53- يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا في حال إذنه لكم لتناول الطعام غير منتظرين وقت إدراكه ، ولكن إذا دعاكم الرسول فادخلوا ، فإذا طعمتم فانصرفوا ، ولا تمكثوا بعد ذلك مستأنسين لحديث بعضكم بعضا . لأن الدخول بدون إذنه وإطالة المكث بعد الطعام كان يؤذى النبي فيستحيي أن يطلب إليكم الخروج ، ولكن الله - تعالى - لا يمنعه من الجهر بالحق ما يمنع المخلوقين ، وإذا سألتم إحدى زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - حاجة فاسألوهن من وراء حجاب ، ذلك أعظم طهارة لقلوبكم وقلوبهن من وساوس الشيطان ، وما صح لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تتزوجوا نساءه من بعده أبدا . احتراما له ولهن . إن ذلكم كان عند الله ذنباً عظيما{[179]} .
بعد ذلك ينظم القرآن علاقة المسلمين ببيوت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وبنسائه - أمهات المؤمنين - في حياته وبعد وفاته كذلك . ويواجه حالة كانت واقعة ، إذ كان بعض المنافقين والذين في قلوبهم مرض يؤذون النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في بيوته وفي نسائه . فيحذرهم تحذيرا شديدا ، ويريهم شناعة جرمهم عند الله وبشاعته . و يهددهم بعلم الله لما يخفون في صدورهم من كيد وشر :
( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام - غير ناظرين إناه - ولكن إذا دعيتم فادخلوا ، فإذا طعمتم فانتشروا . ولا مستأنسين لحديث . إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق . وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب . ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن . وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ، ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا . إن ذلكم كان عند الله عظيما . إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما ) . .
روى البخاري - بإسناده - عن أنس بن مالك قال : بنى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بزينب بنت جحش بخبز ولحم . فأرسلت على الطعام داعيا . فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون . ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون . فدعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه . فقلت : يا رسول الله ما أجد أحدا أدعوه . قال : " ارفعوا طعامكم " . وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت . فخرج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فانطلق إلى حجرة عائشة - رضي الله عنها - فقال " السلام عليكم - أهل البيت - ورحمة الله وبركاته " . قالت : وعليك السلام ورحمة الله . كيف وجدت أهلك يا رسول الله ? " بارك الله لك " . فتقرى حجر نسائه ، كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة ، ويقلن كما قالت عائشة . ثم رجع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون . وكان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] شديد الحياء . فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة . فما أدري أخبرته أم أخبر أن القوم خرجوا . فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخله والأخرى خارجه . أرخى الستر بيني وبينه ، وأنزلت آية الحجاب .
والآية تتضمن آدابا لم تكن تعرفها الجاهلية في دخول البيوت ، حتى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان الناس يدخلون البيوت بلا إذن من أصحابها - كما جاء في شرح آيات سورة النور الخاصة بالاستئذان - وربما كان هذا الحال أظهر في بيوت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بعد أن أصبحت هذه البيوت مهبط العلم والحكمة وكان بعضهم يدخل وحين يرى طعاما يوقد عليه يجلس في انتظار نضج هذا الطعام ليأكل بدون دعوة إلى الطعام ! وكان بعضهم يجلس بعد الطعام - سواء كان قد دعي إليه أو هجم هو عليه دون دعوة - ويأخذ في الحديث والسمر غير شاعر بما يسببه هذا من إزعاج للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأهله . وفي رواية أن أولئك الثلاثة الرهط الذين كانوا يسمرون كانوا يفعلون هذا وعروس النبي - زينب بنت جحش - جالسة وجهها إلى الحائط ! والنبي [ صلى الله عليه وسلم ] يستحيي أن ينبههم إلى ثقلة مقامهم عنده حياء منه ، ورغبة في ألا يواجه زواره بما يخجلهم ! حتى تولى الله - سبحانه - عنه الجهر بالحق ( والله لا يستحيي من الحق ) .
ومما يذكر أن عمر - رضي الله عنه - بحساسيته المرهفة كان يقترح على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] الحجاب ؛ وكان يتمناه على ربه . حتى نزل القرآن الكريم مصدقا لاقتراحه مجيبا لحساسيته !
من رواية للبخاري - بإسناده - عن أنس بن مالك . قال : قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله . يدخل عليك البر والفاجر . فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب . فأنزل الله آية الحجاب . . . ؛
وجاءت هذه الآية تعلم الناس ألا يدخلوا بيوت النبي بغير إذن . . فإذا دعوا إلى الطعام دخلوا . فأما إذا لميدعوا فلا يدخلون يرتقبون نضجه ! ثم إذا طعموا خرجوا ، ولم يبقوا بعد الطعام للسمر والأخذ بأطراف الحديث . وما أحوج المسلمين اليوم إلى هذا الأدب الذي يجافيه الكثيرون . فإن المدعوين إلى الطعام يتخلفون بعده ، بل إنهم ليتخلفون على المائدة ، ويطول بهم الحديث ؛ وأهل البيت - الذين يحتفظون ببقية من أمر الإسلام بالاحتجاب - متأذون محتبسون ، والأضياف ماضون في حديثهم وفي سمرهم لا يشعرون ! وفي الأدب الإسلامي غناء وكفاء لكل حالة ، لو كنا نأخذ بهذا الأدب الإلهي القويم .
ثم تقرر الآية الحجاب بين نساء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] والرجال :
( وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ) . .
وتقرر أن هذا الحجاب أطهر لقلوب الجميع :
( ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ) . .
فلا يقل أحد غير ما قال الله . لا يقل أحد إن الاختلاط ، وإزالة الحجب ، والترخص في الحديث واللقاء والجلوس والمشاركة بين الجنسين أطهر للقلوب ، وأعف للضمائر ، وأعون على تصريف الغريزة المكبوتة ، وعلى إشعار الجنسين بالأدب وترقيق المشاعر والسلوك . . إلى آخر ما يقوله نفر من خلق الله الضعاف المهازيل الجهال المحجوبين . لا يقل أحد شيئا من هذا والله يقول : ( وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ) . . يقول هذا عن نساء النبي الطاهرات . أمهات المؤمنين . وعن رجال الصدر الأول من صحابة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ممن لا تتطاول إليهن وإليهم الأعناق ! وحين يقول الله قولا . ويقول خلق من خلقه قولا . فالقول لله - سبحانه - وكل قول آخر هراء ، لا يردده إلا من يجرؤ على القول بأن العبيد الفانين أعلم بالنفس البشرية من الخالق الباقي الذي خلق هؤلاء العبيد !
والواقع العملي الملموس يهتف بصدق الله ، وكذب المدعين غير ما يقوله الله . والتجارب المعروضة اليوم في العالم مصدقة لما نقول . وهي في البلاد التي بلغ الاختلاط الحر فيها أقصاه أظهر في هذا وأقطع من كل دليل . [ وأمريكا أول هذه البلاد التي آتى الاختلاط فيها أبشع الثمار ] .
وقد ذكرت الآية أن مجيئهم للطعام منتظرين نضجه من غير دعوة ؛ وبقاءهم بعد الطعام مستأنسين للحديث . . كان يؤذي النبي فيستحيي منهم . وفي ختامها تقرر أنه ما يكون للمسلمين أن يؤذوا رسول الله . وكذلك ما يكون لهم أن يتزوجوا أزواجه من بعده ؛ وهن بمنزلة أمهاتهم . ومكانهن الخاص من رسول الله يحرم أن ينكحهن أحد من بعده ، احتفاظا بحرمة هذا البيت وجلاله وتفرده :
( وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ، ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا ) . .
وقد ورد أن بعض المنافقين قال : إنه ينتظر أن يتزوج من عائشة !
قال{[23739]} البخاري : حدثنا محمد بن عبد الله الرَّقاشي ، حدثنا مُعْتَمر بن سليمان ، سمعت أبي ، حدثنا أبو مِجْلَز ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش ، دعا القوم فَطَعموا ثم جلسوا يتحدثون ، فإذا هو [ كأنه ]{[23740]} يتهيأ{[23741]} للقيام فلم يقوموا . فلما رأى ذلك قام ، فلما قام [ قام ]{[23742]} مَنْ قام ، وقعد ثلاثة نفر . فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل ، فإذا القوم جلوس ، ثم إنهم قاموا فانطلقت ، فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا . فجاء حتى دخل ، فذهبت أدخل ، فألقي [ الحجاب ]{[23743]} بيني وبينه ، فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ } الآية .
وقد رواه أيضا في موضع آخر ، ومسلم والنسائي ، من طرق ، عن معتمر بن سليمان ، به{[23744]} . ثم رواه البخاري منفردا به من حديث أيوب ، عن أبي قِلابة ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، [ بنحوه {[23745]} . ثم قال {[23746]} : حدثنا أبو معمر ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس بن مالك ] {[23747]} قال : بُني [ على ] {[23748]} النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بخبز ولحم ، فأرسلْتُ على الطعام داعيا ، فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون ، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون . فدعوتُ حتى ما أجد أحدا أدعوه ، فقلت : يا نبي الله ، ما أجد أحدا أدعوه . قال : " ارفعوا طعامكم " ، وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة ، فقال : " السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته " . قالت : وعليك السلام ورحمة الله ، كيف وجدت أهلك ، بارك الله لك ؟ فَتَقَرّى حجر نسائه كُلّهن ، يقول لهن كما يقول لعائشة ، ويقلن له كما قالت عائشة . ثم رجع رسول الله{[23749]} صلى الله عليه وسلم فإذا رهط ثلاثة [ في البيت ]{[23750]} يتحدثون . وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء ، فخرج منطلقا نحو حُجْرة عائشة ، فما أدري أخبرتُه أم أخبر أن القوم خَرَجُوا ؟ فرجع حتى إذا وضع رجله في أُسْكُفة الباب داخله ، وأخرى خارجة ، أرْخَى الستر بيني وبينه ، وأنزلت آية الحجاب .
انفرد به البخاري من بين أصحاب الكتب [ الستة ]{[23751]} ، سوى النسائي في اليوم والليلة ، من حديث عبد الوارث{[23752]} .
ثم رواه عن إسحاق - هو ابن منصور - عن عبد الله بن بكر{[23753]} السهمي ، عن حُمَيد ، عن أنس ، بنحو ذلك{[23754]} ، وقال : " رجلان " انفرد به من هذا الوجه . وقد تقدم في أفراد مسلم من حديث سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس .
وقال ابن أبي حاتم{[23755]} : حدثنا أبي ، حدثنا أبو المظفر ، حدثنا جعفر بن سليمان ، عن الجعد - أبي عثمان اليَشْكُرِي - عن أنس بن مالك قال : أعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض نسائه ، فصنعت أم سليم حيسا ثم وضعته{[23756]} في تَوْر ، فقالت : اذهب بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقرئه مني السلام ، وأخبره أن هذا منا له قليل - قال أنس : والناس يومئذ في جَهد - فجئت به فقلت : يا رسول الله ، بعثت بهذا أم سُلَيم إليك ، وهي تقرئك السلام ، وتقول : أخبره أن هذا منا له قليل ، فنظر إليه ثم قال : " ضعه " فوَضَعته في ناحية البيت ، ثم قال : " اذهب فادع لي فلانا وفلانا " . وسمى رجالا كثيرا ، وقال : " ومَنْ لقيتَ من [ المسلمين " . فدعوتُ مَنْ قال لي ، ومَنْ لقيت من ]{[23757]} المسلمين ، فجئت والبيت والصُّفَّة والحجرة مَلأى من الناس - فقلت : يا أبا عثمان ، كم كانوا ؟ فقال : كانوا زهاء ثلاثمائة - قال أنس : فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جِئْ به " . فجئتُ به إليه ، فوضع يده عليه ، ودعا وقال : " ما شاء الله " . ثم قال : " ليتَحَلَّق عَشَرة عَشَرة ، وليسموا{[23758]} ، وليأكل كل إنسان مما يليه " . فجعلوا يسمون ويأكلون ، حتى أكلوا كلهم . فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ارفعه " . قال : فجئتُ فأخذت التَّورَ فما أدري أهو حين وضعت أكثر أم حين أخذت ؟ قال : وتخلف رجال يتحدثون في بيت رسول الله ، وزَوجُ رسول الله صلى الله عليه وسلم التي دخل بها معهم مُولّية وجهها إلى الحائط ، فأطالوا الحديث ، فشقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أشد الناس حياء - ولو أعلموا{[23759]} كان ذلك عليهم عزيزًا - فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فسلم على حُجَره وعلى نسائه ، فلما رأوه قد جاء ظنوا أنهم قد ثَقَّلوا عليه ، ابتدروا الباب فخرجوا ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرخى الستر ، ودخل البيت وأنا في الحجرة ، فمكث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في بيته يسيرا ، وأنزل الله عليه القرآن ، فخرج وهو يقرأ هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا } إلى قوله : { بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } . قال أنس : فقرأهن عَليّ قبل الناس ، فأنا أحْدثُ الناس بهن عهدا .
وقد رواه مسلم والترمذي والنسائي جميعا ، عن قتيبة ، عن جعفر بن سليمان ، به{[23760]} . وقال الترمذي : حسن صحيح وعَلَّقه البخاري في كتاب النكاح فقال :
وقال إبراهيم بن طَهْمَان ، عن الجَعْد أبي عثمان ، عن أنس ، فذكر نحوه{[23761]} .
ورواه مسلم أيضا عن محمد بن رافع ، عن عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الجعد ، به{[23762]} . وقد روى هذا الحديث عبد الله بن المبارك ، عن شَرِيك ، عن بيان بن بشر ، عن أنس ، بنحوه .
وروى{[23763]} البخاري والترمذي ، من طريقين آخرين ، عن بَيَان بن بشر الأحَمَسِي الكوفي ، عن أنس ، بنحوه{[23764]} .
ورواه ابن أبي حاتم أيضا ، من حديث أبي نَضْرَة العبدي ، عن أنس بن مالك ، بنحوه{[23765]} ورواه ابن جرير من حديث عمرو بن سعيد ، ومن حديث الزهري ، عن أنس ، بنحو ذلك{[23766]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا بَهْزُ وهاشم بن القاسم قالا حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس قال : لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليزيد " اذهب فاذكرها علي " . قال : فانطلق زيد حتى أتاها ، قال : وهي تُخَمِّر عجينها ، فلما رأيتُها عَظُمت في صدري . . . وذكر تمام الحديث ، كما قدمناه عند قوله : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا } ، وزاد في آخره بعد قوله : وَوَعَظ القوم بما وعظوا به . قال هاشم في حديثه : { لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ } .
وقد أخرجه مسلم والنسائي ، من حديث سليمان بن المغيرة{[23767]} ، به{[23768]} .
وقال{[23769]} ابن جرير : حدثني أحمد بن عبد الرحمن - ابن أخي ابن وهب - حدثني عمي عبد الله بن وهب ، حدثني يونس عن الزهري ، عن عُرْوَة ، عن عائشة قالت : إن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم كُنّ يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع - وهو صعيد أفيح - وكان عمر يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : احجب نساءك . فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفعل ، فخرجت سودة بنت زمعة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت امرأة طويلة ، فناداها عمر بصوته الأعلى : قد عرفناك يا سودة . حرْصًا أن{[23770]} ينزل الحجاب ، قالت{[23771]} : فأنزل الله الحجاب{[23772]} .
هكذا وقع في هذه الرواية . والمشهور أن هذا كان بعد نزول الحجاب ، كما رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم ، من حديث هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها ، وكانت امرأة جَسيمَةً لا تخفَى على مَنْ يعرفها ، فرآها عمر بن الخطاب فقال : يا سودة ، أما والله ما تَخْفَين علينا ، فانظري كيف تخرجين ؟ قالت : فانكفأت راجعة ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في بيتي ، وإنه ليتعشى ، وفي يده عَرْق ، فدخلت فقالت : يا رسول الله ، إني خرجت لبعض حاجتي ، فقال لي عمر كذا وكذا . قالت : فأوحى الله إليه ، ثم رُفعَ عنه وإن العَرْق في يده ، ما وضعه . فقال : " إنه قد أذنَ لكن أن تخرجن لحاجتكن " . لفظ البخاري{[23773]} .
فقوله : { لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ } : حَظَر على المؤمنين أن يدخلوا منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذن ، كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام ، حتى غار الله لهذه الأمة ، فأمرهم بذلك ، وذلك من إكرامه تعالى هذه الأمة ؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إياكم والدخول على النساء " {[23774]} .
ثم استثنى من ذلك فقال : { إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } .
قال مجاهد وقتادة وغيرهما : أي غير متحينين نضجه واستواءه ، أي : لا ترقبوا الطعام حتى{[23775]} إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول ، فإن هذا يكرهه الله ويذمه . وهذا دليل على تحريم التطفيل ، وهو الذي تسميه العرب الضيفن ، وقد صنف الخطيب البغدادي في ذلك كتابا في ذم الطفيليين . وذكر من أخبارهم أشياء يطول إيرادها .
ثم قال تعالى : { وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا } . وفي صحيح مسلم عن ابن عمر ، رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا دعا أحدكم أخاه فَلْيجب ، عُرسًا كان أو غيره " {[23776]} . وأصله في الصحيحين وفي الصحيح أيضا ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو دُعيت إلى ذراع لأجبت ، ولو أهدي إليَّ كُرَاع لقبلت ، فإذا فَرَغتم من الذي دُعيتم إليه فخففوا عن أهل المنزل ، وانتشروا في الأرض " {[23777]} ؛ ولهذا قال : { وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } أي : كما وقع لأولئك النفر الثلاثة الذين استرسل بهم الحديث ، ونسُوا أنفسهم ، حتى شَقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قال [ الله ]{[23778]} تعالى : { إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ }{[23779]} .
وقيل : المراد أن دخولكم منزله بغير إذنه{[23780]} كان يشق عليه ويتأذى به ، لكن كان يكره أن ينهاهم عن ذلك من شدة حيائه ، عليه السلام ، حتى أنزل الله عليه النهي عن ذلك ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ } أي : ولهذا نهاكم عن ذلك وزجرَكم عنه .
ثم قال تعالى : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } أي : وكما نهيتكم عن الدخول عليهن ، كذلك لا تنظروا إليهن بالكلية ، ولو كان لأحدكم{[23781]} حاجة يريد تناولها منهن فلا ينظر إليهن ، ولا يسألهن حاجة إلا من وراء حجاب .
وقال{[23782]} ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن مِسْعَر ، عن موسى بن أبي كثير ، عن مجاهد ، عن عائشة قالت : كنت آكل مع النبي{[23783]} صلى الله عليه وسلم حَيْسًا في قَعْب ، فمر عمر فدعاه ، فأصابت إصبعه إصبعي ، فقال : حَسِّ{[23784]} - أو : أوّه - لو أطاع فيكن ما رأتك{[23785]} عين . فنزل الحجاب{[23786]} .
{ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } أي : هذا الذي أمرتكم به وشرعته لكم من الحجاب أطهر وأطيب .
وقوله : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا } : قال{[23787]} ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن أبي حماد ، حدثنا مهْرَان ، عن سفيان ، عن داود بن أبي هند ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ } قال : نزلت في رَجُل هَمّ أن يتزوج بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم . قال رجل لسفيان : أهي عائشة ؟ قال : قد ذكروا ذاك .
وكذا قال مقاتل بن حَيَّان ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وذكر بسنده عن السدي أن الذي عزم على ذلك طلحة بن عبيد الله ، رضي الله عنه ، حتى نزل التنبيه على تحريم ذلك ؛ ولهذا أجمع العلماء قاطبة على أن من توفي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه{[23788]} أنه يحرم على غيره تزويجها من بعده ؛ لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة وأمهات المؤمنين ، كما تقدم . واختلفوا فيمن دخل بها ثم طلقها في حياته{[23789]} هل يحل لغيره أن يتزوجها ؟ على قولين ، مأخذهما : هل دخلت هذه في عموم قوله : { مِنْ بَعْدِهِ } أم لا ؟ فأما من تزوجها ثم طلقها قبل أن يدخل بها ، فما نعلم في حلها لغيره - والحالة هذه - نزاعا ، والله أعلم .
وقال{[23790]} ابن جرير : حدثني [ محمد ]{[23791]} بن المثنى ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا داود ، عن عامر ؛ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم مات وقد ملك قيلة بنت{[23792]} الأشعث - يعني : ابن قيس - فتزوجها عكرمة بن أبي جهل بعد ذلك ، فشق ذلك على أبي بكر مشقة شديدة ، فقال له عمر : يا خليفة رسول الله ، إنها ليست من نسائه ، إنها لم يُخَيّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يحجبها ، وقد برأها الله منه بالردة التي ارتدت مع قومها . قال : فاطمأن أبو بكر ، رضي الله عنهما{[23793]} وسكن{[23794]} .
وقد عظم الله تبارك وتعالى ذلك ، وشدد فيه وتوعد عليه بقوله : { إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا } ،
هذه الآية تضمنت قصتين إحداهما الأدب في أمر الطعام والجلوس الثانية في أمر الحجاب ، فأما الأولى فالجمهور من المفسرين على أن سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش أولم عليها فدعا الناس ، فلما طعموا ، قعد نفر في طائفة من البيت فثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم فخرج ليخرجوا لخروجه ، ومر على حجر نسائه ثم عاد فوجدهم في مكانهم وزينب في البيت معهم ، فلما دخل وراءهم انصرف فخرجوا عند ذلك ، قال أنس بن مالك : فأعلم أو أعلمته بانصرافهم فجاء ، فلما وصل الحجرة أرخى الستر بيني وبينه ودخل ، ونزلت الآية بسبب ذلك{[9558]} ، وقال قتادة ومقاتل وفي كتاب الثعلبي : إن هذا السبب جرى في بيت أم سلمة{[9559]} والأول أشهر ، وقال ابن عباس : نزلت في ناس في المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك ثم يأكلون ولا يخرجون{[9560]} ، وقال إسماعيل بن أبي حكيم : هذا أدب أدّب الله تعالى به الثقلاء ، وقال ابن أبي عائشة في كتاب الثعلبي : بحسبك من الثقلاء إن الشرع لم يحتملهم ، وأما آية الحجاب فقال أنس بن مالك وجماعة سببها أمر العقود في بيت زينب ، القصة المذكورة آنفاً ، وقالت فرقة بل في بيت أم سلمة ، وقال مجاهد سبب آية الحجاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل معه قوم وعائشة معهم فمست يدها يد رجل منهم فنزلت آية الحجاب بسبب ذلك ، وقالت عائشة وجماعة سبب الحجاب كلام عمر وأنه كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم مراراً في أن يحجب نساءه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفعل وكان عمر يتابع فخرجت سودة ليلة لحاجتها وكانت امرأة تفرع النساء طولاً فناداها عمر قد عرفناك يا سودة -رصاً على الحجاب{[9561]}-
وقالت له زينب بنت جحش : عجبنا لك يا ابن الخطاب تغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا ، فما زال عمر يتابع حتى نزلت آية الحجاب{[9562]} .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وافقت ربي في ثلاث : منها الحجاب ، ومقام إبراهيم ، و{ عسى ربه إن طلقكن }{[9563]} . الحديث{[9564]} .
وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكر من شاء إلى دار الدعوة ينتظر طبخ الطعام ونضجه في حديث أنس ، وكذلك إذا فرغوا منه جلسوا ، كذلك فنهى الله تعالى المؤمنين عن أمثال ذلك في بيت النبي صلى الله عليه وسلم ودخل في النهي سائر المؤمنين ، والتزم الناس أدب الله تعالى لهم في ذلك فمنعهم من الدخول إلا بإذن عند الأكل لا قبله لانتظار نضج الطعام ، و { ناظرين } معناه منتظرين و { إناه } مصدر أنى الشيء يأنى إذا فرغ وحان آناً ، ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
تمخضت المنون له بيوم . . . أنى ولكل خاتمة تمام{[9565]}
وقرأ الجمهور بفتح النون من «إناه » وأمالها حمزة والكسائي ، ثم أكد المنع وحصر وقت الدخول بأن يكون عن الإذن ، ثم أمر تعالى بعد الطعام بأن يفترق جمعهم وينتشر ، وقوله { ولا مستأنسين } عطف على قوله { غير ناظرين } و { غير } منصوبة على الحال من الكاف والميم في { لكم } أي ناظرين ولا مستأنسين ، وقرأ ابن أبي عبلة «غير » بكسر الراء وجوازه على تقدير «غير ناظرين إناه أنتم {[9566]} » ، وقرأ الأعمش «آناءة » على جمع «أنى » بمدة بعد النون{[9567]} ، وقرأت فرقة «فيستحيي » بإظهار الياء المكسورة قبل الساكنة ، وقرأت فرقة «فيستحيي » بسكون الياء دون ياء مكسورة قبلها ، وقوله { والله لا يستحيي } معناه لا يقع منه ترك قوله { الحق } ولما كان ذلك يقع من البشر لعلة الاستحياء نفي عن الله تعالى العلة الموجبة لذلك في البشر ، وقوله تعالى : { وإذا سألتموهن متاعاً } الآية هي آية الحجاب ، و «المتاع » عام في جميع ما يمكن أن يطلب على عرف السكنى والمجاورة من المواعين وسائر المرافق للدين والدنيا ، وقوله { ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } يريد من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النّساء وللنساء في أمر الرجال ، وقوله تعالى : { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } الآية روي أنها نزلت بسبب أن بعض الصحابة قال : لو مات رسول الله صلى الله عليه وسلم لتزوجت عائشة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأذى به ، هكذا كنى عنه ابن عباس ببعض الصحابة ، وحكى مكي عن معمر أنه قال هو طلحة بن عبيد الله{[9568]} .
قال الفقيه الإمام القاضي : لله در ابن عباس ، وهذا عندي لا يصح على طلحة ، الله عاصمه منه ، وروي أن رجلاً من المنافقين قال حين تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة بعد أبي سلمة وحفصة بعد خُنَيْس بن حذافة ما بال محمد يتزوج نساءنا والله لو مات لأجلنا السهام على نسائه فنزلت الآية في هذا ، وحرم الله تعالى نكاح أزواجه بعده وجعل لهن حكم الأمهات ، ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب ثم رجعت زوج عكرمة بن أبي جهل قتيلة بنت الأشعث بن قيس وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوجها ولم يبن بها{[9569]} فصعب ذلك على أبي بكر الصديق وقلق منه فقال له عمر : مهلاً يا خليفة رسول الله إنها ليست من نسائه إنه لم يخيرها ولا أرخى عليها حجاباً وقد أبانتها منه ردتها مع قومها ، فسكن أبو بكر{[9570]} ، وذهب عمر إلى أن لا يشهد جنازة زينب بنت جحش إلا ذو محرم منها مراعاة للحجاب ، فدلته أسماء بنت عميس على سترها في النعش في القبة وأعلمته أنها رأت ذلك في بلاد الحبشة فصنعه عمر ، وروي أن ذلك صنع في جنازة فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم .