( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ، ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة ، أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) .
( والذين كسبوا السيئات جزاء سيئه بمثلها وترهقهم ذلة ، مالهم من الله من عاصم ، كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما ، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون )
كانت آخر آية في الدرس السابق : ( والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) . .
فهنا يبين عن قواعد الجزاء للمهتدين ولغير المهتدين . ويكشف عن رحمة الله وفضله ، وعن قسطه وعدله في جزاء هؤلاء وهؤلاء .
فأما الذين أحسنوا . أحسنوا الاعتقاد ، وأحسنوا العمل ، وأحسنوا معرفة الصراط المستقيم ، وإدراك القانون الكوني المؤدي إلى دار السلام . . فأما هؤلاء فلهم الحسنى جزاء ما أحسنوا ، وعليها زيادة من فضل الله غير محدودة :
( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) . .
وهم ناجون من كربات يوم الحشر ، ومن أهوال الموقف قبل أن يفصل في أمر الخلق :
( ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة ) . .
والقتر : الغبار والسواد وكدرة اللون من الحزن أو الضيق . والذلة : الانكسار والمهانة أو الإهانة . فلا يغشى وجوههم قتر ولا تكسو ملامحهم الذلة . . والتعبير يوحي بأن في الموقف من الزحام والهول والكرب والخوف والمهانة ما يخلع آثاره على الوجوه ، فالنجاة من هذا كله غنيمة ، وفضل من الله يضاف إلى الجزاء المزيد فيه . .
( أولئك ) . . أصحاب هذه المنزلة العالية البعيدة الآفاق ( أصحاب الجنة )وملاكها ورفاقها ( هم فيها خالدون ) .
يخبر تعالى أن لمن أحسن العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح أبدله{[14189]} الحسنى في الدار الآخرة ، كما قال تعالى : { هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ } [ الرحمن : 60 ] .
وقوله : { وَزِيَادَة } هي{[14190]} تضعيف ثواب الأعمال بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، وزيادة على ذلك [ أيضا ]{[14191]} ويشمل ما يعطيهم الله في الجنان من القُصُور والحُور والرضا عنهم ، وما أخفاه لهم من قرة أعين ، وأفضل من ذلك وأعلاه النظرُ إلى وجهه{[14192]} الكريم ، فإنه زيادة أعظم من جميع ما أعطوه ، لا يستحقونها بعملهم ، بل بفضله ورحمته{[14193]} وقد روي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله{[14194]} الكريم ، عن أبي بكر الصديق ، وحذيفة بن اليمان ، وعبد الله بن عباس [ قال البغوي وأبو موسى وعبادة بن الصامت ]{[14195]} وسعيد بن المسيب ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، وعبد الرحمن بن سابط ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعامر بن سعد ، وعطاء ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، ومحمد بن إسحاق ، وغيرهم من السلف والخلف .
وقد وردت في ذلك أحاديثُ كثيرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد :
حدثنا عفان ، أخبرنا حماد بن سلمة ، عن ثابت البُناني ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن صهيب ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } وقال : " إذا دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، نادى مناد : يا أهل الجنة ، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن يُنْجِزَكُمُوه . فيقولون : وما هو ؟ ألم يُثقِّل موازيننا ، ويبيض وجوهنا ، ويدخلنا الجنة ، ويزحزحنا من النار ؟ " . قال : " فيكشف{[14196]} لهم الحجاب ، فينظرون إليه ، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه ، ولا أقر لأعينهم " .
وهكذا رواه مسلم وجماعة من الأئمة ، من حديث حماد بن سلمة ، به . {[14197]}
وقال ابن جرير : أخبرنا يونس ، أخبرنا ابن وهب : أخبرنا شبيب ، عن أبان{[14198]} عن أبي تَمِيمَة الهُجَيْمي ؛ أنه سمع أبا موسى الأشعري يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي : يا أهل الجنة - بصَوْت يُسْمعُ أوَّلهم وآخرهم - : إن الله وعدكم الحسنى وزيادة ، الحسنى : الجنة . وزيادة : النظر إلى وجه الرحمن عز وجل " . {[14199]}ورواه أيضا ابنُ أبي حاتم ، من حديث أبي بكر الهُذلي{[14200]} عن أبي تميمة الهجيمي ، به .
وقال ابن جرير أيضًا : حدثنا ابن حميد ، حدثنا إبراهيم بن المختار{[14201]} عن ابن جُرَيْج ، عن عطاء ، عن كعب بن عُجْرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } قال : النظر إلى وجه الرحمن عز وجل . {[14202]} وقال أيضا : حدثنا ابن عبد الرحيم{[14203]} حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، سمعت زهيرًا عمن سمع أبا العالية ، حدثنا أبيّ بن كعب : أنه سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } قال : " الحسنى : الجنة ، والزيادة : النظر إلى وجه الله عز وجل " . {[14204]} ورواه ابن أبي حاتم أيضا من حديث زهير ، به .
وقوله تعالى : { وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ } أي : قتام وسواد في عَرَصات المحشر ، كما يعتري وجوه الكفرة الفجرة من القُتْرة والغُبْرة ، { وَلا ذِلَّةٌ } أي : هوان وصغار ، أي : لا يحصل لهم إهانة في الباطن ، ولا في الظاهر ، بل هم كما قال تعالى في حقهم : { فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا } أي : نضرة في وجوههم ، وسرورًا في قلوبهم ، جعلنا الله منهم بفضله ورحمته ، آمين .
وقوله تعالى : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } الآية ، قالت فرقة وهي الجمهور : { الحسنى } الجنة و «الزيادة » النظر إلى وجه الله عز وجل ، وروي في نحو ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه صهيب{[6086]} ، وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق وحذيفة وأبي موسى الأشعري وعامر بن سعد وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال : «الزيادة » غرفة من لؤلؤة واحدة ، وقالت فرقة { الحسنى } هي الحسنة ، و «الزيادة » هي تضعيف الحسنات إلى سبعمائة فدونها حسبما روي في نص الحديث ، وتفسير قوله تعالى : { والله يضاعف لمن يشاء } [ البقرة : 261 ] ، وهذا قول يعضده النظر ولولا عظم القائلين بالقول الأول لترجح هذا القول ، وطريق ترجيحه أن الآية تتضمن اقتراناً بين ذكر عمال الحسنات وعمال السيئات ، فوصف المحسنين بأن لهم حسنى وزيادة من جنسها ، ووصف المسيئين بأن لهم بالسيئة مثلها فتعادل الكلامان ، وعبر عن الحسنات ب { الحسنى } مبالغة ، إذ هي عشرة ، وقال الطبري : { الحسنى } عام في كل حسنى فهي تعم جميع ما قيل ، ووعد الله تعالى على جميعها بالزيادة ، ويؤيد ذلك ذلك أيضاً قوله { أولئك أصحاب الجنة } ، ولو كان معنى { الحسنى } الجنة لكان في القول تكرير بالمعنى ، على أن هذا ينفصل عنه بأنه وصف المحسنين بأن لهم الجنة وأنهم لا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة ، ثم قال { أولئك أصحاب الجنة } على جهة المدح لهم ، أي أولئك مستحقوها وأصحابها حقاً وباستيجاب . و { يرهق } معناه يغشى مع ذلة وتضييق ، والقتر الغبار المسود ، ومنه قول الشاعر [ الفرزدق ] : [ البسيط ]
متوج برداء الملك يتبعه*** موج ترى وسطه الرايات والقترا{[6087]}
وقرأ الحسن وعيسى بن عمر والأعمش وأبو رجاء «قتْر » بسكون التاء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{للذين أحسنوا الحسنى} يعني: الجنة،
{وزيادة}، يعني: فضل على الجنة النظر إلى وجه الله الكريم،
{ولا يرهق وجوههم قتر}، يعني: ولا يصيب وجوههم قتر، يعني: سواد، ويقال: كسوف، {ولا ذلة}، يعني: ولا مذلة في أبدانهم عند معاينة النار.
{أولئك} الذين هم بهذه المنزلة {أصحاب الجنة هم فيها خالدون} لا يموتون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: للذين أحسنوا عبادة الله في الدنيا من خلقه فأطاعوه فيما أمر ونَهَى "الحُسْنَى".
ثم اختلف أهل التأويل في معنى الحسنى والزيادة اللتين وعدهما المحسنين من خلقه؛
فقال بعضهم: الحسنى: هي الجنة، جعلها الله للمحسنين من خلقه جزاء، والزيادة عليها: النظر إلى الله تعالى... حدثنا ابن البرقي، قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: سمعت زهيرا عمن سمع أبا العالية، قال: حدثنا أبيّ بن كعب: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: لِلّذِينَ أحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيادَةٌ قال: «الحُسْنَى: الجَنّةُ والزّيادَةُ: النّظَرُ إلى وَجْهِ الله».
وقال آخرون في الزيادة... عن عليّ رضي الله عنه: "لِلّذِينَ أحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيادَةٌ "قال: الزيادة: غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب...
وقال آخرون: الحسنى واحدة من الحسنات بواحدة، والزيادة: التضعيف إلى تمام العشر...
وقال آخرون: الحسنى: حسنة مثل حسنة، والزيادة: زيادة مغفرة من الله ورضوان... وقال آخرون: الزيادة ما أعطوا في الدنيا... وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تبارك وتعالى وعد المحسنين من عباده على إحسانهم الحسنى أن يجزيهم على طاعتهم إياه الجنة وأن تبيض وجوههم، ووعدهم مع الحسنى الزيادة عليها، ومن الزيادة على إدخالهم الجنة أن يكرمهم بالنظر إليه، وأن يعطيهم غرفا من لآلئ، وأن يزيدهم غفرانا ورضوانا، كلّ ذلك من زيادات عطاء الله إياهم على الحسنى التي جعلها الله لأهل جناته. وعمّ ربنا جلّ ثناؤه بقوله: "وَزِيادَةٌ" الزيادات على الحسنى، فلم يخصص منها شيئا دون شيء، وغير مستنكر من فضل الله أن يجمع ذلك لهم، بل ذلك كله مجموع لهم إن شاء الله. فأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يعمّ كما عمه عزّ ذكره...
"وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلّةٌ" لا يغشى وجوههم كآبة ولا كسوف حتى تصير من الحزن كأنما علاها قتر. والقتر: الغبار... "وَلا ذِلّةٌ": ولا هوان. "أولَئِكَ أصْحَابُ الجَنّةِ" يقول هؤلاء الذين وصفت صفتهم هم أهل الجنة وسكانها ومن "هُمْ فيها خَالِدُون" يقول هم فيها ماكثون أبدا لا تبيد فيخافوا زوال نعيمهم، ولا هم بمخرجين فتتنغص عليهم لذتهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... (وزيادة) قيل: المحبة في قلوب العباد، يحبه كل محسن، وهيبة له في قلوب الناس؛ يهابه كل أحد على غير سلطان له.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ويقال:الحسنى في الدنيا توفيق بدوام، وتحقيق بتمام، وفي الآخرة غفران مُعَجَّل، وعيان على التأبيد مُحصَّل.
{وَلاَ يَرْهَقُ وَجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَةٌ أُولَئكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. لا يقع عليهم غبارُ الحجاب، وبعكسه حديث الكفار حيث قال: {وَوُجُوهٌ يَومَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} [عبس:40].
اعلم أنه تعالى لما دعا عباده إلى دار السلام، ذكر السعادات التي تحصل لهم فيها فقال: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} فيحتاج إلى تفسير هذه الألفاظ الثلاثة.
أما اللفظ الأول: وهو قوله: {للذين أحسنوا} فقال ابن عباس: معناه: للذين ذكروا كلمة لا إله إلا الله. وقال الأصم: معناه: للذين أحسنوا في كل ما تعبدوا به، ومعناه: أنهم أتوا بالمأمور به كما ينبغي، واجتنبوا المنهيات من الوجه الذي صارت منهيا عنها.
والقول الثاني: أقرب إلى الصواب لأن الدرجات العالية لا تحصل إلا لأهل الطاعات.
وأما اللفظ الثاني: وهو {الحسنى} فقال ابن الأنباري: الحسنى في اللغة تأنيث الأحسن، والعرب توقع هذه اللفظة على الحالة المحبوبة والخصلة المرغوب فيها، ولذلك لم تؤكد، ولم تنعت بشيء، وقال صاحب «الكشاف»: المراد: المثوبة الحسنى. ونظير هذه الآية قوله: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}
وأما اللفظ الثالث: وهو الزيادة. فنقول: هذه الكلمة مهمة، ولأجل هذا اختلف الناس في تفسيرها، وحاصل كلامهم يرجع إلى قولين:
القول الأول: أن المراد من منها رؤية الله سبحانه وتعالى. قالوا: والدليل عليه النقل والعقل.
أما النقل: فالحديث الصحيح الوارد فيه، وهو أن الحسنى هي الجنة، والزيادة هي النظر إلى الله سبحانه وتعالى.
وأما العقل: فهو أن الحسنى لفظة مفردة دخل عليها حرف التعريف، فانصرف إلى المعهود السابق، وهو دار السلام. والمعروف من المسلمين والمتقرر بين أهل الإسلام من هذه اللفظة هو الجنة، وما فيها من المنافع والتعظيم. وإذا ثبت هذا، وجب أن يكون المراد من الزيادة أمرا مغايرا لكل ما في الجنة من المنافع والتعظيم، وإلا لزم التكرار. وكل من قال بذلك قال: إنما هي رؤية الله تعالى. فدل ذلك على أن المراد من هذه الزيادة: الرؤية. ومما يؤكد هذا وجهان: الأول: أنه تعالى قال: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} فأثبت لأهل الجنة أمرين: أحدهما: نضرة الوجوه والثاني: النظر إلى الله تعالى، وآيات القرآن يفسر بعضها بعضا فوجب حمل الحسنى ههنا على نضرة الوجوه، وحمل الزيادة على رؤية الله تعالى. الثاني: أنه تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا} أثبت له النعيم، ورؤية الملك الكبير، فوجب ههنا حمل الحسنى والزيادة على هذين الأمرين.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يخبر تعالى أن لمن أحسن العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح أبدله الحسنى في الدار الآخرة، كما قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ} [الرحمن: 60]. وقد روي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم، عن أبي بكر الصديق، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس [قال البغوي وأبو موسى وعبادة بن الصامت] وسعيد بن المسيب، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الرحمن بن سابط، ومجاهد، وعكرمة، وعامر بن سعد، وعطاء، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسدي، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم من السلف والخلف. وقد وردت في ذلك أحاديثُ كثيرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد: حدثنا عفان، أخبرنا حماد بن سلمة، عن ثابت البُناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} وقال:"إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن يُنْجِزَكُمُوه. فيقولون: وما هو؟ ألم يُثقِّل موازيننا، ويبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويزحزحنا من النار؟". قال: "فيكشف لهم الحجاب، فينظرون إليه، فو الله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه، ولا أقر لأعينهم". وهكذا رواه مسلم وجماعة من الأئمة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وزِيَادَةٌ} هذا بيان لصفة الذين هداهم إلى صراط الإسلام، فوصلوا بالسير عليه إلى غايته، وهي دار السلام، أي للذين أحسنوا أعمالهم في الدنيا المثوبة الحسنى، أي التي تزيد في الحسن على إحسانهم، وهي مضاعفتها بعشرة أمثالها أو أكثر، كما قال في سورة النجم {ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا الحسنى} [النجم: 31]. ولهم زيادة على هذه الحسنى، هي فوق ما يستحقونه على أعمالهم بعد مضاعفتها التي هي من جزائها مهما تكن حسنة كما قال: {فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله} [النساء: 172]، وقد ورد في الأحاديث الكثيرة من الطرق العديدة أن هذه الزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم، وهو أعلى مراتب الكمال الروحاني الذي لا يصل إليه المتقون المحسنون العارفون إلا في الآخرة. وقد فصلنا القول فيه في تفسير سورة الأعراف (ج 9) بما يقربه من العقل والعلم العصري...
{ولاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ ولاَ ذِلَّةٌ} رهق الرجل الشيء كتعب: أدركه، ورهقه الشيء كالدين والذل: غشيه، وغلب عليه حتى غطاه وحجبه {ولا ترهقني من أمري عسرا} [الكهف: 73]: لا تكلفني ما يعسر عليّ، والقتر الدخان الساطع من الشواء والحطب، وكل غبرة فيها سواد. أي لا يغشي وجوههم في الآخرة شيء مما يغشي وجوه الكفرة الفجرة من الكسوف والظلمة والذلة، كما يأتي قريبا في المقابلة بين الفريقين.
{أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أولئك الموصفون بما ذكر أصحاب الجنة دار السلام والإكرام، خالدون مقيمون فيها لا يبرحونها.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: للذين أحسنوا في عبادة الخالق، بأن عبدوه على وجه المراقبة والنصيحة في عبوديته، وقاموا بما قدروا عليه منها، وأحسنوا إلى عباد الله بما يقدرون عليه من الإحسان القولي والفعلي، من بذل الإحسان المالي، والإحسان البدني، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهلين، ونصيحة المعرضين، وغير ذلك من وجوه البر والإحسان. ثم ذكر اندفاع المحذور عنهم فقال: {وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ ْ} أي: لا ينالهم مكروه، بوجه من الوجوه، لأن المكروه، إذا وقع بالإنسان، تبين ذلك في وجهه، وتغير وتكدر.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة {ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [يونس: 25] لأن الهداية بمن يشاء تفيد مهدياً وغير مهدي. ففي هذه الجملة ذِكر ما يشتمل عليه كلا الفريقين، ولك أن تجعلها بدل مفصَّل من مجمل.
ولما أوقع ذكر الذين أحسنوا في جملة البيان عَلم السامع أنهم هم الذين هداهم الله إلى صراط مستقيم وأن الصراط المستقيم هو العمل الحسن، وأن الحُسنى هي دار السلام. ويشرح هذه الآية قوله تعالى في سورة [الأنعام: 125 127]: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون وهذا صراط ربك مستقيماً قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون}.
والحسنى: في الأصل صفةُ أثنى الأحسن، ثم عوملت معاملة الجنس فأدخلت عليها لام تعريف الجنس فبعدت عن الوصفية ولَم تَتبع موصوفها.
وتعريفها يفيد الاستغراق، مثل البُشرى، ومثل الصالحة التي جمعها الصالحات. والمعنى: للذين أحسنوا جنسُ الأحوال الحسنى عندهم، أي لهم ذلك في الآخرة. وبذلك تعين أن ماصْدقها الذي أريد بها هو الجنة لأنها أحسن مثوبة يصير إليها الذين أحسنوا وبذلك صيرها القرآن علماً بالغلبة على الجنة ونعيمها من حصول الملاذ العظيمة.
والزيادة يتعين أنها زيادة لهم ليست داخلة في نوع الحُسنى بالمعنى الذي صار علماً بالغلبة، فلا ينبغي أن تفسر بنوع مما في الجنة لأنها تكون حينئذٍ مما يستغرقه لفظ الحسنى فتعين أنها أمر يرجع إلى رفعة الأقدار، فقيل: هي رضى الله تعالى كما قال: {ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر} [التوبة: 72]، وقيل: هي رؤيتهم الله تعالى. وقد ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في « صحيح مسلم» و« جامع الترمذي» عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، قالوا: ألم تبيض وجوهنا وتنجنا من النار وتدخلنا الجنة، قال: فيُكشف الحجاب، قال: فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه. وهو أصرح ما ورد في تفسيرها.
والرهق: الغشيان. وفعله من باب فرح.
والقَتَرُ: لوْنٌ هو غُبرة إلى السواد. ويقال له قترة والذي تخلص لي من كلام الأيمة والاستعمال أن القترة لون يغشى جلدة الوجه من شدة البؤس والشقاء والخوفِ. وهو من آثار تهيج الكَبد من ارتجاف الفؤاد خوفاً وتوقعاً.
والذلة: الهوان. والمراد أثر الذلة الذي يبدو على وجه الذليل. والكلام مستعمل في صريحه وكنايته، أي لا تتشوه وجوههم بالقتر وأثر الذلة ولا يحصل لهم ما يؤثر القتر وهيئة الذلة.
وليس معنَى نفي القتر والذلة عنهم في جملة أوصافهم مديحاً لهم لأن ذلك لا يخطر بالبال وقوعاً بعد أن أثبت لهم الحسنى وزيادة بل المعنى التعريض بالذين لم يهدهم الله إلى صراط مستقيم وهم الذين كسبوا السيئات تعجيلاً للمساءة إليهم بطريق التعريض قبل التصريح الذي يأتي في قوله: {وتَرهقهم ذلة} إلى قوله: {مظلماً} [يونس: 27].
وجملة: {أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} نتيجة للمقدمة، فبينها وبين التي قبلها كمال الاتصال ولذلك فصلت عنها ولم تعطف.
واسم الإشارة يرجع إلى {الذين أحسنوا}. وفيه تنبيه على أنهم استحقوا الخلود لأجل إحسانهم نظير قوله: {أولئك على هدى من ربهم} [البقرة: 5].
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
والنقطة الأُخرى التي ينبغي الالتفات إِليها هنا، هي أن من الممكن أن تستمر هذه الزيادة والإِضافة حتى في عالم الآخرة، أي أنّه في كل يوم سيمنحهم الله سبحانه موهبة ولطفاً جديداً، وهذا يبيّن أن حياة العالم الآخر ليست على وتيرة واحدة، بل تستمر في حركتها نحو التكامل الى ما لانهاية...