ثم ذكر - سبحانه - ما يزيد النبى صلى الله عليه وسلم ثباتًا على ثباته ، ويقينًا على يقينه ، وما يدل على شمول علمه - تعالى - ونفاذ قدرته ، وبليغ حكمته فقال : { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس . . . } .
أى : واذكر - أيها الرسول الكريم - وقت أن قلنا لك على لسان وحينا . إن ربك - عز وجل - قد أحاط بالناس علمًا وقدرة . فهم فى قبضته ، وتحت تصرفه ، وقد عصمك منهم ، فامض فى طريقك . وبلغ رسالة ربك ، دون أن تخشى من كفار مكة أو من غيرهم ، عدوانًا على حياتك ، فقد عصمك - سبحانه - منهم .
وفى هذه الجملة ما فيها من التسلية للنبى صلى الله عليه وسلم ، ومن التبشير له ولأصحابه ، بأن العاقبة ستكون لهم ، ومن الحض لهم على المضى فى طريقهم دون أن يخشوا أحدًا إلا الله .
والمراد بالرؤيا فى قوله - تعالى - : { وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } : ما رآه النبى صلى الله عليه وسلم وعاينه بعينيه من عجائب ، ليلة الإِسراء والمعراج .
أى : وما جعلنا ما رأيته وعاينته ليلة إسرائنا بك من غرائب ، إلا فتنة للناس . ليتميز قوى الإِيمان من ضعيفه ، وسليم القلب من مريضه .
وأطلق - سبحانه - على ما أراه لنبيه ليلة الإِسراء لفظ الرؤيا مع أنه كان يقظة " لأن هذا اللفظ يطلق حقيقة على رؤيا المنام ، وعلى رؤية اليقظة ليلاً فإنه قد يقال لرؤية العين رؤيا ، كما فى قول الشاعر يصف صائدا : وكبر للرؤيا وهش فؤاده . . أى : وسر لرؤيته للصيد الذى سيصيده . أو أطلق عليه لفظ الرؤيا على سبيل التشبيه بالرؤيا المنامية ، نظرًا لما رآه فى تلك الليلة من عجائب سماوية وأرضية ، أو أطلق عليه ذلك بسبب أن ما رآه قد كان ليلاً . وقد كان فى سرعته كأنه رؤيا منامية .
وكان ما رآه صلى الله عليه وسلم فى تلك الليلة فتنة للناس ، لأنه لما قص عليهم ما رآه ، ارتد بعضهم عن الإِسلام ، وتردد البعض الآخر فى قبوله ، وضاقت عقولهم عن تصديقه ، زاعمة أنه لا يمكن أن يذهب صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، ثم يعرج إلى السموات العلا . . ثم يعود إلى مكة ، كل ذلك فى ليلة واحدة .
وبعضهم يرى أن المراد بالرؤيا هنا : ما رآه النبى صلى الله عليه وسلم من أنه سيدخل مكة هو وأصحابه .
وبعضهم يرى أن المراد بها هنا : ما أراه الله - تعالى - لنبيه فى منامه ، من مصارع المشركين قبل غزوة بدر ؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم قبل بدء المعركة : والله لكأنى أنظر إلى مصارع القوم . ثم أومأ إلى الأرض وقال : هذا مصرع فلان . وهذا مصرع فلان .
والذى نرجحه هو الرأى الأول ، لأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة ، ولأنه على الرأيين الثانى والثالث يترجح أن الآية مدنية ، لأن غزوة بدر وفتح مكة كانا بعد الهجرة ، والتحقيق أن هذه الآية مكية .
قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - : { وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ . . } لما بين أن إنزال آيات القرآن تتضمن التخويف ، ضم إليه ذكر آية الإِسراء ، وهى المذكورة فى صدر السورة . وفى البخارى والترمذى عن ابن عباس فى قوله - تعالى - : { وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } قال : هى رؤيا عين أريها النبى صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به إلى بيت المقدس . . .
وكانت الفتنة ارتداد قوم كانوا أسلموا حين أخبرهم النبى صلى الله عليه وسلم أنه أسرى به .
وقيل : كانت رؤيا نوم . وهذه الآية تقض بفساده ، وذلك أن رؤيا المنام لا فتنة فيها ، وما كان أحد لينكرها .
وعن ابن عباس قال : الرؤيا التى فى هذه الآية ، رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يدخل مكة فى سنة الحديبية - فرده المشركون عن دخولها فى تلك السنة - ، فافتتن بعض المسلمين لذلك ، فنزلت هذه الآية . . وفى هذا التأويل ضعف . لأن السورة مكية ، وتلك الرؤيا كانت بالمدينة . . . " .
وقوله - سبحانه - : { والشجرة الملعونة فِي القرآن } معطوف على الرؤيا .
أى : وما جعلنا الرؤيا التى أريناك والشجرة الملعونة فى القرآن إلا فتنة للناس .
والمراد بالشجرة الملعونة هنا : شجرة الزقوم ، المذكورة فى قوله - تعالى - : { أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين } والمراد بلعنها : لعن الآكلين منها وهم المشركون ، أو هى ملعونة لأنها تخرج فى أصل الجحيم . أو هى ملعونة لأن طعامها مؤذ وضار ، والعرب تقول لكل طعام ضار : إنه ملعون .
قال الآلوسى : وروى فى جعلها فتنة لهم : أنه لما نزل فى شأنها فى سورة الصافات وغيرها ما نزل ، قال أبو جهل وغيره : هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة ، ثم يقول ينبت فيها الشجر . وما نعرف الزقوم إلا بالتمر والزبد ، ثم أمر جارية له فأحضرت تمرًا وزبدًا ، وقال لأصحابه : تزقموا .
وافتتن بهذه الآية أيضًا بعض الضعفاء ، ولقد ضلوا فى ذلك ضلالا بعيدًا . . . .
وقوله - تعالى - : { وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً } تذييل قصد به بيان ما جبل عليه هؤلاء المشركون من جحود ، وقسوة قلب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.