السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ٱلتَّـٰٓئِبُونَ ٱلۡعَٰبِدُونَ ٱلۡحَٰمِدُونَ ٱلسَّـٰٓئِحُونَ ٱلرَّـٰكِعُونَ ٱلسَّـٰجِدُونَ ٱلۡأٓمِرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (112)

ولما ذكر تعالى في هذه الآية أنه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بين أنّ أولئك المؤمنين هم الموصوفون بهذه الصفات التسعة الآتية : أولها : قوله تعالى :

{ التائبون } وهو مرفوع على المدح أي : هم التائبون يعني المذكورين في قوله تعالى : { إنّ الله اشترى من المؤمنين } وقال الزجاج : لا يبعد أن يكون قوله : { التائبون } مبتدأ وخبره محذوف تقديره التائبون من أهل الجنة وإن لم يجاهدوا لقوله تعالى : { وكلا وعد الله الحسنى } أو خبره ما بعده أي : التائبون عن الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال والتائبون صيغة عموم محلاة بالألف واللام فتتناول التوبة من كل معصية والتوبة إنما تحصل عند أربعة أمور :

أوّلها : احتراق القلب عند صدور المعصية .

ثانيها : الندم على ما مضى .

ثالثها : العزم على الترك في المستقبل .

رابعها : أن يكون الحامل له على هذه الأمور الثلاثة طلب رضوان الله تعالى وعبوديته فإن كان غرضه منها رفع مذمّة الناس وتحصيل مدحهم أو لغرض من الأغراض الدنيوية فليس بتائب ولا بد من ردّ المظالم إلى أهلها إن كانت .

الصفة الثانية قوله تعالى : { العابدون } أي : الذين أخلصوا العبادة لله وقال الحسن : هم الذين عبدوا الله في السرّاء والضرّاء ، وقال قتادة : قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم .

الصفة الثالثة قوله تعالى : { الحامدون } وهم الذين يقومون بحق شكر الله تعالى على نعمه ديناً ودنيا ويجعلون إظهار ذلك عادة لهم ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : ( أوّل من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون الله في السرّاء والضرّاء ) .

الصفة الرابعة قوله تعالى : { السائحون } واختلف في المراد منهم فقال ابن مسعود وابن عباس : هم الصائمون قال ابن عباس رضي الله عنهما : كل ما ذكر في القرآن من السياحة فهو الصوم وقال صلى الله عليه وسلم «سياح أمّتي الصوم » وعن الحسن أنّ هذا صوم الفرض ، وقيل : هم الذين يديمون الصيام ، قال الأزهري : قيل للصائم سائح لأنّ الذي يسيح في الأرض متعبداً لا زاد معه كان ممسكاً عن الأكل والصائم ممسك عن الأكل فلهذا المشابهة يسمى الصائم سائحاً ، وقال عطاء : السائحون الغزاة في سبيل الله تعالى .

وروي عن عثمان بن مظعون أنه قال : يا رسول الله ائذن لنا في السياحة فقال : «إنّ سياحة أمّتي الجهاد في سبيل الله » وقال عطاء : السائحون هم طلاب العلم والسياحة أمر عظيم في تكميل النفس لأنه يلقى أفاضل مختلفين فيستفيد من كل واحد فائدة مخصوصة وقد يلقى الأكابر من الناس فيستحقر نفسه في مقابلتهم وقد يصل إلى المدارسة الكثيرة فينتفع بها وقد يشاهد اختلاف أحوال أهل الدنيا بسبب ما خلق الله تعالى في كل طرف من الأحوال الخاصة بهم فتقوى معرفته وبالجملة فالسياحة لها أثر قوي في الدين .

الصفة الخامسة والسادسة : قوله تعالى : { الراكعون الساجدون } أي : المصلون وإنما عبر عن الصلاة بالركوع والسجود لأنّ بهما يتميز المصلي عن غيره بخلاف حالة القيام والقعود لأنهما حالة المصلي وغيره ولأنّ القيام أوّل مراتب التواضع لله تعالى والركوع وسطها والسجود غايتها فخص الركوع والسجود بالذكر لدلالتهما على غاية التواضع والعبودية تنبيهاً على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع والتعظيم .

الصفة السابعة والثامنة : وقوله تعالى : { الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر } أي : الآمرون بالإيمان والطاعة والناهون عن الشرك والمعصية ودخول الواو في والناهون عن المنكر للدلالة على أنه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة فكأنه قال : الجامعون بين الوصفين ولأنّ العرب تعطف بالواو على السبعة ومنه قوله تعالى : { وثامنهم كلبهم } ( الكهف ، 22 )

وقوله تعالى في صفة الجنة : { وفتحت أبوابها } ( الزمر ، 22 ) إيذاناً بأن التعداد قد تم بالسابع من حيث أن السبعة هو العدد التامّ والثامن تعداد آخر معطوف عليه ولذلك تسمى واو الثمانية ، وقيل : الموصوف بهذه الصفات هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر وعلى هذا يكون قوله تعالى : { التائبون } إلى قوله : { الساجدون } مبتدأ خبره هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر .

الصفة التاسعة : قوله تعالى : { والحافظون لحدود الله } أي : لأحكامه بالعمل بها والمقصود أنّ تكاليف الله تعالى كثيرة وهي محصورة في نوعين : أحدهما : ما يتعلق بالعبادات ، والثاني : ما يتعلق بالمعاملات .

فإن قيل : ما الحكمة في أنّ الله تعالى ذكر تلك الصفات الثمانية على التفصيل ثم ذكر عقبها سائر أقسام التكاليف على سبيل الإجمال في هذه الصفة التاسعة ؟ أجيب : بأنّ التوبة والعبادة والاشتغال بتحميد الله والسياحة والركوع والسجود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمور لا ينفك المكلف عنها في أغلب أوقاته فلهذا ذكرها الله تعالى على سبيل التفصيل ، وأمّا البقية فقد ينفك المكلف عنها في أكثر أوقاته مثل أحكام البيع والشراء وأحكام الجنايات ودخل في هذه الصفة التاسعة رعاية أحوال القلوب بل البحث عنها ، والمبالغة في الكشف عن حقائقها أولى لأنّ أعمال الجوارح إنما تراد لأجل تحصيل أعمال القلوب .

ثم ذكر سبحانه وتعالى عقب هذه الصفات التسعة قوله تعالى : { وبشر المؤمنين } تنبيهاً على أن البشارة في قوله تعالى : { فاستبشروا } لم تتناول إلا المؤمنين الموصفين بهذه الصفات التسعة وحذف تعالى المبشر به للتعظيم فكأنه قيل : وبشرهم بما يجل عن إحاطة الإفهام وتعبير الكلام .