فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَإِذۡ قُلۡنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِٱلنَّاسِۚ وَمَا جَعَلۡنَا ٱلرُّءۡيَا ٱلَّتِيٓ أَرَيۡنَٰكَ إِلَّا فِتۡنَةٗ لِّلنَّاسِ وَٱلشَّجَرَةَ ٱلۡمَلۡعُونَةَ فِي ٱلۡقُرۡءَانِۚ وَنُخَوِّفُهُمۡ فَمَا يَزِيدُهُمۡ إِلَّا طُغۡيَٰنٗا كَبِيرٗا} (60)

ولما ذكر سبحانه الامتناع من إرسال الآيات المقترحة على رسوله للصارف المذكور ، قوي قلبه بوعد النصر والغلبة فقال : { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس } الظرف متعلق بمحذوف ، أي : اذكر إذ قلنا لك ، أي : أنهم في قبضته وتحت قدرته ، فلا سبيل لهم إلى الخروج مما يريده بهم لإحاطته لهم بعلمه وقدرته ، وقيل : المراد بالناس : أهل مكة ، وإحاطته بهم إهلاكه إياهم أي : إن الله سيهلكهم ، وعبر بالماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه ، وذلك كما وقع يوم بدر ويوم الفتح ، وقيل : المراد أنه سبحانه عصمه من الناس أن يقتلوه حتى يبلّغ رسالة ربه { وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أريناك إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ } لما بين سبحانه أن إنزال الآيات يتضمن التخويف ضمّ إليه ذكر آية الإسراء ، وهي المذكورة في صدر السورة ، وسماها رؤيا لأنها وقعت بالليل ، أو لأن الكفرة قالوا لعلها رؤيا ، وقد قدّمنا في صدر السورة وجهاً آخر في تفسير هذه الرؤيا ، وكانت الفتنة ارتداد قوم كانوا أسلموا حين أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسري به ، وقيل : كانت رؤيا نوم ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أنه يدخل مكة فافتتن المسلمون لذلك ، فلما فتح الله مكة نزل قوله تعالى : { لَقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق } [ الفتح : 27 ] وقد تعقب هذا بأن هذه الآية مكية ، والرؤيا المذكورة كانت بالمدينة ، وقيل : إن هذه الرؤيا المذكورة في هذه الآية هي أنه رأى بني مروان ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك ، فقيل : إنما هي الدنيا أعطوها فسرّي عنه ، وفيه ضعف ، فإنه لا فتنة للناس في هذه الرؤيا إلاّ أن يراد بالناس رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده ، ويراد بالفتنة ما حصل من المساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو يحمل على أنه قد كان أخبر الناس بها فافتتنوا ، وقيل : إن الله سبحانه أراه في المنام مصارع قريش حتى قال : ( والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم ) ، وهو يومئ إلى الأرض ويقول : ( هذا مصرع فلان ، هذا مصرع فلان ) فلما سمع قريش ذلك جعلوا رؤياه سخرية . { والشجرة الملعونة فِي القرآن } عطف على الرؤيا ، قيل : وفي الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلاّ فتنة للناس . قال جمهور المفسرين : وهي شجرة الزقوم ، والمراد بلعنها لعن آكلها كما قال سبحانه : { إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم } [ الدخان : 43 - 44 ] . وقال الزجاج : إن العرب تقول : لكل طعام مكروه : ملعون ، ومعنى الفتنة فيها : أن أبا جهل وغيره قالوا : زعم صاحبكم أن نار جهنم تحرق الحجر ، ثم يقول : ينبت فيها الشجر ، فأنزل الله هذه الآية . وروي أن أبا جهل أمر جارية فأحضرت تمراً وزبداً وقال لأصحابه : تزقموا . وقال ابن الزبعري : كثر الله من الزقوم في داركم ، فإنه التمر بالزبد بلغة اليمن ، وقيل : إن الشجرة الملعونة : هي الشجرة التي تلتوي على الشجر فتقتلها ، وهي شجرة الكشوث ؛ وقيل : هي الشيطان ؛ وقيل : اليهود ؛ وقيل : بنو أمية { وَنُخَوّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا } أي : نخوّفهم بالآيات فما يزيدهم التخويف إلاّ طغياناً متجاوزاً للحد ، متمادياً غاية التمادي ، فما يفيدهم إرسال الآيات إلاّ الزيادة في الكفر ، فعند ذلك نفعل بهم ما فعلناه بمن قبلهم من الكفار ، وهو عذاب الاستئصال ، ولكنا قد قضينا بتأخير العقوبة .

/خ60