60- واذكر - أيها النبي - حين قلنا لك : إن ربك أحاط بالناس ، فهم في قبضة قدرته ، فبلِّغهم ولا تخف أحداً فهو يعصمك منهم ، وما جعلنا ما عاينته ليلة الإسراء من العجائب إلا امتحاناً واختباراً للناس ، يزداد به إيمان المؤمن وكفر الكافر ، وما جعلنا الشجرة المذمومة في القرآن - وهي شجرة الزَّقوم التي تنبت في أصل الجحيم - إلا اختباراً لهم أيضاً ، إذ قالوا : النار تحرق الشجر ، فكيف تنبته ؟ ونخوفهم بها ، فما يزيدهم تخويفنا إلا تجاوزا للحد الكبير .
أما الخوارق التي وقعت للرسول [ ص ] وأولها خارقة الإسراء والمعراج فلم تتخذ معجزة مصدقة للرسالة . إنما جعلت فتنة للناس وابتلاء .
( وإذ قلنا لك : إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ، والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ) .
ولقد ارتد بعض من كان آمن بالرسول [ ص ] بعد حادثة الإسراء ، كما ثبت بعضهم وازداد يقينا . ومن ثم كانت الرؤيا التي أراها الله لعبده في تلك الليلة " فتنة للناس " وابتلاء لإيمانهم . أما إحاطة الله بالناس فقد كانت وعدا من الله لرسوله بالنصر ، وعصمة له من أن تمتد أيديهم إليه .
ولقد أخبرهم بوعد الله له وبما أطلعه الله عليه في رؤياه الكاشفة الصادقة . ومنه شجرة الزقوم التي يخوف الله بها المكذبين . فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل متهكما : هاتوا لنا تمرا وزبدا ، وجعل يأكل من هذا بهذا ويقول : تزقموا فلا نعلم الزقوم غير هذا !
فماذا كانت الخوارق صانعة مع القوم لو كانت هي آية رسالته كما كانت علامة الرسالات قبله ومعجزة المرسلين ? وما زادتهم خارقة الإسراء ولا زادهم التخويف بشجرة الزقوم إلا طغيانا كبيرا ?
إن الله لم يقدر إهلاكهم بعذاب من عنده . ومن ثم لم يرسل إليهم بخارقة . فقد اقتضت إرادته أن يهلك المكذبين بالخوارق . أما قريش فقد أمهلت ولم تؤخذ بالإبادة كقوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب . . ومن المكذبين من آمن بعد ذلك وكان من جند الإسلام الصادقين . ومنهم من أنجب المؤمنين الصادقين . وظل القرآن - معجزة الإسلام - كتابا مفتوحا لجيل محمد [ ص ] وللأجيال بعده ، فآمن به من لم يشهد الرسول وعصره وصحابته . إنما قرأ القرآن أو صاحب من قرأه . وسيبقى القرآن كتابا مفتوحا للأجيال ، يهتدي به من هم بعد في ضمير الغيب ، وقد يكون منهم من هو أشد إيمانا وأصلح عملا ، وأنفع للإسلام من كثير سبقوه .
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم محرّضًا له على إبلاغ رسالته ، ومخبرًا له بأنه قد عصمه من الناس ، فإنه القادر عليهم ، وهم في قبضته وتحت قهره وغلبته .
قال مجاهد ، وعروة بن الزبير ، والحسن ، وقتادة ، وغيرهم في قوله : { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ } أي : عصمك منهم .
وقوله : { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } قال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } قال : هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم{[17632]} ليلة أسري به { وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ } شجرة الزقوم{[17633]} .
وكذا رواه أحمد ، وعبد الرزاق ، وغيرهما ، عن سفيان بن عيينة به{[17634]} ، وكذا رواه العوفي ، عن ابن عباس ، وهكذا فسر ذلك بليلة الإسراء : مجاهد ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، ومسروق ، وإبراهيم ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد ، وغير واحد . وقد تقدمت أحاديث الإسراء في أول السورة مستقصاة ، ولله{[17635]} الحمد والمنة . وتقدم أن ناسًا رجعوا عن دينهم بعدما كانوا على الحق ؛ لأنه لم تحمل قلوبهم وعقولهم ذلك ، فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ، وجعل الله ذلك ثباتًا ويقينًا لآخرين ؛ ولهذا{[17636]} قال : { إِلا فِتْنَةً } أي : اختبارًا وامتحانًا . وأما " الشجرة الملعونة " ، فهي شجرة الزقوم ، كما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى الجنة والنار ، ورأى شجرة الزقوم ، فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل لعنه الله{[17637]} [ بقوله ]{[17638]} هاتوا لنا تمرًا وزبدًا ، وجعل يأكل هذا بهذا ويقول : تَزَقَّموا ، فلا نعلم الزقوم غير هذا .
حكى ذلك ابن عباس ، ومسروق ، وأبو مالك ، والحسن البصري ، وغير واحد ، وكل من قال : إنها ليلة الإسراء ، فسره كذلك{[17639]} بشجرة الزقوم .
وقد قيل : المراد بالشجرة الملعونة : بنو أمية . وهو غريب ضعيف .
قال ابن جرير : حدثت عن محمد بن الحسن بن زَبَالة ، حدثنا عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد ، حدثني أبي عن جدي قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني فلان ينزون على منبره نزو القرود{[17640]} فساءه ذلك ، فما استجمع ضاحكًا حتى مات . قال : وأنزل{[17641]} الله في ذلك : { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } الآية{[17642]} .
وهذا السند ضعيف جدًا ؛ فإن " محمد بن الحسن بن زَبَالة " متروك ، وشيخه أيضًا ضعيف بالكلية . ولهذا اختار ابن جرير : أن المراد بذلك ليلة الإسراء ، وأن الشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم ، قال : لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك ، أي : في الرؤيا والشجرة .
وقوله : { وَنُخَوِّفُهُمْ } أي : الكفار بالوعيد والعذاب والنكال { فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا } أي : تماديا فيما هم فيه من الكفر والضلال . وذلك من خذلان الله لهم .
قال الطبري : معنى قوله : { وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس } أي في منعك يا محمد وحياطتك وحفظك ، فالآية إخبار له بأنه محفوظ من الكفرة ، آمن أن يقتل أو ينال بمكروه عظيم ، أي فالتبليغ رسالة ربك ، ولا تتهيب أحداً من المخلوقين ، وهذا تأويل بيّن جار مع اللفظ ، وقد روي نحوه عن الحسن بن أبي الحسن والسدي ، إلا أنه لا يناسب ما بعده مناسبة شديدة ، ويحتمل أن يجعل الكلام مناسباً لما بعده ، توطئة له ، فأقول : اختلف الناس في { الرؤيا } ، فقال الجمهور : هي رؤيا عين ويقظة ، وهي ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء ، قالوا : فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة الإسراء بما رأى في تلك الليلة من العجائب ، قال الكفار إن هذا لعجيب تحت الحداة إلى بيت المقدس شهرين إقبالاً وإدباراً ، ويقول محمد إنه جاءه من ليلة وانصرف منه ، فافتتن بهذا التلبيس قوم من ضعفة المسلمين ، فارتدوا وشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآيات فعلى هذا ، يحسن أن يكون معنى قوله { وإذا قلنا لك إن ربك أحاط بالناس } أي : في إضلالهم وهدايتهم ، وأن كل واحد ميسر لما خلق له ، أي فلا تهتم أنت بكفر من كفر ، ولا تحزن عليهم ، فقد قيل لك إن الله محيط بهم مالك لأمرهم ، وهو جعل رؤياك هذه فتنة ليكفر من سبق عليه الكفر ، وسميت الرؤية في هذا التأويل «رؤيا » ، إذ هما مصدران من رأى ، وقال النقاش جاء ذلك على اعتقاد من اعتقد أنها منامة وإن كانت الحقيقة غير ذلك . وقالت عائشة { الرؤيا } في الإسراء رؤيا منام ، وهذا قول الجمهور على خلافه ، وهذه الآية تقضي بفساده ، وذلك أن رؤيا المنام لا فتنة فيها ، وما كان أحد لينكرها ، وقد ذكر هذا مستوعباً في صدر السورة ، وقال ابن عباس : { الرؤيا } التي في هذه الآية ، هي رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يدخل مكة ، فعجل في سنة الحديبية فرد ، فافتتن المسلمون بذلك ، فنزلت الآيات ، وقال سهل بن سعد : إنما هذه «الرؤيا » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى بني أمية ينزون على منبره نزو القردة ، فاهتم لذلك وما استجمع ضاحكاً من يومئذ حتى مات ، فنزلت الآية مخبرة أن ذلك من ملكهم وصعودهم المنابر ، إنما يجعلها الله فتنة للناس وامتحاناً ، ويجيء قوله { أحاط بالناس } أي بأقداره ، وأن كل ما قدره نافذ ، فلا تهتم بما يكون بعدك من ذلك وقد قال الحسن بن علي ، في خطبته في شأن بيعته لمعاوية { وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين }{[7616]} ، وفي هذا التأويل نظر ، ولا يدخل في هذه «الرؤيا » عثمان بن عفان ، ولا عمر بن عبد العزيز ، ولا معاوية ، وقوله { والشجرة الملعونة في القرآن } : معطوفة على قوله { الرؤيا } ، أي جعلنا الرؤيا والشجرة فتنة { والشجرة } هنا في قول الجمهور هي شجرة الزقوم ، وذلك أن أمرها لما نزل في سورة الصافات قال أبو جهل وغيره هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة ، ثم يزعم أنها تنبت الشجر ، والنار تأكل الشجر وما نعرف الزقوم إلا التمر بالزبد ، ثم أمر أبو جهل جارية له ، فأحضرت تمراً وزبداً وقال لأصحابه تزقموا ، فافتتن أيضاً بهذه المقالة بعض الضعفاء ، فأخبر الله نبيه أنه إنما جعل الإسراء وذكر شجرة الزقوم فتنة واختباراً ليكفر من سبق عليه الكفر ، ويصدق من سبق له الإيمان ، كما روي أن أبا بكر الصديق ، قيل له ، صبيحة الإسراء إن صاحبك يزعم أنه جاء البارحة بيت المقدس وانصرف منه فقال إن كان قال ذلك فلقد صدق ، فقيل له : أتصدقه قبل أن تسمع منه ، قال : أين عقولكم ، أنا أصدقه بخبر السماء فكيف لا أصدقه بخبر بيت المقدس والسماء أبعد منها بكثير{[7617]} . وقالت فرقة : { والشجرة } : إشارة إلى القوم المذكورين قبل في { الرؤيا } .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ضعيف محدث ، وليس هذا عن سهل بن سعد ، ولا مثله ، وقال الطبري عن ابن عباس : إن { الشجرة الملعونة } يريد الملعون آكلها ، لأنها لم يجر لها ذكر .
قال القاضي أبو محمد : ويصح أن يريد { الملعونة } ، هنا فأكد الأمر بقوله { في القرآن } وقالت فرقة : { الملعونة } ، المبعدة المكروهة ، وهذا أراد لأنها لعنها بلفظ اللعنة المتعارف ، وهذا قريب في المعنى من الذي قبله ، وأيضاً فما ينبت في أصل الجحيم ، فهو في نهاية البعد من رحمة الله ، وقوله { ونخوفهم } يريد : إما كفار مكة ، وإما الملوك من بني أمية بعد الخلافة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم ، «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم تكون ملكاً عضوضاً »{[7618]} والأول منها أصوب كما قلنا قبل ، وقوله { فما يزيدهم إلا طغياناً كبيراً } يريد كفرهم وانتهاكهم فيه كقول أبي جهل في الزقوم والتزقم ، فقد قال النقاش إن في ذلك نزلت ، وفي نحوه وقرأ الأعمش «ويخوفهم » وقرأ الجمهور و «ونخوفهم » بالنون .
{ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس }
هذه تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم على حزنه من تكذيب قومه إياه ، ومن إمهال عتاة أعداء الدين الذين فتنوا المؤمنين ، فذكره الله بوعده نصرَه .
وقد أومأ جَعْلُ المسند إليه لفظ الرب مضافاً إلى ضمير الرسول أن هذا القول مسوق مساق التكرمة للنبيء وتصبيره ، وأنه بمحل عناية الله به إذ هو ربه وهو ناصره ؛ قال تعالى : { واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا } [ الطور : 48 ] .
فجملة { وإذ قلنا لك } الخ يجوز أن تكون معطوفة على جملة { وما منعنا أن نرسل بالآيات } [ الإسراء : 59 ] ويجوز أن تكون معترضة .
و ( إذ ) متعلقة بفعل محذوف ، أي اذكُرْ إذ قلنا لك كلاماً هو وعد بالصبر ، أي اذكر لهم ذلك وأعدهُ على أسماعهم ، أو هو فعل { اذكر } على أنه مشتق من الذُّكر بضم الذال وهو إعادة الخبر إلى القوة العقلية الذاكرة .
والإحاطة لما عدي فعلها هنا إلى ذاتتِ الناس لا إلى حال من أحوالهم تعين أنها مستعملة في معنى الغلبة ، كما في قوله تعالى : { وظنوا أنهم أحيط بهم } في سورة [ يونس : 22 ] . وعُبِّرَ بصيغة المضي للتنبيه على تحقيق وقوع إحاطة الله بالناس في المستقبل القريب . ولعل هذا إشارة إلى قوله تعالى : { أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } [ الرعد : 41 ] .
والمعنى : فلا تحزن لافترائهم وتطاولهم فسننتقم منهم .
{ وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس }
عطف على جملة { وما منعنا أن نرسل بالآيات } [ الإسراء : 59 ] وما بينهما معترضات .
والرؤيا أشهر استعمالها في رؤيا النوم ، وتستعمل في رؤية العين كما نقل عن ابن عباس في هذه الآية ، قال : هي رؤيا عَيْن أريها النبي ليلة أسري به إلى بيت المقدس ، رواه الترمذي وقال : إنه قول عائشة ومعاوية وسبعة من التابعين ، سماهم الترمذي . وتأولها جماعة أنها ما رآه ليلة أسري به إذ رأى بيت المقدس وجعل يصفه للمشركين ، ورأى عِيرَهم واردة في مكان معين من الطريق ووصف لهم حال رجال فيها فكان كما وصف . ويؤيد هذا الوجه قوله : { التي أريناك } فإنه وصف للرؤيا ليُعلم أنها رؤية عين . وقيل : رأى أنه يدخل مكة في سنة الحديبية فرده المشركون فلم يدخلها فافتتن بعض من أسلموا فلما كان العام المقبل دخلها .
وقيل : هي رؤيا مصارع صناديد قريش في بَدر أريها النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أي بمكة . وعى هذين القولين فهي رؤيا نوم ورؤيا الأنبياء وحي .
والفتنة : اضطراب الرأي واختلال نظام العيش ، وتطلق على العذاب المكرر الذي لا يطاق ، قال تعالى : { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } [ البروج : 10 ] ، وقال : { يوم هم على النار يفتنون } [ الذاريات : 13 ] . فيكون المعنى على أول القولين في الرؤيا أنها سبب فتنة المشركين بازدياد بعدهم عن الإيمان ، ويكون على القول الثاني أن المرئي وهو عذابهم بالسيف فتنة لهم .
{ والشجرة الملعونة في القرءان }
{ والشجرة } عطف على الرؤيا ، أي ما جعلنا ذكر الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس . وهذا إشارة إلى قوله تعالى : { إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون } في سورة [ الصافات : 64 ، 66 ] ، وقوله : { إن شجرة الزقوم طعام الأثيم } الآية في سورة [ الدخان : 43 ، 44 ) ، وقوله : { إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم } في سورة [ الواقعة : 51 ، 52 ] .
روي أن أبا جهل قال : زعم صاحبكم أن نار جهنم تحرق الحجر ؛ ثم يقول بأن في النار شجرة لا تحرقها النار . وجهلوا أن الله يخلق في النار شجرة لا تأكلها النار . وهذا مروي عن ابن عباس وأصحابه في « أسباب النزول » للواحدي و « تفسير الطبري » . وروي أن ابن الزبعرى قال : الزقوم التمر بالزبد بلغة اليمن ، وأن أبا جهل أمر جارية فأحضرت تمراً وزبداً وقال لأصحابه : تمزقوا . فعلى هذا التأويل فالمعنى : أن شجرة الزقوم سبب فتنة مكفرهم وانصرافهم عن الإيمان . ويتعين أن يكون معنى جعل شجرة الزّقوم فتنة على هذا الوجه أن ذكرها كان سببَ فتنة بحذف مضاف وهو ذكر بقرينة قوله : { الملعونة في القرآن } لأن ما وصفت به في آيات القرآن لعْن لها .
ويجوز أن يكون المعنى : أن إيجادها فتنة . أي عذاب مكرر ، كما قال : { إنا جعلناها فتنة للظالمين } [ الصافّات : 63 ] .
والملعونة أي المذمومة في القرآن في قوله : طعام الأثيم [ الدخان : 44 ] وقوله : { طلعها كأنه رؤوس الشياطين } [ الصافات : 65 ] وقوله : { كالمهل تغلي في البطون كغلي الحميم } [ الدخان : 45 46 ] . وقيل معنى الملعونة : أنها موضوعة في مكان اللعنة وهي الإبعاد من الرحمة ، لأنها مخلوقة في موضع العذاب . وفي الكشاف } : قيل تقول العرب لكل طعام ضار : ملعون .
{ ونخوفهم فما يزيده إلا طغيانا كبيرا }
عطف على جملة { وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون } [ الإسراء : 59 ] الدال على أنهم متصلبون في كفرهم مكابرون معاندون . وهذه زيادة في تسلية النبي حتى لا يأسف من أن الله لم يرهم آيات ، لأن النبي حريص على إيمانهم ، كما قال موسى عليه السلام { فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم } [ يونس : 88 ] .
ويوجد في بعض التفاسير أن ابن عباس قال : في الشجرة الملعونة بنو أمية . وهذا من الأخبار المختلقة عن ابن عباس ، ولا إخالها إلا مما وضعه الوضاعون في زمن الدعوة العباسية لإكثار المنفرات من بني أمية ، وأن وصف الشجرة بأنها الملعونة في القرآن صريح في وجود آيات في القرآن ذكرت فيها شجرة ملعونة وهي شجرة الزقوم كما علمت . ومثل هذا الاختلاق خروج عن وصايا القرآن في قوله : { ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } [ الحجرات : 11 ] .
وجيء بصيغة المضارع في { نُخوِّفهم } للإشارة إلى تخويف حاضر ، فإن الله خوفهم بالقحط والجوع حتى رأوا الدخان بين السماء والأرض وسألوا الله كشفه فقال تعالى : { إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون } [ الدخان : 15 ] فذلك وغيره من التخويف الذي سبق فلم يزدهم إلا طغياناً . فالظاهر أن هذه الآية نزلت في مدة حصول بعض المخوفات .
وقد اختير الفعل المضارع في { نخوفهم } و { يزيدهم } لاقتضائه تكرر التخويف وتجدده ، وأنه كلما تجدد التخويف تجدد طغيانهم وعظم .
والكبير : مستعار لِمعنى الشديد القوى في نوع الطغيان . وقد تقدم عند قوله تعالى : { قل قتال فيه كبير } في سورة [ البقرة : 217 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا حضّ من الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، على تبليغ رسالته، وإعلام منه أنه قد تقدّم منه إليه القول بأنه سيمنعه من كلّ من بغاه سوءا وهلاكا، يقول جلّ ثناؤه: واذكر يا محمد "إذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس "قدرة، فهم في قبضته لا يقدرون على الخروج من مشيئته، ونحن مانعوك منهم، فلا تتهيّب منهم أحدا، وامض لما أمرناك به من تبليغ رسالتنا...
وقوله: "وَما جَعَلْنا الرّؤْيا التي أرَيْناكَ إلاّ فِتْنَةً للنّاسِ" اختلف أهل التأويل في ذلك؛ فقال بعضهم: هو رؤيا عين، وهي ما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم لما أُسري به من مكة إلى بيت المقدس...
وقال آخرون: هي رؤياه التي رأى أنه يدخل مكة...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: عنى به رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى من الآيات والعبر في طريقه إلى بيت المقدس، وبيت المقدس ليلة أُسري به، وقد ذكرنا بعض ذلك في أوّل هذه السورة.
وإنما قُلنا ذلك أولى بالصواب، لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن هذه الآية إنما نزلت في ذلك، وإياه عنى الله عزّ وجلّ بها، فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: وما جعلنا رؤياك التي أريناك ليلة أسرينا بك من مكة إلى بيت المقدس، إلاّ فتنة للناس: يقول: إلا بَلاء للناس الذين ارتدّوا عن الإسلام، لمّا أُخبروا بالرؤيا التي رآها عليه الصلاة والسلام، وللمشركين من أهل مكة الذين ازدادوا بسماعهم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم تماديا في غيهم، وكفرا إلى كفرهم...
وأما قوله: "والشّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي القُرآنِ" فإن أهل التأويل اختلفوا فيها؛ فقال بعضهم: هي شجرة الزّقّوم... عن ابن عباس، قوله "والشّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي القُرآنِ" قال: هي شجرة الزقوم. قال أبو جهل: أيخوّفني ابن أبي كبشة بشجرة الزّقوم، ثم دعا بتمر وزُبد، فجعل يقول: زقمني، فأنزل الله تعالى: "طَلْعُها كأنّهُ رُءُوسُ الشّياطِين" وأنزل "ونُخَوّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إلاّ طُغْيانا كَبِيرا".
وأولى القولين في ذلك بالصواب عندنا قول من قال: عنى بها شجرة الزقوم، لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك... فتأويل الكلام إذن: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك، والشجرة الملعونة في القرآن إلاّ فتنة للناس، فكانت فتنتهم في الرؤيا ما ذكرت من ارتداد من ارتدّ، وتمادِي أهل الشرك في شركهم، حين أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أراه الله في مسيره إلى بيت المقدس ليلة أُسريَ به. وكانت فتنتهم في الشجرة الملعونة ما ذكرنا من قول أبي جهل والمشركين معه: يخبرنا محمد أن في النار شجرة نابتة، والنار تأكل الشجر فكيف تنبت فيها؟
وقوله: "ونُخَوّفُهُمْ فَمَا يَزيدُهُمْ إلاّ طُغْيانا كَبِيرا" يقول: ونخوّف هؤلاء المشركين بما نتوعدهم من العقوبات والنكال، فما يزيدهم تخويفنا إلاّ طغيانا كبيرا، يقول: إلاّ تماديا وغيا كبيرا في كفرهم وذلك أنهم لما خُوّفوا بالنار التي طعامهم فيها الزقوم دعوا بالتمر والزبد، وقالوا: تزقموا من هذا...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الإيمانُ بما خَصَصْنَاكَ به امتحان لهم وتكليفٌ، ليتميزَ الصادقُ من المنافقِ، والمؤمنُ من الجاحد؛ فالذين تَدَارَكَتْهُم الحمايةُ وقفوا وثبتوا، وصَدَّقوا بما قيل لهم وحققوا. وأما الذين خَامَر الشكُّ قلوبهم، ولم تباشِرْ خلاصةُ التوحيد أسرارَهم، فما ازدادوا بما امتُحِنُوا به إلا تحيُّراً وضلالاً وَتَبَلُّداً...
وبين له أنه تعالى ينصره ويؤيده فقال: {وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس} وفيه قولان:
القول الأول: المعنى أن حكمته وقدرته محيطة بالناس فهم في قبضته وقدرته...
والقول الثاني: أن المراد بالناس أهل مكة، وإحاطة الله بهم هو أنه تعالى يفتحها للمؤمنين فكان المعنى: وإذ بشرناك بأن الله أحاط بأهل مكة بمعنى أنه يغلبهم ويقهرهم ويظهر دولتك عليهم... وفي هذه الرؤيا أقوال:
القول الأول: أن الله أرى محمدا في المنام مصارع كفار قريش فحين ورد ماء بدر قال:« والله كأني أنظر إلى مصارع القوم»...
والقول الثاني: أن المراد رؤياه التي رآها أنه يدخل مكة وأخبر بذلك أصحابه، فلما منع عن البيت الحرام عام الحديبية كان ذلك فتنة لبعض القوم... اعترضوا على هذين القولين فقالوا: هذه السورة مكية، وهاتان الواقعتان مدنيتان، وهذا السؤال ضعيف لأن هاتين الواقعتين مدنيتان. أما رؤيتهما في المنام فلا يبعد حصولها في مكة...
والقول الرابع: وهو الأصح وهو قول أكثر المفسرين أن المراد بها ما أراه الله تعالى ليلة الإسراء...
{ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا} والمقصود منه ذكر سبب آخر في أنه تعالى ما أظهر المعجزات التي اقترحوها، وذلك لأن هؤلاء خوفوا بمخاوف الدنيا والآخرة وبشجرة الزقوم فما زادهم هذا التخويف إلا طغيانا كبيرا، وذلك يدل على قسوة قلوبهم وتماديهم في الغي والطغيان، وإذا كان الأمر كذلك فبتقدير أن يظهر الله لهم تلك المعجزات التي اقترحوها لم ينتفعوا بها ولا يزدادون إلا تماديا في الجهل والعناد، وإذا كان كذلك، وجب في الحكمة أن لا يظهر الله لهم ما اقترحوه من الآيات والمعجزات...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان التقدير للتعريف بمطابقة الخبر الخبر: اذكر أنا قلنا لك {إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل ءاية} [يونس: 96] واذكر ما وقع من ذلك ماضياً من آيات الأولين وحالاً من قصة الإسراء، عطف عليه قوله تعالى: {وإذ} أي واذكر إذ {قلنا} على ما لنا من العظمة المحيطة {لك إن ربك} المتفضل بالإحسان إليك بالرفق بأمتك {أحاط بالناس} علماً وقدرة، تجد ذلك إذ طبقت بعضه على بعض أمراً سوياً حذو القذة بالقذة لا تفاوت فيه، واعلم أنه مانعك منهم وحائطك ومظهر دينك كما وعدك؛ ثم عطف على {وما نرسل} قوله تعالى: {وما جعلنا} أي بما لنا من القوة الباهرة التي لها الغنى المطلق {الرؤيا التي أريناك} أي بتلك العظمة التي شاهدتها ليلة الإسراء {إلا فتنة} أي امتحاناً واختباراً {للناس} ليتبين بذلك في عالم الشهادة المتقي المحسن والجاهل المسيء كما هو عندنا في عالم الغيب، فنقيم بها عليهم الحجة، لا ليؤمن أحد ممن حقت عليهم الكلمة ولا لنزداد نحن علماً بسرائرهم، ولا شك في أن قصة الإسراء إلى بيت المقدس ثم إلى السماوات العلى كان يقظة لا مناماً بالدليل القطعي المتواتر من تكذيب من كذب وارتداد من ارتد، وهذا مذهب الجمهور وأهل السنة والجماعة، وقد ورد في صحته ما لا يحصى من الأخبار -هذا النقل، وأما الإمكان العقلي فثابت غير محتاج إلى بيان، فإن كل ذرة من ذرات الموجودات فيها من العجائب والغرائب والدقائق والرقائق ما يتحير فيه العقول، لكن لما كان على وفق العادة ألفته الطباع، فلم تنكره الأبصار ولا الأسماع، وأما مثل هذا فلما كان على خلاف العادة استنكره ضعفاء العقول الذين لا يتجاوز فهمهم المحسوسات، على ما ألفوا من العادات، وأما أولو الألباب الذين سلموا من نزعات الشيطان ووساوس العادة، ونظروا بأعين البصائر إلى آثار رحمة الله في صنع المصنوعات وإحداث المحدثات في الملك والملكوت، والشهادة والغيب، والخلق والأمر، فاعترفوا به، وأنه من عظيم الآيات، وبدائع الدلائل النيرات، وأدل دليل على ذلك قوله تعالى {فتنة} لأنه لو كان رؤيا منام لم يكن بحيث يستبعده أحد فلم يكن فتنة، ولعله إنما سماه رؤيا- وهي للمنام -على وجه التشبيه والاستعارة، لما فيه من الخوارق التي هي بالمنام أليق في مجاري العادات، روى البخاري في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما {وما جعلنا الرءيا التي أريناك} الآية، قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليلة أسري به.
ولما كان كل ما خفي سببه وخرج عن العادة فتنة يعلم به من في طبعه الحق ومن في طبعه الباطل، ومن هو سليم الفطرة ومن هو معكوسها، وكان قد أخبر أن شجرة الزقوم تنبت في أصل الجحيم، وكان ذلك في غاية الغرابة، ضمه إلى الإسراء في ذلك فقال تعالى: {والشجرة} عطفاً على الرؤيا {الملعونة في القرءان} بكونها ضارة، والعرب تسمي كل ضار ملعوناً، وبكونها في دار اللعنة، وكل من له عقل يريد بعدها عنه، وهي كما رواه البخاري في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما شجرة الزقوم جعلناها أيضاً فتنة للناس نقيم بها عليهم الحجة في الكفر والإيمان، فنثبتهم أي من أردنا إيمانه منهم بالأول وهو الإسراء {ونخوفهم} بالثاني وأمثاله {فما يزيدهم} أي الكافرين منهم التخويف حال التخويف، فما بعده من أزمنة الاستقبال أجدر بالزيادة {إلا طغياناً} أي تجاوزاً للحد هو في غاية العظم {كبيراً} فيقولون في الأول ما تقدم في أول السورة، وفي الثاني: إن محمداً يقول: إن وقود النار الناس والحجارة، ثم يقول: إن فيها شجراً، وقد علمتم أن النار تحرق الشجر، ولم يقولوا ما هم أعلم الناس به من أن الذي جعل لهم من الشجر الأخضر ناراً قادر على أن يجعل في النار شجراً...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
أما الخوارق التي وقعت للرسول [صلى الله عليه وسلم] وأولها خارقة الإسراء والمعراج فلم تتخذ معجزة مصدقة للرسالة. إنما جعلت فتنة للناس وابتلاء.
(وإذ قلنا لك: إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس، والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا).
ولقد ارتد بعض من كان آمن بالرسول [صلى الله عليه وسلم] بعد حادثة الإسراء، كما ثبت بعضهم وازداد يقينا. ومن ثم كانت الرؤيا التي أراها الله لعبده في تلك الليلة "فتنة للناس "وابتلاء لإيمانهم. أما إحاطة الله بالناس فقد كانت وعدا من الله لرسوله بالنصر، وعصمة له من أن تمتد أيديهم إليه.
ولقد أخبرهم بوعد الله له وبما أطلعه الله عليه في رؤياه الكاشفة الصادقة. ومنه شجرة الزقوم التي يخوف الله بها المكذبين. فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل متهكما: هاتوا لنا تمرا وزبدا، وجعل يأكل من هذا بهذا ويقول: تزقموا فلا نعلم الزقوم غير هذا!
فماذا كانت الخوارق صانعة مع القوم لو كانت هي آية رسالته كما كانت علامة الرسالات قبله ومعجزة المرسلين؟ وما زادتهم خارقة الإسراء ولا زادهم التخويف بشجرة الزقوم إلا طغيانا كبيرا؟
إن الله لم يقدر إهلاكهم بعذاب من عنده. ومن ثم لم يرسل إليهم بخارقة. فقد اقتضت إرادته أن يهلك المكذبين بالخوارق. أما قريش فقد أمهلت ولم تؤخذ بالإبادة كقوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب.. ومن المكذبين من آمن بعد ذلك وكان من جند الإسلام الصادقين. ومنهم من أنجب المؤمنين الصادقين. وظل القرآن -معجزة الإسلام- كتابا مفتوحا لجيل محمد [صلى الله عليه وسلم] وللأجيال بعده، فآمن به من لم يشهد الرسول وعصره وصحابته. إنما قرأ القرآن أو صاحب من قرأه. وسيبقى القرآن كتابا مفتوحا للأجيال، يهتدي به من هم بعد في ضمير الغيب، وقد يكون منهم من هو أشد إيمانا وأصلح عملا، وأنفع للإسلام من كثير سبقوه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس} هذه تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم على حزنه من تكذيب قومه إياه، ومن إمهال عتاة أعداء الدين الذين فتنوا المؤمنين، فذكره الله بوعده نصرَه. وقد أومأ جَعْلُ المسند إليه لفظ الرب مضافاً إلى ضمير الرسول أن هذا القول مسوق مساق التكرمة للنبيء وتصبيره، وأنه بمحل عناية الله به إذ هو ربه وهو ناصره؛ قال تعالى: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا} [الطور: 48]... و (إذ) متعلقة بفعل محذوف، أي اذكُرْ إذ قلنا لك كلاماً هو وعد بالصبر، أي اذكر لهم ذلك وأعدهُ على أسماعهم، أو هو فعل {اذكر} على أنه مشتق من الذُّكر بضم الذال وهو إعادة الخبر إلى القوة العقلية الذاكرة...
والإحاطة لما عدي فعلها هنا إلى ذات الناس لا إلى حال من أحوالهم تعين أنها مستعملة في معنى الغلبة... {التي أريناك} فإنه وصف للرؤيا ليُعلم أنها رؤية عين... وقيل: رأى أنه يدخل مكة في سنة الحديبية فرده المشركون... وقيل: هي رؤيا مصارع صناديد قريش في بَدر أريها النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أي بمكة. وعلى هذين القولين فهي رؤيا نوم ورؤيا الأنبياء وحي... والفتنة: اضطراب الرأي واختلال نظام العيش، وتطلق على العذاب المكرر الذي لا يطاق... ويتعين أن يكون معنى جعل شجرة الزّقوم فتنة على هذا الوجه أن ذكرها كان سببَ فتنة بحذف مضاف وهو ذكر بقرينة قوله: {الملعونة في القرآن} لأن ما وصفت به في آيات القرآن لعْن لها. ويجوز أن يكون المعنى: أن إيجادها فتنة. أي عذاب مكرر، كما قال: {إنا جعلناها فتنة للظالمين} [الصافّات: 63]. والملعونة أي المذمومة في القرآن... ويوجد في بعض التفاسير أن ابن عباس قال: في الشجرة الملعونة بنو أمية. وهذا من الأخبار المختلقة عن ابن عباس، ولا إخالها إلا مما وضعه الوضاعون في زمن الدعوة العباسية لإكثار المنفرات من بني أمية، وأن وصف الشجرة بأنها الملعونة في القرآن صريح في وجود آيات في القرآن ذكرت فيها شجرة ملعونة وهي شجرة الزقوم كما علمت... وجيء بصيغة المضارع في {نُخوِّفهم} للإشارة إلى تخويف حاضر، فإن الله خوفهم بالقحط والجوع حتى رأوا الدخان بين السماء والأرض وسألوا الله كشفه فقال تعالى: {إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون} [الدخان: 15] فذلك وغيره من التخويف الذي سبق فلم يزدهم إلا طغياناً. فالظاهر أن هذه الآية نزلت في مدة حصول بعض المخوفات. وقد اختير الفعل المضارع في {نخوفهم} و {يزيدهم} لاقتضائه تكرر التخويف وتجدده... والكبير: مستعار لِمعنى الشديد القوى في نوع الطغيان...