وعندما تكون هذه الحقيقة قد استقرت في النفس . عندما تكون النفس قد أخرجت من حسابها حكاية الحرص على الحياة - إذ كل نفس ذائقة الموت على كل حال - وأخرجت من حسابها حكاية متاع الغرور الزائل . . عندئذ يحدث الله المؤمنين عما ينتظرهم من بلاء في الأموال والأنفس . وقد استعدت نفوسهم للبلاء :
( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ، ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا . وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) . .
إنها سنة العقائد والدعوات . لا بد من بلاء ، ولا بد من أذى في الأموال والأنفس ، ولا بد من صبر ومقاومة واعتزام .
إنه الطريق إلى الجنة . وقد حفت الجنة بالمكاره . بينما حفت النار بالشهوات .
ثم إنه هو الطريق الذي لا طريق غيره ، لإنشاء الجماعة التي تحمل هذه الدعوة ، وتنهض بتكاليفها . طريق التربية لهذه الجماعة ؛ وإخراج مكنوناتها من الخير والقوة والاحتمال . وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف ؛ والمعرفة الواقعية لحقيقة الناس وحقيقة الحياة .
ذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عودا . فهؤلاء هم الذين يصلحون لحملها إذن والصبر عليها . فهم عليها مؤتمنون .
وذلك لكي تعز هذه الدعوة عليهم وتغلو ، بقدر ما يصيبهم في سبيلها من عنت وبلاء ، وبقدر ما يضحون في سبيلها من عزيز وغال . فلا يفرطوا فيها بعد ذلك ، مهما تكن الأحوال .
وذلك لكي يصلب عود الدعوة والدعاة . فالمقاومة هي التي تستثير القوى الكامنة ، وتنميها وتجمعها وتوجهها . والدعوة الجديدة في حاجة إلى استثارة هذه القوى لتتأصل جذورها وتتعمق ؛ وتتصل بالتربة الخصبة الغنية في أعماق الفطرة . .
وذلك لكي يعرف أصحاب الدعوة حقيقتهم هم أنفسهم ؛ وهم يزاولون الحياة والجهاد مزاولة عملية واقعية . ويعرفوا حقيقة النفس البشرية وخباياها . وحقيقة الجماعات والمجتمعات . وهم يرون كيف تصطرع مبادىء دعوتهم ، مع الشهوات في أنفسهم وفي أنفس الناس . ويعرفون مداخل الشيطان إلى هذه النفوس ، ومزالق الطريق ، ومسارب الضلال !
ثم . . لكي يشعر المعارضون لها في النهاية أنه لا بد فيها من خير ، ولا بد فيها من سر ، يجعل أصحابها يلاقون في سبيلها ما يلاقون وهم صامدون . . فعندئذ قد ينقلب المعارضون لها إليها . . أفواجا . . في نهاية المطاف !
إنها سنة الدعوات . وما يصبر على ما فيها من مشقة ؛ ويحافظ في ثنايا الصراع المرير على تقوى الله ، فلا يشط فيعتدي وهو يرد الاعتداء ؛ ولا ييأس من رحمة الله ويقطع أمله في نصره وهو يعاني الشدائد . . ما يصبر على ذلك كله إلا أولو العزم الأقوياء :
( وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) . .
وهكذا علمت الجماعة المسلمة في المدينة ما ينتظرها من تضحيات وآلام . وما ينتظرها من أذى وبلاء في الأنفس والأموال . من أهل الكتاب من حولها . ومن المشركين أعدائها . . ولكنها سارت في الطريق . لم تتخاذل ، ولم تتراجع ، ولم تنكص على أعقابها . . لقد كانت تستيقن أن كل نفس ذائقة الموت . وأن توفية الأجور يوم القيامة . وأنه من زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز . وأن الحياة الدنيا ما هي إلا متاع الغرور . . على هذه الأرض الصلبة المكشوفة كانت تقف ؛ وفي هذا الطريق القاصد الواصل كانت تخطو . . والأرض الصلبة المكشوفة باقية لأصحاب هذه الدعوة في كل زمان . والطريق القاصد الواصل مفتوح يراه كل إنسان . وأعداء هذه الدعوة هم أعداؤها ، تتوالى القرون والأجيال ؛ وهم ماضون في الكيد لها من وراء القرون والأجيال . . والقرآن هو القرآن . .
وتختلف وسائل الابتلاء والفتنة باختلاف الزمان ؛ وتختلف وسائل الدعاية ضد الجماعة المسلمة ، ووسائل إيذائها في سمعتها وفي مقوماتها وفي أعراضها وفي أهدافها وأغراضها . . ولكن القاعدة واحدة : ( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ) !
ولقد حفلت السورة بصور من مكايد أهل الكتاب والمشركين ؛ وصور من دعايتهم للبلبلة والتشكيك . أحيانا في أصول الدعوة وحقيقتها ، وأحيانا في أصحابها وقيادتها . وهذه الصور تتجدد مع الزمان . وتتنوع بابتداع وسائل الدعاية الجديدة ، وتوجه كلها إلى الإسلام في أصوله الاعتقادية ، وإلى الجماعة المسلمة والقيادة الإسلامية . فلا تخرج على هذه القاعدة التي كشف الله عنها للجماعة المسلمة الأولى ، وهو يكشف لها عن طبيعة الطريق ، وطبيعة الأعداء الراصدين لها في الطريق . .
ويبقى هذا التوجيه القرآني رصيدا للجماعة المسلمة كلما همت أن تتحرك بهذه العقيدة ، وأن تحاول تحقيق منهج الله في الأرض ؛ فتجمعت عليها وسائل الكيد والفتنة ، ووسائل الدعاية الحديثة ، لتشويه أهدافها ، وتمزيق أوصالها . . يبقى هذا التوجيه القرآني حاضرا يجلو لأبصارها طبيعة هذه الدعوة ، وطبيعة طريقها . وطبيعة أعدائها الراصدين لها في الطريق . ويبث في قلبها الطمأنينة لكل ما تلقاه من وعد الله ذاك ؛ فتعرف حين تتناوشها الذئاب بالأذى ، وحين تعوي حولها بالدعاية ، وحين يصيبها الابتلاء والفتنة . . أنها سائرة في الطريق ، وأنها ترى معالم الطريق !
ومن ثم تستبشر بالابتلاء والأذى والفتنة والادعاء الباطل عليها وإسماعها ما يكره وما يؤذي . . تستبشر بهذا
كله ، لأنها تستيقن منه أنها ماضية في الطريق التي وصفها الله لها من قبل . وتستيقن أن الصبر والتقوى هما زاد الطريق . ويبطل عندها الكيد والبلبلة ويصغر عندها الابتلاء والأذى ؛ وتمضي في طريقها الموعود ، إلى الأمل المنشود . . في صبر وفي تقوى . . وفي عزم أكيد . .
استئناف لإيقاظ المؤمنين إلى ما يعترض أهل الحقّ وأنصار الرسل من البلوى ، وتنبيه لهم على أنّهم إن كانوا ممّن توهنهم الهزيمة فليسوا أحرياء بنصر الحقّ ، وأكّد الفعل بلام القسم وبنون التوكيد الشديدة لإفادة تحقيق الابتلاء ، إذ نون التوكيد الشديدة أقوى في الدلالة على التوكيد من الخفيفة .
فأصل { لتبلونّ } لتبلوونّ فلمّا توالى ثلاث نونات ثقل في النطق فحذفت نون الرفع فالتقى ساكنان : واو الرفع ونون التوكيد الشديدة ، فحذفت واو الرفع لأنّها ليست أصلاً في الكلمة فصار لتبْلَوُنّ . وكذلك القول في تصريف قوله تعالى : { ولتسمعنّ } وفي توكيده .
والابتلاء : الاختبار ، ويراد به هنا لازمه وهو المصيبة ، لأنّ في المصائب اختباراً لمقدار الثبات . والابتلاء في الأموال هو نفقات الجهاد ، وتلاشي أموالهم التي تركوها بمكّة . والابتلاء في الأنفس هو القتل والجراح . وجمع مع ذلك سماع المكروه من أهل الكتاب والمشركين في يوم أُحُد وبعده .
والأذى هو الضرّ بالقول كقوله تعالى : { لن يضروكم إلا أذى } [ آل عمران : 111 ] كما تقدّم آنفاً ، ولذلك وصفه هنا بالكثير ، أي الخارج عن الحدّ الذي تحتمله النفوس غالباً ، وكلّ ذلك ممّا يفضي إلى الفشل ، فأمَرَهم الله بالصبر على ذلك حتّى يحصل لهم النصر ، وأمرهم بالتقوى أي الدوام على أمور الإيمان والإقبال على بثّه وتأييده ، فأمّا الصبر على الابتلاء في الأموال والأنفس فيشمل الجهاد ، وأمّا الصبر على الأذى ففي وقتى الحرب والسلم ، فليست الآية مقتضية عدم الإذن بالقتال من حيث إنه أمرهم بالصبر على أذى الكفّار حتّى تكون منسوخة بآيات السيف ، لأنّ الظاهر أنّ الآية نزلت بعد وقعة أُحُد ، وهي بعد الأمر بالقتال . قاله القفّال .
وقوله : { فإن ذلك } الإشارة إلى ما تقدّم من الصبر والتقوى بتأويل : فإنّ المذكور .
و ( عزم الأمور ) من إضافة الصفة إلى الموصوف أي الأمور العَزم ، ووصفَ الأمور وهو جمع بعزم وهو مفرد لأنّ أصل عزم أنه مصدر فيلزم لفظه حالة واحدة ، وهو هنا مصدر بمعنى المفعول ، أي من الأمور المعزوم عليها . والعزم إمضاء الرأي وعدم التردّد بعد تبيين السداد . قال تعالى : { وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله } [ آل عمران : 159 ] والمراد هنا العزم في الخيرات ، قال تعالى : { فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل } [ الأحقاف : 35 ] وقال : { ولم نجد له عزما } [ طه : 115 ] .
ووقع قوله : { فإن ذلك من عزم الأمور } دليلاً على جواب الشرط ، والتقدير : وإن تصبروا وتتّقوا تنالوا ثواب أهل العزم فإنّ ذلك من عزم الأمور .