المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{ٱلتَّـٰٓئِبُونَ ٱلۡعَٰبِدُونَ ٱلۡحَٰمِدُونَ ٱلسَّـٰٓئِحُونَ ٱلرَّـٰكِعُونَ ٱلسَّـٰجِدُونَ ٱلۡأٓمِرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (112)

112- إن أوصاف أولئك الذين باعوا أنفسهم للَّه بالجنة أنهم يكثرون التوبة من هفواتهم إلى اللَّه ، ويحمدونه على كل حال ، ويسعون في سبيل الخير لأنفسهم ولغيرهم ، ويحافظون على صلواتهم . ويؤدونها كاملة في خشوع ، ويأمرون بكل خير يوافق ما جاء به الشرع ، وينهون عن كل شر يأباه الدين ويلتزمون بشريعة اللَّه ، وبشر - أيها الرسول - المؤمنين .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱلتَّـٰٓئِبُونَ ٱلۡعَٰبِدُونَ ٱلۡحَٰمِدُونَ ٱلسَّـٰٓئِحُونَ ٱلرَّـٰكِعُونَ ٱلسَّـٰجِدُونَ ٱلۡأٓمِرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (112)

111

ولكن الجهاد في سبيل اللّه ليس مجرد اندفاعة إلى القتال ؛ إنما هو قمة تقوم على قاعدة من الإيمان المتمثل في مشاعر وشعائر وأخلاق وأعمال . والمؤمنون الذين عقد اللّه معهم البيعة ، والذين تتمثل فيهم حقيقة الإيمان هم قوم تتمثل فيهم صفات إيمانية أصيلة :

( التائبون . العابدون . الحامدون . السائحون . الراكعون الساجدون . الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر . والحافظون لحدود الله ) . .

( التائبون ) . . مما أسلفوا ، العائدون إلى اللّه مستغفرين . والتوبة شعور بالندم على ما مضى ، وتوجه إلى اللّه فيما بقي ، وكف عن الذنب ، وعمل صالح يحقق التوبة بالفعل كما يحققها بالترك . فهي طهارة وزكاة وتوجه وصلاح .

( العابدون ) . . المتوجهون إلى اللّه وحده بالعبادة وبالعبودية ، إقراراً بالربوبية . . صفة هذه ثابتة في نفوسهم تترجمها الشعائر ، كما يترجمها التوجه إلى الله وحده بكل عمل وبكل قول وبكل طاعة وبكل اتباع . فهي إقرار بالألوهية والربوبية للّه في صورة عملية واقعية .

( الحامدون ) . . الذين تنطوي قلوبهم على الاعتراف للمنعم بالنعمة ؛ وتلهج ألسنتهم بحمد اللّه في السراء والضراء . في السراء للشكر على ظاهر النعمة ، وفي الضراء للشعور بما في الابتلاء من الرحمة . وليس الحمد هو الحمد في السراء وحدها ، ولكنه الحمد في الضراء حين يدرك القلب المؤمن أن اللّه الرحيم العادل ما كان ليبتلي المؤمن إلا لخير يعلمه ، مهما خفي على العباد إدراكه .

( السائحون ) . . وتختلف الروايات فيهم . فمنها ما يقول : إنهم المهاجرون . ومنها ما يقول : إنهم المجاهدون . ومنها ما يقول : إنهم المتنقلون في طلب العلم . ومنهم من يقول : إنهم الصائمون . . ونحن نميل إلى اعتبارهم المتفكرين في خلق اللّه وسننه ، ممن قيل في أمثالهم في موضع آخر : ( إن في خلق السماوات والأرض . واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ، الذين يذكرون اللّه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض : ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك ! . . . ) . . فهذه الصفة أليق هنا بالجو بعد التوبة والعبادة والحمد . فمع التوبة والعبادة والحمد يكون التدبر في ملكوت اللّه على هذا النحو الذي ينتهي بالإنابة إلى اللّه ، وإدراك حكمته في خلقه ، وإدراك الحق الذي يقوم عليه الخلق . لا للاكتفاء بهذا الإدراك وإنفاق العمر في مجرد التأمل والاعتبار . ولكن لبناء الحياة وعمرانها بعد ذلك على أساس هذا الإدراك

( الراكعون الساجدون ) . . الذين يقيمون الصلاة ويقومون بالصلاة كأنها صفة ثابتة من صفاتهم ؛ وكأن الركوع والسجود طابع مميز بين الناس لهم .

( الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ) . . وحين يقوم المجتمع المسلم الذي تحكمه شريعة اللّه ، فيدين للّه وحده ولا يدين لسواه ، يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في داخل هذا المجتمع ؛ ويتناول ما يقع فيه من أخطاء وانحرافات عن منهج اللّه وشرعه . . ولكن حين لا يكون في الأرض مجتمع مسلم ؛ وذلك حين لا يكون في الأرض مجتمع الحاكمية فيه للّه وحده ، وشريعة اللّه وحدها هي الحاكمة فيه ، فإن الأمر بالمعروف يجب أن يتجه أولاً إلى الأمر بالمعروف الأكبر ، وهو تقرير ألوهية اللّه وحده سبحانه وتحقيق قيام المجتمع المسلم . والنهي عن المنكر يجب أن يتجه أولاً إلى النهي عن المنكر الأكبر . وهو حكم الطاغوت وتعبيد الناس لغير اللّه عن طريق حكمهم بغير شريعة اللّه . . والذين آمنوا بمحمد - [ ص ] - هاجروا وجاهدوا ابتداء لإقامة الدولة المسلمة الحاكمة بشريعة اللّه ، وإقامة المجتمع المسلم المحكوم بهذه الشريعة . فلما تم لهم ذلك كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في الفروع المتعلقة بالطاعات والمعاصي . ولم ينفقوا قط جهدهم ، قبل قيام الدولة المسلمة والمجتمع المسلم في شيء من هذه التفريعات التي لا تنشأ إلا بعد قيام الأصل الأصيل ! ومفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بد أن يدرك وفق مقتضى الواقع . فلا يبدأ بالمعروف الفرعي والمنكر الفرعي قبل الانتهاء من المعروف الأكبر والمنكر الأكبر ، كما وقع أول مرة عند نشأة المجتمع المسلم !

( والحافظون لحدود اللّه ) . . وهو القيام على حدود اللّه لتنفيذها في النفس وفي الناس . ومقاومة من يضيعها أو يعتدي عليها . . ولكن هذه كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا يقام عليها إلا في مجتمع مسلم . ولا مجتمع مسلم إلا المجتمع الذي تحكمه شريعة اللّه وحدها في أمره كله ؛ وإلا الذي يفرد اللّه سبحانه بالألوهية والربوبية والحاكمية والتشريع ؛ ويرفض حكم الطاغوت المتمثل في كل شرع لم يأذن به اللّه . . والجهد كله يجب أن ينفق ابتداء لإقامة هذا المجتمع . ومتى قام كان هناك مكان للحافظين لحدود اللّه فيه . . كما وقع كذلك أول مرة عند نشأة المجتمع المسلم !

هذه هي الجماعة المؤمنة التي عقد اللّه معها بيعته . وهذه هي صفاتها ومميزاتها : توبة ترد العبد إلى اللّه ، وتكفه عن الذنب ، وتدفعه إلى العمل الصالح . وعبادة تصله باللّه وتجعل اللّه معبوده وغايته ووجهته . وحمد للّه على السراء والضراء نتيجة الاستسلام الكامل للّه والثقة المطلقة برحمته وعدله . وسياحة في ملكوت اللّه مع آيات اللّه الناطقة في الكون الدالة على الحكمة والحق في تصميم الخلق . وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر يتجاوز صلاح الذات إلى إصلاح العباد والحياة . وحفظ لحدود اللّه يرد عنها العادين والمضيعين ، ويصونها من التهجم والانتهاك

هذه هي الجماعة المؤمنة التي بايعها اللّه على الجنة ، واشترى منها الأنفس والأموال ، لتمضي مع سنة اللّه الجارية منذ كان دين اللّه ورسله ورسالاته . قتال في سبيل اللّه لإعلاء كلمة اللّه ؛ وقتل لأعداء اللّه الذين يحادون الله ؛ أو استشهاد في المعركة التي لا تفتر بين الحق والباطل ، وبين الإسلام والجاهلية ، وبين الشريعة والطاغوت ، وبين الهدى والضلال .

وليست الحياة لهواً ولعباً . وليست الحياة أكلاً كما تأكل الأنعام ومتاعاً . وليست الحياة سلامة ذليلة ، وراحة بليدة ورضى بالسلم الرخيصة . . إنما الحياة هي هذه : كفاح في سبيل الحق ، وجهاد في سبيل الخير ، وانتصار لإعلاء كلمة اللّه ، أو استشهاد كذلك في سبيل اللّه . . ثم الجنة والرضوان . .

هذه هي الحياة التي يدعى إليها المؤمنون باللّه : ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا للّه وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) . . . وصدق اللّه . وصدق رسول اللّه . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ٱلتَّـٰٓئِبُونَ ٱلۡعَٰبِدُونَ ٱلۡحَٰمِدُونَ ٱلسَّـٰٓئِحُونَ ٱلرَّـٰكِعُونَ ٱلسَّـٰجِدُونَ ٱلۡأٓمِرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (112)

هذا نعتُ المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بهذه الصفات الجميلة والخلال الجليلة : { التَّائِبُونَ } من الذنوب كلها ، التاركون للفواحش ، { الْعَابِدُونَ } أي : القائمون بعبادة ربهم محافظين عليها ، وهي الأقوال والأفعال فمن أخَصّ الأقوال الحمد{[13882]} ؛ فلهذا قال : { الْحَامِدُونَ } ومن أفضل الأعمال الصيامُ ، وهو ترك الملاذِّ من الطعام والشراب والجماع ، وهو المراد بالسياحة هاهنا ؛ ولهذا قال : { السَّائِحُونَ } كما وصف أزواج النبي{[13883]} صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله تعالى : { سَائِحَاتٍ } [ التحريم : 5 ] أي : صائمات ، وكذا الركوع والسجود ، وهما عبارة عن الصلاة ، ولهذا قال : { الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ } وهم مع ذلك ينفعون خلق الله ، ويرشدونهم إلى طاعة الله بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، مع العلم بما ينبغي فعله ويجب تركُه ، وهو حفظ حدود الله في تحليله وتحريمه ، علما وعملا فقاموا بعبادة الحق ونصح الخلق ؛ ولهذا قال : { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } لأن الإيمان يشمل هذا كله ، والسعادة كل السعادة لمن اتصف به .

[ بيان{[13884]} أن المراد بالسياحة الصيام ] :{[13885]} قال سفيان الثوري ، عن عاصم ، عن زِرّ ، عن عبد الله بن مسعود قال : { السَّائِحُونَ } الصائمون . وكذا رُوي عن سعيد بن جُبَير ، والعوفي عن ابن عباس .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : كل ما ذكر الله في القرآن السياحة ، هم الصائمون . وكذا قال الضحاك ، رحمه الله .

وقال ابن جرير : حدثنا أحمد بن إسحاق ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا إبراهيم بن يزيد ، عن الوليد بن عبد الله ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : سياحةُ هذه الأمة الصيام . {[13886]} وهكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جُبَير ، وعطاء ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، والضحاك بن مُزاحم ، وسفيان بن عُيينة وغيرهم : أن المراد بالسائحين : الصائمون .

وقال الحسن البصري : { السَّائِحُونَ } الصائمون شهر رمضان .

وقال أبو{[13887]} عمرو العَبْدي : { السَّائِحُونَ } الذين يديمون الصيام من المؤمنين .

وقد ورد في حديث مرفوع نحو هذا ، وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عبد الله بن بَزِيع ، حدثنا حكيم بن حزام ، حدثنا سليمان ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " السائحون هم الصائمون " {[13888]} [ ثم رواه عن بُنْدَار ، عن ابن مهدي ، عن إسرائيل ، عن سليمان الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أنه قال : { السَّائِحُونَ } الصائمون ] . {[13889]} وهذا الموقوف أصح .

وقال أيضا : حدثني يونس ، عن ابن وهب ، عن عمر بن الحارث ، عن عمرو بن دينار ، عن عُبَيد بن عُمَير قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن السائحين فقال : " هم الصائمون " . {[13890]} وهذا مرسل جيد .

فهذه{[13891]} أصح الأقوال وأشهرها ، وجاء ما يدل على أن السياحة الجهاد ، وهو ما روى أبو داود في سننه ، من حديث أبي أمامة أن رجلا قال : يا رسول الله ، ائذن لي في السياحة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " سياحة{[13892]} أمتي الجهاد في سبيل الله " . {[13893]} وقال ابن المبارك ، عن ابن لَهِيعة : أخبرني عُمارة بن غَزِيَّة : أن السياحة ذكرت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبدلنا الله بذلك الجهاد في سبيل الله ، والتكبير على كل شرف " . {[13894]} وعن عِكْرِمة أنه قال : هم طلبة العلم . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هم المهاجرون . رواهما ابن أبي حاتم .

وليس المراد من السياحة ما قد يفهمه بعض من يتعبد بمجرد السياحة في الأرض ، والتفرد في شواهق الجبال والكهوف والبراري ، فإن هذا ليس بمشروع إلا في أيام الفتَن والزلازل في الدين ، كما ثبت في صحيح البخاري ، عن أبي سعيد الخدري{[13895]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يوشك أن يكون خير مال الرجل{[13896]} غَنَم يَتْبَع بها شَعفَ الجبال ، ومواقع القَطْر ، يفر بدينه من الفتن " . {[13897]} وقال العوفي وعلي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ } قال : القائمون بطاعة الله . وكذا قال الحسن البصري ، وعنه رواية : { وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ } قال : لفرائض

الله ، وفي رواية : القائمون على أمر الله .


[13882]:- في أ : "الحمد الله".
[13883]:- في ت ، أ : "الرسول".
[13884]:- في أ : "ذكر".
[13885]:- زيادة من ت ، ك ، أ.
[13886]:- تفسير الطبري (14/505).
[13887]:- في ت : "ابن".
[13888]:- تفسير الطبري (14/503).
[13889]:- زيادة من ت ، ك ، أ.
[13890]:- تفسير الطبري (14/502).
[13891]:- في ت : "وهذا" ، وفي أ : "فهذا".
[13892]:- في أ : "سياح".
[13893]:- سنن أبي داود برقم (2486).
[13894]:- وهذا معضل ، عمارة بن غزية لم يدرك أحدا من الصحابة.
[13895]:- في أ : "عن أبي هريرة".
[13896]:- في ت ، ك ، أ : "المسلم".
[13897]:- صحيح البخاري برقم (19).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱلتَّـٰٓئِبُونَ ٱلۡعَٰبِدُونَ ٱلۡحَٰمِدُونَ ٱلسَّـٰٓئِحُونَ ٱلرَّـٰكِعُونَ ٱلسَّـٰجِدُونَ ٱلۡأٓمِرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (112)

هذه الأوصاف هي من صفات المؤمنين الذين ذكر الله أنه اشترى منهم أنفسهم ، وارتفعت هذه الصفات لما جاءت مقطوعة في ابتداء آية على معنى : «هم التائبون » ، ومعنى الآية على ما تقتضيه أقوال العلماء والشرع أنها أوصاف الكملة من المؤمنين ذكرها الله تعالى ليستبق إليها أهل التوحيد حتى يكونوا في أعلى رتبة والآية الأولى مستقلة بنفسها يقع تحت تلك المبايعة كل موحد قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وإن لم يتصف بهذه الصفات التي هي في هذه الآية الثانية أو بأكثرها وقالت فرقة : بل هذه الأوصاف جاءت على جهة الشرط ، والآيتان مرتبطتان فلا يدخل في المبايعة إلا المؤمنين الذين هم على هذه الأوصاف ويبذلون أنفسهم في سبيل الله ، وأسند الطبري في ذلك عن الضحاك بن مزاحم أن رجلاً سأله عن قول الله عز وجل : { إن الله اشترى } [ التوبة : 11 ] وقال الرجل ألا أحمل على المشركين فأقاتل حتى أقتل ، فقال الضحاك : ويلك أين الشرط { التائبون العابدون } الآية ، وهذا القول تحريج وتضييق والله أعلم ، والأول أصوب ، والشهادة ماحية لكل ذنب إلا لمظالم العباد ، وقد روي أن الله تعالى يحمل عن الشهيد مظالم العباد ويجازيهم عنه ختم الله لنا بالحسنى ، وقالت فرقة : إن رفع «التائبين » إنما هو على الابتداء وما بعده صفة ، ألا قوله { الآمرون } فإنه خبر الابتداء كأنه قال «هم الآمرون » وهذا حسن إلا أن معنى الآية ينفصل من معنى التي قبلها وذلك قلق فتأمله ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «التائبين العابدين » إلى آخرها ، ولذلك وجهان أحدهما : الصفة للمؤمنين على اتباع اللفظ والآخر النصب على المدح ، و { التائبون } لفظ يعم الرجوع من الشر إلى الخير كان ذلك من كفر أو معصية والرجوع من حالة إلى ما هي أحسن منها ، وإن لم تكن الأولى شراً بل خيراً ، وهكذا توبة النبي صلى الله عليه وسلم واستغفاره سبعين مرة في اليوم ، والتائب هو المقلع عن الذنب العازم على التمادي على الإقلاع النادم على ما سلف ، والتائب عن ذنب يسمى تائباً وإن قام على غيره إلا أن يكون من نوعه فليس بتائب والتوبة ونقضها دائباً خير من الإصرار ، ومن تاب ثم نقض ووافى على النقض فإن ذنوبه الأولى تبقى عليه لأن توبته منها علم الله أنها منقوضة ، ويحتمل الأمر غير ذلك والله أعلم .

وقال الحسن في تفسير الآية : { التائبون } معناه من الشرك ، و { العابدون } لفظ يعم القيام بعبادة الله والتزام شرعه وملازمة ذلك والمثابرة عليه والدوام ، والعابد هو المحسن الذي فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله ، «أن تعبد الله كأنك تراه »{[5923]} الحديث ، وبأدنى عبادة يؤديها المرء المسلم يقع عليه اسم عابد ويحصل في أدنى رتبته وعلى قدر زيادته في البادة يحصل الوصف ، و { الحامدون } معناه : الذاكرون لله بأوصافه الحسنى في كل حال وعلى السراء والضراء وحمده لأنه أهل لذلك ، وهو أعم من الشكر إذ الشكر إنما هو على النعم الخاصة بالشاكر ، و { السائحون } معناه الصائمون ، وروي عن عائشة أنها قالت : سياحة هذه الأمة الصيام ، وأسند الطبري وروي أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم{[5924]} ، وفي الحديث «إن لله ملائكة سياحين مشائين في الآفاق يبلغوني صلاة أمتي عليَّ »{[5925]} ويروى الحديث «صياحين » بالصاد من الصياح والسياحة في الأرض مأخوذ من السيح وهو الماء الجاري على الأرض إلى غير غاية ، وقال بعض الناس وهو في كتاب النقاش : { السائحون } هم الجائلون بأفكارهم في قدرة الله وملكوته ، وهذا قول حسن وهي من أفضل العبادات ، ومن ذلك قول معاذ بن جبل : اقعد بنا نؤمن ساعة ، ويروى أن بعض العباد أخذ القدح ليتوضأ لصلاة الليل فأدخل أصبعه في أذن القدح وجعل يفكر حتى طلع الفجر فقيل له في ذلك فقال : أدخلت أصبعي في أذن القدح فتذكرت قول الله تعالى : { إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل }{[5926]} وفكرت كي أتلقى الغل وبقيت في ذلك ليلي أجمع ، و { الراكعون الساجدون } هم المصلون الصلوات الخمس كذا قال أهل العلم ، ولكن لا يختلف في أن من يكثر النوافل هو أدخل في الاسم وأغرق في الاتصاف ، وقوله : { الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر } هو أمر فرض على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجملة ثم يفترق الناس فيه مع التعيين ، فأما ولاة الأمر والرؤساء فهو فرض عليهم في كل حال ، وأما سائر الناس فهو فرض عليهم بشروط : منها أن لا تلحقه مضرة وأن يعلم أن قوله يسمع ويعمل به ونحو هذا ثم من تحمل بعد في ذات الله مشقة فهو أعظم أجراً ، وأسند الطبري عن بعض العلماء أنه قال : حيثما ذكر الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو الأمر بالإسلام والنهي عن الكفر .

قال القاضي أبو محمد : ولا شك أنه يتناول هذا وهو أحرى ، إذ يتناول ما دونه{[5927]} فتعميم اللفظ أولى ، وأما هذه الواو التي في قوله { والناهون } ولم يتقدم في واحدة من الصفات قبل فقيل معناها الربط بين هاتين الصفتين وهي «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر » إذ هما من غير قبيل الصفات الأول .

قال القاضي أبو محمد : لأن الأول فيما يخص المرء ، وهاتان بينه وبين غيره{[5928]} ، ووجب الربط بينهما لتلازمهما وتناسبهما ، وقيل هي زائدة وهذا قول ضعيف لا معنى له ، وقيل هي واو الثمانية لأن هذه الصفة جاءت ثامنة في الرتبة ومن هذا قوله في أبواب الجنة { وفتحت أبوابها }{[5929]} وقوله { وثامنهم كلبهم }{[5930]} ومن هذا قوله { ثيبات وأبكاراً }{[5931]} .

قال القاضي أبو محمد : على أن هذه تعترض حتى لا يلزم أن يكون واو ثمانية ، لأنها فرقت بين فصلين يعمان بمجموعهما جميع النساء ، ولا يصح أن يكون{[5932]} { ثيبات أبكاراً } [ التحريم : 5 ] ، فهي فاصلة ضرورة ، وواو الثمانية قد ذكرها ابن خالويه ، في مناظرته لأبي علي الفارسي في معنى قوله { وفتحت أبوابها } [ الزمر : 73 ] ، وأنكرها أبو علي ، وحدثني أبي رضي الله عنه عن الأستاذ أبي عبد الله الكفيف المالقي وكان ممن استوطن غرناطة وقرأ فيها في مدة ابن حبوس أنه قال : هي لغة فصيحة لبعض العرب من شأنهم أن يقولوا إذا عدوا واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة وثمانية تسعة عشرة ، فهكذا هي لغتهم ، ومتى جاء في كلامهم أمر ثمانية أدخلوا الواو{[5933]} ، وقوله { والحافظون لحدود لله } لفظ عام تحته إلزام الشريعة والانتهاء عما نهى الله في كل شيء وفي كل فن ، وقوله { وبشر المؤمنين } قيل هو لفظ عام أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يبشر أمته جميعاً بالخير من الله ، وقيل بل هذه الألفاظ خاصة لمن لم يغز أي لما تقدم في الآية وعد المجاهدين وفضلهم أمر أن يبشر سائر الناس ممن لم يغز بأن الإيمان مخلص من النار والحمد لله رب العالمين .


[5923]:- هذا جزء من حديث طويل رواه البخاري في تفسير سورة لقمان وفي كتاب الإيمان، ورواه مسلم في كتاب الإيمان، ورواه أبو داود في كتاب السنة، ورواه الترمذي في كتاب الإيمان، وابن ماجه في المقدمة، والإمام أحمد في مواضع كثيرة، وفيه أن جبريل عليه السلام سأل عن الإيمان، فأجاب، ثم سأله عن الإسلام فأجاب، ثم سأله عن الإحسان فقال: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، ثم سأله عن الساعة فأجاب بالحديث عن أشراطها، ثم قال في آخر الحديث: (هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم).
[5924]:- الخبر المسند إلى عائشة رضي الله عنها أسنده الطبري، أما أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فقد روي عن أبي هريرة موقوفا كما قال الشوكاني. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ وابن مردويه، وابن النجار من طريق أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (السائحون هم الصائمون) (الدر المنثور).
[5925]:- أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والنسائي في سننه، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه-عن ابن مسعود رضي الله عنه، ورمز له الإمام السيوطي في الجامع الصغير بالصحة ولفظه كما رواه: (إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام). (الجامع الصغير).
[5926]:- من الآية (71) من سورة (غافر)
[5927]:- جاء في بعض النسخ: "إذ يتناول ما دونه"، على معنى أن اللفظ يتناول ما دون الإسلام والكفر فأولى به أن يتناولها.
[5928]:- جاء ترتيب هذه الصفات في غاية من الحسن، إذ بدأ أولا بما يخص الإنسان مرتبة على ما سعى، ثم بما يتعدى الإنسان إلى غيره كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بما شمل ما يخصه في نفسه ويتعدى إلى غيره وهو الحفظ لحدود الله، ولما ذكر الله جميع الصفات أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبشر المؤمنين، وفي الآية التي قبلها أمرهم سبحانه بالاستبشار فقال: {فاستبشروا ببيعكم} فحصلت لهم المزية التامة بأن الله أمرهم بالاستبشار وأمر رسوله أن يبشرهم.
[5929]:- في الآية (73) من سورة (الزمر).
[5930]:- في الآية (2) من سورة (الكهف).
[5931]:- من الآية (5) من سورة (التحريم).
[5932]:- أي: لا يصح أن يكون التعبير "ثيبات أبكارا" لأن هذا غير ممكن، وفي بعض النسخ: "لا يصح أن يكنّ" أي النساء.
[5933]:- يرى بعض النحويين أن الواو التي تدخل على العدد ثمانية أو على ثامن الأشياء المعدودة تسمى "واو الثمانية"، ومنهم ابن خالويه الذي ذكرها في مناظرته لأبي علي الفارسي في معنى قوله تعالى في سورة الزمر: {وفتحت أبوابها}، وحكى الثعلبي عن أبي بكر بن عياش أن قريشا كانت تقول: "ستة، سبعة، وثمانية" فتدخل الواو في الثمانية، وحكى نحوه القفال فقال: إن قوما قالوا: العدد ينتهي عند العرب إلى سبعة، فإذا احتيج إلى الزيادة عليها استؤنف خبر آخر بإدخال الواو، كقوله تعالى: {التائبون العابدون***} ثم قال سبحانه: {والناهون عن المنكر}، وبدل على ذلك أنه سبحانه لما ذكر أبواب جهنم قال: {حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها} بدون واو، ولما ذكر الجنة قال: {وفتحت أبوابها} بالواو، وأنه سبحانه قال في سورة التحريم: {خيرا منكم مسلمات}.. إلى أن قال: {وأبكارا}، فالسبعة نهاية العدد عندهم كالعشرة الآن عندنا، قال القشيري أبو نصر: ومثل هذا الكلام تحكم، ومن أين أن السبعة نهاية عندهم؟ ثم هو منقوض بقوله تبارك وتعالى: {هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر} ولم يذكر الاسم الثامن بالواو، وإنما ذكرت الواو في هذه الآيات لعله خاصة في كل آية، وفي آيتنا هذه ذكر ابن عطية رحمه الله العلة وهي أنها أداة للربط بين صفتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنهما تختلفان عن الصفات السابقة من حيث أنهما تتعلقان بصلة المرء بغيره، أما الصفات الأولى فتختص بالمرء نفسه، وذكر أبو حيان التوحيدي علة أخرى خلاصتها أن الصفات إذا تكررت للمدح أو الذم أو الترحم جاز فيها الإتباع للمنعوت والقطع في كلها أو بعضها، وإذا تباين ما بين الوصفين جاز العطف، ولما كان الأمر بالمعروف مباينا للنهي عن المنكر لأن الأول طلب فعل والثاني ترك فعل حسن العطف في قوله سبحانه: {والناهون عن المنكر}- هذا وسنذكر إن شاء الله علّة ذكر الواو في الآيات الأخرى في مواضعها إن شاء الله، أي في (الكهف)، (الزمر) و(التحريم).