فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ٱلتَّـٰٓئِبُونَ ٱلۡعَٰبِدُونَ ٱلۡحَٰمِدُونَ ٱلسَّـٰٓئِحُونَ ٱلرَّـٰكِعُونَ ٱلسَّـٰجِدُونَ ٱلۡأٓمِرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (112)

{ التائبون } رفع على المدح أي هم التائبون يعني المؤمنين والتائب الراجع أي هم الراجعون إلى طاعة الله عن الحالة المخالفة للطاعة ، وقال الزجاج : عندي أن قوله التائبون رفع بالابتداء وخبره مضمر ، أي التائبون ومن بعدهم إلى آخر الآية لهم الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا . قال : وهذا أحسن إذ لو كانت هذه أوصافا للمؤمنين المذكورين لكان الوعد خاصا بالمجاهدين .

وقد ذهب إلى هذا طائفة من المفسرين ، وقيل إن الخبر قوله : { الآمرون } وقيل إن التائبون بدل من الضمير المستتر في يقاتلون ، وذهب آخرون إلى أن هذه الأوصاف راجعة إلى المؤمنين في الآية الأولى وإنها على جهة الشرط ، أي لا يستحق الجنة بتلك المبايعة إلا من كان من المؤمنين على هذه الأوصاف ، وبه قال ابن عطية وقيل غير ذلك .

وجوز صاحب الكشاف أن يكون التائبون مبتدأ وخبره العابدون وما بعده إخبار كذلك أي التائبون عن الكفر على الحقيقة الجامعون لهذه الخصال ، وفيه من البعد ما لا يخفى .

ثم قيل المراد به التوبة عن الشرك والبراءة من النفاق وقيل من كل معصية ، وقيل من جميع المعاصي ، لأن اللفظ عام يتناول الكل ، وحاصل ما ذكر أوصاف تسعة ، الستة الأولى تتعلق بمعاملة الخالق ، والسابع والثامن يتعلقان بمعاملة المخلوق ، والتاسع يعم القبيلين . قاله الحفناوي ، وأتى بترتيب هذه الصفات في الذكر على أحسن نظم ، وهو ظاهر بالتأمل فإنه قدم التوبة أولا ثم ثنى بالعبادة إلى آخرها .

{ العابدون } أي القائمون بما أمروا به من عبادة الله مع الإخلاص { الحامدون } الذين يحمدون الله سبحانه على كل حال في السراء والضراء ويقومون بشكره على جميع نعمه دنيا وأخرى { السائحون } السياحة في اللغة أصلها الذهاب على وجه الأرض كما يسيح الماء وهي مما يعين العبد على الطاعة لانقطاعه عن الخلق ولما يحصل له من الاعتبار بالتفكر في مخلوقات الله سبحانه ، فالسياحة لها أثر عظيم في تهذيب النفس وتحسين أخلاقها .

وفي القاموس السياحة بالكسر الذهاب في الأرض للعبادة ومنه المسيح بن مريم ، وذكرت في اشتقاقه خمسين قولا في شرحي لمختصر البخاري ، والسائح الصائم الملازم للسياحة ، قيل هم الصائمون ، وإليه ذهب جمهور المفسرين ، وبه قال ابن مسعود ومنه قوله تعالى : { عابدات سائحات } وإنما قيل للصائم سائح لأنه يترك اللذات كلها كما يترك السائح في الأرض ، قاله سفيان بن عيينة .

وقال الأزهري : سمي الصائم سائحا لأن الذي يسيح في الأرض متعبدا لا زاد معه فكان ممسكا عن الأكل ، وكذلك الصائم ممسك عنه ، قال الزجاج : ومذهب الحسن أن السائحين هنا هم الذين يصومون الفرض ، وقيل إنهم الذين يديمون الصيام ، وقال عطاء : السائحون هم الغزاة والمجاهدون ، وقال عبد الرحمن بن زيد : هم المهاجرون ، وقال عكرمة : هم الذين يسافرون لطلب الحديث ، وقيل هم الحائرون بأفكارهم في توحيد ربهم وملكوته وما خلق من العبرة ، وقيل هم طلبة العلم مطلقا لأنهم ينتقلون من بلد إلى بلد في طلبه ويسيحون في الأرض يطلبونه من مظانه ويدخل فيه طالب الحديث دخولا أوليا .

{ الراكعون الساجدون } معناه المصلون المحافظون على الصلوات ، وعبر عنها بهما لأنهما معظم أركانها وبهما يمتاز المصلي من غيره بخلاف غيرهما كالقيام والقعود لأنهما حالتا المصلي وغيره { الآمرون بالمعروف } أي القائمون بأمر الناس بما هو معروف في الشريعة { والناهون عن المنكر } أي القائمون بالإنكار على من فعل منكرا أي شيئا ينكره الشرع .

قال الحسن : أما أنهم لم يأمروا الناس بالمعروف حتى كانوا من أهله ، ولم ينهوا عن المنكر حتى انتهوا عنه ، لم يأت بعاطف بين هذه الأوصاف لمناسبتها لبعضها إلا في هذين الوصفين للمضادة بينهما إذ الأول طلب فعل والثاني طلب ترك أو كف { والحافظون لحدود الله } أي القائمون بحفظ شرائعه التي أنزلها الله في كتبه وعلى لسان رسل ، وقيل بطاعة الله .

وقال الحسن : بفرائض الله وهم أهل الوفاء ببيعة الله ، وقيل بأوامره ونواهيه أو بمعالم الشرع ، وقيل إن العطف في الصفات يجيء بالواو وبغيرها ، كقوله : { غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب } وقيل إن الواو زائدة ، وقيل هي واو الثمانية المعروفة عند النحاة كما في قوله تعالى : { ثيبات وأبكارا } وقوله : { وفتحت أبوابها } وقوله : { سبعة وثمانهم كلبهم } .

وقد أنكر واو الثمانية أبو علي الفارسي وناظره في ذلك ابن خالويه ، قال الخافجي : وقائل هذا القول يعني كون السبع عددا تاما هو أبو البقاء تبعا لغيره ممن أثبت واو الثمانية ، وهو قول ضعيف لم يرضه النحاة كما فصله صاحب المغنى اه والحافظ ابن القيم في البدائع .

{ وبشر المؤمنين } الموصوفين بالصفات السابقة بالجنة ، عن ابن عباس قال : من مات على هذه التسع فهو في سبيل الله ، ومن مات وفيه تسع فهو شهيد ، وفيه إظهار في مقام الإضمار للتنبيه على علة الحكم أي سبب استحقاقهم الجنة هو إيمانهم وحذف المبشر به لخروجه عن حد البيان .