السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَإِذۡ قُلۡنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِٱلنَّاسِۚ وَمَا جَعَلۡنَا ٱلرُّءۡيَا ٱلَّتِيٓ أَرَيۡنَٰكَ إِلَّا فِتۡنَةٗ لِّلنَّاسِ وَٱلشَّجَرَةَ ٱلۡمَلۡعُونَةَ فِي ٱلۡقُرۡءَانِۚ وَنُخَوِّفُهُمۡ فَمَا يَزِيدُهُمۡ إِلَّا طُغۡيَٰنٗا كَبِيرٗا} (60)

ولما طلب القوم من النبي صلى الله عليه وسلم تلك الآيات المقترحات وأجاب الله تعالى بأنّ إظهارها ليس بمصلحة صار ذلك سبباً لجراءة أولئك الكفار بالطعن فيه وأن يقولوا له لو كنت رسولاً حقاً من عند الله لأتيت بهذه المعجزات التي اقترحناها كما أتى بها موسى وغيره من الأنبياء ، فعند هذا قوى الله تعالى قلبه وبين له أنه ينصره ويؤيده فقال تعالى : { و } اذكر يا أشرف الخلق { إذ قلنا لك إن ربك } أي : المتفضل بالإحسان إليك بالرفق لأمتّك { أحاط بالناس } علماً وقدرة فهم في قبضته وقدرته لا يقدرون على الخروج من مشيئته فلا يقدرون على أمر من الأمور إلا بقضائه وقدره ، وهو حافظك ومانعك منهم فلا تهتم باقتراحهم ، وامض فيما أمرك به من تبليغ الرسالة فهو ينصرك ويقوّيك على ذلك كما وعدك بقوله تعالى : { والله يعصمك من الناس } [ المائدة ، 67 ] وقيل : إن المراد بالناس أهل مكة بمعنى أنه يغلبهم ويقهرهم . روي أنه لما تزاحف الفريقان يوم بدر ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه كان يدعو ويقول : " اللهمّ إني أسألك عهدك ووعدك ثم خرج وعليه الدرع يحرّض الناس ويقول : { سيهزم الجمع ويولون الدبر } [ القمر ، 45 ] " وكان صلى الله عليه وسلم يقول حين ورد بدراً : «والله كأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يومئ إلى الأرض ويقول هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان » فتسامعت قريش بما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم عطف تعالى على { وما نرسل بالآيات } قوله تعالى : { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك } أي : التي شاهدتها ليلة الإسراء { إلا فتنة } أي : امتحاناً واختباراً { للناس } لأنه صلى الله عليه وسلم لما ذكر لهم قصة الإسراء كذبوه وكفر به كثير ممن كان قد آمن به وازداد المخلصون إيماناً فلهذا السبب كانت امتحاناً .

وروى البخاري في التفسير عن ابن عباس أنه قال : هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به وتقدم أنه قول الأكثر فمنهم سعيد بن جبير والحسن ومسروق وقتادة ومجاهد وعكرمة وابن جريج وما قاله بعضهم من أن الرؤيا تدل على أنها رؤيا منام ضعيف إذ لا فرق بين الرؤية والرؤيا في اللغة يقال رأيته بعيني رؤية ورؤيا .

فائدة : قال بعض العلماء : كانت إسراآته صلى الله عليه وسلم أربعاً وثلاثين مرّة واحدة بجسده والباقي بروحه رؤيا رآها قال ومما يدل على أنّ الإسراء ليلة فرض الصلاة كانت بالجسم ما ورد في بعض طرق الحديث أنه صلى الله عليه وسلم استوحش لما زج به في النور ولم ير معه أحداً إذ الأرواح لا توصف بالوحشة ولا بالاستيحاش قال : ومما يدلك على أنّ الإسراء كان بجسمه ما وقع له من العطش فإنّ الأرواح المجردة لا تعطش ، ولما كان صلى الله عليه وسلم قد وصل الجحيم وأخبر صلى الله عليه وسلم أنّ شجرة الزقوم تنبت في أصل الجحيم وكان ذلك في غاية الغرابة ضمها إلى الإسراء في ذلك بقوله تعالى : { والشجرة الملعونة في القرآن } لأنّ فيها امتحاناً أيضاً بل قال بعض المفسرين هي على التقديم والتأخير والتقدير وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس . واختلف في هذه الشجرة فالأكثرون قالوا : إنها شجرة الزقوم المذكورة في قوله تعالى : { إنّ شجرة الزقوم 43 طعام الأثيم } [ الدخان : 43 ، 44 ]

فكانت الفتنة في ذكر هذه الشجرة من وجهين الأول أنّ أبا جهل قال : زعم صاحبكم أنّ نار جهنم تحرق الحجارة حيث قال : { وقودها الناس والحجارة } [ البقرة ، 24 ] ثم يقول في النار شجرة والنار تأكل الشجر فكيف يولد فيها الشجر . والثاني : قال ابن الزبعري : ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد فتزقموا منه فأنزل الله تعالى حين عجبوا أن يكون في النار شجراً { إنا جعلناها فتنة للظالمين } [ الصافات ، 63 ] الآيات { وما قدروا الله حق قدره } [ الأنعام ، 91 ] من قال ذلك فإن الله تعالى قادر على أن يجعل الشجرة من جنس لا تأكله النار فهذا وبر السمندل وهو دويبة ببلاد الترك يتخذ منه مناديل إذا اتسخت طرحت في النار فيذهب الوسخ وبقيت سالمة لا تعمل فيها النار ، وترى النعامة تبلع الجمر وتبلع الحديد الحمر بإحماء النار فلا يضرها ثم أقرب من ذلك أنه تعالى جعل في الشجر ناراً فما تحرقه قال تعالى : { الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً } [ يس ، 80 ] . فإن قيل : ليس في القرآن لعن هذه الشجرة ؟ أجيب : عن ذلك بوجوه : الأوّل : المراد لعن الكفار الذين يأكلونها لأنّ الشجرة لا ذنب لها حتى تلعن على الحقيقة ، وإنما وصفت بلعن أصحابها على المجاز . الثاني : أنّ العرب تقول لكل طعام ضار إنه ملعون . الثالث : أنّ اللعن في اللغة الإبعاد ولما كانت هذه الشجرة مبعدة عن صفات الخير سميت ملعونة ، وقيل إنّ الشجرة الملعونة في القرآن هي اليهود لقوله تعالى : { لعن الذين كفروا } [ المائدة ، 78 ] الآية . وقيل : هي الشيطان . وقيل أبو جهل . وعن ابن عباس هي الكشوث التي تتلوى بالشجر تجعل في الشراب .

ولما ذكر سبحانه وتعالى أنه يرسل بالآيات تخويفاً قال هنا أيضاً : { ونخوّفهم فما يزيدهم } أي : الكافرين والتخويف بالقرآن . { إلا طغياناً كبيراً } أي : تجاوز للحد هو في غاية العظم فبتقدير أن يظهر الله تعالى لهم المعجزات التي اقترحوها لم يزدادوا بها إلا تمادياً في الجهل والعناد فاقتضت الحكمة أن لا يظهر الله لهم ما اقترحوه من الآيات والمعجزات فإنهم قد خوّفوا بعذاب الدنيا وهو القتل يوم بدر ، وخوّفوا بعذاب الآخرة وشجرة الزقوم فما أثر فيهم فكيف يخاف قوم هذه حالهم بإرسال ما يقترحون من الآيات .