والمشهد التالي هو مشهد التنفيذ .
وجاوزنا ببني إسرائيل البحر ، فأتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدواً ، حتى إذا أدركه الغرق قال : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين . آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ? ! فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية ، وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون . .
إنه الموقف الحاسم والمشهد الأخير في قصة التحدي والتكذيب . والسياق يعرضه مختصراً مجملاً ، لأن الغرض من سياقة هذه الحلقة من القصة في هذه السورة هو بيان هذه الخاتمة . بيان رعاية اللّه وحمايته لأوليائه ، وإنزال العذاب والهلاك بأعدائه ، الذين يغفلون عن آياته الكونية وآياته مع رسله حتى تأخذهم الآية التي لا ينفع بعدها ندم ولا توبة . وهو مصداق ما سبق في السورة من وعيد للمكذبين في قوله تعالى : ( ولكل أمة رسول ، فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون . ويقولون : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ? قل : لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء اللّه لكل أمة أجل ، إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون قل : أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً ، ماذا يستعجل منه المجرمون ? أثم إذا ما وقع آمنتم به ? آلآن وقد كنتم به تستعجلون ? ! ) . .
فهنا يأتي القصص ليصدق ذلك الوعيد :
( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر ) . .
بقيادتنا وهدايتنا ورعايتنا . ولهذا الإسناد في هذا الموضع دلالته . .
لا اهتداء وإيماناً ، ولا دفاعاً مشروعاً . ولكن :
ومن مشهد البغي والعدو مباشرة إلى مشهد الغرق في ومضة :
وعاين الموت ، ولم يعد يملك نجاة . .
قال : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين . .
لقد سقطت عن فرعون الباغي العادي المتجبر الطاغي . . كل أرديته التي تنفخ فيه فتظهره لقومه ولنفسه قوة هائلة مخيفة ، ولقد تضاءل وتصاغر واستخذى . فهو لا يكتفي بأن يعلن إيمانه بأن لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل . فيزيد في استسلام . .
يذكر تعالى كيفية إغراقه فرعون وجنوده ؛ فإن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر صحبة موسى ، عليه السلام ، وهم - فيما قيل - ستمائة ألف مقاتل سوى الذرية ، وقد كانوا استعاروا من القبط حُلِيّا كثيرا ، فخرجوا به معهم ، فاشتد حَنَق فرعون عليهم ، فأرسل في المدائن حاشرين يجمعون له جنوده من أقاليمه ، فركب وراءهم في أبهة عظيمة ، وجيوش هائلة لما يريده الله تعالى بهم ، ولم يتخلف عنه أحد ممن له دولة وسلطان في سائر مملكته ، فلحقوهم وقت شروق الشمس ، { فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [ الشعراء : 61 ] وذلك أنهم لما انتهوا إلى ساحل البحر ، وأدركهم فرعون ، ولم يبق إلا أن يتقاتل{[14380]} الجمعان ، وألح أصحاب موسى ، عليه السلام ، عليه في السؤال كيف المخلص مما نحن فيه ؟ فيقول : إني أمرت أن أسلك هاهنا ، { كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ]
فعندما ضاق الأمر اتسع ، فأمره الله تعالى أن يضرب البحر بعصاه ، فضربه فانفلق البحر ، { فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } [ الشعراء : 63 ] أي : كالجبل العظيم ، وصار اثني عشر طريقًا ، لكل سبط واحد . وأمر الله الريح فنَشَّفت أرضه ، { فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى } [ طه : 77 ] وتخرق الماء بين الطرق كهيئة الشبابيك ، ليرى كل قوم الآخرين لئلا يظنوا أنهم هلكوا . وجازت بنو إسرائيل البحر ، فلما خرج آخرهم منه انتهى فرعون وجنوده إلى حافته من الناحية الأخرى ، وهو في مائة ألف أدهم سوى بقية الألوان ، فلما رأى ذلك هاله وأحجم وهاب وهم بالرجوع ، وهيهات ولات حين مناص ، نفذ القدر ، واستجيبت الدعوة . وجاء جبريل ، عليه السلام ، على فرس - وديق حائل - فمر إلى جانب حصان فرعون فحمحم إليها وتقدم جبريل فاقتحم البحر ودخله ، فاقْتحم الحصان وراءه ، ولم يبق فرعون يملك من نفسه شيئا ، فتجلد لأمرائه ، وقال لهم : ليس بنو إسرائيل بأحق بالبحر منا ، فاقتحموا كلهم عن آخرهم وميكائيل في ساقتهم ، لا يترك أحدا منهم ، إلا ألحقه بهم . فلما استوسقوا فيه وتكاملوا ، وهم أولهم بالخروج منه ، أمر اللهُ القدير البحرَ أن يرتطم عليهم ، فارتطم عليهم ، فلم ينج منهم أحد ، وجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم ، وتراكمت الأمواج فوق فرعون ، وغشيته سكرات الموت ، فقال وهو كذلك : { آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ } فآمن حيث لا ينفعه الإيمان ، { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } [ غافر : 84 ، 85 ] .
وهكذا{[14381]} قال الله تعالى في جواب فرعون حين قال ما قال : { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ } أي : أهذا{[14382]} الوقت تقول ، وقد عصيت الله قبل هذا فيما بينك وبينه ؟ { وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } أي : في الأرض الذين أضلوا الناس ، { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ } [ القصص : 41 ]
وهذا الذي حكى الله تعالى عن فرعون من قوله هذا في حاله{[14383]} ذاك من أسرار الغيب التي{[14384]} أعلم الله بها رسوله ؛ ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله :
حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهْران ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما قال فرعون : { آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ } قال : قال لي جبريل : [ يا محمد ]{[14385]} لو رأيتني وقد أخذت [ حالا ]{[14386]} من حال البحر ، فدسسته في فيه مخافة أن تناله الرحمة "
ورواه الترمذي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم في تفاسيرهم ، من حديث حماد بن سلمة ، به{[14387]} . وقال الترمذي : حديث حسن .
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، عن عدي بن ثابت وعطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال لي جبريل : لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر ، فأدسه في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة " . وقد رواه أبو عيسى الترمذي أيضا ، وابن جرير أيضا ، من غير وجه ، عن شعبة ، به{[14388]} وقال الترمذي : حسن غريب صحيح .
ووقع في رواية عند ابن جرير ، عن محمد بن المثنى ، عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن عطاء وعَدِيّ ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، رفعه أحدهما - وكأن{[14389]} الآخر لم يرفعه ، فالله{[14390]} أعلم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن عمر بن عبد الله بن يَعْلَى الثقفي ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : لما أغرق{[14391]} الله فرعون ، أشار بأصبعه ورفع صوته : { آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ }{[14392]} قال : فخاف جبريل أن تسبق رحمة الله فيه غضبه ، فجعل يأخذ الحال بجناحيه فيضرب به وجهه فيرمسه .
وكذا رواه ابن جرير ، عن سفيان بن وَكِيع ، عن أبي خالد ، به موقوفا{[14393]}
وقد روي من حديث أبي هريرة أيضا ، فقال ابن جرير :
حدثنا ابن حميد ، حدثنا حَكَّام ، عن عَنْبَسة - هو ابن{[14394]} سعيد - عن كثير بن زاذان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال لي جبريل : يا محمد ، لو رأيتني وأنا أغطّه وأدس من الحال{[14395]} في فيه ، مخافة أن تدركه رحمة الله فيغفر له " يعني : فرعون{[14396]} كثير بن زاذان هذا قال ابن مَعِين : لا أعرفه ، وقال أبو زُرْعَة وأبو حاتم : مجهول ، وباقي رجاله ثقات .
وقد أرسل هذا الحديث جماعة من السلف : قتادة ، وإبراهيم التيمي ، وميمون بن مِهْران . ونقل عن الضحاك بن قيس : أنه خطب بهذا للناس ، فالله أعلم .
قرأ الحسن بن أبي الحسن «وجوّزنا » بشد الواو ، وطرح الألف ، ويشبه عندي أن يكون «جاوزنا » كتب في بعض المصاحف بغير ألف ، وتقدم القول في صورة جوازهم في البقرة والأعراف ، وقرأ جمهور الناس «فأتبعهم » لأنه يقال تبع وأتبع بمعنى واحد ، وقرأ قتادة والحسن «فاتّبعهم » بشد التاء ، قال أبو حاتم : القراءة «أتبع » بقطع الألف لأنها تتضمن الإدراك ، و «اتّبع » بشد التاء هي طلب الأثر سواء أدرك أو لم يدرك ، وروي أن بني إسرائيل الذين جاوزوا البحر كانوا ستمائة ألف ، وكان يعقوب قد استقر أولاً بمصر في نيف على السبعين ألفاً من ذريته فتناسلوا حتى بلغوا وقت موسى العدد المذكور ، وروي أن فرعون كان في ثمانمائة ألف أدهم حاشى ما يناسبها من ألوان الخيل ، وروي أقل من هذه الأعداد .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله ضعيف ، والذي تقتضيه ألفاظ القرآن أن بني اسرائيل كان لهم جمع كثير في نفسه قليل بالإضافة إلى قوم فرعون المتبعين ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكوفيون وجماعة { عدواً } على مثال غزا غزاً ، وقرأ الحسن وقتادة «غزواً » على مثال علا علواً ، وقوله { أدركه الغرق } أي في البحر ، وروي في ذلك أن فرعون لما انتهى إلى البحر فوجده قد انفرق ومشى فيه بنو إسرائيل ، قال لقومه إنما انفلق بأمري وكان على فرس ذكر فبعث الله جبريل على فرس أنثى وديق{[6216]} فدخل بها البحر ولج فرس فرعون ورآه وحثت الجيوش خلفه فلما رأى الانفراق يثبت له استمر ، وبعث ميكائيل يسوق الناس حتى حصل جميعهم في البحر ، فانطبق عليهم حينئذ ، فلما عاين فرعون قال ما حكى عنه في هذه الآية ، قرأ الجمهور الناس «أنه » بفتح الألف ، ويحتمل أن تكون في موضع نصب ، ويحتمل أن تكون في موضع خفض على إسقاط الباء ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو «إنه » بكسر الألف ، إما على إضمار الفعل أي آمنت فقلت إنه ، وإما على أن يتم الكلام في قوله { آمنت } ثم يتبدىء إيجاب «إنه » وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن جبريل عليه السلام قال ما أبغضت أحداً بغضي لفرعون ، ولقد سمعته يقول { آمنت } الآية ، فأخذت من حال البحر{[6217]} فملأت فمه مخافة أن تلحقه رحمة الله »{[6218]} وفي بعض الطرق : «مخافة أن يقول لا إله إلا الله فتلحقه الرحمة »{[6219]} .
قال القاضي أبو محمد : فانظر إلى كلام فرعون ففيه مجهلة وتلعثم ، ولا عذر لأحد في جهل هذا وإنما العذر فيما لا سبيل إلى علمه كقول علي رضي الله عنه ، «أهللت بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم » ، والحال الطين ، كذا في الغريب المصنف وغيره ، والأثر بهذا كثير مختلف اللفظ والمعنى واحد ، وفعل جبريل عليه السلام هذا يشبه أن يكون لأنه اعتقد تجويز المغفرة للتائب وإن عاين ولم يكن عنده قبل إعلام من الله تعالى أن التوبة بعد المعاينة غير نافعة
معطوفة على جملة { وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تَتَبَوَّءا لقومكما بمصر بيوتاً } [ يونس : 87 ] عطف الغرض على التمهيد ، أي ، أمرناهما باتخاذ تلك البيوت تهيئة للسفر ومجاوزة البحر .
وجاوزنا ، أي قطعنا بهم البحر ، والباء للتعدية ، أي أقطعناهم البحر بمعنى جعلناهم قاطعين البحر . وتقدم نظيره في سورة الأعراف [ 138 ] . ومجاوزتهم البحر تقتضي خوضهم فيه ، وذلك أن الله جعل لهم طرائق في البحر يمُرون منها .
و { أتبعهم } بمعنى لحقهم . يقال : تَبعه فأتْبَعَه إذا سار خلفه فأدركه . ومنه { فأتبعَه شهابٌ ثاقب } [ الصافات : 10 ] . وقيل : أتبع مُرادف تبع .
والبغي : الظلم ، مصدر بغى . وتقدم عند قوله تعالى : { والإثم البغيَ بغير الحق } في [ الأعراف : 33 ] .
والعَدْو : مصدر عدا . وهو تجاوز الحد في الظلم ، وهو مسوق لتأكيد البغي . وإنما عطف لما فيه من زيادة المعنى في الظلم باعتبار اشتقاق فعل عدا .
والمعنى : أن فرعون دخل البحر يتقصّى آثارهم فسار في تلك الطرائق يريد الإحاطة بهم ومنْعَهم من السفر ، وإنما كان اتباعه إياهم ظلماً وعُدواناً إذ ليس له فيه شائبة حق ، لأن بني إسرائيل أرادوا مفارقة بلاد فرعون وليست مفارقة أحد بلده محظورة إن لم يكن لأحد عليه حق في البقاء ، فإن لذي الوطن حقاً في الإقامة في وطنه فإذا رام مغادرة وطنه فقد تخلى عن حق له ، وللإنسان أن يتخلى عن حقه ، فلذلك كان الخَلع في الجاهلية عقاباً ، وكان النفي والتغريب في الإسلام عقوبة لا تقع إلا بموجب شرعي ، وكان الإمساك بالمكان عقاباً ، ومنه السجن ، فليس الخروج من الوطن طوعاً بعُدوان . فلما رام فرعون منع بني إسرائيل من الخروج وشدّ للحاق بهم لردهم كرهاً كان في ذلك ظالماً معتدياً ، لأنه يبتغي بذلك إكراههم على البقاء ولأن غرضه من ذلك تسخيرهم .
و{ حتى } ابتدائية لوقوع { إذا } الفُجائية بعدها . وهي غاية للإتباع ، أي استمر إتباعه إياهم إلى وقت إدراك الغرق إياه ، كل ذلك لا يفتأ يجدّ في إدراكهم إلى أن أنجى الله بني إسرائيل فاخترقوا البحر ، ورد الله غمرة الماء على فرعون وجنوده ، فغرقوا وهلك فرعون غريقاً ، فمنتهى الغاية هو الزمان المستفاد من ( إذا ) ، والجملة المضافة هي إليها وفي ذلك إيجاز حذفٍ . والتقدير : حتى أدركه الغرق فإذا أدركه الغرق قال آمنت ، لأن الكلام مسوق لكون الغاية وهي إدراك الغرق إياه فعند ذلك انتهى الإتباع ، وليست الغاية هي قوله : { آمنت } وإن كان الأمران متقارنين .
والإدراك : اللحاق وانتهاء السير . وهو يؤذن بأن الغرق دنا منه تدريجياً بهول البحر ومصارعته الموج ، وهو يأمل النجاة منه ، وأنه لم يُظهر الإيمان حتى أيس من النجاة وأيقن بالموت ، وذلك لتصلبه في الكفر .
وتركيب الجملة إيجاز ، لأنها قامت مقام خمس جمل :
جملة : تفيد أن فرعون حاول اللحاق ببني إسرائيل إلى أقصى أحوال الإمكان والطمع في اللحاق .
وهاتان مستفادان من ( حتى ) ، وهاتان منَّة على بني إسرائيل .
وجملة : تفيد أنه غمره الماء فغرق ، وهذه مستفادة من قوله : { أدركه الغرق } وهي عقوبة له وكرامة لموسى عليه السلام .
وجملة : تفيد أنه لم يسعه إلا الإيمان بالله لأنه قهرته أدلة الإيمان . وهذه مستفادة من ربط جملة إيمانه بالظرف في قوله : { إذا أدركه الغرق } . وهذه منقبة للإيمان وأن الحق يغلب الباطل في النهاية .
وجملة : تفيد أنه مَا آمن حتى أيس من النجاة لتصلبه في الكفر ومع ذلك غلبه الله . وهذه موعظة للكافرين وعزة لله تعالى .
وقد بُني نظم الكلام على جملة : { إذا أدركه الغرق } ، وجعل ما معها كالوسيلة إليها ، فجعلت ( حتى ) لبيان غاية الإتْبَاع وجعلت الغاية أن قال : { آمنتُ } لأن إتباعه بني إسرائيل كان مندفعاً إليه بدافع حنقه عليهم لأجل الدين الذي جاء به رسولهم ليخرجهم من أرضه ، فكانت غايتُه إيمانَه بحقهم . ولذلك قال : { الذي آمنت به بنو إسرائيل } ليفيد مع اعترافه بالله تصويبه لبني إسرائيل فيما هُدوا إليه ، فجعل الصلة طريقاً لمعرفته بالله ، ولعدم علمه بالصفات المختصة بالله إلا ما تضمنته الصلة إذ لم يتبصر في دعوة موسى تمام التبصر ، ولذلك احتاج أن يزيد { وأنا من المسلمين } لأنه كان يسمع من موسى دعوتَه لأنْ يكون مسلماً فنطق بما كان يسمعه وجعل نفسه من زمرة الذين يحق عليهم ذلك الوصف ، ولذلك لم يقل : أسلمتُ ، بل قال أنا من المسلمين ، أي يلزمني ما التزموه . جاء بإيمانه مجملاً لضيق الوقت عن التفصيل ولعدم معرفته تفصيله .
وسيأتي قريباً في تفسير الآية التي بعد هذه تحقيق صفة غرق فرعون ، وما كان في بقاء بدنه بعد غرقه .
وقرأ الجمهور { آمنتُ أَنه } بفتح همزة ( أنه ) على تقدير باء الجر محذوفة . وقرأه حمزة والكسائي وخلف بكسر الهمزة على اعتبار ( إنّ ) واقعة في أول جملة ، وأنّ جملتها بدل من جملة { آمنت } بحذف متعلق فعل { آمنت } لأن جملة البدل تدل عليه .