمَّ ذَرۡهُمۡ فِي خَوۡضِهِمۡ يَلۡعَبُونَ} (91)

91- هؤلاء الكفار لم يقدروا الله ورحمته وحكمته حق التقدير ، إذ أنكروا أن تنزل رسالته على أحد من البشر ! قل - أيها النبي - للمشركين ومن يشايعهم على ذلك من اليهود : من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً يضيء ، وهدى يرشد ؟ إنكم - أيها اليهود - تجعلون كتابته في أجزاء متفرقة تظهرون منها ما يتفق وأهواءكم ، وتخفون كثيراً مما يلجئكم إلى الإيمان والتصديق بالقرآن ، وعلمتم منه ما لم تكونوا تعلمونه أنتم ولا آباؤكم ! ! وتول أنت - أيها النبي - الجواب ، وقل لهم : الله هو الذي أنزل التوراة ، ثم اتركهم يمضون في الضلال عابثين كالصبيان .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦٓ إِذۡ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٖ مِّن شَيۡءٖۗ قُلۡ مَنۡ أَنزَلَ ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِۦ مُوسَىٰ نُورٗا وَهُدٗى لِّلنَّاسِۖ تَجۡعَلُونَهُۥ قَرَاطِيسَ تُبۡدُونَهَا وَتُخۡفُونَ كَثِيرٗاۖ وَعُلِّمۡتُم مَّا لَمۡ تَعۡلَمُوٓاْ أَنتُمۡ وَلَآ ءَابَآؤُكُمۡۖ قُلِ ٱللَّهُۖ ثُمَّ ذَرۡهُمۡ فِي خَوۡضِهِمۡ يَلۡعَبُونَ} (91)

74

ثم يمضي السياق يندد بمنكري النبوات والرسالات ، ويصمهم بأنهم لا يقدرون الله قدره ، ولا يعرفون حكمة الله ورحمته وعدله . ويقرر أن الرسالة الأخيرة إنما تجري على سنة الرسالات قبلها ؛ وأن الكتاب الأخير مصدق لما بين يديه من الكتب . . مما يتفق مع ظل الموكب الذي سبق عرضه ويتناسق :

( وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء . قل : من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس - تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا - وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم ؟ قل : الله . ثم ذرهم في خوضهم يلعبون . وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ، ولتنذر أم القرى ومن حولها ، والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به ، وهم على صلاتهم يحافظون ) . .

لقد كان المشركون في معرض العناد واللجاج يقولون : إن الله لم يرسل رسولا من البشر ؛ ولم ينزل كتابا يوحي به إلى بشر . بينما كان إلى جوارهم في الجزيرة أهل الكتاب من اليهود ؛ ولم يكونوا ينكرون عليهم أنهم أهل كتاب ، ولا أن الله أنزل التوارة على موسى - عليه السلام - إنما هم كانوا يقولون ذلك القول في زحمة العناد واللجاج ، ليكذبوا برسالة محمد [ ص ] لذلك يواجههم القرآن الكريم بالتنديد بقولتهم : ما أنزل الله على بشر من شيء ؛ كما يواجههم بالكتاب الذي جاء به موسى من قبل :

( وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء ) . .

وهذا القول الذي كان يقوله مشركو مكة في جاهليتهم ، يقوله أمثالهم في كل زمان ؛ ومنهم الذين يقولونه الآن ؛ ممن يزعمون أن الأديان من صنع البشر ؛ وأنها تطورت وترقت بتطور البشر وترقيهم . لا يفرقون في هذا بين ديانات هي من تصورات البشر أنفسهم ، كالوثنيات كلها قديما وحديثا ، ترتقي وتنحط بارتقاء أصحابها وانحطاطهم ، ولكنها تظل خارج دين الله كله . وبين ديانات جاء بها الرسل من عند الله ، وهي ثابتة على أصولها الأولى ؛ جاء بها كل رسول ؛ فتقبلتها فئة وعتت عنها فئة ؛ ثم وقع الانحراف عنها والتحريف فيها ، فعاد الناس إلى جاهليتهم في انتظار رسول جديد ، بذات الدين الواحد الموصول .

وهذا القول يقوله - قديما أو حديثا - من لا يقدر الله حق قدره ؛ ومن لا يعرف كرم الله وفضله ، ورحمته وعدله . . إنهم يقولون : إن الله لا يرسل من البشر رسولا ولو شاء لأنزل ملائكة ! كما كان العرب يقولون . أو يقولون : إن خالق هذا الكون الهائل لا يمكن أن يعني بالإنسان " الضئيل " في هذه الذرة الفلكية التي اسمها الأرض ! بحيث يرسل له الرسل ؛ وينزل على الرسل الكتب لهداية هذا المخلوق الصغير في هذا الكوكب الصغير ! وذلك كما يقول بعض الفلاسفة في القديم والحديث ! أو يقولون : إنه ليس هناك من إله ولا من وحي ولا من رسل . . إنما هي أوهام الناس أو خداع بعضهم لبعض باسم الدين ! كما يقول الماديون الملحدون !

وكله جهل بقدر الله - سبحانه - فالله الكريم العظيم العادل الرحيم ، العليم الحكيم . . . لا يدع هذا الكائن الإنساني وحده ، وهو خلقه ، وهو يعلم سره وجهره ، وطاقاته وقواه ، ونقصه وضعفه ، وحاجته إلى الموازين القسط التي يرجع إليها بتصوراته وأفكاره ، وأقواله وأعماله ، وأوضاعه ونظامه ، ليرى إن كانت صوابا وصلاحا ، أو كانت خطأ وفسادا . . ويعلم - سبحانه - أن العقل الذي أعطاه له ، يتعرض لضغوط كثيرة من شهواته ونزواته ومطامعه ورغباته ، فضلا على أنه موكل بطاقات الأرض التي له عليها سلطان بسبب تسخيرها له من الله ، وليس موكلا بتصور الوجود تصورا مطلقا ، ولا بصياغة الأسس الثابتة للحياة . فهذا مجال العقيدة التي تأتي له من الله ؛ فتنشىء له تصورا سليما للوجود والحياة . . ومن ثم لا يكله الله إلى هذا العقل وحده ، ولا يكله كذلك إلى ما أودع فطرته من معرفة لدنية بربها الحق ، وشوق إليه ، وليأذ به في الشدائد . . فهذه الفطرة قد تفسد كذلك بسبب ما يقع عليها من ضغوط داخلية وخارجية ، وبسبب الإغواء والاستهواء الذي يقوم به شياطين الجن والإنس ، بكل ما يملكون من أجهزة التوجيه والتأثير . . إنما يكل الله الناس إلى وحيه ورسله وهداه وكتبه ، ليرد فطرتهم إلى استقامتها وصفائها ، وليرد عقولهم إلى صحتها وسلامتها ، وليجلو عنهم غاشية التضليل من داخل أنفسهم ومن خارجها . . وهذا هو الذي يليق بكرم الله وفضله ، ورحمته وعدله ، وحكمته وعلمه . . فما كان ليخلق البشر ، ثم يتركهم سدى . . ثم يحاسبهم يوم القيامة ولم يبعث فيهم رسولا : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا ) . . فتقدير الله حق قدره يقتضي الاعتقاد بأنه أرسل إلى عباده رسلا يستنقذون فطرتهم من الركام ، ويساعدون عقولهم على الخلاص من الضغوط ، والانطلاق للنظر الخالص والتدبر العميق . وأنه أوحى إلى هؤلاء الرسل منهج الدعوة إلى الله ، وأنزل على بعضهم كتبا تبقى بعدهم في قومهم إلى حين - ككتب موسى وداود وعيسى - أو تبقي إلى آخر الزمان كهذا القرآن .

ولما كانت رسالة موسى معروفة بين العرب في الجزيرة ، وكان أهل الكتاب معروفين هناك ، فقد أمر الله رسوله أن يواجه المشركين المنكرين لأصل الرسالة والوحي ؛ بتلك الحقيقة :

( قل : من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس - تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا - وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم ) . .

وقد عرضنا في تقديم السورة للقول بأن هذه الآية مدنية ، وأن المخاطبين بها هم اليهود . ثم ذكرنا هناك ما اختاره ابن جرير الطبري من القراءة الأخرى ( يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا ) . . وأن المخاطبين بها هم المشركون ، وهذا خبر عن اليهود بما كان واقعا منهم من جعل التوراة في صحائف يتلاعبون بها ،

فيبدون منها للناس ما يتفق مع خطتهم في التضليل والخداع ، والتلاعب بالاحكام والفرائض ؛ ويخفون ما لا يتفق مع هذه الخطة من صحائف التوراة ! مما كان العرب يعلمون بعضه وما أخبرهم الله به في هذا القرآن من فعل اليهود . . فهذا خبر عن اليهود معترض في سياق الآية لا خطابا لهم . . والآية على هذا مكية لا مدنية . . ونحن نختار ما اختاره ابن جرير .

فقل لهم يا محمد : من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس ، مما يجعله اليهود صحائف يخفون بعضها ويظهرون بعضها قضاء للباناتهم من وراء هذا التلاعب الكرية ! كذلك واجههم بأن الله علمهم بما يقص عليهم من الحقائق والأخبار ما لم يكونوا يعملون ؛ فكان حقا عليهم أن يشكروا فضل الله ؛ ولا ينكروا أصله بإنكار أن الله نزل هذا العلم على رسوله وأوحى به إليه .

ولم يترك لهم أن يجيبوا على ذلك السؤال . إنما أمر رسول الله [ ص ] أن يحسم القول معهم في هذا الشأن ؛ وألا يجعله مجالا لجدل لا يثيره إلا اللجاج :

( قل : الله . ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ) . .

قل : الله أنزله . . ثم لا تحفل جدالهم ولجاجهم ومراءهم ، ودعهم يخوضون لاهين لاعبين . وفي هذا من التهديد ، قدر ما فيه من الاستهانة ، قدر ما فيه من الحق والجد ؛ فحين يبلغ العبث أن يقول الناس مثل ذلك الكلام ، يحسن احترام القول وحسم الجدل وتوفير الكلام !

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦٓ إِذۡ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٖ مِّن شَيۡءٖۗ قُلۡ مَنۡ أَنزَلَ ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِۦ مُوسَىٰ نُورٗا وَهُدٗى لِّلنَّاسِۖ تَجۡعَلُونَهُۥ قَرَاطِيسَ تُبۡدُونَهَا وَتُخۡفُونَ كَثِيرٗاۖ وَعُلِّمۡتُم مَّا لَمۡ تَعۡلَمُوٓاْ أَنتُمۡ وَلَآ ءَابَآؤُكُمۡۖ قُلِ ٱللَّهُۖ ثُمَّ ذَرۡهُمۡ فِي خَوۡضِهِمۡ يَلۡعَبُونَ} (91)

وجود واو العطف في صدر هذه الجملة ينادي على أنّها نزلت متناسقة مع الجمل الّتي قبلها ، وأنّها وإيّاها واردتان في غرض واحد هو إبطال مزاعم المشركين ، فهذا عطف على جملة { فإن يكفر بها هؤلاء } [ الأنعام : 89 ] ، وأنّها ليست ابتدائيّة في غرض آخر . فواو الضّمير في قوله { قدروا } عائد على ما عاد إليه اسم الإشارة في قوله : { هؤلاء } [ الأنعام : 89 ] كما علمت آنفاً . ذلك أنّ المشركين لمّا استشعروا نهوض الحجّة عليهم في نزول القرآن بأنّه ليس بِدعاً ممّا نزل على الرّسل ، ودحضَ قولهم : { لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً } [ الفرقان : 7 ] توغّلوا في المكابرة والجحود فقالوا { ما أنزل الله على بشر من شيء } وتجاهلوا ما كانوا يقولونه عن إبراهيم عليه السّلام وما يعلمونه من رسالة موسى عليه السلام وكتابه . فروى الطبري عن ابن عبّاس ومجاهد : أنّ قائل ذلك هم المشركون من قريش .

وقد جاءت هذه الآية في هذا الموقع كالنتيجة لما قبلها من ذكر الأنبياء وما جاءوا به من الهدى والشّرائع والكتب ، فلا جرم أنّ الّذين قالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء ، قد جاءوا إفكاً وزوراً وأنكروا ما هو معلوم في أجيال البشر بالتّواتر . وهذه الجملة مثل ما حكاه الله عنهم في قوله : { وقال الّذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالّذي بين يديه } [ سبأ : 31 ] . ومن أئمّة التّفسير من جعل هذا حكاية لقول بعض اليهود ، واختلفوا في أنّه معيّن أو غير معيّن ، فعن ابن عبّاس أيضاً ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، والسديّ : أنّ قائل { ما أنزل الله على بشر من شيء } بعض اليهود وروي عن سعيد بن جبير وعكرمة أنّ قائل ذلك مالك بن الصيف القُرظي وكان من أحبار اليهود بالمدينة ، وكان سميناً وأنّه جاء يخاصم النّبيء صلى الله عليه وسلم فقال له النّبيء « أنشدك بالّذي أنزل التّوراة على موسى أمَا تجد في التّوراة أنّ الله يبغض الحَبر السمين » فغضب وقال : والله ما أنزل الله على بشر من شيء . وعن السُدّي : أنّ قائله فِنْحاص اليهودي . ومحمل ذلك كلّه على أنّ قائل ذلك منهم قاله جهلاً بما في كتبهم فهو من عامّتهم ، أو قاله لجاجاً وعِناداً . وأحسب أنّ هذه الرّوايات هي الّتي ألجأت رواتها إلى ادّعاء أنّ هذه الآيات نزلت بالمدينة ، كما تقدّم في الكلام على أوّل هذه السورة .

وعليه يكون وقع هذه الآيات في هذا الموقع لمناسبة قوله : { أولئك الّذين آتيناهم الكتاب } [ الأنعام : 89 ] الآية ، وتكون الجملة كالمعترضة في خلال إبطال حجاج المشركين . وحقيقة { قدروا } عيَّنوا القَدْر وضَبطوه أي ، عَلّموه عِلماً عن تحقّق .

والقَدْر بفتح فسكون مقياسُ الشيء وضابطه ، ويستعمل مجازاً في عِلم الأمر بكُنهه وفي تدبير الأمر .

يقال : قَدَر القومُ أمرهم يقدُرونه بضمّ الدّالّ في المضارع ، أي ضبطوه ودبَّروه . وفي الحديث قول عائشة : « فاقدُروا قدْرَ الجاريةِ الحديثة السنّ » وهو هنا مجاز في العلم الصّحيح ، أي ما عرفوا الله حقّ معرفته وما علموا شأنه وتصرّفاته حقّ العلم بها ، فانتصب { حقّ } على النّيابة عن المفعول المطلق لإضافته إلى المصدر وهو { قَدْرِه } ، والإضافة هنا من إضافة الصّفة إلى الموصوف . والأصل : ما قدروا الله قَدْرَه الحَقّ .

و { إذ قالوا } ظرف ، أي ما قدروه حين قالوا { ما أنزل الله } لأنّهم لمّا نفوا شأناً عظيماً من شؤون الله ، وهو شأن هديه النّاس وإبلاغهم مرادَه بواسطة الرّسل ، قد جهلوا ما يفضي إلى الجهل بصفة من صفات الله تعالى الّتي هي صفة الكلام ، وجهلوا رحمته للنّاس ولطفه بهم .

ومقالهم هذا يعمّ جميعَ البشر لوقوع النكرة في سياق النّفي لِنفي الجنس ، ويَعمّ جميعَ ما أنزل باقترانه ب { منْ } في حيز النّفي للدّلالة على استغراق الجنس أيضاً ، ويعمّ إنزالَ الله تعالى الوحيَ على البشر بنفي المتعلِّق بهذين العمومين .

والمراد ب { شيء } هنا شيء من الوحي ، ولذلك أمر الله نبيّه بأن يُفْحمهم باستفهاممِ تقريرٍ وإلجاءٍ بقوله : { مَن أنزل الكتاب الّذي جاء به موسى } فذكَّرهم بأمر لا يستطيعون جحده لتواتره في بلاد العرب ، وهو رسالة موسى ومجيئه بالتّوراة وهي تدرس بين اليهود في البلد المجاور مكّة ، واليهودُ يتردّدون على مكّة في التّجارة وغيرها ، وأهل مكّة يتردّدون على يثرب وما حولها وفيها اليهود وأحبارهم ، وبهذا لم يذكِّرهم الله برسالة إبراهيم عليه السّلام لأنّهم كانوا يجهلون أنّ الله أنزل عليه صُحفاً فكان قد يتطرّقه اختلاف في كيفية رسالته ونبوءته . وإذا كان ذلك لا يسع إنكاره كما اقتضاه الجواب آخِرَ الآية بقوله : { قل الله } فقد ثبت أنّ الله أنزل على أحدٍ من البشر كتاباً فانتقض قولهم : { ما أنزل الله على بشر من شيء } على حسب قاعدة نقض السالبة الكليّة بموجبة جزئيّة . وافتتح بالأمر بالقول للاهتمام بهذا الإفحام ، وإلاّ فإنّ القرآن كلّه مأمور النّبيء صلى الله عليه وسلم بأن يقوله .

والنّور : استعارة للوضوح والحقّ ، فإنّ الحقّ يشبّه بالنّور ، كما يشبّه الباطل بالظلمة . قال أبو القاسم عليّ التنّوخي :

وكأنّ النّجومَ بين دُجاها *** سُنَن لاَحَ بينهنّ ابتِدَاعُ

ولذلك عطف عليه { هدى } . ونظيره قوله في سورة المائدة ( 44 ) { إنّا أنزلنا التّوراة فيها هُدَى ونور . ولو أطلق النّور على سبب الهدى لصحّ لولا هذا العطف ، كما قال تعالى عن القرآن { ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا } [ الشورى : 52 ] . وقد انتصب { نوراً } على الحال .

والمراد بالنّاس اليهود ، أي ليهديهم ، فالتّعريف فيه للاستغراق ، إلاّ أنّه استغراق عرفي ، أي النّاس الّذين هم قومه بنو إسرائيل .

وقوله : { تجعلونه قراطيس } يجوز أن يكون صفة سببيّة للكتاب ، ويجوز أن يكون مُعترضاً بين المتعاطفات .

قرأ { تجعلونه وتبدون وتخفون } بتاء الخطاب مَن عدا ابنَ كثير ، وأبَا عمرو ، ويعقوب ، من العشرة ، فإمّا أن يكون الخطاب لغير المشركين إذ الظاهر أن ليس لهم عمل في الكتاب الذي أنزل على موسى ولا باشروا إبداء بعضه وإخفاء بعضه فتعيّن أن يكون خطاباً لليهود على طريقة الإدماج ( أي الخروج من خطاب إلى غيره ) تعريضاً باليهود وإسماعاً لهم وإن لم يكونوا حاضرين من باب إياكَ أعنِي واسمَعي يا جارة ، أو هو التفات من طريق الغيبة الّذي هو مقتضى المقام إلى طريق الخطاب . وحقّه أن يقال يجعلونه بياء المضارع للغائب كما قرأ غير هؤلاء الثّلاثة القرّاء . وإمّا أن يكون خطاباً للمشركين . ومعنى كونهم يجعلون كتابَ موسى قراطيس يبدون بعضها ويخفون بعضها أنّهم سألوا اليهود عن نبوءة محمّد صلى الله عليه وسلم فقرأوا لهم ما في التّوراة من التمسّك بالسبتتِ ، أي دين اليهود ، وكتموا ذكر الرّسول صلى الله عليه وسلم الّذي يأتي من بعدُ ، فأسند الإخفاء والإبداءُ إلى المشركين مجازاً لأنّهم كانوا مظهراً من مظاهر ذلك الإخفاء والإبداء . ولعلّ ذلك صدر من اليهود بعد أن دخل الإسلام المدينة وأسلم مَن أسلم من الأوس والخزرج ، فعلم اليهود وبال عاقبة ذلك عليهم فأغروا المشركين بما يزيدهم تصميماً على المعارضة . وقد قدّمتُ ما يرجّح أنّ سورة الأنعام نزلت في آخر مدّة إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكّة ، وذلك يوجب ظننّا بأنّ هذه المدّة كانت مبدأ مداخلة اليهود لقريش في مقاومة الدّعوة الإسلاميّة بمكّة حين بلغت إلى المدينة .

قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب { يجعلونه ، ويُبدونها ، ويخفون } بالتحتيّة فتكون ضمائرُ الغيبة عائدة إلى معروف عند المتكلّم ، وهم يهود الزّمان الّذين عُرفوا بذلك .

والقراطيس جمع قرطاس . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { ولو نزّلنا عليك كتاباً في قرطاس } في هذه السّورة [ 7 ] . وهو الصحيفة من أي شيء كانت من رَقّ أو كَاغِد أو خرقة . أي تجعلون الكتاب الّذي أنزل على موسى أوراقاً متفرّقة قصداً لإظهار بعضها وإخفاء بعض آخر .

وقوله : { تبدونها وتخفون كثيراً } صفة لقراطيس ، أي تبدون بعضها وتخفون كثيراً منها ، ففهم أنّ المعنى تجعلونه قراطيس لغرض إبداء بعض وإخفاء بعض .

وهذه الصّفة في محلّ الذمّ فإنّ الله أنزل كتبه للهُدى ، والهدى بها متوقّف على إظهارها وإعلانها ، فمن فرّقها ليظهر بعضاً ويخفي بعضاً فقد خالف مراد الله منها . فأمّا لو جعلوه قراطيس لغير هذا المقصد لما كان فعلهم مذموماً ، كما كتب المسلمون القرآن في أجزاء منفصلة لقصد الاستعانة على القراءة ، وكذلك كتابة الألواح في الكتاتيب لمصلحة .

وفي « جامع العُتبية » في سماع ابن القاسم عن مالك { سُئل مالك رحمه الله عن القرآن يُكتب أسداساً وأسباعاً في المصاحف ، فكره ذلك كراهيةً شديدة وعابها وقال لا يفرّق القرآن وقد جمعه الله وهؤلاء يفرّقونه ولا أرى ذلك اه .

قال ابن رشد في « البيان والتّحصيل » : القرآن أنزل إلى النّبيء صلى الله عليه وسلم شيئاً بعد شيء حتّى كَمُل واجتمع جملة واحدة فوجب أن يحافظ على كونه مجموعاً ، فهذا وجه كراهيّة مالك لتفريقه اه .

قلْت : ولعلّه إنّما كره ذلك خشية أن يكون ذلك ذريعة إلى تفرّق أجزاء المصحف الواحد فيقع بعضها في يد بعض المسلمين فيظنّ أنّ ذلك الجزء هو القرآن كلّه ، ومعنى قول مالك : وقد جمعه الله ، أنّ الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بجمعه بعد أن نزل منجّماً ، فدلّ ذلك على أنّ الله أراد جمعه فلا يفرّق أجزاء . وقد أجاز فقهاء المذهب تجْزئة القرآن للتعلّم ومسّ جزئه على غير وضوء ، ومنه كتابته في الألواح .

وقوله : { وعُلّمتم ما لم تعلموا } في موضع الحال من كلام مقدّر دلّ عليه قوّة الاستفهام لأنّه في قوّة أخبروني ، فإنّ الاستفهام يتضمّن معنى الفعل .

ووقوع الاستفهام بالاسم الدّال على طلب تعيين فاعل الإنزالَ يقوّي معنى الفعل في الاستفهام إذ تضمّن اسم الاستفهام فعلاً وفاعلاً مستفهماً عنهما ، أي أخبروني عن ذلك وقَد علّمكم الله بالقرآن الّذي أنكرتم كونه من عند الله ، احتججتم على إنكار ذلك بنفي أن ينزل الله على بشر شيئاً ، ولو أنصفتم لوجدتم وإمارة نزوله من عند الله ثابتة فيه غير محتاج معها للاستدلال عليه . وهذا الخطاب أشدّ انطباقاً على المشركين لأنّهم لم يكونوا عالمين بأخبار الأنبياء وأحوال التّشريع ونظامه فلمّا جاءهم محمّد عليه الصّلاة والسّلام عَلم ذلك من آمَن علماً راسخاً ، وعلم ذلك من بقي على كفره بما يحصل لهم من سماع القرآن عند الدّعوة ومن مخالطيهم من المسلمين ، وقد وصفهم الله بمثل هذا في آيات أخرى ، كقوله تعالى : { تلك من أنباء الغيب نوحِيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا } [ هود : 49 ] .

ويجوز أن تكون جملة : { وعُلّمتم } عطفاً على جملة : { أنْزَل الكتاب } على اعتبار المعنى كأنّه قيل : وعلّمكم ما لم تعلموا . ووجه بناء فعل { عُلّمتم } للمجهول ظهور الفاعل ، ولأنّه سيقول { قُل الله } .

فإذا تأوّلنا الآية بما روي من قصّة مالك بن الصّيف المتقدّمة فالاستفهام بقوله { مَن أنزل الكتاب } تقريري ، إمّا لإبطال ظاهر كلامهم من جحد تنزيل كتاب على بشر ، على طريقة إفحام المناظر بإبداء ما في كلامه من لوازم الفساد ، مثل فساد اطّراد التّعريف أو انعكاسه ، وإمّا لإبطال مقصودهم من إنكار رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم بطريقة الإلزام لأنّهم أظهروا أنّ رسالة محمّد عليه الصلاة والسلام كالشيء المحال فقيل لهم على سبيل التّقرير { من أنزل الكتاب الّذي جاء به موسى } ولا يسعهم إلاّ أن يقولوا : الله ، فإذا اعترفوا بذلك فالّذي أنزل على موسى كتاباً لم لا ينزل على محمّد مِثله ، كما قال تعالى : { أم يحسدون النّاس على ما آتاهم الله من فضله } [ النساء : 54 ] الآية .

ثمّ على هذا القول تكون قراءة : { تجعلونه قراطيس } بالفوقيّة جارية على الظاهر ، وقراءتُه بالتّحتيّة من قبيل الالتفات . ونكتته أنّهم لمّا أخبر عنهم بهذا الفعل الشّنيع جُعلوا كالغائبين عن مقام الخطاب .

والمخاطب بقوله : { وعُلّمتم } على هذا الوجه هم اليهود ، فتكون الجملة حالاً من ضمير { تجعلونه } ، أي تجعلونه قراطيس تخفون بعضها في حال أنّ الله علّمكم على لسان محمّد ما لم تكونوا تعلمون ، ويكون ذلك من تمام الكلام المعترض به .

ويجيء على قراءة { يجعلونه قراطيس } بالتّحتيّة أن يكون الرّجوع إلى الخطاب بعد الغيبة التفاتاً أيضاً . وحسّنه أنّه لمّا أخبر عنهم بشيء حَسن عَادَ إلى مقام الخطاب ، أو لأنّ مقام الخطاب أنسب بالامتنان .

واعلم أنّ نظم الآية صالح للردّ على كلا الفريقين مراعاة لمقتضى الروايتين . فعلى الرّواية الأولى فواو الجماعة في « قدروا وقالوا » عائدة إلى ما عاد إليه إشارة هؤلاء ، وعلى الرّواية الثّانية فالواو واو الجماعة مستعملة في واحد معيّن على طريقة التّعريض بشخص من باب " مَا بالُ أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله " ، وذلك من قبيل عود الضّمير على غير مذكور اعتماداً على أنّه مستحضر في ذهن السامع .

وقوله : { قل الله } جواب الاستفهام التّقريري . وقد تولّى السائل الجواب لنفسه بنفسه لأنّ المسؤول لا يسعه إلاّ أن يجيب بذلك لأنّه لا يقدر أن يكابر ، على ما قرّرتُه في تفسير قوله تعالى : { قل لمن ما في السّماوات والأرض قل لله } في هذه السّورة [ 12 ] .

والمعنى قل الله أنزل الكتاب على موسى . وإذا كان وعُلّمتم ما لم تعلموا } معطوفاً على جملة { أنزل } كان الجواب شاملاً له ، أي الله علّمكم ما لم تعلموا فيكون جواباً عن الفعل المسند إلى المجهول بفعل مسند إلى المعلوم على حدّ قول ضرار بن نهشل أو الحارث النهشلي يرثي أخاه يزيد :

ليُبْكَ يزيد ضارع لخصومة *** ومختبط ممّا تُطيح الطَّوائح

كأنّه سئل من يَبكيه فقال : ضارع .

وعطف { ثمّ ذرّهم في خوضهم يلعبون } بثمّ للدّلالة على التّرتيب الرتبي ، أي أنّهم لا تنجع فيهم الحجج والأدلّة فَتَرْكُهم وخَوْضهم بعد التّبليغ هو الأولى ولكن الاحتجاج عليهم لتبكيتهم وقطع معاذيرهم .

وقوله : { في خوضهم } متعلّق ب { ذرهم } . وجملة { يلعبون } حال من ضمير الجمع . وتقدّم القول في « ذر » في قوله تعالى : { وذر الّذين اتّخذوا دينهم } [ الأنعام : 70 ] .

والخوض تقدّم في قوله تعالى : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم } [ الأنعام : 68 ] . واللّعب تقدّم في { وذر الّذين اتّخذوا دينهم لعباً } في هذه السّورة [ 70 ] .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦٓ إِذۡ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٖ مِّن شَيۡءٖۗ قُلۡ مَنۡ أَنزَلَ ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِۦ مُوسَىٰ نُورٗا وَهُدٗى لِّلنَّاسِۖ تَجۡعَلُونَهُۥ قَرَاطِيسَ تُبۡدُونَهَا وَتُخۡفُونَ كَثِيرٗاۖ وَعُلِّمۡتُم مَّا لَمۡ تَعۡلَمُوٓاْ أَنتُمۡ وَلَآ ءَابَآؤُكُمۡۖ قُلِ ٱللَّهُۖ ثُمَّ ذَرۡهُمۡ فِي خَوۡضِهِمۡ يَلۡعَبُونَ} (91)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

"ومَا قَدَروا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ": وما أجلوا الله حقّ إجلاله، ولا عظموه حقّ تعظيمه. "إذْ قَالُوا ما أنْزَلَ اللّه على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ": حين قالوا: لم ينزل الله على آدمي كتابا ولا وحيا.

واختلف أهل التأويل في المعني بقوله: "إذْ قَالُوا ما أنْزَلَ اللّه على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ "وفي تأويل ذلك؛

فقال بعضهم: كان قائل ذلك رجلاً من اليهود. ثم اختلفوا في اسم ذلك الرجل، فقال بعضهم: كان اسمه مالك بن الصيف. وقال بعضهم: كان اسمه فَنْحاص. واختلفوا أيضا في السبب الذي من أجله قال ذلك. عن سيعد بن جبير، قال: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أنْشُدكَ بالذِي أنْزَلَ التوْرَاةَ على مُوسَى، أما تَجِد فِي التوْرَاةِ أنّ اللّهَ يُبْغِضُ الحَبْر السّمِينَ؟» وكان حبرا سمينا، فغضب فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء، فقال له أصحابه الذين معه: ويحك ولا موسى؟ فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء، فأنزل الله: "ومَا قَدَروا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا ما أنْزَلَ اللّه على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أنْزَلَ الكِتَابَ الّذِي جاءَ بِهِ مُوسَى..."

وقال آخرون: بل عنى بذلك جماعة من اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم آيات مثل آيات موسى...

عن قتادة: "ومَا قَدَروا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا ما أنْزَلَ اللّه على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ "إلى قوله: "فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ" هم اليهود والنصارى، قوم آتاهم الله علما فلم يهتدوا به ولم يأخذوا به ولم يعلموا به، فذمهم الله في عملهم ذلك، ذكر لنا أن أبا الدرداء كان يقول: إنّ من أكثر ما أنا مخاصم به غدا أن يقال: يا أبا الدرداء قد علمت، فماذا علمت فيما علمت؟.

وقال آخرون: هذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن مشركي قريش أنهم قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء...

عن ابن عباس، قوله: "وَما قَدَرُوا اللّهُ حَقّ قَدْرِهِ" قال: هم الكفار لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم، فمن آمن أن الله على كلّ شيء قدير فقد قدر الله حقّ قدره، ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حقّ قدره.

وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك قول من قال: عُني بقوله: "وما قَدَرُوا الله حَقّ قَدْرِهِ" مشركو قريش؛ وذلك أن ذلك في سياق الخبر عنهم أوّلاً، فأن يكون ذلك أيضا خبرا عنهم أشبه من أن يكون خبرا عن اليهود ولما يجر لهم ذكر يكون هذا به متصلاً، مع ما في الخبر عمن أخبر الله عنه في هذه الآية من إنكاره أن يكون الله أنزل على بشر شيئا من الكتب وليس ذلك مما تدين به اليهود، بل المعروف من دين اليهود الإقرار بصحف إبراهيم وموسى وزبور داود. وإذا لم يكن بما روي من الخبر بأن قائل ذلك كان رجلاً من اليهود خبر صحيح متصل السند، ولا كان على أن ذلك كان كذلك من أهل التأويل إجماع، وكان الخبر من أوّل السورة ومبتدئها إلى هذا الموضع خبرا عن المشركين من عبدة الأوثان، وكان قوله: "وَما قَدَرُوا حَقّ اللّهَ قَدْرِهِ" موصولاً بذلك غير مفصول منه، لم يجز لنا أن ندّعي أن ذلك مصروف عما هو به موصول إلاّ بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل ولكني أظنّ أن الذين تأوّلوا ذلك خبرا عن اليهود، وجدوا قوله: «قُلْ مَنْ أنزل الكتابَ الّذِي جاء بِهِ مُوسَى نُورا وَهُدًى للنّاسِ تجْعَلُونَهُ قَرَاطيسَ تبْدُونَها وتخْفُونَ كَثِيرا وعُلّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أنْتُمْ وَلا آباؤكُمْ» فوجهوا تأويل ذلك إلى أنه لأهل التوراة، فقرأوه على وجه الخطاب لهم: "تجعلونه قراطِيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلّمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم" فجعلوا ابتداء الآية خبرا عنهم، إذ كانت خاتمتها خطابا لهم عندهم. وغير ذلك من التأويل والقراءة أشبه بالتنزيل، لما وصفت قبل من أن قوله: "وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ" في سياق الخبر عن مشركي العرب وعبدة الأوثان، وهو به متصل، فالأولى أن يكون ذلك خبرا عنهم.

والأصوب من القراءة في قوله: «يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَها ويُخْفُونَ كَثِيرا» أن يكون بالياء لا بالتاء، على معنى أن اليهود يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا، ويكون الخطاب بقوله: "قُلْ منْ أنزلَ الكتابَ" لمشركي قريش. «قُلْ مَنْ أنْزَلَ الكِتابَ الّذِي جاءَ بِهِ مُوسَى نُورا وَهُدًى للنّاسِ يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَها ويُخْفُونَ كَثِيرا».

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد لمشركي قومك القائلين لك: ما أنزل على بشر من شيء، "قل مَنْ أنْزَلَ الكِتابَ الّذِي جاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا": جلاء وضياء من ظلمة الضلالة "وَهُدًى للنّاسِ": بيانا للناس، يبين لهم له الحقّ من الباطل فيما أشكل عليهم من أمر دينهم، "يجعلونه قراطيس يبدونها". فمن قرأ ذلك: "تَجْعَلُونَهُ" جعله خطابا لليهود على ما بيّنت من تأويل من تأوّل ذلك كذلك، ومن قرأه بالياء: «يَجْعَلُونَهُ» فتأويله في قراءته: يجعله أهله قراطيس، وجرى الكلام في «يبدونها» بذكر القراطيس، والمراد منه: المكتوب في القراطيس، يراد يبدون كثيرا مما يكتبون في القراطيس، فيظهرونه للناس ويخفون كثيرا مما يثبتونه في القراطيس فيسرّونه ويكتمونه الناس. ومما كانوا يكتمونه إياهم ما فيها من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته... "وَعُلّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أنْتُمْ ولا آباؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ": وعلّمكم الله جلّ ثناؤه الكتاب الذي أنزله إليكم ما لم تعلموا أنتم من أخبار من قبلكم ومن أنباء من بعدكم وما هو كائن في معادكم يوم القيامة، "وَلا آباؤُكُمْ": ولم يُعلمْه آباؤكم أيها المؤمنون بالله من العرب وبرسوله صلى الله عليه وسلم. قال عبد الله بن كثير: إنه سمع مجاهدا يقول في قوله: "وَعُلّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ" قال: هذه للمسلمين.

"قُلِ اللّهُ": أمر من الله جلّ ثناؤه نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجيب استفهامه هؤلاء المشركين عما أمره باستفهامهم عنه بقوله: «قُلْ مَنْ أنْزَلَ الكِتابَ الّذِي جاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى للنّاسِ يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونها ويُخْفُونَ كَثِيرا» بقيله: الله، كأمره إياه في موضع آخر في هذه السورة بقوله: "قُلْ مَنْ يُنَجّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ البَرّ والبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرّعا وَخُفْيَةً لِئنْ أنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ" فأمره باستفهام المشركين عن ذلك، كما أمره باستفهامهم إذ قالُوا "ما أنْزَلَ اللّهُ على بَشَر مِنْ شَيْء" عمن أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نُورا وهدى للناس. ثم أمره بالإجابة عنه هنالك بقيله: "قُلِ اللّهُ يُنَجّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلّ كَرْب ثُمّ أنْتُمْ تُشْرِكُونَ" كما أمره بالإجابة ههنا عن ذلك بقيله: "الله" أنزله على موسى. كما:

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: قُلْ مَنْ أنْزَلَ الكِتابَ الّذِي جاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى للنّاسِ قال: الله أنزله.

ولو قيل: معناه: «قل هو الله» على وجه الأمر من الله له بالخبر عن ذلك لا على وجه الجواب إذ لم يكن قوله: "قُلْ مَنْ أنْزَلَ الكِتابَ" مسألة من المشركين لمحمد صلى الله عليه وسلم، فيكون قوله: "قُلِ اللّهُ" جوابا لهم عن مسألتهم، فإنما هو أمر من الله لمحمد بمسألة القوم: من أنزل الكتاب، فيجب أن يكون الجواب منهم غير الذي قاله ابن عباس من تأويله كان جائزا من أجل أنه استفهام، ولا يكون للاستفهام جواب وهو الذي اخترنا من القول في ذلك لما بينا.

"ثُمّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ": يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ثم ذر هؤلاء المشركين العادلين بربهم الأوثان والأصنام بعد احتجاجك عليهم في قيلهم ما أنْزَلَ اللّهُ على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ بقولك مَنْ أنْزَلَ الكِتابَ الّذِي جاءَ بِهِ مُوسَى نُورا وَهُدًى للنّاسِ وإجابتك ذلك بأن الذي أنزله الله الذي أنزل عليك كتابه."في خَوْضِهِمْ": فيما يخوضون فيه من باطلهم وكفرهم بالله وآياته، يقول: يستهزئون ويسخرون. وهذا من الله وعيد لهؤلاء المشركين وتهديد لهم، يقول الله جلّ ثناؤه: ثم دعهم لاعبين يا محمد، فإني من وراء ما هم فيه من استهزائهم بآياتي بالمرصاد وأذيقهم بأسي، وأحلّ بهم إن تمادوا في غيّهم سخطي.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

.. قيل: نزلت سورة الأنعام في محاجة أهل الشرك إلا آيات نزلت في محاجة أهل الكتاب. إحداها: هذه {وما قدروا الله حق قدره} الآية، وذكر في موضع آخر: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته} الآية [الزمر: 67] ثم قال بعض أهل التأويل: ما عرفوا الله حق معرفته، وقال غيرهم: ما عظموا الله حق عظمته؛ ذكروا أن هؤلاء لم يعظموا الله حق عظمته، ولا عرفوه حق معرفته. ومن يقدر أن يعرف [الله] حق معرفته؟ أو من يقدر أن يعبد الله حق عبادته؟ وكذلك روي في الخبر أن الملائكة يقولون يوم القيامة: يا ربنا ما عبدناك حق عبادتك مع ما أخبر عنهم أنهم {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} [التحريم: 6] وقال: {لا يستكبرون عن عبادته، ولا يستحسرون} [الأنبياء: 19] فهم مع هذا كله يقولون: ما عبدناك حق عبادتك. ومن يقدر أن يعرفه حق معرفته، أو يعظمه حق عظمته؟ ولكن تأويلهم، والله أعلم: أي ما عرفوا الله حق المعرفة التي تعرف بالاستدلال، ولا عظموه حق عظمته التي تعظم بالاستدلال. ألا لا أحد يقدر أن يعرف الله حق معرفته، ولا يعظمه حق عظمته حقيقة! وهو يخرج على وجهين: أحدهما: {وما قدروا الله حق قدره} ولا اتقوا [الله] حق تقواه مما كلفوا به، وأطاقوه، ومما جرى الأمر بذلك. وإنما تجري الكلفة منه على قدر الطاقة والوسع، ألا لا يقدر أحد أن يعظم ربه حق عظمته، ولا اتقاه حق تقواه. ولكن ما ذكرنا مما جرت الكلفة. والثاني: {وما قدروا الله حق قدره} ولا اتقوا [الله] حق تقاته على القدر الذي يعملون لأنفسهم؛ أي لو اجتهدوا في تقواه وتعظيمه القدر الذي لو كان ذلك العمل لهم، فيجتهدون، ويبلغ جهدهم ذلك [لكانوا متقين]...

. وقوله تعالى: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس} سمى عز وجل جميع كتبه {نورا وهدى} وهو نور من الظلمات؛ أي يرفع الشبهات، ويجليها، وهدى من الضلالات أي بيانا ودليلا من الحيرة والهلاك، وبالله العصمة والنجاة. وقوله تعالى: {وعلمتم ما لم تعلموا} قال الحسن: الآية في الكفرة؛ أي {وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم} من تحريف أولئك الكتاب وتغييرهم إياه. وقيل: {وعلمتم ما} في التوراة {لم تعلموا أنتم ولا} يعلمه {آباؤكم}. ثم قال: {ثم ذرهم} قال بعضهم: قوله تعالى: {قل الله} هو صلة قوله: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا}؟ يا محمد {قل الله} أنزله على موسى. وقيل: صلة قوله: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا}؟ قل: يا محمد {الله} {وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم} قال: يا محمد الله علمكم. ويحتمل أن يكون عز وجل سخرهم حتى قالوا ذلك، فكان ذلك حجة عليهم. [وقوله] تعالى: {ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} هذا يحتمل [وجهين: أحدهما]: {ذرهم} ولا تكافئهم بصنيعهم كقوله تعالى: {فاعف عنهم واصفح} [المائدة: 13]. والثاني: أنه قد أقام عليهم الحجج، وظهرت عندهم البراهين، لكنهم كابروا، وعاندوا، فأمره أن يذرهم، ولا يقيم عليهم الآيات والحجج بعد ذلك. ولكن تدعوهم إلى التوحيد، لا تذر دعاءهم إلى التوحيد، ولكن [عليك أن] تذرهم، ولا تقيم عليهم الحجج. وقوله تعالى: {في خوضهم} أي في باطلهم وتكذيبهم {يعمهون}.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} وما عرفوه حق معرفته في الرحمة على عباده واللطف بهم حين أنكروا بعثة الرسل والوحي إليهم، وذلك من أعظم وأجلّ نعمته {وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} [الأنبياء: 107] أو ما عرفوه حق معرفته في سخطه على الكافرين وشدّة بطشه بهم، ولم يخافوه حين جسروا على تلك المقالة العظيمة من إنكار النبوّة. والقائلون هم اليهود، بدليل قراءة من قرأ: «تجعلونه» بالتاء. وكذلك {تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ} وإنما قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألزموا ما لا بد لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى عليه السلام وأدرج تحت الإلزام توبيخهم وأن نعي عليهم سوء جهلهم لكتابهم وتحريفهم، وإبداء بعض وإخفاء بعض فقيل: {جَاء بِهِ موسى} وهو نور وهدى للناس، حتى غيروه، ونقصوه وجعلوه قراطيس مقطعة وورقات مفرقة، ليتمكنوا مما راموا من الإبداء والإخفاء... {قُلِ الله} أي أنزله الله، فإنهم لا يقدرون أن يناكروك {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ}: في باطلهم الذي يخوضون فيه، ولا عليك بعد إلزام الحجة. ويقال لمن كان في عمل لا يجدي عليه: إنما أنت لاعب.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

و {قراطيس} جمع قرطاس أي بطائق وأوراقاً والمعنى يجعلونه ذا قراطيس من حيث يكتب فيها، وتوبيخهم بالإبداء والإخفاء هو على إخفائهم آيات محمد عليه السلام والإخبار بنبوته وجميع ما عليهم فيه حجة... و «الخوض» الذهاب فيما لا تسبر حقائقه، وأصله في الماء ثم يستعمل في المعاني المشكلة الملتبسة.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنا ذكرنا في هذا الكتاب أن مدار أمر القرآن على إثبات التوحيد والنبوة والمعاد. وأنه تعالى لما حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه ذكر دليل التوحيد، وإبطال الشرك، وقرر تعالى ذلك الدليل بالوجوه الواضحة، شرع بعده في تقرير أمر النبوة، فقال: {وما قدروا الله حق قدره} حيث أنكروا النبوة والرسالة، فهذا بيان وجه نظم هذه الآيات وأنه في غاية الحسن... واعلم أنه تعالى لما قال: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى} وصف بعده كتاب موسى بالصفات؛ فالصفة الأولى: كونه نورا وهدى للناس. واعلم أنه تعالى سماه نورا تشبيها له بالنور الذي به يبين الطريق. فإن قالوا: فعلى هذا التفسير لا يبقى بين كونه نورا وبين كونه هدى للناس فرق، وعطف أحدهما على الآخر يوجب التغاير. قلنا: النور له صفتان: إحداهما: كونه في نفسه ظاهرا جليا، والثانية: كونه بحيث يكون سببا لظهور غيره، فالمراد من كونه نورا وهدى هذان الأمران. واعلم أنه تعالى وصف القرآن أيضا بهذين الوصفين في آية أخرى، فقال: {ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا}... المسألة الثالثة: في هذه الآية بحث صعب، وهو أن يقال: هؤلاء الذين حكى الله عنهم أنهم قالوا: {ما أنزل الله على بشر من شيء} إما أن يقال: إنهم كفار قريش أو يقال إنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فإن كان الأول، فكيف يمكن إبطال قولهم بقوله تعالى: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى} وذلك لأن كفار قريش والبراهمة كما ينكرون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فكذلك ينكرون رسالة سائر الأنبياء، فكيف يحسن إيراد هذا الإلزام عليهم، وأما إن كان الثاني وهو أن قائل هذا القول قوم من اليهود والنصارى، فهذا أيضا صعب مشكل، لأنهم لا يقولون هذا القول، وكيف يقولونه مع أن مذهبهم أن التوراة كتاب أنزله الله على موسى، والإنجيل: كتاب أنزله الله على عيسى؛ وأيضا فهذه السورة مكية، والمناظرات التي وقعت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين اليهود والنصارى كلها مدنية، فكيف يمكن حمل هذه الآية عليها، فهذا تقرير الإشكال القائم في هذه الآية. واعلم أن الناس اختلفوا فيه على قولين: فالقول الأول: إن هذه الآية نزلت في حق اليهود وهو القول المشهور عند الجمهور... والقول الثاني: أن قائل هذا القول أعني "ما أنزل الله على بشر من شيء "قوم من كفار قريش فهذا القول قد ذكره بعضهم. بقي أن يقال: كفار قريش ينكرون نبوة جميع الأنبياء عليهم السلام، فكيف يمكن إلزام نبوة موسى عليهم؟ وأيضا فما بعد هذه الآية لا يليق بكفار قريش، وإنما يليق باليهود وهو قوله: {تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم} فمن المعلوم بالضرورة أن هذه الأحوال لا تليق إلا باليهود، وهو قول من يقول: إن أول الآية خطاب مع الكفار، وآخرها خطاب مع اليهود فاسد، لأنه يوجب تفكيك نظم الآية وفساد تركيبها، وذلك لا يليق بأحسن الكلام فضلا عن كلام رب العالمين، فهذا تقرير الإشكال على هذا القول.أما السؤال الأول: فيمكن دفعه بأن كفار قريش كانوا مختلطين باليهود والنصارى وكانوا قد سمعوا من الفريقين على سبيل التواتر ظهور المعجزات القاهرة على يد موسى عليه السلام مثل انقلاب العصا ثعبانا، وفلق البحر وإظلال الجبل وغيرها والكفار كانوا يطعنون في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام بسبب أنهم كانوا يطلبون منه أمثال هذه المعجزات وكانوا يقولون لو جئتنا بأمثال هذه المعجزات لآمنا بك، فكان مجموع هذه الكلمات جاريا مجرى ما يوجب عليهم الاعتراف بنبوة موسى عليه السلام، وإذا كان الأمر كذلك لم يبعد إيراد نبوة موسى عليه السلام إلزاما عليهم في قولهم: {ما أنزل الله على بشر من شيء}... وأما السؤال الثاني: فجوابه: أن كفار قريش واليهود والنصارى، لما كانوا متشاركين في إنكار نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لم يبعد أن يكون الكلام الواحد واردا على سبيل أن يكون بعضه خطابا مع كفار مكة وبقيته يكون خطابا مع اليهود والنصارى، فهذا ما يحضرنا في هذا البحث الصعب، وبالله التوفيق.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما حصر الدعاء في الذكرى، وكان ذلك نفعاً لهم ورفقاً بهم، لا تزيد طاعتهم في ملك الله شيئاً ولا ينقص إعراضُهم من عظمته شيئاً، لأن كل ذلك بإرادته؛ بني حالاً منهم، فقال تأكيداً لأمر الرسالة بالإنكار على من جحدها وإلزاماً لهم بما هم معترفون به، أما أهل الكتاب فعلماً قطعياً، وأما العرب فتقليداً لهم ولأنهم سلموا لهم العلمَ وجعلوهم محط سؤالهم عن محمد صلى الله عليه وسلم: {وما} أي فقلنا ذلك لهم خاصة والحال أنهم ما {قدروا} أي عظموا {الله} أي المستجمع لصفات الكمال {حق قدره} أي تعظيمه في جحدهم لذكراهم وصدهم عن بشراهم ومقابلتهم للشكر عليه بالكفر له؛ قال الواحدي: يقال قدر الشيء -إذا سبره وحزره وأراد أن يعلم مقداره- يقدره -بالضم- قدراً، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:

" فإن غم عليكم فاقدروا له"، أي فاطلبوا أن تعرفوه -هذا أصله في اللغة، ثم قيل لمن عرف شيئاً: هو يقدر قدره، وإذا لم يعرفه بصفاته: إنه لا يقدر قدره {إذ} أي حين {قالوا} أي اليهود، والآية مدنية وقريش في قبولهم لقولهم، ويمكن أن تكون مكية، ويكون قولهم هذا حين أرسلت إليهم قريش تسألهم عنه صلى الله عليه وسلم في أمر رسالته واحتجاجه عليهم بإرسال موسى عليه السلام وإنزال التوراة عليه {ما أنزل الله} أي ناسين ما له من صفات الكمال {على بشر من شيء} لأن من نسب مَلِكاً تام الملك إلى أنه لم يُثبِت أوامره في رعيته بما يرضيه ليفعلوه وما يسخطه ليجتنبوه، فقد نسبه إلى نقص عظيم، فكيف إذا كانت تلك النسبة كذباً! وهذا وإن كان ما قاله إلا بعض العالمين بل بعض أهل الكتاب الذين هم بعض العالمين، أسند إلى الكل، لأنهم لم يردوا على قائله ولم يعاجلوه بالأخذ تفظيعاً للشأن وتهويلاً للأمر، وبياناً لأنه يجب على كل من سمع بآية من آيات الله أن يسعى إليها ويتعرف أمرها، فإذا تحققه فمن طعن فيها أخذ على يده بما يصل إليه قدرته، كما أنه كذلك كان يفعل لو كان ذلك ناشئاً عن أبيه أو أحد ممن يكون فخره به من أبناء الدنيا، وفي ذلك أتم إشارة إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عماد الأمور كلها، من فرّط فيه هلك وأهلك؛ روى الواحدي في أسباب النزول بغير سند عن ابن عباس رضي الله عنهما ومحمد بن كعب القرظي أن اليهود قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء، فأنزل الله تعالى- يعني هذه الآية، فقال مشيراً إلى أن اليهود قائلو ذلك، وملزماً بالاعتراف بالكذب أو المساواة للأميين في التمسك بالهوى دون كتاب، موبخاً لهم ناعياً عليهم سوء جهلهم وعظيم بهتهم وشدة وقاحتهم وعدم حيائهم: {قل} أي لهؤلاء السفهاء الذين تجرؤوا على هذه المقالة غير ناظرين في عاقبتها وما يلزم منها توبيخاً لهم وتوقيفاً على موضع جهلهم {من أنزل الكتاب} أي الجامع للأحكام والمواعظ وخيري الدنيا والآخرة {الذي جاء به موسى} أي الذي أنتم تزعمون التمسك بشرعه، حال كون ذلك الكتاب {نوراً} أي ذا نور يمكن الأخذ به من وضع الشيء في حاقّ موضعه {وهدى للناس} أي ذا هدى لهم كلهم، أما في ذلك الزمان فبالتقيد به، وأما عند إنزال الإنجيل فبالأخذ بما أرشد إليه من اتباعه، وكذا عند إنزال القرآن، فقد بان أنه هدى في كل زمان تارة بالدعاء إلى ما فيه وتارة بالدعاء إلى غيره؛ ثم بين أنهم اخفوا منه ما هو نص وصريح في الدعاء إلى غيره اتباعاً منهم للهوى ولزوماً للعمى فقال: {تجعلونه} أي أيها اليهود {قراطيس} اي أوراقاً مفرقة لتتمكنوا بها من إخفاء ما أردتم {تبدونها} أي تظهرونها للناس {وتخفون كثيراً} أي منها ما تريدون به تبديل الدين -هذا على قراءة الجماعة بالفوقانية، وعلى قراءة ابن كثير وأبي عمرو بالغيبة هو التفات مؤذن بشدة الغضب مشير إلى أن ما قالوه حقيق بأن يستحيى من ذكره فكيف بفعله! ثم التفت إليهم للزيادة في تبكيتهم إعلاماً بأنهم متساوون لبقية الإنسان في أصل الفطرة، بل العرب أزكى منهم وأصح أفهاماً، فلولا ما أتاهم به موسى عليه السلام ما فاقوهم بفهم، ولا زادوا عليهم في علم، فقال: {وعلمتم} أي أيها اليهود بالكتاب الذي أنزل على موسى {ما لم تعلموا أنتم} أي أيها اليهود من أهل هذا الزمان {ولا آباؤكم} أي الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم.

ولما كانوا قد وصلوا في هذه المقالة إلى حد من الجهل عظيم، قال مشيراً إلى عنادهم: {قل} أي أنت في الجواب عن هذا السؤال غير منتظر لجوابهم فإنهم أجلف الناس وأعتاهم {الله} أي الذي أنزل ذلك الكتاب {ثم} بعد أن تقول ذلك لا تسمع لهم شيئاً بل {ذرهم في خوضهم} أي قولهم وفعلهم المثبتين على الجهل المبنيين على أنهم في ظلام الضلال كالخائض في الماء يعملون ما لا يعلمون {يلعبون} أي يفعلون فعل اللاعب، وهو ما لا يجر لهم نفعاً ولا يدفع عنهم ضراً مع تضييع الزمان.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

ختم الله سبحانه سياق قصة إبراهيم مع قومه بذكر هداية بعض الرسل من أهل بيته وذريته تمهيدا بذلك إلى بيان كون رسالة خاتمهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جنس رسالتهم، وكون هدايته متممة ومكملة لهدايتهم، ومن ذلك أنه لا يسأل على تبليغ هذا القرآن أجرا، ولا يرجو من غير الله عليه فائدة ولا نفعا، وقفى على ذلك بالردة على منكري الوحي، وبيان أنهم ما قدروا الله حق القدر، وتفنيد ما عرض لهم من الشبهة، وإقامة الحجة الواضحة المحجة، قال:

{وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء} قدر الشيء (بسكون الدال وفتحها) ومقداره – مقياسه الذي يعرف به ومبلغه، يقال قدر يقدره إذا قاسه، وقادرت الرجل مقادرة قايسته وفعلت مثل فعله، والقدر والقدرة والمقدار القوة. ومنه القدر بمعنى الغنى واليسار – وكذا الشرف – لأنه كله قوة كما قال صاحب اللسان، وكل ما تقدم مختصر منه، (قال) وقوله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره} أي ما عظموه حق تعظيمه. وقال الليث ما وصفوه حق صفته، والقدر والقدر هنا بمعنى واحد اه. وعزى الأول إلى ابن عباس وروى عنه أيضا أن القدر هنا بمعنى القدرة، قال إن الآية نزلت في الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم فمن آمن أن الله على كل شيء قدير. فقد قدر الله حق قدره. وعن الأخفش أن المعنى ما عرفوه حق معرفته. وعن أبي العالية ما وصفوه حق صفته. وتفسيره بالمعرفة أقوى، لأنه بالمعنى الاشتقاقي ألصق، وتعلق الظرف « إذ قالوا» بفعله أو معنى نفيه أظهر، سواء تضمن معنى العلة أم لم يتضمن، والعبارة محتلة الأمرين. فمنكرو الوحي الذين يكفرون برسل الله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله، ما عرفوا الله حق معرفته، ولا عظموه حق تعظيمه ولا وصفوه حق صفته، ولا آمنوا بهذا النوع من قدرته. وهو إضافة ما شاء من علمه بما يصلح به أمر الناس من الهدى والشرع على من شاء من البشر بواسطة الملائكة، أو بتكليمه إياهم بدون واسطة، أو قدرته على ما يتبع الرسالة من تأييد الرسل بالآيات، وبهذا الاعتبار يكون تفسير القدر بالقدرة أظهر، ومن يجيز استعمال المشترك في كل معانيه والجمع بين حقيقته ومجازه مع أمن اللبس يجيز إرادة كل ما ذكر من معاني القدر هنا. على أن المعنى المختار يتضمن سائر هذه المعاني فمن عرف الله حق معرفته وصفه حق وصفه وآمن بقدرته على كل شيء وعظمه حق تعظيمه.

نطقت الآية بأن منكري الوحي ما عرفوا الله تعالى حق معرفته ولا وصفوه بما يجب وصفه به ولا عرفوا كنه فضله على البشر إذ قالوا إنه ما أنزل شيئا ما على أحد منهم، فهي دليل على أن إرسال الرسل وإنزال الكتب من شؤونه سبحانه ومتعلق صفاته في النوع البشري. فإنها من مقتضى الحكمة، وأجل آثار الرحمة، فمن عرفه تعالى بصفات الكمال، التي هي متعلق أحاسن الأفعال، ومصدر النظام التام، في عوالم الأرواح والأجسام كالحكمة البالغة، والرحمة السابغة، والعلم المحيط، والقيام بالقسط، ونظر في الآيات البينات في أنفس البشر والآفاق، فعلم منها أنه أحسن كل شيء خلقه، وأبدع كل شيء صنعه، وخلق الإنسان في أحسن تقويم، مستعدا للعروج إلى أعلى عليين، والهبوط إلى أسفل سافلين، وجعل كماله الذي ترقيه إليه مواهب روحه الملكية، ونقصه الذي تدسيه فيه مطالب جسده الحيوانية، أثرا لعلومه وأعماله الكسبية، التي عليها مدار حياته الدنيوية والأخروية.

ثم علم من تدبر أحواله في حياته الحاضرة، ومن درس طباعه وتاريخ أجياله الغابرة، أنه لم يكد يوجد فرد من أفراده أحاط علما بمصالح شخصه، فلم يجن على جسده ولا على نفسه، ولم يوجد جيل من أجياله، ولا شعب من شعوبه، ارتقت به علومه الكسبية، وقوانينه الوضعية، إلى نيل السعادة المنزلية والقومية، والكمال الذي يؤهله للسعادة الأبدية» إلا من اهتدى بهداية المرسلين، وهم في كل ملة ثلة من الأولين وقليل من الآخرين، -من عرف الله بما ذكرنا من الصفات، وعرف البشر بما أجملنا من الأحوال والمميزات، علِم علْم اليقين أن إرسال الرسل وإنزال الكتب من آثار تلك الصفات التي هي مصادر النظام ومظاهر الكمال، قد توقف عليه إكمال استعداد البشر للعروج الذي أشرنا إليه، وتوقي الهبوط الذي ذكرنا به، فكان إرشاد الوحي سببا لكل ارتقاء إنساني، في ركني وجوده الجسماني والروحاني.

وقد فتن في هذا العصر خلق كثير بترقي النظام الاجتماعي، وسعة التمتع الشهواني، في شعوب كانت قد استفادت كثيرا من هداية الوحي، ثم نسيت ذلك الأصل الذي هو مصدر كل الخير، فعتت عن أمر ربها ورسله، فمنها من كفر بهم وحدهم ومنها من كفر بهم وبه، وادعوا أنهم قد استغنوا بعقولهم عن تلك الهداية، بل وصموها بما وصموها به من سمات الغواية، حتى إذا ما برح الخفاء، وفضح الرياء، وانكشف الغطاء، ظهر أن تلك المدنية، هي أفظع الوحشية والهمجية، فأيهم أوسع فيها علوما وفنونا، وأدق نظاما وقانونا هم أشد فتكا بالإنسان وتخريبا للعمران وإن غاية هذا الترقي استعباد الأقوياء للضعفاء بتسخيرهم لخدمتهم، واستخراج خيرات الأرض لهم، استمتاعا بالشهوات الحيوانية السفلى، وإسرافا في زينة هذه الحياة الدنيا.

وقد بين شيخنا الأستاذ الإمام في (رسالة التوحيد) وجه حاجة البشر إلى الرسل من طريقين أو مسلكين: المسلك الأول: مبني على عقيدة بقاء النفس واستعداد البشر لحياة أبدية في عالم غيبي، وحاجتهم إلى إرشاد إلهي يعلمون به ما يجب عليهم من العلم والعمل للسعادة في تلك الحياة، وكون إيتاء الله تعالى إياهم ذلك من آثار إحسانه كل شيء خلقه، وإتقانه كل شيء صنعه، إذ اختص بعض أفراد هذا النوع بفطرة عالية، وأعد أرواحهم للإشراف على عالم الغيب وتلقي علم الهداية عن رب العالمين بواسطة الروح الأمين من الملائكة، أو بغير واسطة. وبذالك كانوا نهاية الشاهد، وبداية الغائب، في هذا النوع الذي جعل الله من التفاوت بين أفراده في العلم والعمل ما لا يعهد مثله ولا ما يقاربه في نوع آخر من أنواع الأحياء حتى أن الواحد منهم لينهض بأمة أو أمم فيرفع شأنها، وألوف الألوف يكونون كأنعام يسخرهم لخدمته رجل واحد أو آحاد منهم أو من غيرهم.

والمسلك الثاني مبني على ما علم من فطرة الإنسان من كونه خلق ليعيش مجتمعا متعاونا يقوم أفراد متفرقون وجماعات متعاونون بكل نوع من أنواع الأعمال التي يحتاج إليها في حفظ حياته الشخصية والنوعية، ويظهر به استعداده لتسخير جميع ما في عالمه لمنافعه، وكونه يعمل أعماله بحسب علمه وشعوره وتخيله، وكون أفراده يختلفون في ذلك اختلافا يقتضي التنازع والشقاق، الذي يفضي إلى التخاذل والتقاتل إذا لم يتداركه الله بهداية تزيل الخلاف، وتوحد الآراء والأهواء، وهذه الهداية هي هداية الوحي الذي بعث الله به الرسل، وإنما تزيل الخلاف لأن الله أودع في فطرة الإنسان فوق كل ما ذكر غريزة هي أقوى غرائزه وأعلاها، وهي غريزة الشعور بوجود قوة غيبية هي فوق قوته، وقوى جميع عالم الشهادة الذي يعيش فيه، والخضوع لكل ما يأتيه من جانب ذلك السلطان الأعلى، فأرسل الله الرسل بالآيات الدالة على تأييدهم من قبل تلك القوة العالية، والسلطة الغالبة وكونهم يتكلمون عن قيوم السموات والأرض، بما جاءوا به من الكتاب ليحكم بين الناس بالقسط. فزال من بين المؤمنين لهم كل خلاف، وتمهد لهم طريق السير إلى الكمال، فكان العاملون بالكتاب من كل أمة خيارها وعدولها. ولولا البغي الذي حمل آخرين على الخلاف في الكتاب المزيل للخلاف، لبلغت به منتهى ما هي مستعدة له من السعادة والكمال.

ومن شاء أن يقف على هذا البحث بالتفصيل، ورد ما يرد من الاعتراض عليه بالدليل، فليقرأ بالإمعان والتدبر في رسالة التوحيد، وليراجع في الجزء الثاني من هذا التفسير، ما قلناه عن الأستاذ الإمام في تفسير قوله: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} [البقرة:212] وقد بذ الأستاذ أثابه الله تعالى في هذه المسألة جميع العلماء والحكماء، الذين كتبوا في بيان حكمة بعثة الأنبياء، ولولا أن طال هذا الجزء وتجاوز كل تقدير لنقلنا عبارة رسالة التوحيد برمتها هنا، ولعلنا نجد لها مناسبة في جزء آخر وإن كانت أضعف من مناسبة هذه الآية التي يصح أن يكون ذلك البحث تفسيرا لها.

{قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا} هذا رد على منكري الوحي والرسالة لقنه الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في إثر بيان كون ذلك من شؤونه تعالى ومقتضى صفاته في تدبير أمر البشر كما تقدم آنفا. قرأ ابن كثير وأبو عمرو « يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون» بالمثناة التحتية على أنها أخبار عن الذين أنكروا الوحي وهم مشركو العرب ومن على شاكلتهم. وقرأها الآخرون « تجعلونه» الخ بالمثناة الفوقية على الخطاب، وبذلك اختلف المفسرون في الآية وعدها بعضهم من مشكلات القرآن، وقد تقدم في الكلام على نزول السورة في أول تفسيرها أن بعضهم عد هذه الآية مما استثني من نزول هذه السورة كلها دفعة واحدة بمكة، وزعموا أنها نزلت في شأن بعض اليهود في المدينة، وأن ظاهر معنى الآية يدل على ذلك لأن هذا الاحتجاج إنما يقوم على اليهود دون مشركي العرب الذين خوطبوا بسائر السورة.

وقد ورد في أسباب نزولها عن ابن عباس أنه قال: قالت اليهود يا محمد أنزل الله عليك كتابا؟ قال نعم. قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتابا، وعن السدي قال: قال فنحاص اليهودي ما أنزل الله على محمد من شيء. – وعن محمد بن كعب القرظي قال أمر الله محمدا أن يسأل أهل الكتاب عن أمره وكيف يجدونه في كتبهم فحملهم حسدهم على أن يكفروا بكتاب الله ورسله فقالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء – فأنزل الله {وما قدروا الله حق قدره} الآية. وروي عن قتادة وكذا عن مجاهد أن الآية نزلت في اليهود ولم يذكروا اسما ولا قصة، وعن عكرمة وسعيد بن جبير أنها نزلت في مالك بن الصيف اليهودي قال الكلمة في قصة سيأتي ذكرها. وفي رواية عن مجاهد أنها في العرب ورجحه ابن جرير فإنه بعد ذكر الخلاف صوب قول من قال إن الآية في مشركي قريش بأن الكلام في سياق الخبر عنهم ولم يجر لليهود ذكر في هذه السورة، وبأنه لم يصح من الرواية عن نزولها فيهم خبر متصل الإسناد، وبأن المعروف من دين اليهود أنهم لا ينكرون الوحي بل يقرون بنزوله على إبراهيم وموسى وداود (قال): فلا يجوز لنا أن نصرف الآية عما يقتضيه سياقها من أولها إلى هذا الموضع بل إلى آخرها بغير حجة من خبر صحيح أو عقل. وذكر أنه يظن أن من قال إنها نزلت في اليهود تأولوا بذلك قراءة الأفعال فيها بالخطاب « تجعلونه قراطيس» الخ وقال إن الأصوب قراءة « يجعلونه» الخ على معنى أن اليهود يجعلونه فهو حكاية عنهم ذكرت في خطاب مشركي العرب، ورجح أن هذا مراد مجاهد. ولكنه لم يبين وجه الاحتجاج على المشركين بما أنزل على موسى وهم لا يؤمنون به، ولا وجه تخريج قراءة الخطاب التي قرأ بها أكثر القراء بل اكتفى بترجيح القراءة الأخرى، فكل من القراءتين مشكل من وجه، وقد أجاب بعضهم عن الإشكال الأول مما يرد عليه بأن مشركي قريش كانوا يعلمون أن اليهود أصحاب التوراة المنزلة على موسى عليه السلام وسيأتي الدليل على ذلك.

وأما جمهور المفسرين الذين قالوا إن الآية نزلت في اليهود فيجيبون عن إشكال ابن جرير الأول وهو نزول السورة في مكة وكون السياق قبلها وبعدها في محاجة مشركي قريش بأن هذه الآية مستثناة من ذلك كما تقدم فإنها نزلت في المدينة وأدخلت في هذا الموضع لتكون مقدمة للكلام في بحث الرسالة بعد بحث التوحيد، وفيه – كما قال – إنه ليس في سابق الكلام ذكر اليهود ليعود الضمير إليهم بغير تكلف، وأجابوا عن إشكاله الثاني وهو كون اليهود يقرون بالوحي ولا ينكرونه من وجوه:

أحدهما: إن هذا إنكار مطلق أريد به المقيد، وقد بنى الرازي هذا الجواب على قصة مالك بن الصيف التي رويت في المأثور عن سعيد بن جبير – وعزاها الرازي إلى ابن عباس – وهي أنه كان سمينا وهو من أحبارهم فسأله النبي صلى الله عليه وسلم واستحلفه هل يجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين؟ فقال الكلمة. قال الرازي ومراده ما أنزل الله على بشر من شيء في أنه يبغض الحبر السمين. ثانيها: أنه قال ذلك في حالة الغضب مبالغة وذكروا أن اليهود سألوه عن قوله هذا فاعتذر بأن النبي صلى الله عليه وسلم أغضبه فقال ذلك أي في حالة الغضب المدهش للعقل أو على سبيل طغيان اللسان. ثالثها: إنه يجوز أن يكون المراد ما أنزل الله على بشر كتابا من السماء – أي سفرا مخطوطا – كما روي عن ابن عباس – وهو من تحريفهم فإنهم يعلمون أن الوحي الذي ينزله الله ليكتب يسمى كتابا قبل كتابته تجوزا وبعدها حقيقة. رابعها: إن مرادهم ما أنزل الله عليك من شيء – كما روى السدي – فذكر العام وأراد الخاص. وأما قراءة « يجعلونه قراطيس» الخ فلا تشكل على هذا الوجه من التفسير فيحتاج إلى الجواب عنها كما تشكل قراءة « تجعلونه» على الوجه الآخر.

هذا ما اطلعنا عليه في توجيه القراءتين وفيه من التكلف ما لا يخفى. وقد تقدم في تفسير سياق مثل هذا من هذه السورة أوله: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه} [الأنعام: 20] أن قريشا أرسلوا إلى المدينة من يسأل اليهود عن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فأنكروا معرفته، وسيأتي في تفسير سورة الكهف أن قريشا بعثت النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود المدينة- وفي رواية أنهم أرسلوا وفدا منهم هذان الزعيمان للكفر – فقالوا لهم: سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته وأخبروهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى أتيا المدينة فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصف لهم أمره وبعض قوله وقال: إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا الخ فهذه الرواية تدل على أن كون التوراة كتابا من عند الله لليهود خاصة كان معروفا عند مشركي قريش، وأنهم لهذا أرسلوا وفدا إلى أحبار اليهود يسألوهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وبذلك يكون الاحتجاج عليهم بالتوراة في هذه السورة التي أنزلت في محاجتهم في جميع أصول الدين احتجاجا وجيها.

ولا يصح ما قاله الرازي من أن المشركين بلغتهم معجزات موسى الدالة على نبوته وكتابه بالتواتر وأنهم كذبوا الرسول بسبب طلب مثلها. والذي يتجه على قولنا إن الآية نزلت في ضمن السورة بمكة – كما قرأها ابن كثير وأبو عمرو – محتجة على مشركي مكة – الذين أنكروا الوحي استبعادا لخطاب الله للبشر باعترافهم بكتاب موسى وإرسالهم الوفد إلى أحبار اليهود واعترافهم بأنهم أهل الكتاب الأول العالمين بأخبار الأنبياء، فهو تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: « قل» لهؤلاء الذين ما قدروا الله حق قدره من قومك إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء – كقولهم {أبعث الله بشرا رسولا} [الإسراء: 94]{من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا} [الأنعام: 91] انقشعت به ظلمات الكفر والشرك الذي ورثه بنو إسرائيل عن المصريين « وهدى للناس» أي الذين أنزل عليهم أخرجوا من الضلال بما فيه من الأحكام والشرائع التي أنشأتهم خلقا جديدا فكانوا معتصمين بالحق مقيمين للعدل إلى أن اختلفوا فيه، ونسوا حظا مما ذكروا به، فصاروا بإتباع الأهواء {يجعلونه قراطيس يبدونها} عند الحاجة: إذا استفتي الحبر من أحبارهم في مسألة له هوى في إظهار حكم الله فيها كتب ذلك الحكم في قرطاس – وهو ما يكتب فيه من ورق أو جلد أو غيرهما – فأظهره للمستفتي ولخصومه «ويخفون كثيرا» من أحكام الكتاب وأخباره إذا كان لهم هوى في إخفائها، وذلك أن الكتاب كان بأيديهم ولم يكن في أيدي العامة من نسخه شيء. وهذا الإخفاء للنصوص في الوقائع غير ما نسيه متقدمو اليهود من الكتاب بضياعه عند تخريب القدس وإجلائهم إلى العراق المشار إليه بقوله تعالى {فنسوا حظا مما ذكروا به} [المائدة: 14] خلافا لما توهمه الرازي وغيره.

والظاهر أن الآية كانت تقرأ هكذا بمكة وكذا بالمدينة إلى أن أخفى أحبار اليهود حكم الرجم بالمدينة وأخفوا ما هو أعظم من ذلك وهو البشارة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وكتمان صفاته عن العامة، وتحريفها إلى معاني أخرى للخاصة، وإلى أن قال بعضهم: ما أنزل الله على بشر من شيء، كما قال المشركون من قبلهم (إن صحت الروايات في ذلك) فلما كان ذلك كله كان غير مستبعد ولا مخل بالسياق أن يلقن الله تعالى رسوله أن يقرأ هذه الجمل في المدينة على مسمع اليهود وغيرهم بالخطاب لهم فيقول: {تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا} مع عدم نسخ القراءة الأولى. وبهذا الاحتمال المؤيد بما ذكر من الوقائع يتجه تفسير القراءتين بغير تكلف ما، ويزول كل إشكال عرض للمفسرين في تفسيرهما.

وأما قوله تعالى: {وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم} فقال قتادة: اليهود آتاهم الله تعالى علما فلم يهتدوا به ولم يأخذوا به ولم يعملوا به فذمهم الله في عملهم ذلك. وقال مجاهد: هذه للعرب. وفي رواية عنه للمسلمين، ومؤداهما واحد، فإن ما علمه العرب من علوم القرآن وحكمه وهدايته قد أدوه إلى سائر المسلمين من غيرهم فكانت فائدته عامة. وفي الجملة امتنان منه سبحانه على الرسول وقومه وسائر المؤمنين بإيتائهم هذا الكتاب الحكيم المبين. والمعنى عندنا على تقدير جعل الخطاب لليهود: وعلمتم بما أنزل على خاتم النبيين ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم الذين كانوا أعلم وأهدى منكم. فمن ذلك ما أفاده قوله تعالى: {إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون} [النمل: 76] وسيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.

ومنه ما انفرد به الإسلام وهو ما أكمل الله تعالى به دينه من بسط أصول العقائد، موضحة بالأمثلة مؤيدة بالدلائل ومن إتمام مكارم الأخلاق وعقائل الفضائل والآداب، بجعلها وسطا بين ما كانوا عليه هم والنصارى من التفريط والإفراط، ومن جعل أحكام العبادات والمعاملات، مصلحة لأنفس الأفراد وموافقة لمصالح الجماعات، ومن جعل الحكومة شورى بين أهل الحل والعقد، والشريعة مساوية بين الأجناس والملل والأفراد في ميزان العدل، لا يميز فيها إسرائيلي لنسبه، ولا عربي لحسبه، ولا يحابي مسلم بإسلامه، ولا يظلم كافر بكفره – كما تقدم في تفسير {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط} [النساء: 134] وتفسير {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط} [المائدة: 8] وغيرهما، فكان المعقول أن يكون علماء اليهود – وكذا النصارى – بعد مجيء النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأصول الكاملة في هداية البشر التي أكمل الله تعالى بها دينه المطلق الذي أرسل به جميع رسله أن يكونوا أسبق الناس إلى الإيمان به كما هو المعهود من كل ذي علم وفن حريص على الكمال فيه إذا جاءه من يفوقه في العلم به، أو رأى كتابا فيه يفضل كل ما عرف من كتبه، ولكن الحسد والعصبية، وحب الرياسة القومية، هي التي صدت عن الإيمان من صدت من علمائهم المستقلين، ولا تسل عن حال المقلدين، وقد اعترف بذلك من آمن من فضلاء المعتدلين. وجملة « وعلمتم» الخ حالية وقيل استئنافية.

بين سبحانه إنكار المنكرين للوحي بعبارة تدل على جهلهم، وترشد إلى البرهان المفند لزعمهم، وشفعه بأمر الرسول أن يسألهم ذلك السؤال الملجم لهم، ثم لقنه الجواب الذي كان يجب ان يجيبوا به لو أنصفوا، وأقروا بالحق واعترفوا، وما ينبغي أن يعاملوا به وهم جاحدون لا ينطقون بالحق ولا يذعنون وذلك قوله {قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} أي قل أيها الرسول: الله أنزله – أي كتاب موسى– ثم دعهم بعد بيان الحق مؤيدا بالحجج والدلائل فيما هم فيه من الخوض في الباطل، حال كونهم يلعبون كما يلعب الصبيان، فإنما عليك البلاغ والبيان، وعلينا الحساب والجزاء. وفي أمر الرسول بالجواب عما سئلوا عنه إيذان بأنهم لا ينكرونه ولا يقولونه، لما في الإنكار من مكابرة النفس، وما في الاعتراف من خزي الغلب والإقرار بما يجحدون من الحق. وقد قيل: إن الأمر بتركهم منسوخ بآية القتال، ورده الجمهور بأنه لا منافاة بينهما. ومن الجهل باللغة والشرع احتجاج بعض المتصوفة بالآية على شرعية ذكر الله تعالى بالأسماء المفردة كتكرار لفظ الله! وغيره من الأسماء الحسنى، وهم يكررون هذه الأسماء ساكنة لأنها ليست كلاما مفيدا، والاسم الكريم في الآية مرفوع بإجماع القراء لأنه جملة حذف أحد جزئيها القرينة السؤال التي هي جوابه كما علمت.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

هذا تشنيع على من نفى الرسالة، [من اليهود والمشركين] وزعم أن الله ما أنزل على بشر من شيء، فمن قال هذا، فما قدر الله حق قدره، ولا عظمه حق عظمته، إذ هذا قدح في حكمته، وزعم أنه يترك عباده هملا، لا يأمرهم ولا ينهاهم، ونفي لأعظم منة، امتن الله بها على عباده، وهي الرسالة، التي لا طريق للعباد إلى نيل السعادة، والكرامة، والفلاح، إلا بها، فأي قدح في الله أعظم من هذا؟ "{قُلْ ْ} لهم –ملزما بفساد قولهم، وقرِّرْهم، بما به يقرون-: {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى ْ} وهو التوراة العظيمة {نُورًا ْ} في ظلمات الجهل {وَهُدًى ْ} من الضلالة، وهاديا إلى الصراط المستقيم علما وعملا، وهو الكتاب الذي شاع وذاع، وملأ ذكره القلوب والأسماع. حتى أنهم جعلوا يتناسخونه في القراطيس، ويتصرفون فيه بما شاءوا، فما وافق أهواءهم منه، أبدوه وأظهروه، وما خالف ذلك، أخفوه وكتموه، وذلك كثير. {وَعُلِّمْتُمْ ْ} من العلوم التي بسبب ذلك الكتاب الجليل {مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ ْ} فإذا سألتهم عمن أنزل هذا الكتاب الموصوف بتلك الصفات، فأجب عن هذا السؤال. و {قل الله} الذي أنزله، فحينئذ يتضح الحق وينجلي مثل الشمس، وتقوم عليهم الحجة، ثم إذا ألزمتهم بهذا الإلزام {ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ْ} أي: اتركهم يخوضوا في الباطل، ويلعبوا بما لا فائدة فيه، حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ثم يمضي السياق يندد بمنكري النبوات والرسالات، ويصمهم بأنهم لا يقدرون الله قدره، ولا يعرفون حكمة الله ورحمته وعدله. ويقرر أن الرسالة الأخيرة إنما تجري على سنة الرسالات قبلها؛ وأن الكتاب الأخير مصدق لما بين يديه من الكتب.. مما يتفق مع ظل الموكب الذي سبق عرضه ويتناسق:

(وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء. قل: من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس -تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا- وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم؟ قل: الله. ثم ذرهم في خوضهم يلعبون. وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه، ولتنذر أم القرى ومن حولها، والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به، وهم على صلاتهم يحافظون)..

لقد كان المشركون في معرض العناد واللجاج يقولون: إن الله لم يرسل رسولا من البشر؛ ولم ينزل كتابا يوحي به إلى بشر. بينما كان إلى جوارهم في الجزيرة أهل الكتاب من اليهود؛ ولم يكونوا ينكرون عليهم أنهم أهل كتاب، ولا أن الله أنزل التوراة على موسى -عليه السلام- إنما هم كانوا يقولون ذلك القول في زحمة العناد واللجاج، ليكذبوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لذلك يواجههم القرآن الكريم بالتنديد بقولتهم: ما أنزل الله على بشر من شيء؛ كما يواجههم بالكتاب الذي جاء به موسى من قبل:

(وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء)..

وهذا القول الذي كان يقوله مشركو مكة في جاهليتهم، يقوله أمثالهم في كل زمان؛ ومنهم الذين يقولونه الآن؛ ممن يزعمون أن الأديان من صنع البشر؛ وأنها تطورت وترقت بتطور البشر وترقيهم. لا يفرقون في هذا بين ديانات هي من تصورات البشر أنفسهم، كالوثنيات كلها قديما وحديثا، ترتقي وتنحط بارتقاء أصحابها وانحطاطهم، ولكنها تظل خارج دين الله كله. وبين ديانات جاء بها الرسل من عند الله، وهي ثابتة على أصولها الأولى؛ جاء بها كل رسول؛ فتقبلتها فئة وعتت عنها فئة؛ ثم وقع الانحراف عنها والتحريف فيها، فعاد الناس إلى جاهليتهم في انتظار رسول جديد، بذات الدين الواحد الموصول.

وهذا القول يقوله -قديما أو حديثا- من لا يقدر الله حق قدره؛ ومن لا يعرف كرم الله وفضله، ورحمته وعدله.. إنهم يقولون: إن الله لا يرسل من البشر رسولا ولو شاء لأنزل ملائكة! كما كان العرب يقولون. أو يقولون: إن خالق هذا الكون الهائل لا يمكن أن يعني بالإنسان "الضئيل "في هذه الذرة الفلكية التي اسمها الأرض! بحيث يرسل له الرسل؛ وينزل على الرسل الكتب لهداية هذا المخلوق الصغير في هذا الكوكب الصغير! وذلك كما يقول بعض الفلاسفة في القديم والحديث! أو يقولون: إنه ليس هناك من إله ولا من وحي ولا من رسل.. إنما هي أوهام الناس أو خداع بعضهم لبعض باسم الدين! كما يقول الماديون الملحدون!

وكله جهل بقدر الله -سبحانه- فالله الكريم العظيم العادل الرحيم، العليم الحكيم... لا يدع هذا الكائن الإنساني وحده، وهو خلقه، وهو يعلم سره وجهره، وطاقاته وقواه، ونقصه وضعفه، وحاجته إلى الموازين القسط التي يرجع إليها بتصوراته وأفكاره، وأقواله وأعماله، وأوضاعه ونظامه، ليرى إن كانت صوابا وصلاحا، أو كانت خطأ وفسادا.. ويعلم -سبحانه- أن العقل الذي أعطاه له، يتعرض لضغوط كثيرة من شهواته ونزواته ومطامعه ورغباته، فضلا على أنه موكل بطاقات الأرض التي له عليها سلطان بسبب تسخيرها له من الله، وليس موكلا بتصور الوجود تصورا مطلقا، ولا بصياغة الأسس الثابتة للحياة. فهذا مجال العقيدة التي تأتي له من الله؛ فتنشئ له تصورا سليما للوجود والحياة.. ومن ثم لا يكله الله إلى هذا العقل وحده، ولا يكله كذلك إلى ما أودع فطرته من معرفة لدنية بربها الحق، وشوق إليه، ولياذ به في الشدائد.. فهذه الفطرة قد تفسد كذلك بسبب ما يقع عليها من ضغوط داخلية وخارجية، وبسبب الإغواء والاستهواء الذي يقوم به شياطين الجن والإنس، بكل ما يملكون من أجهزة التوجيه والتأثير.. إنما يكل الله الناس إلى وحيه ورسله وهداه وكتبه، ليرد فطرتهم إلى استقامتها وصفائها، وليرد عقولهم إلى صحتها وسلامتها، وليجلو عنهم غاشية التضليل من داخل أنفسهم ومن خارجها.. وهذا هو الذي يليق بكرم الله وفضله، ورحمته وعدله، وحكمته وعلمه.. فما كان ليخلق البشر، ثم يتركهم سدى.. ثم يحاسبهم يوم القيامة ولم يبعث فيهم رسولا: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا).. فتقدير الله حق قدره يقتضي الاعتقاد بأنه أرسل إلى عباده رسلا يستنقذون فطرتهم من الركام، ويساعدون عقولهم على الخلاص من الضغوط، والانطلاق للنظر الخالص والتدبر العميق. وأنه أوحى إلى هؤلاء الرسل منهج الدعوة إلى الله، وأنزل على بعضهم كتبا تبقى بعدهم في قومهم إلى حين -ككتب موسى وداود وعيسى- أو تبقي إلى آخر الزمان كهذا القرآن.

ولما كانت رسالة موسى معروفة بين العرب في الجزيرة، وكان أهل الكتاب معروفين هناك، فقد أمر الله رسوله أن يواجه المشركين المنكرين لأصل الرسالة والوحي؛ بتلك الحقيقة:

(قل: من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس -تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا- وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم)..

وقد عرضنا في تقديم السورة للقول بأن هذه الآية مدنية، وأن المخاطبين بها هم اليهود. ثم ذكرنا هناك ما اختاره ابن جرير الطبري من القراءة الأخرى (يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا).. وأن المخاطبين بها هم المشركون، وهذا خبر عن اليهود بما كان واقعا منهم من جعل التوراة في صحائف يتلاعبون بها،

فيبدون منها للناس ما يتفق مع خطتهم في التضليل والخداع، والتلاعب بالأحكام والفرائض؛ ويخفون ما لا يتفق مع هذه الخطة من صحائف التوراة! مما كان العرب يعلمون بعضه وما أخبرهم الله به في هذا القرآن من فعل اليهود.. فهذا خبر عن اليهود معترض في سياق الآية لا خطابا لهم.. والآية على هذا مكية لا مدنية.. ونحن نختار ما اختاره ابن جرير.

فقل لهم يا محمد: من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس، مما يجعله اليهود صحائف يخفون بعضها ويظهرون بعضها قضاء للباناتهم من وراء هذا التلاعب الكرية! كذلك واجههم بأن الله علمهم بما يقص عليهم من الحقائق والأخبار ما لم يكونوا يعملون؛ فكان حقا عليهم أن يشكروا فضل الله؛ ولا ينكروا أصله بإنكار أن الله نزل هذا العلم على رسوله وأوحى به إليه.

ولم يترك لهم أن يجيبوا على ذلك السؤال. إنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحسم القول معهم في هذا الشأن؛ وألا يجعله مجالا لجدل لا يثيره إلا اللجاج:

(قل: الله. ثم ذرهم في خوضهم يلعبون)..

قل: الله أنزله.. ثم لا تحفل جدالهم ولجاجهم ومراءهم، ودعهم يخوضون لاهين لاعبين. وفي هذا من التهديد، قدر ما فيه من الاستهانة، قدر ما فيه من الحق والجد؛ فحين يبلغ العبث أن يقول الناس مثل ذلك الكلام، يحسن احترام القول وحسم الجدل وتوفير الكلام!

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

إِنّ عبارة (وما قدروا الله حق قدره) في الواقع إِشارة إِلى أنّ من يعرف الله معرفة صحيحة لا يمكن أن ينكر إِرساله الهداة والمرشدين ومعهم الكتب السماوية إِلى البشر، لأنّ حكمة الله توجب: أوّلا: أن يعين الإِنسان في مسيرته المليئة بالمنعطفات لبلوغ هدفه التكاملي الذي خلق من أجله وإِلاّ انتقض الهدف من الخلقة، وهذا الهدف لا يمكن تحقيقه بغير الوحي والكتب السماوية والتعاليم السليمة من كل خطأ وسهو.

ثانياً: كيف يمكن لربوبية الله ذات الرحمة العامّة والخاصّة أن تترك الإِنسان وحيداً في طريق سعادته المليء بمختلف الموانع والعقبات والمتاهات، فلا يرسل إِليه قائداً ومرشداً يحمل التعاليم الشاملة للأخذ بيده وتوجيهه، وعليه فإِن حكمته ورحمته توجبان إِرسال الرسل وإِنزال الكتب السماوية. لا شك أن معرفة حقيقة الذات الإلهية المقدسة وكنه صفاته غير ممكنة، وهذه الآية لا تقصد هذا الحدّ من معرفة الله، وإِنّما تريد أن تقول: لو حصل الإِنسان على المقدار الميسور من معرفة الله فلا يبقى شك بأنّ مثل هذا الربّ لا يمكن أن يترك عباده بدون هاد ودليل وكتاب سماوي.