60- واذكر - أيها النبي - حين قلنا لك : إن ربك أحاط بالناس ، فهم في قبضة قدرته ، فبلِّغهم ولا تخف أحداً فهو يعصمك منهم ، وما جعلنا ما عاينته ليلة الإسراء من العجائب إلا امتحاناً واختباراً للناس ، يزداد به إيمان المؤمن وكفر الكافر ، وما جعلنا الشجرة المذمومة في القرآن - وهي شجرة الزَّقوم التي تنبت في أصل الجحيم - إلا اختباراً لهم أيضاً ، إذ قالوا : النار تحرق الشجر ، فكيف تنبته ؟ ونخوفهم بها ، فما يزيدهم تخويفنا إلا تجاوزا للحد الكبير .
أما الخوارق التي وقعت للرسول [ ص ] وأولها خارقة الإسراء والمعراج فلم تتخذ معجزة مصدقة للرسالة . إنما جعلت فتنة للناس وابتلاء .
( وإذ قلنا لك : إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ، والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ) .
ولقد ارتد بعض من كان آمن بالرسول [ ص ] بعد حادثة الإسراء ، كما ثبت بعضهم وازداد يقينا . ومن ثم كانت الرؤيا التي أراها الله لعبده في تلك الليلة " فتنة للناس " وابتلاء لإيمانهم . أما إحاطة الله بالناس فقد كانت وعدا من الله لرسوله بالنصر ، وعصمة له من أن تمتد أيديهم إليه .
ولقد أخبرهم بوعد الله له وبما أطلعه الله عليه في رؤياه الكاشفة الصادقة . ومنه شجرة الزقوم التي يخوف الله بها المكذبين . فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل متهكما : هاتوا لنا تمرا وزبدا ، وجعل يأكل من هذا بهذا ويقول : تزقموا فلا نعلم الزقوم غير هذا !
فماذا كانت الخوارق صانعة مع القوم لو كانت هي آية رسالته كما كانت علامة الرسالات قبله ومعجزة المرسلين ? وما زادتهم خارقة الإسراء ولا زادهم التخويف بشجرة الزقوم إلا طغيانا كبيرا ?
إن الله لم يقدر إهلاكهم بعذاب من عنده . ومن ثم لم يرسل إليهم بخارقة . فقد اقتضت إرادته أن يهلك المكذبين بالخوارق . أما قريش فقد أمهلت ولم تؤخذ بالإبادة كقوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب . . ومن المكذبين من آمن بعد ذلك وكان من جند الإسلام الصادقين . ومنهم من أنجب المؤمنين الصادقين . وظل القرآن - معجزة الإسلام - كتابا مفتوحا لجيل محمد [ ص ] وللأجيال بعده ، فآمن به من لم يشهد الرسول وعصره وصحابته . إنما قرأ القرآن أو صاحب من قرأه . وسيبقى القرآن كتابا مفتوحا للأجيال ، يهتدي به من هم بعد في ضمير الغيب ، وقد يكون منهم من هو أشد إيمانا وأصلح عملا ، وأنفع للإسلام من كثير سبقوه .
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم محرّضًا له على إبلاغ رسالته ، ومخبرًا له بأنه قد عصمه من الناس ، فإنه القادر عليهم ، وهم في قبضته وتحت قهره وغلبته .
قال مجاهد ، وعروة بن الزبير ، والحسن ، وقتادة ، وغيرهم في قوله : { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ } أي : عصمك منهم .
وقوله : { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } قال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } قال : هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم{[17632]} ليلة أسري به { وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ } شجرة الزقوم{[17633]} .
وكذا رواه أحمد ، وعبد الرزاق ، وغيرهما ، عن سفيان بن عيينة به{[17634]} ، وكذا رواه العوفي ، عن ابن عباس ، وهكذا فسر ذلك بليلة الإسراء : مجاهد ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، ومسروق ، وإبراهيم ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد ، وغير واحد . وقد تقدمت أحاديث الإسراء في أول السورة مستقصاة ، ولله{[17635]} الحمد والمنة . وتقدم أن ناسًا رجعوا عن دينهم بعدما كانوا على الحق ؛ لأنه لم تحمل قلوبهم وعقولهم ذلك ، فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ، وجعل الله ذلك ثباتًا ويقينًا لآخرين ؛ ولهذا{[17636]} قال : { إِلا فِتْنَةً } أي : اختبارًا وامتحانًا . وأما " الشجرة الملعونة " ، فهي شجرة الزقوم ، كما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى الجنة والنار ، ورأى شجرة الزقوم ، فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل لعنه الله{[17637]} [ بقوله ]{[17638]} هاتوا لنا تمرًا وزبدًا ، وجعل يأكل هذا بهذا ويقول : تَزَقَّموا ، فلا نعلم الزقوم غير هذا .
حكى ذلك ابن عباس ، ومسروق ، وأبو مالك ، والحسن البصري ، وغير واحد ، وكل من قال : إنها ليلة الإسراء ، فسره كذلك{[17639]} بشجرة الزقوم .
وقد قيل : المراد بالشجرة الملعونة : بنو أمية . وهو غريب ضعيف .
قال ابن جرير : حدثت عن محمد بن الحسن بن زَبَالة ، حدثنا عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد ، حدثني أبي عن جدي قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني فلان ينزون على منبره نزو القرود{[17640]} فساءه ذلك ، فما استجمع ضاحكًا حتى مات . قال : وأنزل{[17641]} الله في ذلك : { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } الآية{[17642]} .
وهذا السند ضعيف جدًا ؛ فإن " محمد بن الحسن بن زَبَالة " متروك ، وشيخه أيضًا ضعيف بالكلية . ولهذا اختار ابن جرير : أن المراد بذلك ليلة الإسراء ، وأن الشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم ، قال : لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك ، أي : في الرؤيا والشجرة .
وقوله : { وَنُخَوِّفُهُمْ } أي : الكفار بالوعيد والعذاب والنكال { فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا } أي : تماديا فيما هم فيه من الكفر والضلال . وذلك من خذلان الله لهم .
قال الطبري : معنى قوله : { وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس } أي في منعك يا محمد وحياطتك وحفظك ، فالآية إخبار له بأنه محفوظ من الكفرة ، آمن أن يقتل أو ينال بمكروه عظيم ، أي فالتبليغ رسالة ربك ، ولا تتهيب أحداً من المخلوقين ، وهذا تأويل بيّن جار مع اللفظ ، وقد روي نحوه عن الحسن بن أبي الحسن والسدي ، إلا أنه لا يناسب ما بعده مناسبة شديدة ، ويحتمل أن يجعل الكلام مناسباً لما بعده ، توطئة له ، فأقول : اختلف الناس في { الرؤيا } ، فقال الجمهور : هي رؤيا عين ويقظة ، وهي ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء ، قالوا : فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة الإسراء بما رأى في تلك الليلة من العجائب ، قال الكفار إن هذا لعجيب تحت الحداة إلى بيت المقدس شهرين إقبالاً وإدباراً ، ويقول محمد إنه جاءه من ليلة وانصرف منه ، فافتتن بهذا التلبيس قوم من ضعفة المسلمين ، فارتدوا وشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآيات فعلى هذا ، يحسن أن يكون معنى قوله { وإذا قلنا لك إن ربك أحاط بالناس } أي : في إضلالهم وهدايتهم ، وأن كل واحد ميسر لما خلق له ، أي فلا تهتم أنت بكفر من كفر ، ولا تحزن عليهم ، فقد قيل لك إن الله محيط بهم مالك لأمرهم ، وهو جعل رؤياك هذه فتنة ليكفر من سبق عليه الكفر ، وسميت الرؤية في هذا التأويل «رؤيا » ، إذ هما مصدران من رأى ، وقال النقاش جاء ذلك على اعتقاد من اعتقد أنها منامة وإن كانت الحقيقة غير ذلك . وقالت عائشة { الرؤيا } في الإسراء رؤيا منام ، وهذا قول الجمهور على خلافه ، وهذه الآية تقضي بفساده ، وذلك أن رؤيا المنام لا فتنة فيها ، وما كان أحد لينكرها ، وقد ذكر هذا مستوعباً في صدر السورة ، وقال ابن عباس : { الرؤيا } التي في هذه الآية ، هي رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يدخل مكة ، فعجل في سنة الحديبية فرد ، فافتتن المسلمون بذلك ، فنزلت الآيات ، وقال سهل بن سعد : إنما هذه «الرؤيا » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى بني أمية ينزون على منبره نزو القردة ، فاهتم لذلك وما استجمع ضاحكاً من يومئذ حتى مات ، فنزلت الآية مخبرة أن ذلك من ملكهم وصعودهم المنابر ، إنما يجعلها الله فتنة للناس وامتحاناً ، ويجيء قوله { أحاط بالناس } أي بأقداره ، وأن كل ما قدره نافذ ، فلا تهتم بما يكون بعدك من ذلك وقد قال الحسن بن علي ، في خطبته في شأن بيعته لمعاوية { وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين }{[7616]} ، وفي هذا التأويل نظر ، ولا يدخل في هذه «الرؤيا » عثمان بن عفان ، ولا عمر بن عبد العزيز ، ولا معاوية ، وقوله { والشجرة الملعونة في القرآن } : معطوفة على قوله { الرؤيا } ، أي جعلنا الرؤيا والشجرة فتنة { والشجرة } هنا في قول الجمهور هي شجرة الزقوم ، وذلك أن أمرها لما نزل في سورة الصافات قال أبو جهل وغيره هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة ، ثم يزعم أنها تنبت الشجر ، والنار تأكل الشجر وما نعرف الزقوم إلا التمر بالزبد ، ثم أمر أبو جهل جارية له ، فأحضرت تمراً وزبداً وقال لأصحابه تزقموا ، فافتتن أيضاً بهذه المقالة بعض الضعفاء ، فأخبر الله نبيه أنه إنما جعل الإسراء وذكر شجرة الزقوم فتنة واختباراً ليكفر من سبق عليه الكفر ، ويصدق من سبق له الإيمان ، كما روي أن أبا بكر الصديق ، قيل له ، صبيحة الإسراء إن صاحبك يزعم أنه جاء البارحة بيت المقدس وانصرف منه فقال إن كان قال ذلك فلقد صدق ، فقيل له : أتصدقه قبل أن تسمع منه ، قال : أين عقولكم ، أنا أصدقه بخبر السماء فكيف لا أصدقه بخبر بيت المقدس والسماء أبعد منها بكثير{[7617]} . وقالت فرقة : { والشجرة } : إشارة إلى القوم المذكورين قبل في { الرؤيا } .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ضعيف محدث ، وليس هذا عن سهل بن سعد ، ولا مثله ، وقال الطبري عن ابن عباس : إن { الشجرة الملعونة } يريد الملعون آكلها ، لأنها لم يجر لها ذكر .
قال القاضي أبو محمد : ويصح أن يريد { الملعونة } ، هنا فأكد الأمر بقوله { في القرآن } وقالت فرقة : { الملعونة } ، المبعدة المكروهة ، وهذا أراد لأنها لعنها بلفظ اللعنة المتعارف ، وهذا قريب في المعنى من الذي قبله ، وأيضاً فما ينبت في أصل الجحيم ، فهو في نهاية البعد من رحمة الله ، وقوله { ونخوفهم } يريد : إما كفار مكة ، وإما الملوك من بني أمية بعد الخلافة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم ، «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم تكون ملكاً عضوضاً »{[7618]} والأول منها أصوب كما قلنا قبل ، وقوله { فما يزيدهم إلا طغياناً كبيراً } يريد كفرهم وانتهاكهم فيه كقول أبي جهل في الزقوم والتزقم ، فقد قال النقاش إن في ذلك نزلت ، وفي نحوه وقرأ الأعمش «ويخوفهم » وقرأ الجمهور و «ونخوفهم » بالنون .