تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{وَإِذۡ قُلۡنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِٱلنَّاسِۚ وَمَا جَعَلۡنَا ٱلرُّءۡيَا ٱلَّتِيٓ أَرَيۡنَٰكَ إِلَّا فِتۡنَةٗ لِّلنَّاسِ وَٱلشَّجَرَةَ ٱلۡمَلۡعُونَةَ فِي ٱلۡقُرۡءَانِۚ وَنُخَوِّفُهُمۡ فَمَا يَزِيدُهُمۡ إِلَّا طُغۡيَٰنٗا كَبِيرٗا} (60)

56

المفردات :

إن ربك أحاط بالناس : هم في قبضته .

الرؤيا : هي ما عاينه صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به من العجائب .

الشجرة الملعونة : هي شجرة الزقوم .

الطغيان : تجاوز الحد في الفجور والضلال .

التفسير :

60- { وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا } .

{ وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس } . أي : علما ، فلا يخفى عليه شيء من كفرهم وتكذيبهم ، ومنه ما جرى منهم إثر الرؤيا والإخبار بالشجرة الملعونة ، من الجحود والهزأ واللغو . ثم قال سبحانه : { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } . قال الأكثرون : يعني : ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء من الآيات ، فلما ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم للناس ؛ أنكر بعضهم ذلك وكذبوا ، كما ثبت بعضهم وازداد يقينا . ومن ثم كانت الرؤيا التي أراها الله لعبده في تلك الليلة { فتنة للناس } ، وابتلاء لإيمانهم .

وقد استدل القائلون بأن الإسراء والمعراج كانا مناما ، بهذه الآية على صحة ما ذهبوا إليه .

وذهب القائلون بأنهما كانا في اليقظة إلى أن المراد بهذه الرؤيا رؤيا رآها في وقعة بدر ؛ لقوله : { إذ يريكهم الله في منامك قليلا } . وقيل : بل هي رأيا عام الحذيبية حين رأى أنه دخل مكة .

وسلم عشاء إلى بيت المقدس ، فصلى فيه وأراه الله ما أراه من الآيات ، ثم أصبح بمكة فأخبرهم أنه أسرى به إلى بيت المقدس ، فقالوا له : يا محمد ، ما شأنك ؟ ! أمسيت فيه ثم أصبحت فينا تخبرنا : أنك أتيت بيت المقدس ، فعجبوا من ذلك حتى ارتد بعضهم عن الإسلام .

وروى البخاري في التفسير عن ابن عباس : أنها رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء ، وهو قول سعيد بن جبير ومسروق وقتادة . وجاء في اللغة : الرؤيا بمعنى : الرؤية مطلقا . وهو معنى حقيقي لها وقيل : إنها حقيقة في رؤيا المنام ورؤيا اليقظة ليلا . وقد ذكر السهيلي أنه ورد في كلام العرب بهذا المعنى تقول : رؤيته رؤيا كقربة وقربى .

وقيل إن إطلاق الرؤيا على الإسراء مجاز ؛ لوقوعها ليلا أو لسرعتها{[421]} .

{ والشجرة الملعونة في القرآن } . أي : وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس ، فإنهم حين سمعوا : { إن شجرة الزقوم . طعام الأثيم } ؛ اختلفوا ؛ فقوم ازدادوا إيمانا ، وقوم ازدادوا كفرا ، كأبي جهل إذ قال : إن ابن أبي كبشة- يعني : النبي صلى الله عليه وسلم- توعدكم بالنار ، ثم يزعم أنها تنبت شجرة ، وتعلمون أن النار تحرق الشجر ، وقال عبد الله بن الزبعري : إن محمدا يخوفنا بالزقوم ، وما الزقوم إلا التمر والزبد ، فتزقموا منه ، وجعل يأكل من هذا بهذا . أي : تمرا بزبد .

وقد فات هؤلاء أن في الدنيا أشياء كثيرة لا تحرقها النار ، فهناك نوع من الحرير يسمى بالحرير الصخري ، لا تؤثر فيه النار ، بل هو يزداد إذا لامسها نظافة ومن ثم يلبسه رجال المطافئ .

وكم في الأرض من عجائب وكم في العوالم الأخرى من مثلها ، فالأرض مملوءة نارا ، وما خلص من النار إلا قشرتها التي نعيش عليها وما من شجر أو حجر إلا وفيه نار ، والماء نفسه مادة نارية نحو 8/9 منه أكسجين وهو مادة تشتعل سريعا ، والتسع أدروجين .

وقوله تعالى : { وإذا البحار سجرت } . أي : صارت نارا من قولك : سجرت التنور إذا أشعلته .

والخلاصة : أن هؤلاء المشركين فتنوا بالرؤيا ، وفتنوا بالشجرة . وقد وصفت هذه الشجرة بكونها ملعونة ولا ذنب لها ، للعن الكفار الذين يأكلونها ؛ توسعا في الاستعمال وهو كثير في كلام العرب .

ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا . أي : ونخوفهم بمخاوف الدنيا والآخرة فما يزيدهم التخوف إلا تماديا في الطغيان والضلال . وما زادتهم خارقة الإسراء ولا زادهم التخويف بشجرة الزقوم إلا طغيانا كبيرا . إن الله لم يقدر إهلاكهم بعذاب من عنده . ومن ثم لم يرس إليهم بخارقة . فقد اقتضت إرادته أن يهلك المكذبين بالخوارق .

أما قريش فقد أمهلت ولم تأخذ بالإبادة كقوم نوح وهود وصالح وشعيب . . ومن المكذبين من آمن بعد ذلك ، وكان من جند الإسلام الصادقين .

وظل القرآن- معجزة القرآن- كتابا مفتوحا لجيل محمد صلى الله عليه وسلم وللأجيال بعده ، فآمن به من لم يشهد الرسول وعصره وصحابته ، عندما قرأ القرآن أو صاحب من قرأه .

وسيبقى القرآن كتابا مفتوحا للأجيال ، يهتدي بهم من هم بعد في ضمير الغيب ، وقد يكون منهم من هو أشد إيمانا وأصلح عملا ، وأنفع للإسلام من كثير سبقوه .


[421]:- تفسير القاسمي 10/3944 نقلا عن الشهاب.