53- يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا في حال إذنه لكم لتناول الطعام غير منتظرين وقت إدراكه ، ولكن إذا دعاكم الرسول فادخلوا ، فإذا طعمتم فانصرفوا ، ولا تمكثوا بعد ذلك مستأنسين لحديث بعضكم بعضا . لأن الدخول بدون إذنه وإطالة المكث بعد الطعام كان يؤذى النبي فيستحيي أن يطلب إليكم الخروج ، ولكن الله - تعالى - لا يمنعه من الجهر بالحق ما يمنع المخلوقين ، وإذا سألتم إحدى زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - حاجة فاسألوهن من وراء حجاب ، ذلك أعظم طهارة لقلوبكم وقلوبهن من وساوس الشيطان ، وما صح لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تتزوجوا نساءه من بعده أبدا . احتراما له ولهن . إن ذلكم كان عند الله ذنباً عظيما{[179]} .
بعد ذلك ينظم القرآن علاقة المسلمين ببيوت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وبنسائه - أمهات المؤمنين - في حياته وبعد وفاته كذلك . ويواجه حالة كانت واقعة ، إذ كان بعض المنافقين والذين في قلوبهم مرض يؤذون النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في بيوته وفي نسائه . فيحذرهم تحذيرا شديدا ، ويريهم شناعة جرمهم عند الله وبشاعته . و يهددهم بعلم الله لما يخفون في صدورهم من كيد وشر :
( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام - غير ناظرين إناه - ولكن إذا دعيتم فادخلوا ، فإذا طعمتم فانتشروا . ولا مستأنسين لحديث . إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق . وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب . ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن . وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ، ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا . إن ذلكم كان عند الله عظيما . إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما ) . .
روى البخاري - بإسناده - عن أنس بن مالك قال : بنى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بزينب بنت جحش بخبز ولحم . فأرسلت على الطعام داعيا . فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون . ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون . فدعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه . فقلت : يا رسول الله ما أجد أحدا أدعوه . قال : " ارفعوا طعامكم " . وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت . فخرج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فانطلق إلى حجرة عائشة - رضي الله عنها - فقال " السلام عليكم - أهل البيت - ورحمة الله وبركاته " . قالت : وعليك السلام ورحمة الله . كيف وجدت أهلك يا رسول الله ? " بارك الله لك " . فتقرى حجر نسائه ، كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة ، ويقلن كما قالت عائشة . ثم رجع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون . وكان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] شديد الحياء . فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة . فما أدري أخبرته أم أخبر أن القوم خرجوا . فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخله والأخرى خارجه . أرخى الستر بيني وبينه ، وأنزلت آية الحجاب .
والآية تتضمن آدابا لم تكن تعرفها الجاهلية في دخول البيوت ، حتى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان الناس يدخلون البيوت بلا إذن من أصحابها - كما جاء في شرح آيات سورة النور الخاصة بالاستئذان - وربما كان هذا الحال أظهر في بيوت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بعد أن أصبحت هذه البيوت مهبط العلم والحكمة وكان بعضهم يدخل وحين يرى طعاما يوقد عليه يجلس في انتظار نضج هذا الطعام ليأكل بدون دعوة إلى الطعام ! وكان بعضهم يجلس بعد الطعام - سواء كان قد دعي إليه أو هجم هو عليه دون دعوة - ويأخذ في الحديث والسمر غير شاعر بما يسببه هذا من إزعاج للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأهله . وفي رواية أن أولئك الثلاثة الرهط الذين كانوا يسمرون كانوا يفعلون هذا وعروس النبي - زينب بنت جحش - جالسة وجهها إلى الحائط ! والنبي [ صلى الله عليه وسلم ] يستحيي أن ينبههم إلى ثقلة مقامهم عنده حياء منه ، ورغبة في ألا يواجه زواره بما يخجلهم ! حتى تولى الله - سبحانه - عنه الجهر بالحق ( والله لا يستحيي من الحق ) .
ومما يذكر أن عمر - رضي الله عنه - بحساسيته المرهفة كان يقترح على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] الحجاب ؛ وكان يتمناه على ربه . حتى نزل القرآن الكريم مصدقا لاقتراحه مجيبا لحساسيته !
من رواية للبخاري - بإسناده - عن أنس بن مالك . قال : قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله . يدخل عليك البر والفاجر . فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب . فأنزل الله آية الحجاب . . . ؛
وجاءت هذه الآية تعلم الناس ألا يدخلوا بيوت النبي بغير إذن . . فإذا دعوا إلى الطعام دخلوا . فأما إذا لميدعوا فلا يدخلون يرتقبون نضجه ! ثم إذا طعموا خرجوا ، ولم يبقوا بعد الطعام للسمر والأخذ بأطراف الحديث . وما أحوج المسلمين اليوم إلى هذا الأدب الذي يجافيه الكثيرون . فإن المدعوين إلى الطعام يتخلفون بعده ، بل إنهم ليتخلفون على المائدة ، ويطول بهم الحديث ؛ وأهل البيت - الذين يحتفظون ببقية من أمر الإسلام بالاحتجاب - متأذون محتبسون ، والأضياف ماضون في حديثهم وفي سمرهم لا يشعرون ! وفي الأدب الإسلامي غناء وكفاء لكل حالة ، لو كنا نأخذ بهذا الأدب الإلهي القويم .
ثم تقرر الآية الحجاب بين نساء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] والرجال :
( وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ) . .
وتقرر أن هذا الحجاب أطهر لقلوب الجميع :
( ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ) . .
فلا يقل أحد غير ما قال الله . لا يقل أحد إن الاختلاط ، وإزالة الحجب ، والترخص في الحديث واللقاء والجلوس والمشاركة بين الجنسين أطهر للقلوب ، وأعف للضمائر ، وأعون على تصريف الغريزة المكبوتة ، وعلى إشعار الجنسين بالأدب وترقيق المشاعر والسلوك . . إلى آخر ما يقوله نفر من خلق الله الضعاف المهازيل الجهال المحجوبين . لا يقل أحد شيئا من هذا والله يقول : ( وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ) . . يقول هذا عن نساء النبي الطاهرات . أمهات المؤمنين . وعن رجال الصدر الأول من صحابة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ممن لا تتطاول إليهن وإليهم الأعناق ! وحين يقول الله قولا . ويقول خلق من خلقه قولا . فالقول لله - سبحانه - وكل قول آخر هراء ، لا يردده إلا من يجرؤ على القول بأن العبيد الفانين أعلم بالنفس البشرية من الخالق الباقي الذي خلق هؤلاء العبيد !
والواقع العملي الملموس يهتف بصدق الله ، وكذب المدعين غير ما يقوله الله . والتجارب المعروضة اليوم في العالم مصدقة لما نقول . وهي في البلاد التي بلغ الاختلاط الحر فيها أقصاه أظهر في هذا وأقطع من كل دليل . [ وأمريكا أول هذه البلاد التي آتى الاختلاط فيها أبشع الثمار ] .
وقد ذكرت الآية أن مجيئهم للطعام منتظرين نضجه من غير دعوة ؛ وبقاءهم بعد الطعام مستأنسين للحديث . . كان يؤذي النبي فيستحيي منهم . وفي ختامها تقرر أنه ما يكون للمسلمين أن يؤذوا رسول الله . وكذلك ما يكون لهم أن يتزوجوا أزواجه من بعده ؛ وهن بمنزلة أمهاتهم . ومكانهن الخاص من رسول الله يحرم أن ينكحهن أحد من بعده ، احتفاظا بحرمة هذا البيت وجلاله وتفرده :
( وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ، ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا ) . .
وقد ورد أن بعض المنافقين قال : إنه ينتظر أن يتزوج من عائشة !
{ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم } إلا وقت أن يؤذن لكم أو إلا مأذونا لكم . { إلى طعام } متعلق ب { يؤذن } لأنه متضمن معنى يدعى للإشعار بأنه لا يحسن الدخول على الطعام من غير دعوة وإن أذن كما أشعر به قوله : { غير ناظرين إناه } غير منتظرين وقته ، أو إدراكه حال من فاعل { لا تدخلوا } أو المجرور في { لكم } . وقرئ بالجر صفة لطعام فيكون جاريا على غير من هو له بلا إبراز الضمير ، وهو غير جائز عند البصريين وقد أمال حمزة والكسائي إناه لأنه مصدر أنى الطعام إذا أدرك . { ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا } تفرقوا ولا تمكثوا ، ولأنه خطاب لقوم كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه مخصوصة بهم وبأمثالهم وإلا لما جاز أحد أن يدخل بيوته بالإذن لغير الطعام ولا اللبث بعد الطعام لهم . { ولا مستأنسين لحديث } لحديث بعضكم بعضا ، أو لحديث أهل البيت بالتسمع له عطف على { ناظرين } أو مقدر بفعل أي : ولا تدخلوا أو ولا تمكثوا مستأنسين . { إن ذلكم } اللبث . { كان يؤذي النبي } لتضييق المنزل عليه وعلى أهله وإشغاله بما لا يعنيه . { فيستحي منكم } من إخراجكم بقوله : { والله لا يستحيي من الحق } يعني أن إخراجكم حق فينبغي أن لا يترك حياء كما لم يتركه الله ترك الحيي فأمركم بالخروج ، وقرئ " لا يستحي " بحذف الياء الأولى وإلقاء حركتها على الحاء . { وإذا سألتموهن متاعا } شيئا ينتفع به . { فاسألوهن } المتاع . { من وراء حجاب } ستر . روي " أن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فنزلت " . وقيل أنه عليه الصلاة والسلام كان يطعم ومعه بعض أصحابه ، فأصابت يد رجل عائشة رضي الله عنها فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فنزلت . { ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } من الخواطر النفسانية الشيطانية . { وما كان لكم } وما صح لكم . { أن تؤذوا رسول الله } أن تفعلوا ما يكرهه . { ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا } من بعد وفاته أو فراقه ، وخص التي لم يدخل بها ، لما روي أن أشعث بن قيس تزوج المستعيذة في أيام عمر رضي الله عنه فهم برجمها ، فأخبر بأنه عليه الصلاة والسلام فارقها قبل أن يمسها فتركها من غير نكير . { إن ذلكم } يعني إيذاءه ونكاح نسائه . { كان عند الله عظيما } ذنبا عظيما ، وفيه تعظيم من الله لرسوله وإيجاب لحرمته حيا وميتا ولذلك بالغ في الوعيد عليه فقال : { إن تبدوا شيئا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا }